شهداء العلم والغربة١
ألا في سبيلِ اللهِ ذاكَ الدمُ الغالي
وللمجدِ ما أبقى من المَثلِ العالي
وبعضُ المنايا هِمَّةٌ من ورائها
حياةٌ لأقوامٍ ودُنيا لأجيالِ
أعَينيَّ جُودا بالدموع على دمٍ
كريمِ المُصفَّى من شبابٍ وآمال
تناهت به الأحداثُ من غُربةِ النَّوى
إلى حادثٍ من غُربةِ الدهرِ قتَّال
جرى أرجوانيًّا كُمَيتًا مُشعشَعًا
بأبيضَ من غِسلِ الملائكِ سَلسالِ٢
ولاذَ بقُضبانِ الحديدِ شهيدُهُ
فعادت رفيفًا من عيونٍ وأطلال
سلامٌ عليه في الحياةِ وهامدًا
وفي العُصُرِ الخالي وفي العالَمِ التالي
خليليَّ قُوما في رُبا الغربِ واسقيا
رياحينَ هامٍ في التراب وأوصال٣
من الناعماتِ الراوياتِ من الصِّبا
ذوَت بينَ حِلٍّ في البلاد وتَرحال
نعاها لنا الناعي فمال على أبٍ
هَلوعٍ وأُمٍّ ﺑ «الكنانةِ» مِثكال
طوى الغربَ نحوَ الشرقِ يعدو سُلَيكُهُ
بمُضطرِبٍ في البرِّ والبحرِ مِرقال٤
يُسِرُّ إلى النفسِ الأسى غيرَ هامسٍ
ويُلقِي على القلبِ الشَّجى غيرَ قوَّال
سماءُ الحِمى بالشاطئَين وأرضُهُ
مَناحةُ أقمارٍ ومأتمُ أشبال
تُرى الريحُ تدري ما الذي قد أعادها
بِساطًا ولكن من حديدٍ وأثقال
يُقِلُّ من الفِتيانِ أشبالَ غابةٍ
غُداةً على الأخطارِ رُكَّابَ أهوال
ثنَتهُ العوادي دونَ «أودِينَ» فانثنى
بآخَرَ من دُهمِ المقاديرِ ذيَّال٥
قد اعتَنقا تحتَ الدُّخَانِ كما التقى
كَمِيَّانِ في داجٍ من النقعِ مُنجال٦
فسبحانَ من يرمي الحديدَ وبأسَهُ
على ناعمٍ غضٍّ من الزهرِ مِنهال
ومن يأخذُ السارينَ بالفجرِ طالعًا
طُلوعَ المنايا من ثَنِيَّاتِ آجال٧
ومَن يَجعلُ الأسفارَ للناس هِمَّةً
إلى سَفرٍ يَنوُونَه غيرَ قُفَّال
فيا ناقِلِيهم لو تركتم رُفاتَهم
أقام يتيمًا في حِراسةِ لأْآلِ٨
وبينَ «غَريبالْدي» و«كافورَ» مَضجعٌ
لنُزَّاعِ أمصارٍ على الحقِّ نُزَّال٩
فهل عطَفَتكم رَنَّةُ الأهلِ والحِمى
وضجَّةُ أترابٍ عليهم وأمثال
لئن فاتَ مصرًا أن يموتوا بأرضها
لقد ظفِرُوا بالبعثِ من تُرْبِها الغالي
وما شغَلتْهم عن هواها قيامةٌ
إذا اعتلَّ رَهْنُ المحبسَينِ بأشغال١٠
حمَلتُم من الغربِ الشموسَ لمشرقٍ
تَلقَّى سناها مُظلمًا كاسِفَ البال
عواثرَ لم تَبلغْ صِباها ولم تنَلْ
مَداها ولم تُوصَلْ ضُحاها بآصال
يُطافُ بهم نعشًا فنَعشًا كأنهم
مَصاحفُ لم يعلُ المُصلِّي على التالي١١
توابيتُ في الأعناقِ تَترى زكيَّةً
كتابوتِ موسى في مَناكبِ إسْرال١٢
مُلفَّفةً في حُلَّةٍ شَفقيَّةٍ
هلاليةٍ من رايةِ النيلِ تمثال
أظَلَّ جلالُ العلمِ والموتِ وفْدَها
فلم تُلقَ إلا في خُشوعٍ وإجلال
تُفارِقُ دارًا من غُرورٍ وباطلٍ
إلى مَنزلٍ من جِيرةِ الحقِّ مِحلال
فيا حَلْبةً رفَّت على البحر حِليةً
وهزَّت بها «حُلوانُ» أعطافَ مُختال١٣
جرَت بينَ إيماضٍ العواصمِ بالضُّحى
وبينَ ابتسامِ الثَّغرِ بالمَوكبِ الحالي
كثيرةَ باغي السَّبقِ لم يُرَ مِثلُها
على عهدِ إسماعيلَ ذي الطَّولِ والنال١٤
لكِ اللهُ هذا الخَطبُ في الوهم لم يقَع
وتلك المنايا لم يَكُنَّ على بال
بَلى كلُّ ذي نَفسٍ أخو الموتِ وابنُهُ
وإن جرَّ أذيالَ الحداثةِ والخال
وليس عجيبًا أن يموتَ أخو الصِّبا
ولكن عجيبٌ عَيشُه عِيشةَ السالي
وكلُّ شبابٍ أو مَشيبٍ رهينةٌ
بمُعترِضٍ من حادثِ الدهرِ مُغتال
وما الشَّيبُ من خيلِ العُلا فاركَبِ الصِّبا
إلى المجدِ تركَبْ متْنَ أقدرِ جوَّال
يَسُنُّ الشبابُ البأسَ والجودَ للفتى
إذا الشَّيبُ سَنَّ البخلَ بالنفس والمال
ويا نشَأَ النيلِ الكريمِ عزاءَكم
ولا تذكُروا الأقدارَ إلا بإجمال
فهذا هو الحقُّ الذي لا يرُدُّهُ
تأفُّفُ قالٍ أو تلطُّفُ مُحتال١٥
عليكم لواءَ العلم فالفوزُ تحتَهُ
وليس إذا الأعلامُ خانت بخذَّال١٦
إذا مالَ صفٌّ فاخلفوه بآخَرٍ
وَصولِ مَساعٍ لا مَلولٍ ولا آلِ١٧
ولا يصلُحُ الفِتيانُ لا عِلمَ عندَهم
ولا يجمَعون الأمر أنصافَ جُهَّال
وليس لهم زادٌ إذا ما تزوَّدوا
بيانًا جُزافَ الكيل كالحشَفِ البالي١٨
إذا جزِعَ الفِتيانُ في وقْعِ حادثٍ
فمَن لجليلِ الأمرِ أو مُعضِلِ الحال
ولولا مَعانٍ في الفِدى لم تُعانِهِ
نُفوسُ الحواريِّين أو مُهَجُ الآل١٩
فعَنُّوا بهاتِيكَ المَصارعِ بينَكم
ترنُّمَ أبطالٍ بأيامِ أبطال
ألستُم بَنِي القومِ الذين تكبَّروا
على الضرباتِ السَّبعِ في الأبدِ الخالي٢٠
رُدِدتُم إلى فِرعونَ جَدًّا ورُبَّما
رجَعتُم لعمٍّ في القبائل أو خال
١
شهداء العلم والغربة: هم طائفة من شباب مصر سافروا لتلقِّي العلم في جامعات
أوروبا، فاصطدم القطار الذي يُقلُّهم من أرض إيطاليا؛ فقُتل أحد عشر طالبًا
وجيء بهم إلى مصر، فاستُقبلت جثثهم استقبالًا رهيبًا، فاشتركت في جنازتهم جميع
طوائف البلاد، ومما كان يزيد الهول في هذا المصاب حدوثه والبلاد مشتعلة بثورتها
في سنة ١٩٢٠م.
٢
الأرجواني: منسوب إلى الأرجوان، وهو صبغ أحمر يشبه به الدم لشدة
حمرته. والكُمَيت: حمرة يخالطها السواد. ومعنى المشعشع: الممزوج
بالماء. والغسل (بكسر الغين): ما يُغسل به. يصف دم هؤلاء الشهداء
بأنه يجري أحمر مشوبًا بسواد ممزوجًا بلون أبيض، كأنه الماء
السلسال الذي أصابه من غسل الملائكة.
٣
الأوصال: الأعضاء.
٤
سليك: رجل من العرب اشتهر بقوة الجري، ويُضرب به المثل في
السرعة؛ أراد تشبيه الناعي به. مرقال: سريع.
٥
دُهم: جمع أدهم، وهو الأسود. ذيَّال: طويل الذيل، والذيل من كل
شيء آخره، ومن الفَرس ذنَبه.
٦
كَمِيَّان: مثنى كَمِيٍّ، وهو الشجاع المتكمِّي؛ أي المتغطي في
سلاحه. النقع: الغبار.
٧
الثنيات: قمم الجبال.
٨
يريد باليتيم: اللؤلؤ. واللأْآل: بائع اللآلئ وصائدها
وصانعها.
٩
غريبالدي وكافور: بطَلان من أبطال الحركة الاستقلالية في
إيطاليا.
١٠
رهن المحبسين: أول ما أُطلق هذا التعبير كان يُطلق على أبي
العلاء المعرِّي، والمحبسان هما العمى ولزومه البيت.
١١
المصلي: هو الذي يجيء أول الخيل في السبق. التالي: هو الذي يجيء
تاليًا له.
١٢
تابوت موسى: هو الذي وُضع فيه سيدنا موسى — عليه السلام — وأُلقي
في البحر، فالتقطه آل فرعون وقاموا على تربيته حتى كَبِر. إسرال:
أي إسرائيل.
١٣
الحلبة: الخيل التي تُجمع للسباق. حلوان: اسم الباخرة التي
أقلَّت رفات الشهداء في عودتهم إلى مصر.
١٤
النال: العطاء. وفي هذا البيت إشارة إلى السِّباق الذي كان يقام
في مدينة حلوان في عهد إسماعيل باشا.
١٥
قالٍ: مبغض.
١٦
عليكم لواء العلم: أي الزموا أو التزموا.
١٧
آلٍ: من قولهم: هو لا يألو جهدًا.
١٨
الحشف البالي: التمر اليابس.
١٩
الحواريون: أصحاب عيسى. والآل: أصحاب محمد صلوات الله
عليهما.
٢٠
الضربات السبع: يشير إلى نوازل سماوية امتحن الله بها قدماء
المصريين. ويريد بالأبد: الزمن القديم المديد.