تحليل
ويخلص من هذا بأن يستنتج بأنه لا بد إذن في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، وأنه لا تتم هذه المشاركة إلا بمعاملة الناس بعضهم لبعض، ولا بد في المعاملة من أن تكون على أساس من سنة وعدل، ولا بد للسنة من شارع يجيء بها وعادل يجريها كما يجب، وهذا لا بد أن يكون إنسانًا. والنتيجة لهذا كله بيان أنه من الضروري أن يوجد نبي يرسله الله للناس بهذه السنة والعدل، وأن هذا النبي يجب أن يكون إنسانًا لا ملَكًا من الملائكة.
وهذا النبي إذا وجد يجب أن يسن للناس من السنن والشرائع، بإذن الله ووحيه، ما تصلح أمورهم دنيا وأخرى، ومنها يعرفون أن لهم صانعًا واحدًا قادرًا من حقه أن يُطاع أمره، وأنه لا نظير له ولا شريك. كما يجب عليه أن يعرف الناس جلال الله وعظمته برموز وأمثلة مما يعرفون؛ إذ لا بأس من اشتمال خطابه على رموز وإشارات تدعو المستعدين بالفطرة للبحث والنظر. وأخيرًا، يجب أن يقرر عندهم المعاد للحياة الأخرى على وجه تسكن إليه نفوسهم.
وفي الفصل الثاني الذي خصصه لبيان الهام من العبادات التي يجب أن يأتي بها هذا الرسول، وبيان منفعة هذه العبادات في هذه الدار الدنيا والدار الأخرى، نرى فيلسوفنا يذكر أنه يجب أن يعمل النبي لبقاء ما يسنه ويشرعه من تشريعات مختلفة تتناول المصالح الإنسانية عامة. على أن يكون الأصل في هذا العمل على استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد في الدار الأخرى، وذلك يكون بما يفرضه عليهم من العبادات التي تتكرر، فيحصل لذلك تنبيه لهم إلى ما يريد، وذلك مثل الصلاة والصوم. وكذلك يجب أن يشرع لهم ما يذكِّرهم به دائمًا، وذلك يكون بالحج إلى مأواه ومقره حيًّا وميتًا.
وكذلك يجب عليه أن يعمل لتأكيد سعادة الناس دنيا وأخرى، وذلك بما يكون من شأنه تنزيه النفس عن الخبيث من الطباع والقول والعمل، وهذا التنزيه يحصل بأخلاق وملكات تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس، وتديم تذكرها للمعدن الطيب الشريف الذي لها.
على النبي فرض هذه العبادات ونحوها التي تعود فائدتها على العابدين، وذلك بإبقائه فيهم السنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم. نقول بأن على النبي هذا لأنه الإنسان المليء القادر على تدبير أحوال الناس على ما ينتظم أسباب معايشهم ومصالح معادهم، ولا عجب! فهو إنسان يتميز عن سائر الناس بتألُّهه.
وهؤلاء الناس الذين يجيء بهم النبي، ويسن لهم من السنن والشرائع ما أشرنا إلى بعض منها، يعيشون طبعًا في مدينته التي لا بد لها من نظم تقوم عليها، وبيان هذا كله هو موضوع الفصل الثالث. وفي هذا الفصل نجد الشيخ الرئيس يرتفع في الناحية الاجتماعية إلى الذروة؛ إذ نجد له آراء لم تكد تُعرف إلا في هذا العصر الحديث، وبخاصة ما يتصل بالعمل والبطالة والصناعة وحقوق المرأة.
فإن وجد فعلًا قوم متعطلون من العمل يجب أن ننظر في أمرهم، فإن كانوا قادرين على العمل، وكان الامتناع منه يرجع للكسل، وجب ردعهم أو نفيهم من الأرض إن لم ينفع فيهم الردع والتأديب. وإن كان السبب في البطالة مرضًا أو زمانة أو نحو هذا وذاك، وجب أن يُجمعوا في مكان خاص — ملجأ بلغة هذا العصر — يكون عليهم فيه قيِّم ينظر في أمورهم، ولا بد من مال ينفق عليهم منه وتصلح به أمورهم، وهذا المال يجب في رأي «ابن سينا» أن يُجمع من ضرائب على الأرباح الطبيعية أو المكتسبة، ومن عقوبات على المخالفين لبعض ما تجيء به السنة، ومن الغنائم التي تنالها الأمة من الأعداء غير المسلمين. ومعنى هذا أن فيلسوفنا كان رجلًا عمليًّا يفكر في المشكلة وفي حلها أيضًا.
وهذا الفصل الرابع، وهو الأخير من الفصول التي اخترناها لهذه المناسبة للنشر والتحليل والمقارنة، يخصصه ابن سينا للحديث عن الخليفة أو الإمام الذي يخلف السان أو الشارع، نعنى عن الشروط الواجب توفرها فيه، وعن وجوب طاعته، ثم عن وجوه من السياسات العامة والمعاملات والأخلاق التي تؤدي إلى السعادة.
ولأنه كان رجلًا عمليًّا، ومترجمًا صادقًا لروح عصره، ومن هنا كان له أثره العظيم في التاريخ، نراه لا ينسى أنه كان هناك حينذاك دول عديدة ذات علاقات مشتركة، وإذن ينبغي ألا يتعرض بسوء لما قد يكون هناك من مدن أخرى، خلاف المدينة الفاضلة، ما دام كل منها يسير على سنة حميدة، اللهم إلا إذا كان هناك ما يوجب التصريح العلني بألا سنة طيبة حميدة غير السنة النازلة من عند الله، أي السنة التي عليها المدينة الفاضلة. لكن إذا كذب أهل مدينة من تلك المدن المشرع في دعواه عموم الشريعة، وجب تأديبهم، على ألا يبلغ ذلك تأديب أهل الضلال الصرف.
وفيلسوفنا يعرف، معرفة تستند إلى الواقع والتجربة، أن الله يَزَع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن، وأن هناك كثيرًا لا تخالط من أول الأمر قلوبهم حلاوة الطاعة والفضيلة وفعل الخير حتى يعملوا ذلك من أنفسهم تقديرًا للفضيلة وحبًّا لها؛ لذلك يوجب فرض عقوبات دنيوية على من لا يقف عند أوامر السنة ونواهيها، فليس كل إنسان ينزجر لما يخشاه في الآخرة.
على أنه بسبب نزعته العملية أيضًا، ولأنه عرف الزمن ونوازله، وعرف أن لكل وقت أحداثه وأحكامه التي تناسبه وبها تصلح أمور من يعيشون فيه؛ رأى أنه «يجب أن يفوض كثير من الأحوال إلى الاجتهاد، خصوصًا في المعاملات التي تكون بين الناس بعضهم وبعض، فإن للأوقات أحكامًا لا يمكن أن تُضبط.»
وأخيرًا، لا ينسى الشيخ الرئيس أن من الناس من لا يساعدهم استعدادهم الفطري على معرفة الخير والشر في الأخلاق والعادات؛ لذلك يكون على الشارع أيضًا أن يتعرض في شريعته لهذه الناحية، فيسن «أيضًا في الأخلاق والعبادات سننًا تدعو إلى العدالة»، ويعني بها التوسط بين الطرفين اللذين كلاهما ذميم.
والسعادة تكون في التخلق بهذه الأخلاق الفاضلة، وبالجمع بين شطري الحكمة النظرية والعملية، ومن فاز، مع ذلك، بالخواص النبوية «كاد — كما يقول ابن سينا — أن يصير ربًّا إنسانيًّا، وكاد أن تحل عبادته بعد الله تعالى، وكاد أن يفوض الله أمور عباد الله، وهو سلطان العالم الأرضي وخليفة الله فيه.»
هكذا ختم فيلسوفنا كتابة الشفاء، أي بالإشارة إلى أن الخير للعالم لا يكون على تمامه إلا إذا حكم الفلاسفة أو تفلسف الحكام، وما أجلَّ ذلك من ختام لأكبر عمل قام به أكبر فيلسوف في الإسلام!