فصل في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق١
ثم يجب أن يفرض السَّانُّ طاعة من يخلفه، وألا يكون الاستخلاف إلا من جهته٢ أو بإجماع٣ من أهل السابقة على من يصححون علانية عند الجمهور أنه مستقل بالسياسة، وأنه
أصيل العقل حاصل عنده٤ الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنه عارف بالشريعة حتى لا
أعرف منه؛ تصحيحًا يظهر ويستعلن ويتفق عليه الجمهور عند الجميع. ويسن عليهم أنهم إذا
افترقوا وتنازعوا للهوى والميل، أو أجمعوا على غير من وُجد الفضل فيه والاستحقاق له؛
فقد
كفروا بالله. والاستخلاف بالنص أصوب،٥ فإن ذلك لا يؤدي إلى التشاغب والاختلاف.
ثم يجب أن يحكم في سنته أن من خرج فادعى خلافته٦ بفضل قوة أو مال، فعلى الكافة من أهل المدينة قتاله وقتله،٧ فإن قدروا ولم يفعلوا فقد عصوا الله وكفروا به، ويحل دم من قعد عن ذلك وهو
متمكن بعد أن يصح٨ على رأس الملأ ذلك منه. ويجب أن يسن أنه لا قربة عند الله تعالى بعد الإيمان
بالنبي أعظم من إتلاف هذا المتغلب. فإن صحح الخارجي أن المتولي للخلافة غير أهل لها،
وأنه
مُنُوا بنقص، وأن ذلك النقص غير موجود في الخارجي، فالأولى أن يطابقه أهل المدينة. المعمول
عليه٩ الأعظم العقل وحسن الإبالة — يريد: حسن السياسة — فمن كان متوسطًا في الباقي
ومتقدمًا في هذين، بعد ألا يكون غريبًا في البواقي وصائرًا إلى أضدادها، فهو أولى ممن
يكون
متقدمًا في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين، فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما ويعاضده
ويلزم أعقلهما أن يعتضد به١٠ ويرجع إليه١١ مثل ما فعل١٢ عمر وعلي عليه السلام.١٣
ثم يجب أن يُفرض في العبادات أمور لا يتم إلا بالخليفة تنويهًا بها١٤ وجذبًا إلى تعظيمه.١٥ وتلك الأمور هي الأمور الجامعة مثل الأعياد، فإنه يجب أن يفرض اجتماعات مثل
هذه، فإن فيها دعاء للناس إلى التمسك بالجماعة، وإلى استعمال عُدد الشجاعة، وإلى المنافسة،
وبالمنافسة يدرك الفضائل. وفي الجماعات١٦ استجابة الدعوات ونزول١٧ البركات على الأحوال التي عرضت من أقاويلنا.
وكذلك يجب أن يكون في المعاملات معاملات يشترك فيها الإمام، وهي المعاملات التي تؤدي
إلى
ابتناء أركان المدينة، مثل المناكحات والمشاركات الكلية. ثم يجب أن يفرض أيضًا في المعاملات
المؤدية إلى الأخذ والعطاء سننًا تمنع١٨ وقوع الغَرر١٩ والحيف، وأن يحرم المعاملات التي فيها غرر،٢٠ والتي يتغير فيها الأعواض قبل الفراغ من الإيفاء أو الاستيفاء كالعرف والنسيئة
وغير ذلك. وأن يسن على الناس معاونة الناس والذب عنهم، ووقاية أموالهم وأنفسهم، من غير
أن يغرم٢١ متبرع فيما يلحق بتبرعه.٢٢
وأما الأعداء والمخالفون للسنة، فيجب أن يسن مقاتلتهم وإفناءهم، بعد أن يُدْعَوْا
إلى
الحق، وأن يُباح أموالهم وفروجهم؛ فإن تلك الأموال والفروج إذا لم تكن مدبرة بتدبير المدينة
الفاضلة، لم تكن٢٣ عائدة بالمصلحة التي يُطلب المال والفروج٢٤ لها،٢٥ بل معينة على الفساد والشر. ولا بد «من ناس يخدمون الناس»،٢٦ فيجب أن يكون أمثال هؤلاء٢٧ يُجبرون على خدمة أهل المدينة العادلة. وكذلك من كان من الناس بعيدًا عن تلقي
الفضيلة فهم عبيد بالطبع مثل الترك والزَّنْج. [لعل هذا يجعلنا نوقن بأن ابن سينا لم
يكن
تركيًّا!]، وبالجملة٢٨ الذين نشئوا في غير الأقاليم الشريفة التي أكثر أحوالها أن ينشأ فيها أمم حسنة
الأمزجة صحيحة القرائح والعقول.
وإذا٢٩ كانت غير مدينته مدينة٣٠ ولها سنة حميدة لم يتعرض لها، إلا أن يكون الوقت يوجب التصريح بأن لا سنة غير
السنة النازلة، فإن الأمم والمدن إذا ضلت فسُنَّت عليها سنة فإنه يجب أن يؤكد إلزامها،
وإذا أوجب٣١ إلزامها فربما أوجب توكيدها٣٢ أن يحصل عليها العالم بأسره. وإذا٣٣ كان أهل المدينة الحسنة السيرة يجد٣٤ هذه السنة أيضًا حسنة محمودة، في٣٥ تجددها إعادة أحوال مدن فاسدة إلى الصلاح، ثم صرحت بأن هذه السنة ليس من حقها
أن تقبل،٣٦ وكذبت السانَّ في دعواه أنها نازلة على المدن كلها؛ كان في ذلك وهن عظيم يستولي
على السنة، ويكون للمخالفين أن يحتجوا في ردها بامتناع أهل تلك المدينة٣٧ عنها. فحينئذ يجب أن يؤدَّب هؤلاء أيضًا ويُجاهدوا، ولكن مجاهدة دون مجاهدة أهل
الضلال الصرف، أو يُلْزموا غرامة على ما يؤثرونه، ويصحَّح عليهم أنهم مبطلون، وكيف لا
يكونون٣٨ مبطلين وقد امتنعوا عن٣٩ طاعة الشريعة التي أنزلها الله تعالى؟! فإن هلكوا فهم لها أهل، فإن في هلاكهم
فسادًا لأشخاصهم وصلاحًا باقيًا، وخصوصًا إذا كانت السنة الجديدة أتم وأفضل. ويُسنُّ
في بابهم٤٠ أيضًا أنهم٤١ إن رُئيت مسالمتهم على فداء أو جزية فعل. وبالجملة يجب ألا يجريهم وهؤلاء
الآخرين مجرى واحدًا.
ويجب أن يفرض عقوبات وحدودًا ومزاجر يمنع٤٢ بذلك عن معصية الشريعة، فليس كل إنسان ينزجر لما يخشاه في الآخرة. ويجب أن يكون
أكثر ذلك في الأفعال المخالفة للسنة، الداعية إلى فساد نظام المدينة، مثل الزنا والسرقة،
ومواطأة أعداء المدينة وغير ذلك. فأما ما يكون من ذلك مما يضر الشخص في نفسه، فيجب أن
يكون
فيه تأديب٤٣ لا يبلغ به المفروضات. ويجب أن يكون السنة في العبادات والمزاوجات٤٤ والمزاجر معتدلة، لا تشدد فيها ولا تساهل. ويجب أن يُفوَّض كثير من الأحوال،
خصوصًا في المعاملات، إلى الاجتهاد، فإن للأوقات أحكامًا لا يمكن أن تضبط.٤٥
وأما ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج وإعداد أهب الأسلحة٤٦ والحقوق والثغور وغير ذلك؛ فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو الخليفة،
ولا يُفرض فيها أحكام جزئية؛ فإن فرضها فساد لأنها تتغير مع تغيير الأوقات، وفرض الكليات
فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن، فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل٤٧ المشورة.
ويجب أن يكون السانُّ يسن أيضًا في الأخلاق والعادات٤٨ سننًا يدعو٤٩ إلى العدالة التي٥٠ هي الوساطة. والوساطة تُطلب في الأخلاق والعادات بجهتين؛٥١ فأما ما فيها من كسر غلبة القوي، فلأجل زكاء النفس خاصة واستفادتها٥٢ الهيئة الاستعلائية، وأن يكون تخلصها من البدن تخلصًا نقيًّا، وأما ما فيها من
استعمال هذه القوى فلمصالح دنيوية، وأما استعمال اللذات فلبقاء البدن والنسل،٥٣ وأما الشجاعة فلبقاء المدينة. والرذائل الإفراطية تُجتنب٥٤ لضررها في المصالح الإنسانية، والتفريطية لضررها في المدينة. والحكمة الفضيلة،
التي هي ثالثة العفة والشجاعة، فليس يُعْنى بها الحكمة النظرية، فإنها لا يكلف فيها التوسط
البتة، بل الحكمة العملية التي في الأفعال الدنيوية٥٥ والتصرفات الدنيوية، فإن الإمعان في تعرفها والحرص على التفنن٥٦ في توجيه الفوائد من كل وجه منها، واجتناب أسباب المضارِّ من كل وجه، حتى يتبع
ذلك وصول أضداد ما يطلبه لنفسه إلى شركائه أو يشغله عن اكتساب الفضائل الأخرى؛ فهو الجربزة.٥٧ وجعل اليد مغلولة إلى العنق هو إضاعة من الإنسان نفسه وعصره وآلة صلاحه وبقائه
إلى وقت استكماله.
ولأن الدواعي شهوانية وغضبية وتدبيرية، فالفضائل ثلاثة: هيئة التوسط في الشهوانية،
مثل
لذة المنكوح والمطعوم والملبوس والراحة، وغير ذلك من اللذات الحسية والوهمية،٥٨ «وهيئة٥٩ التوسط في الغصبيات كلها، مثل الخوف والغضب والغم والأنفة٦٠ والحقد والحسد وغير ذلك»،٦١ وهيئة التوسط في التدبيرية. ورءوس هذه٦٢ الفضائل عفة وحكمة٦٣ وشجاعة، ومجموعها العدالة، وهي خارجة عن الفضيلة٦٤ النظرية. ومن اجتمعت له٦٥ معها الحكمة النظرية فقد سعد، ومن فاز مع ذلك بالخواص النبوية كاد٦٦ أن يصير ربًّا إنسانيًّا، وكان أن تحل٦٧ عبادته بعد الله تعالى،٦٨ «وكاد أن يفوض إليه أمور عباد الله»،٦٩ وهو سلطان٧٠ العالم الأرضي وخليفة الله فيه.٧١
١
مك: إلى السياسات والأخلاق وفي المعاملات، صك، طه: إلى السياسات والأخلاق
والمعاملات، ب: إلى السياسات والأخلاق.
٢
طه: جهة. وما أثبتناه عن ب، ط.
٣
ط: بالإجماع.
٤
مك، صك، ب، ط: عند.
٥
نعتقد أن ابن سينا يشير بهذا إلى مذهبه الشيعي، وهو ثبوت الخلافة لعلي بالنص عن
الرسول.
٦
ط: وادعى خلافه.
٧
ط: قتله وقتاله.
٨
مك، صك، ب، ط: يصحح.
٩
مك، صك، ب: نقص.
١٠
طه: نقص «به»، ب: أن يعضد به. وما أثبتناه عن مك، صك، ط.
١١
ط: نقص.
١٢
ط: مثل فعل، أي بنقص «ما».
١٣
مك، صك، ب، ط: نقص.
١٤
مك: نقص، طه: به.
١٥
مك: العظيمة، وفي الهامش: العظمة.
١٦
مك، صك، ب: الاجتماعات.
١٧
ب: بنزول.
١٨
طه: يمنع.
١٩
مك: الغدر.
٢٠
مك، صك: غدر.
٢١
طه: يعزم. والمثبت عن مك، ط.
٢٢
مك، صك، ب: تبرعه.
٢٣
طه: يكن بالياء، والمثبت عن مك، ط.
٢٤
ب: والفرج.
٢٥
مك: نقص.
٢٦
ط: للناس من خدم.
٢٧
طه: نقص. والزيادة عن مك، صك، ب، ط.
٢٨
طه: وبالجملة الذين. والمثبت عن مك، صك، ب، ط.
٢٩
مك، صك، ط: فإذا بالفاء.
٣٠
طه: مدينة مدينة. والمثبت عن صك.
٣١
مك، صك، ب، ط: وجب.
٣٢
ط: تأكيدها.
٣٣
مك، صك، ب، ط: فإذا بالفاء.
٣٤
طه: تجد بالتاء. والمثبت عن مك، صك، ط.
٣٥
طه: ويرى في تجددها. والمثبت عن ب.
٣٦
طه: يقبل بالياء. والمثبت عن مك، صك.
٣٧
طه: أهل المدينة. والمثبت عن مك، صك، ب، ط.
٣٨
طه: لا يكون. والمثبت عن مك، صك، ب.
٣٩
ب: نقص.
٤٠
مك، صك، ب، ط: أيضًا في بابهم.
٤١
طه: في أنهم. والمثبت عن صك، ب.
٤٢
طه: يمتنع بذلك، ط: يمتنع بها. والمثبت عن ب.
٤٣
طه: فيجب فيه تأديب. والمثبت عن مك، صك، ب، ط.
٤٤
مك، صك، ب، ط: نقص.
٤٥
طه: يضبط، مك: ينضبط. والمثبت عن صك.
٤٦
طه: الأصلحة. والمثبت عن مك، صك، ب، ط.
٤٧
مك، ب: نقص.
٤٨
صك: والعبادات.
٤٩
طه: يدعو. والمثبت عن صك، ط.
٥٠
ب: وهي الوساطة.
٥١
ب: في الأخلاق لجهتين، وكذلك ط، صك.
٥٢
ط: ولنستفاد بها، وكذلك صك.
٥٣
ط: أو النسل.
٥٤
طه: يجتنب بالياء. والمثبت عن مك، صك، ط.
٥٥
طه: الدنياوية. والمثبت عن ط.
٥٦
مك، صك: التيقن بالقاف.
٥٧
صك، ط: فهي.
٥٨
طه: والوهية. والمثبت عن مك، صك.
٥٩
ت: هيئة بدون واو.
٦٠
صك: والألفة.
٦١
ما بين العلامتين « » نقص في ط.
٦٢
ط: نيل.
٦٣
مك، صك، ت: حكمة وعفة.
٦٤
مك: عن الحكمة الفضيلة … إلخ، أي بزيادة «الحكمة».
٦٥
ت: نقص.
٦٦
ب: يكاد، ت: فكاد.
٦٧
مك: أو كاد أن يحل، طه: وكاد ا ل.
٦٨
ت: نقص.
٦٩
هذه العبارة ناقصة في طه. وأثبتناها عن مك.
٧٠
صك: السلطان.
٧١
ط: فيها.