يرثي أباه١
سألوني لِمَ لَمْ أَرثِ أبي
ورِثاءُ الأبِ دَينٌ أيُّ دَيْنْ
أيها اللُّوَّامُ ما أظلمَكم
أينَ لي العقلُ الذي يُسعِد أينْ؟٢
يا أبي ما أنتَ في ذا أوَّلٌ
كلُّ نفسٍ للمنايا فرضُ عَينْ
هلكَت قبلك ناسٌ وقُرًى
ونعى الناعون خيرَ الثقلَين٣
غايةُ المرءِ وإن طالَ المَدى
آخِذٌ يأخذُه بالأصغرَين٤
وطبيبٌ يتولَّى عاجزًا
نافضًا من طِبِّه خُفَّي حُنَين٥
إن للموتِ يدًا إن ضربَت
أوشكَت تصدعُ شملَ الفَرقدَين
تَنفُذ الجوَّ على عِقبانه
وتُلاقي الليثَ بين الجبلَين
وتحطُّ الفرخَ من أيْكتِهِ
وتنال الببَّغا في المئتَين
أنا من مات ومن مات أنا
لقيَ الموتَ كِلانا مرتَين
نحن كنا مهجةً في بدنٍ
ثم صِرنا مُهجةً في بدنَين٦
ثم عُدْنا مهجةً في بدنٍ
ثم نُلقى جُثَّةً في كفنَين
ثم نَحيا في «عليٍّ» بعدَنا
وبه نُبعَثُ أُولى البَعثتَين٧
انظر الكونَ وقُل في وصفِهِ
كلُّ هذا أصلُه من أبوَين
فإذا ما قيلَ ما أصلُهما
قُل هما الرحمةُ في مَرحمتَين
فقدا الجَنةَ في إيجادِنا
ونعِمْنا منهما في جَنَّتَين
وهما العذرُ إذا ما أُغضِبا
وهما الصَّفحُ لنا مُسترضَيَين
ليتَ شِعري أيُّ حيٍّ لم يَدِن
بالذي دانا به مُبتدئَين
وقفَ اللهُ بنا حيثُ هما
وأماتَ الرُّسْلَ إلا الوالدين٨
ما أبي إلا أخٌ فارَقتُه
ودُّه الصِّدقُ وودُّ الناسِ مَين٩
طالما قُمْنا إلى مائدةٍ
كانت الكِسرةُ فيها كِسرتَين
وشرِبْنا من إناءٍ واحدٍ
وغسَلْنا بعدَ ذا فيه اليدَين
وتمشَّيْنا يَدِي في يدِهِ
من رآنا قال عنا أخوَيْن
نظرَ الدهرُ إلينا نظرةً
سوَّتِ الشرَّ فكانت نظرتَين
يا أبي والموتُ كأسٌ مُرَّةٌ
لا تذوقُ النفسُ منها مرتَين
كيف كانت ساعةٌ قضَّيتَها
كلُّ شيءٍ قبْلَها أو بعدُ هَيْن؟
أشَرِبتَ الموتَ فيها جُرعةً
أم شرِبتَ الموتَ فيها جُرعتَين؟
لا تخَفْ بعدَكَ حُزنًا أو بُكًى
جمدَت منِّي ومنك اليومَ عَين
أنتَ قد علَّمتَني ترْكَ الأسى
كلُّ زَينٍ مُنتهاه الموتُ شَين
ليت شِعري هل لنا أن نلتقي
مرةً أم ذا افتراقُ المَلَوَين١٠
وإذا متُّ وأُودِعتُ الثرى
أنُلقَّى حُفرةً أم حُفرتَين
١
نظم هذه القصيدة حوالَي سنة ١٨٩٧م، يرثي بها والده الطيب الذِّكر المرحوم علي
بك شوقي رحمه الله.
٢
يُسعِد: يُعِين.
٣
الثقلان: الإنس والجن، وخير الثقلين هو سيدنا محمد صلوات الله
عليه.
٤
الأصغران: القلب واللسان.
٥
خفي حنين: مثلٌ عربي يُضرب عند اليأس من الحاجة المطلوبة والرجوع
عن الطلب بالخيبة.
٦
المهجة: الدم، وقد يُعبَّر بها عن الروح، يقال خرجت مهجته؛ أي
روحه.
٧
علي: هو أحد نجلَي أمير الشعراء.
٨
يريد في هذا البيت أن يقرر أن الأبوة ضرب من ضروب الرسالة التي
لم تنقطع كما انقطعت رسالة الأنبياء، وإنما هي ستظل قائمة بوظيفتها
من طبع الأبناء على غرار الآباء، مصداقًا للأثر القائل: ما من
مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو
يمجِّسانه.
٩
المَين: الكذب. وفي هذا البيت على سهولة أدائه أعظم ألوان
المدائح لوالده، فإن الوالد الذي لا يُشعِر ابنَه بسلطة الأب، هو
الوالد المشتمل على جميع مكارم الأخلاق، البالغ أعلى درجات
الحكمة.
١٠
الملوان: الليل والنهار، الواحد منهما ملا.