فوزي الغزي١
جرحٌ على جرحٍ حَنانَكِ «جِلَّقُ»
حُمِّلتِ ما يُوهِي الجبالَ ويُزهِقُ٢
صبرًا لباةَ الشرقِ كلُّ مصيبةٍ
تبلى على الصبرِ الجميلِ وتخلَقُ٣
أنَسيتِ نارَ الباطشين وهزَّةً
عرَتِ الزمانَ كأن «روما» تُحرَقُ٤
رعناءَ أرسلها ودسَّ شُواظَها
في حجرةِ التاريخ أرْعَنُ أحمق٥
فمشَت تُحطِّم باليمين ذخيرةً
وتَلُصُّ أخرى بالشمال وتَسرقُ
جُنَّت فضَعضعَها وراضَ جِماحَها
من نشئِكِ الحُمْسِ الجنونُ المُطبِق
لقِيَ الحديدُ حميَّةً أُمويَّة
لا تكتسي صدأً ولا هي تُطرَق
يا واضعَ الدستورِ أمسِ كخُلْقِهِ
ما فيه من عِوَجٍ ولا هو ضيِّق
نظمٌ من الشورى وحُكمٌ راشدٌ
أدبُ الحضارةِ فيهما والمَنطق
لا تخشَ ممَّا ألحقوا بكتابه
يبقى الكتابُ وليس يبقى المُلحَق
ميْتَ الجلالِ من القوافي زَفرةٌ
تجري ومنها عَبرةٌ تترقرق
ولقد بَعثتُهما إليكَ قصيدةً
أفأنتَ مُنتظِرٌ كعهدِكَ شيِّق
أبكي ليالِيَنا القِصارَ وصحبةً
أخذَت مُخِيلتُها تجيشُ وتَبرق٦
لا أذكُرُ الدنيا إليك فربَّما
كرِهَ الحديثَ عن الأُجاجِ المُغرَق٧
طُبِعَت من السُّمِّ الحياةُ طعامُها
وشرابُها وهواؤها المُتنشَّق
والناسُ بين بطيئها وذُعافِها
لا يعلمونَ بأيِّ سمَّيها سُقُوا٨
أما الوليُّ فقد سقاكَ بسُمِّهِ
ما ليس يَسقيك العدوُّ الأزرق٩
طلبوك والأجلُ الوشيكُ يحثُّهم
ولكلِّ نفسٍ مُدَّةٌ لا تُسبَق
لمَّا أعان الموتُ كيدَ حِبالهم
علِقَت وأسبابُ المنِيَّةِ تَعلَق
طرقَت مِهادَك حيةٌ بَشريةٌ
كفرَت بما تنتابُ منه وتَطرق١٠
يا «فوز» تلك دمشقُ خلفَ سَوادِها
ترمي مكانَك بالعيون وتَرمق١١
ذكَرَت ليالِيَ بدرِها فتلفَّتَت
فعساك تَطلعُ أو لعلَّك تُشرِق
«برَدَى» وراءَ ضِفافِه مُستعبِرٌ
والحورُ محلولُ الضفائر مُطرِق١٢
والطيرُ في جنَباتِ «دُمَّرَ» نُوَّحٌ
يجدُ الهمومَ خَلِيُّهن ويَأرق١٣
ويقول كلُّ مُحدِّثٍ لسميره
أبِذاتِ طَوقٍ بعدَ ذلك يُوثَق١٤
عشِقَت تهاويلَ الجمالِ ولم تَجِد
في العبقريةِ ما يُحَبُّ ويُعشَق١٥
فمشَت كأنَّ بنانَها يدُ مُدمِنٍ
وكأن ظلَّ السُّمِّ فيها زِئبق
ولوَ انَّ مقدورًا يُرَدُّ لردَّها
بحياته الوطنُ المَروعُ المُشفِق
أشقى قضاءُ الأرض بعدَك أُسرةً
لولا القضاءُ من السماء لما شَقوا
قسَتِ القلوبُ عليهمُ وتحجَّرَت
فانظر فؤادَك هل يلينُ ويَرفق
إن الذين نزلتَ في أكنافهم
صفحوا فما منهم مَغيظٌ مُحنَق
سَخِروا من الدنيا كما سَخِرَت بهم
وانبتَّ من أسبابها المُتعلَّق١٦
يا مأتمًا من «عبدِ شمسٍ» مِثلُهُ
للشمس يُصنَعُ في الممات ويُنسَق
إن ضاق ظهرُ الأرضِ عنك فبطنُها
عمَّا وراءك من رُفاتٍ أضيَقُ١٧
لمَّا جمَعتَ الشامَ من أطرافِهِ
وافى يُعزِّي الشامَ فيك المَشرِقُ
يبكي لواءً من شبابِ أُميَّةٍ
يحمي حِمى الحقِّ المُبينِ ويَخفق
لمَسَت نواصِيها الحصونُ ترومُهُ
وتلمَّسَته فلم تجِدْه الفَيلق١٨
ركنُ الزعامةِ حين تطلب رأيه
فيَرى وتسألُه الخطابَ فيَنطق
ويكاد من سِحرِ البلاغةِ تحته
عودُ المنابرِ يُستخَفُّ فيُورِق١٩
«فيحاءُ» أين على جِنانِك وردةٌ
كانت بها الدنيا ترِفُّ وتَعبق٢٠
عُلويَّةٌ تجدُ المسامعُ طيَّها
وتُحِسُّ ريَّاها العقولُ وتَنشَق
وأَرائكُ الزَّهرِ الغصونُ وعرشُها
يدُ أُمَّةٍ وجبينُها والمَفرق
من مُبلِغٌ عنِّي شُبولةَ جِلَّقٍ
قولًا يَبَرُّ على الزمان ويَصدُق
باللهِ جلَّ جلالُه بمحمدٍ
بيسوعَ بالغزِّيِّ لا تتفرَّقوا
قد تُفسِدُ المَرعى على أخواتها
شاةٌ تنِدُّ من القطيعِ وتَمرق
١
فوزي الغزي: هو أحد سراة الزعماء في الشام، وأحد ألوية الثورة العربية في
نهضتها العظمى، توفي وأُقيمَت له حفلة تأبين في دمشق، وأُلقيَت فيها هذه
القصيدة العصماء في سنة ١٩٢٠م.
٢
جلق (بشدة اللام مفتوحة أو مكسورة): دمشق.
٣
اللباة: أنثى الأسد.
٤
يشير إلى ضرب الفرنسيين لها بالمدافع، وحادثة حرق روما هي إحدى
الحوادث التاريخية الكبرى، وهي مضرب المثل منذ صار نيرون مثلًا
للظلم والجبروت.
٥
الشواظ (بضم الشين وكسرها): لهب لا دخان فيه.
٦
السحابة المخيلة: التي تُحسَب ماطرة؛ أي إن صحبة الفقيد كانت
مرجوَّة الخير كما تكون السحابة المخيلة مرجوَّة المطر.
٧
الأجاج: الملح المُر.
٨
الذعاف: سمُّ الساعة.
٩
العدوُّ الأزرق: هو الكثير العداوة.
١٠
المهاد: الفراش. وفي هذا البيت إشارة إلى حادثة قتل الفقيد
بواسطة زوجته.
١١
سواد دمشق: أي القرى التابعة لها.
١٢
بردى: نهر بالشام. المستعبِر: بمعنى الباكي. الحور: شجر. وضفائر
الحور: غصونه التي تُشبِه جدائل الشعر.
١٣
دُمَّر (بضم الدال وتشديد الميم المفتوحة): عقبة في دمشق.
خليُّهن: الخالي من الهموم، وهو ضد الشجي.
١٤
ذات الطوق: الحمامة، وهي في هذا البيت كناية عن المرأة.
١٥
التهاويل: الألوان المختلفة.
١٦
انبت: أي قُطِع.
١٧
الرفات: بقايا الميت.
١٨
نواصي الحصون: أعاليها.
١٩
يستخف: بمعنى يسرُّ ويطرب.
٢٠
فيحاء: دمشق.