كريمة البارودي١
أحيثُ تَلوحُ المُنى تأفلُ
كفى عِظةً أيها المنزلُ٢
حكيتَ الحياةَ وحالاتِها
فهلَّا تخطَّيتَ ما تنقلُ
أمِنْ جُنحِ ليلٍ إلى فجرِهِ
حِمًى يَزدهي وحِمًى يَعطلُ٣
وذلك يُوحِشُ من ربةٍ
وذلك من ربةٍ يأهل٤
أجاب النَّعِيُّ لدَيكَ البشيرَ
وذاقَ بكأسَيهما المَحفل
وأطرق بينهما والدٌ
أخو ترحةٍ ليلُه أليَلُ٥
يفيء إلى العقل في أمره
ولكنه القلبُ لا يَعقل
تهاوَت عن الوردِ أغصانُهُ
وطارَ عن البيضة البُلبلُ٦
وراحت حياةٌ وجاءت حياةٌ
وأظهرَ قُدرتَه المُبدِلُ
وما غيرُ من قد أتى مُدبِرٌ
ولا غيرُ من قد مضى مُقبِل
كأني ﺑ «سامي» هلوعُ الفؤادِ
إذا أسمعَت همسةٌ يَعجَل
يَرى قدرًا يأملُ اللُّطفَ فيه
وعادي الرَّدى دون ما يأمل
يُضيءُ لضِيفانِه بِشرُهُ
وبينَ الضلوعِ الغَضَى المُشعَل٧
ويَقرِيهم الأنسَ في منزلٍ
ويجمَعُه والأسى مَنزِل
فمن غادةٍ في مجالي الزِّفافِ
إلى غادةٍ داؤها مُعضِل
وذي في نفاستِها تنطوي
وذي في نفائسها تَرفُل٨
تقسَّمَ بينهما قلبُهُ
وخانَته عيناه والأرجُل
فيا نكدَ الحُرِّ هل تنقضي
ويا فرحَ الحُرِّ هل تكمُل
ويا صبرَ «سامي» بلغتَ المَدى
ويا قلبَه السهلَ كم تحمل
لقد زِدتَ من رِقَّةٍ كالصراط
ودون صلابتِك الجَندل
يمرُّ عليك خليطُ الخُطوبِ
ويجتازُك الخِفُّ والمُثقِل٩
ويا رجلَ الحِلمِ خُذ بالرضا
فذلك من مُتَّقٍ أجْمَل
أتحسَبُ شهدًا إناءَ الزمانِ
وطينتُه الصابُ والحَنظل
وما كان من مُرِّه يعتلي
وما كان من حُلوِه يسفل
وأنت الذي شربَ المُترَعاتِ
فأيُّ البواقي به تَحفِل
أفي ذا الجلالِ وفي ذا الوقارِ
تُخِيفُك ضراءُ أو تُذهِل
ألَمْ تكُنِ المَلْكَ في عزِّهِ
وباعُك من باعه أطوَل
وقولُك من فوقِ قولِ الرجالِ
وفعلُك من فعلِهم أنبَل١٠
ستعرفُ دنياك من ساومَت
وأن وقارَك لا يُبذَل
كأنك «شمشونُ» هذي الحياةِ
وكلُّ حوادثِها هيكل١١
١
وجَّه هذه القصيدة يعزِّي بها المرحوم محمود سامي باشا البارودي في كريمته
التي تُوفيت أثناء زفاف شقيقتها.
٢
تلوح المنى: بمعنى تُشرق. تأفل: بمعنى تغرب.
٣
جنح الليل (بضم الجيم وكسرها): طائفة منه. يعطل: بمعنى يخلو،
والأصل في العطل التجرُّد من الحُلي.
٤
الربَّة هنا: يقصد بها صاحبة البيت. يأهل: يمتلئ أو يعمر.
٥
الترحة: الحزن. الأليل: الشديد السواد.
٦
تهاوت: أي تساقطت أو تخلَّت.
٧
الغضى: شجر إذا اشتعل بقي جمره طويلًا.
٨
النفاسة: من قولهم هذا شيء نفيس؛ أي ثمين يُرغب فيه. والنفائس:
الحلي وما أشبهها.
٩
الخِفُّ: الخفيف. المثقل: الثقيل.
١٠
يشير إلى زمن الثورة العرابية وموقف البارودي منها.
١١
شمشون: أحد أنبياء التوراة، وله قصة هناك تدلُّ على أنه أُعطيَ
بسطة عظيمة في القوة.