أم المحسنين١
أخذَت نعشَكِ مصرٌ باليَمينْ
وحوَته مِن يد الرُّوحِ الأمينْ٢
لقِيَت طُهْرَ بقاياكِ كما
لقِيَت «يَثربُ» أُمَّ المؤمنينْ
في سَوادَيها وفي أحشائها
ووراءَ النَّحرِ مِن حبلِ الوَتين٣
خرَجَت من قصرِكِ الباكي إلى
رَملةِ الثَّغرِ إلى القصرِ الحزين
أخذَت بينَ اليتامى مَذهبًا
ومشَت في عبَراتِ البائسين
ورَمَت طَرْفًا إلى البحرِ ترى
مِن وراءِ الدمعِ أسرابَ السفين
فبَدَت جاريةٌ في حِضْنِها
فَنَنُ الوَردِ وفرعُ الياسَمين٤
وعلى جُؤجُئِها نورُ الهدى
وعلى سُكَّانِها نورُ اليقين٥
حمَلتْ من شاطئَي «مَرمرةٍ»
جوهرَ السُّؤددِ والكنزَ الثمين٦
وطوَت بحرًا ببحرٍ وجرَت
في الأُجاجِ المِلحِ بالعَذبِ المَعين
واستقلَّت دُرَّةً كانت سَنًا
وسناءً في جِباهِ المالكين٧
ذهبَت عن عِليةٍ صِيدٍ وعن
خُرَّدٍ من خَفِراتِ البيتِ عِين
والتقيَّاتُ بناتُ المُتَّقي
والأميناتُ بُنيَّاتُ الأمين
لبِسَت في مَطلعِ العزِّ الضُّحى
ونضَته كالشموسِ الآفلين٨
يَدُها بانيةٌ غارسةٌ
كَيَدِ الشمسِ وإن غاب الجبين
رَبَّةَ العرشَينِ في دولتها
قد ركِبتِ اليومَ عرشَ العالَمِين
أُضجعَت قبلَكِ فيه «مريمٌ»
وتَوارى بنِساءِ المُرسَلين
إنه رَحْلُ الأوالي شَدَّهُ
لهمُ آدَمُ رُسْلِ الآخِرِين
اخلعِي الألقابَ إلا لقبًا
عبقريًّا هو «أُمُّ المحسنين»
ودَعِي المالَ يَسِرْ سُنَّتَهُ
يمضِ عن قومٍ لأيدي آخرين
واقذِفي بالهمِّ في وجهِ الثَّرى
واطرَحي من حالقٍ عِبءَ السنين٩
واسخري من شانئٍ أو شامتٍ
ليس بالمُخطئِ يومُ الشامِتين
وتعزَّي عن عوادي دولةٍ
لم تدُم في ولدٍ أو في قرين
وازهدِي في موكبٍ لو شِئتِهِ
لتغطَّى وجهُها بالدارعين١٠
ما الذي ردَّ على أصحابه
ليس يُحيِي مَوكبُ الدَّفنِ الدفين
رُبَّ محمولٍ على المِدفعِ ما
منعَ الحَوضَ ولا حاطَ العَرين١١
باطلٌ من أُممٍ مخدوعةٍ
يتحدَّونَ به الحقَّ المُبين
في «فَروقٍ» ورُباها مأتمٌ
ذرَفَت آماقَها فيه العيون
قام فيها من عَقيلاتِ الحِمى
ملأٌ بُدِّلنَ من عزٍّ بهُون
أُسَرٌ مالت بها الدنيا فلم
تلقَ إلا عندَكِ الركنَ الركين
قد خلا «بيبكُ» من حاتمه
ومن الكاسِين فيه الطاعمين١٢
طارت النعمةُ عن أيْكَتِهِ
وانقضى ما كان من خَفضٍ ولِين
اليتامى نُوَّحٌ ناحيةً
والمساكينُ يَمُدُّون الرَّنين
دولةٌ مالت وسلطانٌ خلا
دُووِلتْ نُعماهُ بينَ الأقربين
مُنهِضُ الشرقِ «عليٌّ» لم يزَل
من بَنِيه سيِّدٌ في «عابدين»
يُصلِحُ اللهُ به ما أفسدَت
فَتَراتُ الدهر من دُنيا ودين
أُمَّ عبَّاسٍ ومالي لم أقُل
أُمَّ مصرٍ من بناتٍ وبنين
كنتِ كالوَردِ لهم واستقبلوا
دولةَ الرَّيحانِ حينًا بعدَ حِين
فيُقالُ الأُمُّ في موكبها
ويُقالُ الحرَمُ العالي المَصون١٣
«العفيفيُّ» عفافٌ وهُدًى
ﮐ «البَقيعِ» الطُّهْرِ ضمَّ الطاهرين١٤
ادخلي الجَنَّةَ من رَوضتِهِ
إن فيها غُرفةً للصابرين
١
أم المحسنين: هي والدة سمو الخديو عباس باشا الثاني، وقد توفيت بالآستانة سنة
١٩٣١م.
٢
أخذت نعشك مصر باليمين: تعبير مقصود به القول إن مصر كلها أظهرت
اهتمامًا وعناية كبيرَين في استقبال نعش الفقيدة. أما الشطر الثاني
من البيت فهو كناية عن أن النعش كان يحوي ذخيرة من الذخائر
المقدَّسة، ومن أجل ذلك قام جبريل أمين الملائكة بحراسته حتى
يسلِّم هذه الذخيرة لقومها يدًا بيد.
٣
النحر: موضع القلادة من الصدر. والوتين: عرق في القلب إذا انقطع
مات صاحبه.
٤
جارية: سفينة، وفي القرآن الكريم: وَلَهُ
الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ
كَالْأَعْلَامِ.
٥
جؤجؤ السفينة: مقدَّمها. وسكانها: مؤخرها.
٦
مرمرة: بحر في بلاد التُّرك. يقول: إن هذه السفينة لم تحمل من
شاطئ تلك البلاد نعش ميتة، وإنما حملت خلاصة السؤدد وجوهر الكنز
الثمين.
٧
السنا: (بالقصر) الضوء، و(بالمد) الرِّفعة.
٨
نضته: خلعته. والآفلين: جمع آفل، والأفول للشموس المَغيب.
٩
حالق الجبل: أعلاه، كأنه يقول إن الموت ارتفاع عظيم.
١٠
الدارعين: جمع دارع؛ أي لابس الدرع.
١١
العرين: مأوى الأسد. يقول: كثير ممَّن تُحمل نعوشهم فوق المدافع
لم يدافعوا عن الحق، ولم يمنعوا العدوان عن الحِمى، فما دام هذا
المظهر قد يناله في الدنيا غيرُ مستحقِّه، فهو إذن ليس بذي خطر،
وليس بالذي يُعتزُّ به حقيقة.
١٢
بيبك: قصر الفقيدة في الآستانة، كان مَصيفها كل عام. وحاتم: اسم
رجل يُضرب به المثل في الكرم البالغ، فيقال: كرمٌ حاتمي. وقد
اشتهرت الفقيدة بالكرم؛ ومن أجل ذلك قيل لها أم المحسنين.
١٣
يشير هذا البيت إلى أن الفقيدة العظيمة كانت أم خديو وزوجة
خديو.
١٤
العفيفي: علَم على الموضع الذي أقيم فيه مدفن الفقيدة بجوار مدفن
قرينها.