علي باشا أبو الفتوح١
ما بينَ دمعي المُسبَلِ
عهدٌ وبينَ ثرى «عَلي»
عهدُ «البقيعِ» وساكنيـ
ـهِ على الحيا المُتهلِّلِ٢
والدَّمعُ مروحةُ الحزيـ
ـنِ وراحةُ المُتملمِلِ
نمضي ويَلحقُ من سلا
في الغابرينَ بمَن سُلي
كم من تُرابٍ بالدمو
عِ على الزمان مُبلَّلِ
كالقبرِ ما لم يبلَ فيـ
ـه من العِظامِ وما بلي
ريَّانَ من مجدٍ يعِزُّ
على القصور مؤثَّل
أمسَت جوانبُه قَرا
رًا للنُّجومِ الأُفَّل
وحديثُهم مِسكُ النَّدِيِّ
وعَنبرٌ في المَحفل
قُل للنعيِّ هتكتَ دَمـ
ـعَ الصابرِ المُتجمِّل٣
المُلتقي الأحداثَ إن
نزلَت كأن لم تَنزل
حمَلَ الأسى ﺑ «أبي الفتو
حِ» عليَّ ما لم أحمل٤
حتى ذهلتُ ومن يَذُق
فقْدَ الأحِبَّةِ يَذهلِ
فعتبتُ في رُكنِ «القضا
ءِ» على القضاءِ المُنزَل
لَهَفي على ذاك الشبا
بِ وذلك المُستقبَل
وعلى المعارفِ إذ خلتْ
من ركنِها والمَوئل٥
وعلى شمائلَ كالرُّبا
بينَ الصَّبا والجدول
وحياءِ وجهٍ كان يُؤ
ثَرُ عن «يسوعَ» المُرسَل
يا راويًا تحتَ الصفيـ
ـحِ من الكرى والجندل٦
ومُسربَلًا حُلَلَ الوزا
رةِ بات غيرَ مُسربَل
ومُوسَّدًا حُفَرَ الثرى
بعدَ البِناءِ الأطوَل
إني التفتُّ إِلى الشبا
بِ الغابرِ المُتمثَّل
ووقفتُ ما بين المحقَّـ
ـقِ فيه والمُتخيَّل
فرأيتُ أيامًا عجِلـ
ـنَ ولَيتَها لم تَعجَلِ
كانت مُوطَّأةَ المِها
دِ لنا عِذابَ المَنهَل
ذهبَت كحُلمٍ بيْدَ أنَّ
الحُلمَ لم يُتأوَّل
إذ نحن في ظلِّ الشبا
بِ الوارفِ المُتهدِّل٧
جارانِ في دارِ النوى
مُتقابلانِ بمنزل
أيْكِي وأيْكُك ضاحكا
نِ على خمائلِ مُونْبِلي٨
والدرسُ يجمَعُني بأَفـ
ـضلِ طالبٍ ومُحصِّل
أيامَ تَبذلُ في سبيـ
ـلِ العلمِ ما لم يُبذَل
غَضَّ الشبابِ فكيف كنـ
ـتَ عن الشبابِ بمَعزِل
وإذا دعاكَ إلى الهوى
داعي الصِّبا لم تَحفِل
ولو اطَّلعتَ على الحيا
ةِ فعلتَ ما لم يُفعَل
لم يدرِ إلا اللهُ ما
خبَأتْ لكَ الدنيا ولي
تجري بنا لمُفتَّحٍ
بينَ الغُيوبِ ومُقفَل
حتى تبدَّلْنا وذا
كَ العهدُ لم يَتبدَّل
هاتيك أيامُ الشبا
بِ المُحسِنِ المُتفضِّل
مَن فاته ظلُّ الشبيـ
ـبةِ عاش غيرَ مُظلَّل
يا راحلًا أخْلَى الديا
رَ وفضلُه لم يَرحل
تتحملُ الآمالُ إثْـ
ـرَ شبابِه المُتحمِّل٩
مشَتِ الشبيبةُ جحفلًا
تبكي لِواءَ الجحفل١٠
فانظر سريرَك هل جرى
فوقَ الدموعِ الهُطَّل
اللهَ في وطنٍ ضعيـ
ـفِ الركنِ واهي المَعقل
وأبٍ وراءَك حُزنُهُ
لِنَواك حزنُ المُثكِل
يَهَبُ الضِّياعَ العامرا
تِ لمَن يردُّ له «علي»
ليس الغنيُّ من البرِيَّـ
ـةِ غيرَ ذي البال الخَلِي
ونجيبةٍ بين العقا
ئلِ همُّها لا ينسلي١١
دخلتْ مَنازلَها المَنو
نُ على الجريءِ المُشبِل١٢
كسَرَت جَناحَ مُنعَّمٍ
ورمَت فؤادَ مُدلَّل
فكأنَّ آلَكَ من شجٍ
ومُتيَّمٍ ومُرمَّل
آلُ «الحسينِ» «بِكَربلا
في كُربةٍ لا تنجلي»١٣
خلعَ الشبابَ على القنا
وبذلتَه للمُعضِل١٤
والسيفُ أرحمُ قاتلًا
من عِلَّةٍ في مَقتل
فاذهب كما ذهبَ الحسيـ
ـنُ إلى الجوارِ الأفضل
فكلاكما زينُ الشبا
بِ بجِنَّةِ اللهِ العلي
١
علي باشا أبو الفتوح: أحد نوابغ مصر الذين اشتركوا في تمهيد الطريق لنهضتها،
كان حقوقيًّا ضليعًا، وأُسندَت له وكالة وزارة المعارف، فكان موضع الفخر
والأمل، وقد توفي سنة ١٩١٣م، فعُدَّ موته خسارة وطنية كبرى.
٢
البقيع: أحد المزارات المقدَّسة في المدينة المنوَّرة.
٣
المتجمل: الذي يدفن همه في صدره احتسابًا، ويُظهر عكسه
للناس.
٤
الأسى: الحزن.
٥
الموئل: الملجأ الذي يُلجأ إليه في الشدة.
٦
يريد ﺑ «الصفيح والجندل»: حجارة القبر. يستعبر بالفقيد — وهو
المرفَّه في الحياة — كيف ينام هذا النوم العميق تحت الحجارة
الصماء الثقيلة، وهذا حذق في سياق التفجُّع بأسلوب
الاستعبار.
٧
المتهدِّل: من قولهم تهدَّلت أغصان الشجر، إذا تدلَّت.
٨
يشير في هذا البيت والذي قبله إلى أن الفقيد كان هو وأمير
الشعراء زميلَين وصديقين، كانا يطلبان العلم في جامعة «مونبليه»،
وهي إحدى مدن فرنسا الشهيرة. الأيك في الأصل: عشُّ الطائر.
الخمائل: النباتات الكريمة كالحدائق والبساتين.
٩
الشباب المتحمل: أي الراحل.
١٠
الجحفل: الجيش.
١١
لا ينسلي: أي لا يمضي ولا يبارح مكانه من قلبها.
١٢
المشبل: هو الذي يلد الأشبال، وهي أولاد السباع.
١٣
كربلاء: اسم الموضع الذي قُتل فيه سيدنا الحسين رضي الله
عنه.
١٤
يشبِّه الفقيد بالحسين، بجامع بذل الشباب من كليهما وموت كليهما
قبل أوانه، كأنه يرى أن الموت في سن الشباب بمثابة بذل الحياة وخلع
ثوبها، وهذا لا ينافي الاعتقاد بالأجل المكتوب؛ فقد تمثَّل الحسين
نفسه عندما رأى أن لا مفرَّ من القتل بقول بعضهم:
فلو ترك القطا ليلًا لنام