مقارنات وتعليقات
-
(١)
هذه الفكرة، وهي أن الإنسان مدني بالطبع، لا يستطيع أن يعيش وحده، نجدها قبل ابن سينا لدى الفلاسفة والمفكرين الذين نظروا في الاجتماع. فأفلاطون في المقالة الثانية من الجمهورية يرى أن الاجتماع ظاهرة طبيعية سببها عجز الفرد عن القيام بكل حاجاته العديدة وحده، وكذلك نراها لأرسطو في المقالة الأولى من كتاب السياسة؛ إذ يقرر أن الذي لا يحتاج لغيره هو إما بهيمة أو إله. هذا في القديم، وفي الحديث نجدها أيضًا لدى مسكويه؛ إذ يرى في كتابه «الفوز الأصغر» ص٦٢، طبعة بيروت، سنة ٣١٩ﻫ، أن الإنسان اجتماعي بالطبع، أي إنه «لم يخلق خلق من يعيش وحده ويتم له البقاء بنفسه»، وإذا كان الأمر كذلك فمن العدل أن «نعين الناس بأنفسنا كما أعانوننا بأنفسهم، ونبذل لهم عوض ما بذلوا لنا.» ص٦٤. وأخيرًا، نرى الفارابي المعلم الثاني يقرر نفس الظاهرة، فيرى أنه «لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال الذي لأجله جُعلت له الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه». آراء أهل المدينة الفاضلة، مطبعة النيل بمصر، ص٧٧.
-
(٢)
حقيقة، لقد استلهم ابن سينا أفلاطون في هذه الناحية في كتاب «الجمهورية» المقالة الثانية، وظاهر أن كليهما نظر في هذا إلى الإنسان وقواه الثلاث، وإلى الترتيب الطبيعي الواقع في أية مدينة من المدن. إلا أن الشيخ الرئيس خالف فيلسوف الأكاديمية فيما رآه من وجوب الشيوعية في المال والنساء بالنسبة للحراس، نعني الحكام والجند، فلا يملكون شيئًا كما يقول في المقالة الثانية من الجمهورية، وكذلك لا يكون لأحد منهم أسرة خاصة كما يقول في المقالة الخامسة. ونعتقد أن ابن سينا، وقد اتبع في ذلك الشريعة الإسلامية، تأثر أيضًا بأفلاطون نفسه حين رجع عن هذه الشيوعية في كتاب «القوانين» المقالة الخامسة، وبأرسطو حين نقد رأي أستاذه ولم ير التضحية بالملكية والأسرة في سبيل الدولة، وحين قرر أن الشيوعية في النساء — وما يكون عن ذلك من أولاد — تضر ضررًا كبيرًا، مثلها في هذا مثل الشيوعية في المال، وبخاصة والمال، كسائر الخيرات الخارجية، لا بد منه لتمام فضيلة المرء ليستعين به على معالي الأمور. انظر في هذا كله كتاب السياسة المقالة الثانية.
-
(٣)
قتل الميئوس من صلاحه، أو ناقص التركيب، أو المريض الذي لا رجاء في شفائه، أو عديم النفع لأي سبب كان؛ فكرة كانت من المسلمات عند كثير من مفكري العصر القديم. نجدها عند مفكري إسبارطة، وعند أفلاطون في المقالة الخامسة من «الجمهورية»، وعند تلميذه المعلم الأول في كتاب «السياسة»، وقد أحسن جدًّا ابن سينا حين أعرض عن هذا الرأي.
إنه رأى بلا شك في ذلك انتهاكًا لحرمة النفس الإنسانية بلا ذنب جنته، وبخاصة وتكاليف حياتهم — كما يقول — لا تثقل المدينة. وهنا لا يسعنا أن نمر دون أن نلاحظ أن الشريعة الإسلامية أوجبت على الأب نفقة ولده الصغار الفقراء، وكذلك الأولاد الكبار الإناث مطلقًا أو الذكور العاجزين عن كسب حياتهم بسبب كبر السن ونحوه، وكذلك أوجبت على المرء نفقة ذي الرحم المحرم منه، الصغير أو الأنثى مطلقًا أو الكبير العاجز عن الكسب بنحو زمانة وعَتَه وفَلَج. انظر في هذا كتاب «حاشية ابن عابدين» على كتاب «رد المحتار على الدر المختار»، ج٢، ٧٢٧ و٧٢٨، وكذلك ص٦٢ و٦٣ من الجزء نفسه، بخصوص أن نفقة الفقراء الذين لا أولياء لهم تكون في بيت المال، والزيلعي «شرح الكنز» الطبعة الأولى ببولاق القاهرة، سنة ١٣١٣ﻫ، ج٣، ٥٩ و٦٢ و٦٤. وبدهي تأثر الشيخ الرئيس في رأيه ذلك بالشريعة الإسلامية.
-
(٤)
في هذه الفكرة، فكرة مشاركة الغريب للجاني في تحمل غرامة جنايته، نرى تأثر ابن سينا بالفقه الإسلامي واضحًا؛ ففي «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج٥ ص٥٦٢–٥٦٧، من طبعة القاهرة عام ١٢٩٩ﻫ، نجد أن عاقلة المرء هم أهل ديوانه جنديًّا كان أو كاتبًا، أو قبيلته وأقاربه ومن يتناصر بهم إن لم يكن من أهل الديوان، وأن على العاقلة كل دية وجبت بنفس القتل، تؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين، وانظر أيضًا «الزيلعي» (المرجع السابق ذكره)، ج٦، ١٧٦–١٨٠.
-
(٥)
هذه الصناعات، حسب تعبير الشيخ الرئيس، التي رأى أن على المشرع تحريمها، نجدها محرمة طبعًا في الشريعة الإسلامية (ينظر القرآن أو أي كتاب من كتب الفقه)، لما فيها من مضار خطيرة تصيب المدينة والأمة. ونشير هنا إلى أن أرسطو رأى في المقالة الأولى من كتاب السياسة أن الربا، من بين هذه الصناعات، أبشع الوسائل غير الطبيعية لكسب الثروة، وأنه لهذا عقيم لا ينتج منه خير.
-
(٦)
تشدد ابن سينا في الزواج وإيجاب إعلانه، لما ذكره من أسباب، من الأمور التي أكدتها كل الشرائع السماوية، انظر فيما يختص بالشريعة الإسلامية «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره) ج٢، ٣٨٢، حيث يذكر أن التزوج فرض عند تيقن الزنا، وواجب عند التَّوَقَان، وص٣٨٣ حيث يذكر أنه سنة مؤكدة عند الاعتدال، ومكروه عند خوف الجور، وحرام عند تيقنه، ويندب إعلانه للناس. وانظر أيضًا «الزيلعي» (المرجع السابق ذكره) ج٢، ٩٤ و٩٥ و٩٨ في إعلان الزواج والإشهاد عليه.
-
(٧)
هنا يمس الشيخ الرئيس مسألة هامة لها خطرها في كل آن، وتثور من أجلها هذه الأيام مناقشات عنيفة من وقت لآخر، نعني بها مسألة مساواة المرأة للرجل، أو أنها أدنى منه مرتبة لهذا السبب أو ذاك. ولسنا نتعرض هنا لهذه المشكلة من ناحية ترجح أحد الجانبين، ولكنا فقط نشير إلى أن أرسطو — في المقالة الأولى من كتاب «السياسة» التي تكلم فيها عن تدبير المنزل وجعلها مقدمة لدراسة الدولة — يرى أن المرأة أقل عقلًا من الرجل؛ ولذلك يكون إليه أمور المنزل والمدينة، وإليها هي أمور المنزل والأولاد تحت عنايته وإشرافه. والشأن كذلك في كتب الشريعة الإسلامية، بل في القرآن نفسه والحديث، ولسنا في حاجة للإشارة إلى مراجع في هذا، فالأمر واضح كل الوضوح.
على أن ابن سينا يتخذ من كون المرأة «واهية العقل» سببًا لجعل الطلاق بيد الرجل وحده حتى لا تلجأ إليه كثيرًا إن كان بيدها، بينما الشريعة الإسلامية أجازت للرجل أن يملكها الطلاق بأن يشرط لها هذا في عقد الزواج، وكذلك للقاضي أن يطلقها على الرجل بشروط خاصة وفي حالات خاصة، مثل حالة عدم استطاعة الزوج الإنفاق عليها، أو حالة ما إذا كان سيئ الخلق والعشرة معها. انظر «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج٢، ٥١٤ وما بعدها وص٧١١، و«الزيلعي» على «الكنز»، ج٢، ١٨٨ و٢١٩ و٢٢٢ و٢٢٥.
-
(٨)
الذي يشير إليه الشيخ الرئيس هنا من التشديد في أمر الطلاق نراه في كتب الفقه الإسلامي، ففي كتاب «فتح القدير» للكمال بن الهمام المتوفى عام ٨٦١ﻫ، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق بالقاهرة عام ١٣١٦ﻫ، ج٣، ٢١؛ أن من أسباب الطلاق تباين الأخلاق وعروض البغضاء بين الزوجين التي تجعل العشرة الطيبة بينهما متعذرة أو فيها عسر شديد، وفي ص٢٢ منه أن من محاسن الطلاق التخلص من المكاره الدينية والدنيوية. ونجد في كتاب «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج٢، ٤٥٠ و٤٥١، أن الطلاق محظور إلا لحاجة كريبة، وكبر سن، وتباين أخلاق، وعروض بغضاء موجبة لعدم إقامة حدود الله، أو أن تكون المرأة مؤذية للزوج أو لغيره، أو أن يكون في عدم الطلاق فوات الإمساك بمعروف كما لو كان الزوج خصيًّا أو عنِّينًا أو مؤذيًا.
-
(٩)
ما يتكلم عنه فيلسوفنا هنا من وجوب نفقة الزوجة على زوجها حتى تكون مصونة في دارها، ويتبع ذلك طبعًا أن تكون نفقة الأولاد على أبيهم، ومن وجوب جعل تربية هؤلاء بين الأب والأم معًا؛ كل هذا نجده مفصلًا في كتب الفقه الإسلامي حتى لتكفي الإشارة إلى بعض المراجع الهامة. انظر «ابن عابدين» (المرجع السابق ذكره)، ج٢، ٦٩٨ و٧٢٧ و٧٢٨. وفي تربية الولد، بنتًا أو ابنًا، وأنها في حالة الطلاق تُعطى للأم في سن خاصة ثم للأب بعد هذا السن، انظر «الزيلعي» على «الكنز» ج٣، ٤٦ وما بعدها إلى ص٥٠، «وابن عابدين» (المرجع السابق ذكره) ج٢، ٦٨٦ وما بعدها إلى ص٦٩٨. ومن ذلك نعرف مبلغ استلهام ابن سينا هنا أيضًا للشريعة الإسلامية.
-
(١٠)
المعروف من التاريخ الإسلامي من أن ولاية الخليفة كانت تكون بعهد من سابقه أو باختيار أهل الحل والعقد. وانظر في هذا كتاب «الآداب السلطانية» لأقضى القضاة أبي الحسن علي البصري البغدادي، طبع القاهرة عام ١٢٩٨ﻫ ص٥، وكذلك «الإرشاد» لإمام الحرمين، نشر وتحقيق الدكتور محمد موسى والأستاذ علي عبد المنعم عبد الحميد، طبع السعادة بالقاهرة سنة ١٩٥٠ ص٤٢٤.
هذا ويذكرنا ابن سينا بهذه الشروط التي رأى وجوب توفرها في الإمام، بما كان يراه أفلاطون من وجوب أن يحكم الفلاسفة أو يتفلسف الحكام، للأسباب التي تحدث عنها طويلًا في الجمهورية؛ مقالات ٤ و٥ و٦ بصفة خاصة، والفارابي لم يبعد عن هذا؛ إذ يرى (آراء أهل المدينة الفاضلة، طبعة مصر السابقة الذكر، ص٨٣–٨٦، ٥٧–٥٩ من طبعة ليدن) أن الرئيس هو من جمع بين الحكمة والفيض الإلهي؛ ولذلك يكون (ص٨٩ مصر، ٦١ ليدن) عالمًا بالشرائع والسنن، جيد الروية والاستنباط، جيد الإرشاد بالقول إلى شرائع الأولين، متميزًا بالشجاعة وأعمال الحرب، ومع هذا كله حكيمًا.
وفي الشروط الواجب وجودها في الإمام راجع «إمام الحرمين الجويني» (المرجع السابق ذكره)، ص٤٢٦-٤٢٧، و«أبا الحسن البصري البغدادي» (كتابه المذكور)، ص٤-٥.
-
(١١)
من هذا نرى أن ابن سينا لا يرى أن يكون هناك إمامان إلا عند الضرورة القصوى، والفارابي (المرجع السابق ذكره ص٨٩ طبعة مصر، ٦١ طبعة ليدن) يرى أنه إذا وُجدت الحكمة في واحد وباقي الشرائط في آخر كانا هما رئيسين معًا في المدينة، بل إذا تفرقت هذه الشرائط في أكثر من واحد وكانوا متلائمين، كانوا — مع الحكيم — الرؤساء الأفاضل معًا. لكن إمام الحرمين الجويني (المرجع السابق ذكره ص٤٢٥) ذهب في ذلك مذهبًا جيدًا وسطًا، وذلك إذ يقول: «ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين … والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صُقع واحد متضايق الخطط والمَخَالف غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى، فللاحتمال فيه مجال، وهو خارج عن القواطع»، ونظن أن التاريخ الإسلامي بما كان يحدث من تعدد الخلفاء والأمراء يشهد لهذا الرأي الوسط.
-
(١٢)
اشتراط الإمام في صحة بعض الشعائر الدينية أو الأعمال أو العقود العامة، تنويهًا بهذا وذاك، نراه في الفقه الإسلامي. فمن المعروف، مثلًا، أن صلاة الجمعة لا تصح عند أبي حنيفة إلا بحضور السلطان أو نائبه، وكذلك نعرفه في غير الصلاة في أيامنا هذه بمصر، نعني بهذا اشتراط مرسوم أو أمر ملكي لقيام بعض الشركات المالية أو الجمعيات العامة، وفي بعض الوظائف الكبيرة، أو ذات الطابع الخاص كمناصب القضاء.