فتحي ونوري١
انظر إلى الأقمار كيف تزولُ
وإِلى وجوهِ السَّعدِ كيف تَحولُ
وإلى الجبالِ الشُّمِّ كيف يُميلُها
عادي الرَّدى بإشارةٍ فتَميلُ
وإلى الرياحِ تَخِرُّ دونَ قرارِها
صَرْعى عليهن التُّرابُ مَهيل
وإلى النُّسورِ تقاصرَت أعمارُها
والعهدُ في عُمرِ النُّسورِ يطول
في كلِّ منزلةٍ وكلِّ سمِيَّةٍ
قمرٌ من الغُرِّ السُّماةِ قتيل
يهوي القضاءُ بها فما من عاصمٍ
هَيهات ليس من القضاء مُقيل
«فتحُ السماءِ» و«نورُها» سكنا الثرى
فالأرضُ وَلْهى والسماءُ ثَكول
سِرْ في الهواء ولُذْ بناصيةِ السُّها
الموتُ لا يخفى عليه سبيل٢
واركبْ جَناحَ النَّسرِ لا يَعصمْك من
نسرٍ يُرفرِفُ فيه عزرائيل
ولكلِّ نفسٍ ساعةٌ من لم يمُتْ
فيها عزيزًا مات وهْو ذليل
أإلى الحياةِ سكنتَ وهْي مَصارعٌ
وإلى الأماني يسكنُ المسلول
لا تَحفِلنَّ ببؤسِها ونعيمِها
نُعْمى الحياةِ وبؤسُها تضليل
ما بين نَضرتِها وبين ذُبولِها
عمرُ الورودِ وإنه لَقليل
هذا بَشيرُ الأمسِ أصبح ناعيًا
كالحُلمِ جاءَ بصدِّه التأويل
يجري من العبَراتِ حولَ حديثِهِ
ما كان من فرحٍ عليه يَسيل
ولَرُبَّ أعراسٍ خبَأنَ مآتمًا
كالرُّقْطِ في ظلِّ الرياضِ تَقيل٣
يا أيُّها الشهداءُ لن يُنسى لكم
فتحٌ أغرُّ على السماءِ جميل
والمجدُ في الدنيا لأولِ مُبتنٍ
ولمَن يُشيِّد بعده فيُطيل
لولا نفوسٌ زُلْنَ في سُبُلِ العُلا
لم يهدِ فيها السالكين دَليل
والناسُ باذلُ روحِه أو مالِهِ
أو علمِه والآخرون فُضول
والنصرُ غُرَّتُه الطلائعُ في الوغى
والتابعون من الخميسِ حُجول٤
كم ألفِ مِيلٍ نحوَ مصرَ قطَعتُمُ
فِيمَ الوقوفُ ودونَ مصرٍ مِيل
«طوروسُ» تحتكم ضئيلٌ طرفُهُ
لمَّا طلَعتُم في السحابِ كَلِيل
تُرخُون للريح العِنانَ وإنها
لكمُ على طُغيانها لَذَلول
اثنَين إثرَ اثنَين لم يخطر لكم
أن المنِيَّةَ ثالثٌ وزَميل
ومن العجائبِ في زمانِك أن يفي
لك في الحياةِ وفي المماتِ خليل
لو كان يُفدى هالكٌ لَفَداكمُ
في الجوِّ نَسرٌ بالحياة بَخيل
أيُّ الغُزاةِ أُولي الشهادةِ قبلكم
عرضُ السماء ضريحُهم والطُّول٥
يَغدو عليكم بالتحيةِ أهلُها
ويُرفرِفُ التسبيحُ والتهليل
«إدريسُ» فوقَ يمينِه رَيحانةٌ
ويَسوعُ فوقَ يمينِه إكليل٦
في عالمٍ سُكَّانُه أنفاسُهم
طِيبٌ وهمسُ حديثِهم إنجيل٧
إني أخاف على السماء من الأذى
في يومِ يُفسِدُ في السماء الجيل٨
كانت مطهَّرةَ الأديمِ نقيَّةً
لا آدمٌ فيها ولا قابيل٩
يتوجَّه العاني إلى رحماتِها
ويرى بها برقَ الرجاءِ عليلُ
ويُشيرُ بالرأسِ المُكلَّلِ نحوَها
شيخٌ وباللحظِ البريء بَتول١٠
واليومَ للشهواتِ فيها والهوى
سيلٌ وللدمِ والدموعِ مَسيل
أضحَت ومن سُفنِ الجواءِ طوائفٌ
فيها ومن خيلِ الهواءِ رَعيل١١
وأُزيلَ هيكلُها المَصونُ وسِرُّهُ
والدهرُ للسرِّ المَصونِ مُذيل١٢
هلعَت «دِمشقُ» وأقبلَت في أهلها
ملهوفةً لم تدرِ كيف تقول
مشَتِ الشُّجونُ بها وعمَّ غِياطَها
بينَ الجداولِ والعيونِ ذُبول١٣
في كلِّ سهلٍ أنَّةٌ ومَناحةٌ
وبكلِّ حَزنٍ رنَّةٌ وعويل
وكأنما نُعِيَت أُميَّةُ كلُّها
للمسجدِ الأُمويِّ فهْو طُلول١٤
خضعَت لكم فيه الصفوفُ وأُزلِفَت
لكمُ الصَّلاةُ وقُرِّبَ الترتيل
من كلِّ نعشٍ كالثُّريَّا مَجدُهُ
في الأرضِ عالٍ والسماءِ أصيل
فيه شهيدٌ بالكتابِ مُكفَّنٌ
بمدامعِ الروحِ الأمين غَسيل
أعوادُه بينَ الرجالِ وأصلُهُ
بينَ «السُّها» و«المُشتري» مَحمول١٥
يمشي الجنودُ به ولولا أنهم
أولى بذاكَ مشى به جبريل
حتى نزلتُم بُقعةً فيها الهوى
من قبلُ ثاوٍ والسماحُ نَزيل
عظُمَت وجلَّ ضَريحُ «يوسفَ» فوقَها
حتى كأنَّ الميتَ فيه رسول١٦
شِعري إذا جُبْتَ البِحارَ ثلاثةً
وحواكَ ظلٌّ في «فروقَ» ظَليل١٧
وتداولَتكَ عصابةٌ عربيةٌ
بينَ المآذنِ والقِلاعِ نُزول
وبلَغتَ من بابِ الخلافةِ سُدَّةً
لِسُتورِها التمسيحُ والتقبيل
قُل للإمام محمدٍ ولآله
صبرُ العظامِ على العظيم جميل
تلك الخطوبُ وقد حمَلتُم شطرَها
ناءَ الفراتُ بشطرِها والنيلُ
إن تَفقِدوا الآسادَ أو أشبالَها
فالغابُ من أمثالها مأهول
صبرًا فأجرُ المسلمين وأجرُكم
عندَ الإله وإنه لَجزيلُ
يا من خلافتُه الرضيَّةُ عِصمةٌ
للحقِّ أنت بأن يُحقَّ كفيل
واللهُ يعلَمُ أنَّ في خلفائه
عدلًا يُقيم الملكَ حين يَميل
والعدلُ يرفع للممالك حائطًا
لا الجيشُ يرفعه ولا الأُسطول
هذا مقامٌ أنت فيه محمدٌ
والرفقُ عندَ محمدٍ مأمول١٨
بالله بالإسلام بالجُرحِ الذي
ما انفكَّ في جنبِ الهلالِ يَسيل
إلا حللتَ عن السجين وَثاقَهُ
إن الوثاقَ على الأُسودِ ثَقيل١٩
أيقول واشٍ أو يُردِّدُ شامتٌ
صِنديدُ «برقةَ» مُوثَقٌ مَكبول٢٠
هو من سيوفِك أغمدُوه لريبةٍ
ما كان يُغمَدُ سيفُك المسلول
فاذكُر أميرَ المؤمنين بلاءَهُ
واستَبقِه إن السيوفَ قليل
١
فتحي ونوري: هما الطياران العثمانيان اللذان قدِما إلى مصر في سنة ١٩١٣م
يقودان طيارتهما، فسقطت بهما فماتا، فكان لمصابهما في مصر أسف شديد، وكانت
الخلافة الإسلامية وقتئذٍ ما تزال تربط المصريين بالعثمانيين.
٢
السها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى.
٣
يريد أن الأحزان تختبئ في الأرواح كما تكمن الحيَّات الرقط وقت
القيلولة في ظلال الرياض، فوجود الحيات في ذلك الجو تسميم له ومانع
من الانتفاع به، كما أن انطواء الأحزان في ثنايا الأفراح مسمم
لجوها مانع من الاستمتاع بكل سرورها.
٤
الخميس: الجيش. الحجول: أصلها من اللون الأبيض يكون في قوائم
الفرس كأنه العلامات. يقول: إن الذين يقدمون في أوائل الجيوش
يكونون في جسم النصر أشبه بالغرة، وهي لا تكون إلا في الوجه، على
حين أن غيرهم من سائر الجيش يكون أشبه بالحجول، وهي لا تكون إلا في
الأيدي والأرجل، وطبيعي أن الوجه أشرف، وإن كانت الحجول بعض سمات
الجمال.
٥
في هذا البيت ترغيب عظيم يُساق للطيارين؛ إذ يقول لهم: إن الغزاة — وهم موضع الإجلال
والإكبار — تُشَقُّ قبورهم في الأرض، ولكن
أضرحتكم تخط في السماء.
٦
يسوع: هو عيسى ابن مريم. وإدريس: هو أحد الأنبياء الرسل، وقد
خصَّ إدريس بالذِّكر لما جاء في قصة الإسراء، من أن النبي صلوات
الله عليه رآه قائمًا على باب إحدى السموات السبع، فسأل جبريل: من
هذا؟ فقال: أخوك إدريس.
٧
قوله «وهمس حديثهم إنجيل»: يقصد أن أحاديثهم طهرٌ وتقديس.
٨
يريد أنه خائف على جو السماء يوم يتخذه الطيارون ميدانًا للحروب،
فيلوثون ذلك الطهر بأذى قتل الناس وتخريب أوطانهم.
٩
يريد ﺑ «قابيل» الإشارة إلى أول دم أراقه الإنسان ظلمًا لأخيه
الإنسان.
١٠
الرأس المكلل: الذي يتوِّجه الشيب، وهذه كناية عن حالة
الضعف.
١١
خيل الهواء: الطيارات. الرعيل: القطعة من الخيل قدر العشرين أو
الخمسة والعشرين.
١٢
مذيل: مهين. أي إن الدهر لم يُحسن حفظ هذا السرِّ المصون، فكأنه
أهانه.
١٣
الغياط: جمع غوطة، وهي الموضع الكثير الماء والشجر. ويقصد ﺑ
«العيون»: عيون الماء.
١٤
طلول: جمع طلل، وهو ما شخص من آثار البناء.
١٥
المشتري: من الكواكب السيَّارة.
١٦
يقصد ﺑ «يوسف»: صلاح الدين الأيوبي.
١٧
جبت: قطعت. فروق: الآستانة، وكانت عاصمة الخلافة الإسلامية
وقتئذٍ.
١٨
كان يخاطب الخليفة محمد رشاد.
١٩
السجين: هو عزيز بك المصري القائد الحربي العظيم، وكان يجاهد في
طرابلس أيام أغار عليها الطليان، وقد وُشي به للحكومة التركية،
فاعتقلته وزجَّت به في السجن، ولم يخرج إلا بتحقيق وشفاعة مصرية،
كانت هذه القصيدة من بعض ظواهرها ومن أجمل مظاهرها.
٢٠
برقة: أحد الأقاليم الليبية، حدثت به أهم الوقائع الحربية في تلك
الإغارة، وفيها لمع مجد عزيز بك.