الحكايات
أنتَ وأنا
يحكُونَ أن رَجُلًا كُرْديَّا
كان عظيمَ الجسمِ هَمْشريَّا
وكان يُلقِي الرُّعبَ في القلوبِ
بكثرةِ السِّلاحِ في الجُيوبِ
ويُفزِعُ اليهودَ والنصارى
ويُرعِبُ الكِبارَ والصِّغارَا
وكُلَّما مَرَّ هُناك وهُنا
يَصيحُ بالناس أنا أنا أنا
نَمَى حديثُه إلى صبيِّ
صغيرِ جِسمٍ بطلٍ قويِّ
لا يعرفُ الناسُ له الفُتوَّة
وليس ممَّن يدَّعون القُوَّة
فقال للقومِ سأُدرِيكم بهِ
فتَعلَمون صِدقَه من كِذبِهِ
وسارَ نحوَ الهَمْشريِّ في عَجَلْ
والناسُ ممَّا سيكونُ في وَجَلْ
ومدَّ نحوَه يَمينًا قاسية
بضربةٍ كادت تكونُ القاضية
فلم يُحرِّكْ ساكنًا ولا ارتبَكْ
ولا انتهى عن زَعمِه ولا تَرَكْ
بل قال للغالبِ قولًا ليِّنا
الآنَ صِرنا اثنَين أنتَ وأنا
نَديم الباذنجان
كان لسُلطانٍ نَديمٌ وافِ
يُعِيدُ ما قال بِلا اختلافِ
وقد يَزيدُ في الثَّنا عليهِ
إِذا رأَى شيئًا حَلا لديهِ
وكان مَولاه يرى ويَعلَمُ
ويسمعُ التَّمليقَ لكنْ يَكتُمُ
فجلسَا يومًا على الخِوانِ
وجيءَ في الأكل بِباذنجانِ
فأكل السلطانُ منه ما أَكَلْ
وقال: هذا في المَذاقِ كالعسَلْ
قال النديمُ: صدقَ السلطانُ
لا يستوي شُهْدٌ وباذنجانُ
هذا الذي غنَّى به «الرئيسُ»١
وقال فيه الشِّعرَ «جالينوسُ»
يُذهِبُ ألفَ عِلَّةٍ وعِلَّة
ويُبرِدُ الصَّدرَ ويَشفي الغُلَّة
قال: ولكنْ عنده مرارة
وما حمِدتُ مَرَّةً آثارَهْ
قال: نعم مُرٌّ وهذا عيبُهُ
مُذْ كنتُ يا مولاي لا أُحِبُّهُ
هذا الذي مات به «بُقراطُ»
وسُمَّ في الكأسِ به «سُقراطُ»
فالتفتَ السلطانُ فيمَن حولَهْ
وقال: كيف تجِدُون قولَهْ
قال النديمُ: يا مَليكَ الناسِ
عُذرًا فما في فِعلتي من باسِ
جُعلتُ كي أُنادِمَ السلطانا
ولم أُنادِمْ قطُّ باذنجانا
ضِيافة قِطة٢
لستُ بناسٍ ليلةً
من رمضانَ مرَّتِ
تطاوَلتْ مِثلَ لَيَا
لِي القُطبِ واكفهرَّتِ
إذِ انفلتُّ من سُحو
رِي فدخلتُ حُجرَتي
أنظُرُ في ديوانِ شِعـ
ـرٍ أو كتابِ سِيرةِ
فلم يَرُعْني غيرُ صَو
تٍ كمُواءِ الهِرَّةِ
فقمتُ أُلقِي السَّمع في السُّـ
ـتُورِ والأسِرَّةِ
حتى ظفِرتُ بالتي
عليَّ قد تَجرَّتِ
فمُذ بدَت لي والتقَت
نَظرَتُها ونَظرَتي
عاد رَمادُ لَحْظِها
مِثلَ بَصيصِ الجَمرةِ
وردَّدَت فحيحَها
كحَنَشٍ بقَفْرةِ
ولبِسَت لي من ورا
ءِ السترِ جِلدَ النمرةِ
كرَّت ولكن كالجَبا
نِ قاعدًا وفرَّتِ
وانتفضَت شواربًا
عن مِثلِ بيتِ الإبرةِ
ورفعَت كفًّا وشا
لتْ ذنَبًا كالمِذرةِ
ثم ارتقَت عن المُوا
ءِ فعَوَت وهرَّتِ
لم أجْزِها بشِرَّةٍ
عن غضبٍ وشِرَّةِ
ولا غَبِيتُ ضَعفَها
ولا نَسِيتُ قُدرتي
ولا رأيتُ غيرَ أُمٍّ
بالبنينَ بَرَّةِ
رأيتُ ما يَعطفُ نَفْـ
ـسَ شاعرٍ من صورةِ
رأيتُ جِدَّ الأُمَّها
تِ في بِناءِ الأُسرةِ
فلم أزَل حتى اطمأنَّ
جأشُها وقرَّتِ
أتَيتُها بشَربةٍ
وجئتُها بكِسرةِ
وصُنتُها من جانبَي
مَرقدِها بسُترتي
وزِدتُها الدِّفءَ فقرَّ
بتُ لها مِجمرتي
ولو وجدتُ مِصيدًا
لَجِئتُها بفأرةِ
فاضطجعَت تحتَ ظِلا
لِ الأمنِ واسبطرَّتِ
وقرأتْ أورادَها
وما درَت ما قَرَتِ
وسرَحَ الصِّغارُ في
ثُدِيِّها فدَرَّتِ
غُرُّ نجومٍ سُبَّحٌ
في جنَباتِ السُّرَّةِ
اختلَطوا وعبَّثُوا
كالعُميِ حوْلَ سُفرةِ
تحسبُهم ضفادعًا
أرسلتَها في جَرَّةِ
وقلتُ لا بأسَ على
طِفلِكِ يا جُوَيرتي
تَمخَّضي عن خمسةٍ
إن شِئتِ أو عن عَشْرةِ
أنتِ وأولادُكِ حتَّـ
ى يَكبَروا في خُفرتي
الصيَّاد والعُصفورة٣
حكايةُ الصيَّادِ والعُصفورة
صارت لبعضِ الزاهدين صورة
ما هزَءُوا فيها بمُستحِقِّ
ولا أرادوا أولياءَ الحقِّ
ما كلُّ أهلِ الزهدِ أهلُ اللهِ
كم لاعبٍ في الزاهدين لاهِ
جعلتُها شِعرًا لتَلفتَ الفِطَنْ
والشِّعرُ للحكمةِ مُذ كان وطَنْ
وخيرُ ما يُنظَمُ للأَديبِ
ما نطقَته ألسُنُ التَّجريبِ
•••
ألقَى غُلامٌ شَرَكًا يَصطادُ
وكلُّ من فوقَ الثَّرى صيَّادُ
فانحدرَت عُصفورةٌ من الشَّجَرْ
لم يَنْهَها النَّهيُ ولا الحزمُ زَجَرْ
قالت: سَلامٌ أيُّها الغُلامُ
قال: على العُصفورةِ السلامُ
قالت: صبيٌّ مُنحني القناةِ
قال: حنَتها كثرةُ الصلاةِ
قالت: أراك بادِيَ العِظامِ
قال: برَتها كثرةُ الصيامِ
قالت: فما يكونُ هذا الصوفُ؟
قال: لباسُ الزاهدِ الموصوفُ
سَلِي إذا جهِلتِ عارِفِيهِ
فابنُ عُبيدٍ والفُضيلُ فيهِ
قالت: فما هذي العصا الطويلة
قال: لِهاتِيكِ العصا سَليلة
أهُشُّ في المَرْعى بها وأتَّكي
ولا أردُّ الناسَ عن تبرُّكِ
قالت: أرى فوق التراب حَبَّا
ممَّا اشتهى الطيرُ وما أحبَّا
قال: تشبَّهتُ بأهلِ الخيرِ
وقلتُ أقْرِي بائساتِ الطيرِ
فإن هدى اللهُ إليه جائعا
لم يكُ قُرباني القليلُ ضائعا
قالت: فجُدْ لي يا أخا التنسُّكِ
قال: القُطِيهِ بارَك اللهُ لكِ
فصلِيَت في الفخِّ نارَ القاري
ومَصرعُ العصفورِ في المِنقارِ
وهتَفَت تقول للأغرارِ
مقالةَ العارفِ بالأسرار:
«إياك أن تَغترَّ بالزُّهَّادِ
كم تحتَ ثوبِ الزُّهدِ من صيَّادِ»
البلابل التي ربَّاها البُوم
أُنبئتُ أن سُليمانَ الزمانِ ومن
أصْبَى الطُّيورَ فناجَته وناجاها
أعطى بَلابلَه يومًا — يؤدِّبُها
لِحُرمةٍ عنده — لِلبُومِ يَرعاها
واشتاقَ يومًا من الأيامِ رُؤيتَها
فأقبلتْ وهْي أعْصَى الطيرِ أفواها
أصابَها العِيُّ حتى لا اقتدارَ لها
بأن تَبُثَّ نبيَّ اللهِ شَكْواها
فنالَ سيِّدَها من دائها غضبٌ
وودَّ لو أنه بالذَّبحِ داواها
فجاءه الهُدهدُ المعهودُ مُعتذِرًا
عنها يقولُ لِمَولاهُ ومَولاها
بَلابلُ اللهِ لم تخرَسْ ولا وُلِدَت
خُرْسًا ولكنَّ بُومَ الشؤمِ ربَّاها
الدِّيك الهندي والدجاج البلدي
بَيْنا ضِعافٌ من دجاجِ الرِّيفِ
تَخطِرُ في بيتٍ لها طريفِ
إذ جاءها هِندي كبيرُ العُرفِ
فقام في الباب قِيامَ الضَّيفِ
يقولُ: حيَّا اللهُ ذي الوُجوها
ولا أراها أبدًا مكروها
أتيتُكم أنشرُ فيكم فَضْلي
يومًا وأقضي بينَكم بالعدلِ
وكلُّ ما عندكمُ حرامُ
عليَّ إلا الماءُ والمَنامُ
فعاودَ الدجاجَ داءُ الطَّيشِ
وفتحَت للعِلجِ بابَ العُشِّ
فجالَ فيه جَولةَ المليكِ
يدعو لكلِّ فرخةٍ ودِيكِ
وباتَ تلك الليلةَ السعيدة
مُمتَّعًا بدارِه الجديدة
وباتتِ الدجاجُ في أمانِ
تحلمُ بالذِّلةِ والهوانِ
حتى إذا تهلَّلَ الصباحُ
واقتبسَت من نورِه الأشباحُ
صاحَ بها صاحبُها الفصيحُ
يقولُ: دامَ مَنزلي المَليحُ
فانتبهتْ من نَومِها المشئومِ
مذعورةً من صيحةِ الغَشومِ
تقولُ: ما تلك الشروطَ بيننا
غدَرتَنا واللهِ غدرًا بيِّنا
فضَحِكَ الهِنديُّ حتى استلقى
وقال: ما هذا العَمى يا حَمْقى
متى ملكتُم ألسُنَ الأربابِ؟
قد كان هذا قبلَ فتحِ البابِ
العُصفور والغَدير المهجور
ألمَّ عُصفورٌ بمَجرًى صافِ
قد غابَ تحتَ الغابِ في الألفافِ
يَسقي الثَّرى من حيثُ لا يدري الثَّرى
خَشيةَ أن يُسمَعَ عنه أو يُرى
فاغترفَ العُصفورُ من إحسانِهِ
وحرَّكَ الصَّنيعُ من لِسانِهِ
فقال يا نورَ عُيونِ الأرضِ
ومُخجِلَ الكوثرِ يومَ العَرضِ
هل لك في أن أُرشِدَ الإنسانا
لِيَعرفَ المكانَ والإمكانا
فيَنظرَ الخيرَ الذي نظرتُ
ويشكرَ الفضلَ كما شكرتُ
لعلَّ أن تُشهَرَ بالجميلِ
وتُنسِيَ الناسَ حديثَ النِّيلِ
فالتفتَ الغَديرُ لِلعُصفورِ
وقال يهدي مُهجةَ المَغرورِ
يا أيُّها الشاكرُ دونَ العالَمِ
أمَّنكَ اللهُ يدَ ابنِ آدمِ
النِّيلُ فاسمعْ وافهمِ الحديثا
يُعطِي ولكنْ يأخذُ الخبيثا
من طُولِ ما أبصرَه الناسُ نُسِي
وصار كلُّ الذِّكرِ للمهندسِ
وهكذا العهدُ بِودِّ الناسي
وقيمةُ المُحسِنِ عندَ الناسِ
وقد عرَفتَ حالتي وضِدَّها
فقُل لمَن يسألُ عنِّي بعدها
إن خفِيَ النافعُ فالنفعُ ظَهَرْ
يا سَعْدَ من صافَى وصُوفِيَ واستتَرْ
الأفعى النِّيلية والعقربة الهندية
وهذه واقعةٌ مُستغرَبة
في هوَسِ الأفعى وخُبثِ العقربة
رأيتُ أفعى من بناتِ النِّيلِ
مُعجَبةً بِقَدِّها الجميلِ
تحتقرُ النُّصحَ وتجفو الناصحا
وتدَّعي العقلَ الكبيرَ الراجحا
عنَت لها ربيبةُ السَّباخِ
تَحمِلُ وزْنَيها من الأوساخِ
فحسِبَتها والحِسابُ يُجدِي
ساحرةً من ساحراتِ الهندِ
فانخرطَت مِثلَ الحُسامِ الوالجِ
واندفعَت تلك كسَهمٍ زالجِ
حتى إذا ما أبلغَتها جُحْرَها
دارت عليه كالسِّوارِ دَوْرَها
تقولُ يا أُمَّ العَمى والطَّيشِ
أين الفِرارُ يا عدُوَّ العَيشِ؟
إن تلِجي فالموتُ في الوُلوجِ
أو تخرُجي فالهُلكُ في الخروجِ
فسكتَت طريدةُ البُيوتِ
واغترَّتِ الأفعى بذا السكوتِ
وهجَعَت على الطريقِ هَجْعة
فخرجَت ضَرَّتُها بسُرعة
ونهضَت في ذروةِ الدماغِ
واسترسلتْ في مُؤلِمِ التَّلْداغِ
فانتبهَت كالحالمِ المذعورِ
تَصيحُ بالويل وبالثُّبورِ
حتى وهَت من الفتاةِ القُوَّة
فنزلتْ عن رأسِها العدُوَّة
تقول صبرًا للبَلاءِ صَبْرا
وإن وجدتِ قسوةً فعُذْرا
فرأسُك الداءُ وذا الدواءُ
وهكذا فلتُركَبُ الأعداءُ
من مَلَكَ الخَصمَ ونامَ عنهُ
يُصبِحُ يَلقى ما لقيتِ منهُ
لولا الذي أبصرَ أهلُ التَّجرِبة
منِّي لما سَمُّوا الخبيثَ عقربة
السَّلُوقيُّ والجواد
قال السَّلوقِي مَرَّةً للجَوادْ
وهْو إلى الصَّيدِ مَسُوقُ القِيادْ
باللهِ قُل لي يا رفيقَ الهنا
فأنتَ تدري لي الوفا في الوِدادْ
ألستَ أهلَ البِيدِ أهلَ الفَلا
أهلَ السُّرى والسَّيرِ أهلَ الجِهاد
ألمْ تكُن رَبَّ الصفاتِ التي
هامَ بها الشاعرُ في كلِّ واد
قال بلى كلُّ الذي قلتَهُ
أنا به المشهورُ بين العِباد
قال فما بالُكَ يا صاحبي
إذا دعا الصيدُ وجَدَّ الطِّراد
تشكو فتُشكِيكَ عصا سيِّدي
إن العصا ما خُلِقَت للجواد
وتَنثني في عَرَقٍ سائلٍ
مُنكَّسَ الرأسِ ضئيلَ الفؤاد
وذا السَّلوقي أبدًا صابرٌ
ينقادُ للمالكِ أيَّ انقياد
فقال مهلًا يا كبيرَ النُّهى
ما هكذا أنظارُ أهل الرَّشاد
السرُّ في الطيرِ وفي الوحشِ لا
في عَظْمِ سِيقانِكَ يا ذا السَّداد
ما الرِّجلُ إلا حيثُ كان الهوى
إن البُطونَ قادراتٌ شِداد
أمَا ترى الطيرَ على ضعفِها
تطوي إلى الحَبِّ مئاتِ البلاد
فأر الغيط وفأر البيت
يُقالُ كانت فأرةُ الغِيطانِ
تَتِيهُ بِابْنَيها على الفِيرانِ
قد سمَّتِ الأكبرَ نُورَ الغَيطِ
وعلَّمَته المشيَ فوقَ الخَيطِ
فعرَف الغِياضَ والمُروجا
وأتقنَ الدُّخولَ والخُروجا
وصار في الحِرفةِ كالآباءِ
وعاش كالفلَّاحِ في هناءِ
وأتعبَ الصغيرُ قلبَ الأُمِّ
بالكِبْرِ فاحتارت بما تُسمِّي
فقال سمِّيني بنُورِ القصرِ
لأنني يا أُمُّ فأرُ العصرِ
إني أرى ما لم يرَ الشقيقُ
فلِي طريقٌ وله طريقُ
لَأدخُلنَّ الدارَ بعدَ الدارِ
وثْبًا من الرفِّ إلى الكرارِ
لعلَّني إن ثبَتَت أقدامي
ونِلتُ يا كلَّ المُنى مَرامي
آتيكما بما أرى في البيتِ
من عسلٍ أو جُبنةٍ أو زيتِ
فعطفَت على الصغيرِ أُمُّهْ
وأقبلتْ من وجْدِها تَضُمُّهْ
تقولُ إني يا قتيلَ القُوتِ
أخشى عليك ظُلمةَ البُيوتِ
كان أبوكَ قد رأى الفلَاحا
في أن تكون مِثلَه فلَّاحا
فاعملْ بما أوصى تُرِحْ جَناني
أو لا فسِرْ في ذِمَّةِ الرحمنِ
فاستضحك الفأرُ وهزَّ الكَتِفا
وقال من قال بِذا قد خَرِفا
ثم مضى لِما عليه صمَّما
وعاهَدَ الأُمَّ على أن تكتُما
فكان يأتي كلَّ يومِ جمعة
وجُبنةٌ في فمِه أو شمعة
حتى مضى الشهرُ وجاءَ الشهرُ
وعُرِف اللِّصُّ وشاعَ الأمرُ
فجاءَ يومًا أُمَّه مُضطرِبا
فسألَته أين خلَّى الذَّنَبا
فقال ليسَ بالفقيدِ من عَجَبْ
في الشهدِ قد غاصَ وفي الشهدِ ذَهَب
وجاءها ثانيةً في خَجَلِ
منها يُداري فقْدَ إحدى الأرجُلِ
فقال رفٌّ لم أُصِبْه عالي
صيَّرني أعرجَ في المعالي
وكان في الثالثةِ ابنُ الفارة
قد أخلفَ العادةَ في الزيارة
فاشتغلَ القلبُ عليه واشتعَلْ
وسارتِ الأُمُّ له على عَجَلْ
فصادفَته في الطريقِ مُلقَى
قد سُحِقَت منه العِظامُ سَحْقا
فناحتِ الأُمُّ وصاحت واها
إن المعالي قتلتْ فتاها
مَلك الغِربان ونُدور الخادم
كانَ للغِربانِ في العصرِ مَلِيكْ
وله في النخلةِ الكبرى أَرِيكْ
فيه كرسيٌّ وخِدْرٌ ومُهودْ
لِصغارِ المُلكِ أصحابِ العُهودْ
جاءه يومًا نُدورُ الخادمُ
وهْو في البابِ الأمينُ الحازمُ
قال يا فرْعَ الملوكِ الصالحِينْ
أنت ما زِلتَ تُحِبُّ الناصحِينْ
سُوسةٌ كانت على القصرِ تدورْ
جازتِ القصرَ ودبَّت في الجُذورْ
فابعَثِ الغِربانَ في إهلاكِها
قبل أن نَهلِكَ في أشراكِها
ضَحِكَ السُّلطانُ من هذا المَقالْ
ثم أدْنَى خادِمَ الخيرِ وقالْ
أنا رَبُّ الشَّوكةِ الضافي الجَناحْ
أنا ذو المِنقارِ غلَّابُ الرياحْ
«أنا لا أنظرُ في هذي الأمورْ»
أنا لا أُبصِرُ تحتي يا نُدورْ
ثم لمَّا كان عامٌ بعدَ عامْ
قام بينَ الريحِ والنخلِ خِصامْ
وإذا النخلةُ أقْوَى جِذعُها
فبَدا للريحِ سهلًا قلعُها
فهَوَت للأرضِ كالتلِّ الكبيرْ
وهوَى الديوانُ وانقضَّ السَّريرْ
فدَها السُّلطانَ ذا الخَطْبُ المَهولْ
ودعا خادِمَه الغالي يقولْ
يا نُدورَ الخيرِ أسعِفْ بالصياحْ
ما ترى ما فعلتْ فينا الرياحْ
قال يا مَولايَ لا تسألْ نُدورْ
«أنا لا أنظرُ في هذي الأمورْ»!
الظَّبي والعِقد والخِنزير
ظَبيٌ رأى صورتَه في الماءِ
فرفعَ الرأسَ إلى السماءِ
وقال يا خالِقَ هذا الجِيدِ
زِنْهُ بِعِقدِ اللؤلؤِ النَّضيدِ
فسمِعَ الماءَ يقولُ مُفصِحا
طلبتَ يا ذا الظَّبيُ ما لن تُمنَحا
إن الذي أعطاكَ هذا الجِيدا
لم يُبقِ في الحُسنِ له مَزيدا
لو أن حُسْنَه على النُّحورِ
لم يخرُجِ الدُّرُّ من البُحورِ
فافتتَن الظبيُ بِذِي المقالِ
وزاده شوقًا إلى اللآلي
ولم ينَلْه فمُه السقيمُ
فعاشَ دهرًا في الفَلا يَهيمُ
حتى تَقضَّى العمرُ في الهُيامِ
وهجرِ طِيبِ النَّومِ والطعامِ
فسارَ نحوَ الماءِ ذاتَ مَرَّة
يشكو إليه نفْعَه وضُرَّهْ
وبينما الجارانِ في الكلامِ
أقبلَ راعي الدَّيرِ في الظلامِ
يتبَعُه حيث مشى خِنزيرُ
في جِيدِه قِلادةٌ تُنِيرُ
فاندفَع الظبيُ لذاك يبكي
وقال من بعدِ انجلاءِ الشَّكِّ
ما آفةُ السعي سِوى الضلالِ
ما آفةُ العمرِ سِوى الآمالِ
لولا قضاءُ المَلِكِ القديرِ
لَمَا سعى العِقدُ إلى الخِنزيرِ
فالتفتَ الماءُ إلى الغزالِ
وقال حالُ الشيخِ شرُّ حالِ
لا عَجَبٌ إن السنينَ مُوقِظة
حفِظتَ عُمرًا لو حفِظتَ موعظة
وليُّ عهد الأسد وخُطبة الحمار
لمَّا دَعا داعِي أبي الأشبالِ
مُبشِّرًا بأوَّلِ الأنجالِ
سعَت سِباعُ الأرضِ والسماءِ
وانعقدَ المجلسُ للهَناءِ
وصدَرَ المرسومُ بالأمانِ
في الأرضِ للقاصي بها والداني
فضاقَ بالذُّيولِ صحنُ الدارِ
من كلِّ ذي صُوفٍ وذي مِنقارِ
حتى إِذا استكملتِ الجمعيَّة
نادى مُنادي اللَّيثِ في المَعيَّة
هل من خطيبٍ مُحسِنٍ خبيرِ
يدعو بطولِ العمرِ للأميرِ
فنَهضَ الفيلُ المُشيرُ السامي
وقال ما يليقُ بالمَقامِ
ثم تلاه الثعلبُ السفيرُ
يُنشِدُ حتى قيلَ ذا جريرُ
واندفعَ القردُ مُديرُ الكاسِ
فقيلَ أحسنتَ أبا نُوَاسِ
وأوْمَأ الحِمارُ بالعقيرة
يريدُ أن يُشرِّفَ العشيرة
فقال بِاسمِ خالِقِ الشعيرِ
وباعِثِ العصا إلى الحميرِ
فأزعجَ الصَّوتُ وليَّ العهدِ
فماتَ من رِعْدتِه في المَهدِ
فحمَلَ القومُ على الحِمارِ
بجُملةِ الأنيابِ والأظفارِ
وانتُدبَ الثعلبُ للتأبينِ
فقال في التعريضِ بالمِسكينِ
لا جعَلَ اللهُ له قرارا
عاشَ حِمارًا ومضى حِمارا
الأسد والثعلب والعِجل
نظرَ اللَّيثُ إلى عجلٍ سمينْ
كان بالقُربِ على غيطٍ أمينْ
فاشتهَت من لحمِه نفسُ الرئيسْ
وكذا الأنفُسُ يُصبِيها النفيسْ
قال للثعلبِ يا ذا الِاحتيالْ
رأسُك المحبوبُ أو ذاك الغزالْ
فدعا بالسَّعدِ والعُمرِ الطويلْ
ومضى في الحالِ للأمرِ الجليلْ
وأتى الغيطَ وقد جَنَّ الظلامْ
فرأى العِجلَ فأهداهُ السلامْ
قائلًا يا أيُّها المَولى الوزيرْ
أنت أهلُ العفوِ والبرِّ الغزيرْ
حمَلَ الذِّئبَ على قتلي الحَسَدْ
فوشَى بي عندَ مَولانا الأسَدْ
فتراميتُ على الجاهِ الرفيعْ
وهْو فينا لم يزَل نِعْمَ الشَّفيعْ
فبكى المغرورُ من حالِ الخبيثْ
ودنا يسألُ عن شرحِ الحديثْ
قال هل تَجهلُ يا حُلْوَ الصِّفاتْ
أن مولانا أبا الأفيالِ ماتْ
فرأى السُّلطانُ في الرأسِ الكبيرْ
مَوطنَ الحكمةِ والحِذقِ الكثيرْ
ورآكم خيرَ من يُستوزَرُ
ولأمرِ المُلكِ ركنًا يُذخَرُ
ولقد عدُّوا لكم بين الجُدودْ
مِثلَ آبِيسَ ومَعبودِ اليهودْ
فأقاموا لمعاليكم سَريرْ
عن يمينِ الملِكِ السامي الخطيرْ
واستعدَّ الطيرُ والوحشُ لذاكْ
في انتظارِ السيِّدِ العالي هناكْ
فإذا قُمتم بأعباءِ الأمورْ
وانتهى الأُنسُ إليكم والسرورْ
برِّئوني عندَ سُلطانِ الزمانْ
واطلبوا لي العفوَ منه والأمانْ
وكفاكم أنني العبدُ المُطيعْ
أخدمُ المُنعِمَ جهْدَ المُستطيعْ
فأحَدَّ العِجلُ قرنَيه وقالْ
أنت منذُ اليومِ جاري لا تُنالْ
فامْضِ واكشِف لي إلى الليثِ الطريقْ
أنا لا يَشقى لدَيه بي رفيقْ
فمَضى الخِلَّانِ توًّا للفَلاة
ذا إلى الموتِ وهذا للحياة
وهناك ابتلعَ الليثُ الوزيرْ
وحبا الثعلبَ منه باليَسيرْ
فانثنى يضحكُ من طيشِ العُجولْ
وجرى في حَلْبةِ الفَخرِ يقولْ
سلِمَ الثعلبُ بالرأسِ الصغيرْ
ففَداه كلُّ ذي رأسٍ كبيرْ
القرد والفيل
قردٌ رأى الفيلَ على الطَّريقِ
مُهروِلًا خوفًا من التَّعويقِ
وكان ذاك القِردُ نِصفَ أعمى
يُريدُ يُحصِي كلَّ شيءٍ عِلما
فقال أهلًا بأبي الأهوالِ
ومَرحبًا بمُخجِلِ الجِبالِ
تَفدِي الرُّءوسُ رأسَك العظيما
فقِفْ أُشاهِدْ حُسْنَك الوسيما
للهِ ما أظرَفَ هذا القَدَّا
وألطَفَ العَظمَ وأبْهَى الجِلدا
وأملَحَ الأُذْنَ في الِاسترسالِ
كأنها دائرةُ الغِربالِ
وأحسَنَ الخُرطومَ حين تاها
كأنه النخلةُ في صِباها
وظَهرُك العالي هو البِساطُ
للنفسِ في رُكوبِه انبساطُ
فعدَّها الفيلُ من السُّعودِ
وأمرَ الشاعرَ بالصُّعودِ
فجالَ في الظَّهرِ بلا تَوانِ
حتى إذا لم يبقَ من مكانِ
أوْفَى على الشيءِ الذي لا يُذكَرُ
وأدخَلَ الأصبعَ فيه يَخبُرُ
فاتَّهَم الفيلُ البعوضَ واضطرَبْ
وضيَّقَ الثقبَ وصالَ بالذَّنَبْ
فوقعَ الضربُ على السليمة
فلحِقَت بأختِها الكريمة
ونزل البصيرُ٤ ذا اكتئابِ
يشكو إلى الفيلِ من المُصابِ
فقال لا مُوجِبَ للندامة
الحمد لله على السلامة
من كان في عينَيه هذا الداءُ
ففي العَمى لنفسِه وِقاءُ
الشاة والغُراب
مَرَّ الغُرابُ بشاةٍ
قد غابَ عنها الفطيمُ
تقولُ والدمعُ جارٍ
والقلبُ منها كَليمُ
يا ليتَ شِعريَ يا ابْنِي
وواحِدي هل تَدومُ؟
وهل تكونُ بجَنبي
غدًا على ما أرُومُ؟
فقال يا أُمَّ سعدٍ
هذا عذابٌ أليم
فكَّرتِ في الغَدِ والفِكـ
ـرُ مُقعِدٌ ومُقِيم
لكلِّ يومٍ خُطوبٌ
تكفي وشُغْلٌ عظيم
وبينما هو يهذي
أتى النعيُّ الذَّميم
يقول خلَّفتُ سعدًا
والعَظمُ منه هَشيم
رأى من الذئبِ ما قد
رأى أبوه الكريم
فقال ذو البَينِ للأُمِّ
حين ولَّت تَهيم
إن الحكيمَ نبيٌّ
لسانُه معصوم
ألمْ أقُل لكِ توًّا
لكلِّ يومٍ هُموم
قالت صدَقتَ ولكِنْ
هذا الكلامُ قديم
فإن قوميَ قالوا
وجْهُ الغُرابِ مَشوم
أُمة الأرانب والفيل
يحكُون أن أُمَّةَ الأرانبِ
قد أخذَت من الثَّرى بجانبِ
وابتهجَت بالوطنِ الكريمِ
ومَوئلِ العِيالِ والحريمِ
فاختارَه الفيلُ له طريقا
مُمزِّقًا أصحابَنا تمزيقا
وكان فيهم أرنبٌ لبيبُ
أذهبَ جُلَّ صُوفِه التَّجريبُ
نادى بهم يا مَعشرَ الأرانبِ
من عالِمٍ وشاعرٍ وكاتبِ
اتَّحِدوا ضِدَّ العدوِّ الجافي
فالِاتحادُ قوَّةُ الضِّعافِ
فأقبَلوا مُستصوِبينَ رايَهْ
وعقدوا للِاجتماعِ راية
وانتخَبوا من بينِهم ثلاثة
لا هَرَمًا راعَوا ولا حداثة
بل نظروا إلى كمالِ العقلِ
واعتبَروا في ذاك سِنَّ الفضلِ
فنهضَ الأوَّلُ للخِطابِ
فقال إن الرأيَ ذا الصوابِ
أن تُترَكَ الأرضُ لذي الخُرطومِ
كي نستريحَ من أذى الغَشومِ
فصاحَتِ الأرانبُ الغَوالي
هذا أضَرُّ من أبي الأهوالِ
ووثبَ الثاني فقال إني
أعهَدُ في الثعلبِ شيخَ الفنِّ
فلندْعُه يُمِدنا بحِكمتِهْ
ويأخذ اثنَينِ جزاءَ خدمتِهْ
فقيلَ لا يا صاحبَ السُّموِّ
لا يُدفَعُ العدوُّ بالعدوِّ
وانتدبَ الثالثُ للكلامِ
فقال يا مَعاشرَ الأقوامِ
اجتمِعوا فالاجتماعُ قُوَّة
ثم احفِروا على الطريقِ هُوَّة
يهوي إليها الفيلُ في مرورِهِ
فنَستريحُ الدهرَ من شرورِهِ
ثم يقولُ الجيلُ بعدَ الجيلِ
قد أكلَ الأرنبُ عقلَ الفيلِ
فاستصوَبوا مقالَه واستحسَنوا
وعملوا من فَورِهم فأحسَنوا
وهلكَ الفيلُ الرفيعُ الشَّانِ
فأمستِ الأُمَّةُ في أمانِ
وأقبلتْ لِصاحبِ التدبيرِ
ساعيةً بالتاجِ والسريرِ
فقال مهلًا يا بَني الأوطانِ
إن مَحلِّي لَلمَحلُّ الثاني
فصاحبُ الصوتِ القويِّ الغالبِ
مَن قد دعا يا مَعشرَ الأرانبِ
حكاية الخفاش ومليكة الفَراش
مرَّت على الخُفاشِ
مليكةُ الفَرَاشِ
تطيرُ بالجموعِ
سعيًا إلى الشموعِ
فعطَفَت ومالت
واستضحكَت فقالت
أزْرَيتَ بالغرامِ
يا عاشِقَ الظلامِ
صِفْ لي الصديقَ الأَسودا
الخاملَ المُجرَّدا٥
قال سألتِ فيهِ
أصْدَق واصِفِيهِ
هو الصديقُ الوافي
الكاملُ الأوصافِ
جِوارُه أمانُ
وسِرُّه كتمانُ
وطَرْفُه كليلُ
إذا هفا الخليلُ
يحنو على العُشَّاقِ
يَسمعُ لِلمُشتاقِ
وجُملةُ المقالِ
هو الحبيبُ الغالي
•••
فقالتِ الحمقاءُ
وقولُها استهزاءُ
أين أبو المِسكِ الخَصِي
ذو الثَّمنِ المُسترخَصِ٦
من صاحبي الأميرِ
الظاهرِ المُنِيرِ٧
إن عُدَّ فيمن أعرفُ
أسمُو به وأشرُفُ
وإن سُئلتُ عنهُ
وعن مكاني منهُ
أُفاخِرُ الأترابا
وأنثني إعجابا
فقال يا مَليكة
ورَبَّةَ الأريكة
إن من الغُرورِ
مَلامةَ المغرورِ
فأعطِني قفاكِ
وامضي إلى الهلاكِ
فترَكَته ساخرَة
وذهبَت مُفاخِرة
وبعدَ ساعةٍ مضَت
من الزمانِ فانقضَت
مرَّت على الخُفاشِ
مَليكةُ الفَرَاشِ
ناقصةَ الأعضاءِ
تشكو من الفَناءِ
فجاءها مُنهمِكا
يُضحِكُه منها البُكى
قال ألمْ أقُل لكِ
هلكتِ أو لم تَهلِكي
رُبَّ صديقٍ عبدِ
أبيَضُ وجهِ الودِّ
يَفديك كالرئيسِ
بالنفسِ والنفيسِ
وصاحبٍ كالنُّورِ
في الحُسنِ والظهورِ
مُعتكِرِ الفؤادِ
مُضيِّعِ الودادِ
حِبالُه أشراكُ
وقُرْبُه هلاكُ
الأسد ووزيره الحمار
اللَّيثُ مَلْكُ القِفارِ
وما تضمُّ الصَّحاري
سعَت إليه الرعايا
يومًا بكلِّ انكسارِ
قالت تعيشُ وتَبقى
يا دامِيَ الأظفار
مات الوزيرُ فمَن ذا
يسُوسُ أمرَ الضَّواري
قال الحمارُ وزيري
قضى بهذا اختياري
فاستضحكَت ثم قالت
«ماذا رأى في الحمار؟»
وخلَّفَته وطارت
بمُضحِكِ الأخبار
حتى إذا الشهرُ ولَّى
كلَيلةٍ أو نهار
لم يَشعرِ اللَّيثُ إلا
ومُلكُه في دَمار
القردُ عندَ اليمينِ
والكلبُ عندَ اليسار
والقِطُّ بين يدَيهِ
يلهُو بعَظْمةِ فار
فقال من في جدودي
مِثلي عديمُ الوقار؟
أين اقتداري وبطشي
وهَيبتي واعتباري؟
فجاءه القردُ سِرًّا
وقال بعدَ اعتذار
يا عالِيَ الجاهِ فينا
كُن عالِيَ الأنظار
رأيُ الرعيَّةِ فيكم
من رأيِكم في الحمار
النملة والمُقطَّم
كانتِ النملةُ تمشي
مَرَّةً تحتَ المُقطَّمْ
فارتخى مَفصلُها من
هَيبةِ الطَّودِ المُعظَّم
وانثنَت تنظرُ حتى
أوْجَد الخوفُ وأعدَم
قالتِ اليومَ هلاكي
حلَّ يومي وتحتَّم
ليتَ شِعري كيف أنجو
— إن هوى هذا — وأسلَم
فسعَت تجري وعَينا
ها ترى الطَّودَ فتَندَم
سقطَت في شبرِ ماءٍ
هو عندَ النملِ كاليَم
فبكَت يأسًا وصاحت
قبلَ جَرْيِ الماءِ في الفم
ثم قالت وهْي أدْرَى
بالذي قالت وأعلَم
ليتَني لم أتأخَّرْ
ليتَني لم أتقدَّم
ليتَني سلَّمتُ فالعَا
قِلُ من خاف فسَلَّم
صاحِ لا تخشَ عظيمًا
فالذي في الغيبِ أعظم
الغزال والكلب
كان فيما مضى من الدهر بيتٌ
من بيوتِ الكرامِ فيه غزالُ
يَطعَمُ اللَّوزَ والفطيرَ ويُسقى
عسلًا لم يشُبْه إلا الزُّلال
فأتى الكلبَ ذاتَ يومٍ يُناجيـ
ـهِ وفي النفسِ تَرحةٌ ومَلال
قال يا صاحِبَ الأمانةِ قُل لي
كيف حالُ الورى وكيف الرجال؟
فأجابَ الأمينُ وهْو القَئولُ الصَّـ
ـادِقُ الكاملُ النُّهى المِفضال
سائِلِي عن حقيقةِ الناس عُذرًا
ليس فيهم حقيقةٌ فتُقال
إنما هم حِقدٌ وغشٌّ وبُغضٌ
وأذاةٌ وغيبةٌ وانتحال
ليتَ شِعري هل يستريحُ فؤادي
كم أُداريهم وكم أحتال!
فرِضا البعضِ فيه للبعضِ سُخطٌ
ورِضا الكلِّ مَطلبٌ لا يُنال
ورِضا اللهِ نَرتجيه ولكن
لا يُؤدِّي إليه إلا الكمال
لا يغُرَّنْكَ يا أخا البِيدِ من مَو
لاك ذاك القَبولُ والإقبال
أنت في الأسْرِ ما سلِمتَ فإن تَمـ
ـرضْ تقطَّعْ من جسمِك الأوصال
فاطلبِ البِيدَ وارضَ بالعُشبِ قُوتًا
فهناك العيشُ الهنيُّ الحلال
أنا لولا العظامُ وهْي حياتي
لم تَطِبْ لي مع ابنِ آدمَ حال
الثعلب والدِّيك
برَزَ الثعلبُ يومًا
في شِعارِ الواعِظينا
فمشى في الأرضِ يَهذي
ويَسُبُّ الماكرينا
ويقولُ الحمدُ للـ
ـهِ إلهِ العالمينا
يا عِبادَ اللهِ تُوبُوا
فهْو كهفُ التائبينا
وازهَدوا في الطيرِ إن الـ
ـعيشَ عيشُ الزاهدينا
واطلبوا الدِّيكَ يُؤذِّنْ
لصلاةِ الصُّبحِ فينا
فأتى الدِّيكَ رسولٌ
من إمامِ الناسكينا
عرَضَ الأمرَ عليه
وهْو يرجو أن يَلِينا
فأجاب الديكُ عُذرًا
يا أضلَّ المُهتدينا
بلِّغِ الثعلبَ عنِّي
عن جُدودي الصالحينا
عن ذوي التِّيجانِ ممَّن
دخل البطنَ اللعِينا
أَنهم قالوا وخيرُ الـ
ـقولِ قولُ العارفينا
«مُخطئٌ من ظنَّ يومًا
أن للثعلبِ دينا»
النعجة وأولادها
اسمعْ نفائسَ ما يأتيكَ من حِكَمي
وافهمْه فهْمَ لبيبٍ ناقدٍ واعي
كانت على زعمِهم فيما مضى غَنَمٌ
بأرضِ بغدادَ يَرْعى جمْعَها راعي
قد نام عنها فنامت غيرَ واحدةٍ
لم يدْعُها في الدياجي للكَرى داعي
أُمُّ الفَطيمِ وسعدٍ والفتى عَلفٍ
وابنِ امِّهِ وأخيه مُنْيةِ الراعي
فبينَما هي تحتَ الليلِ ساهرةٌ
تُحيِيه ما بين أوجالٍ وأوجاع
بَدا لها الذئبُ يسعى في الظلامِ على
بُعدٍ فصاحت ألَا قُوموا إلى الساعي
فقامَ راعي الحِمى المَرعيِّ مُنذعِرًا
يقولُ أين كِلابي أين مِقلاعي
وضاقَ بالذئبِ وجهُ الأرضِ من فَرَقٍ
فانسابَ فيه انسيابَ الظَّبيِ في القاع
فقالتِ الأُمُّ يا لَلفخرِ كان أبي
حُرًّا وكان وفيًّا طائلَ الباع
إذا الرُّعاةُ على أغنامها سهِرَت
سهرتُ من حُبِّ أطفالي على الرَّاعي
الكلب والقط والفأر
فأرٌ رأى القِطَّ على الجِدارِ
مُعذَّبًا في أضيَقِ الحِصارِ
والكلبُ في حالتِه المعهودة
مُستجمِعًا للوثبةِ الموعودة
فحاولَ الفأرُ اغتنامَ الفُرصة
وقال أكفِي القِطَّ هذي الغُصَّة
لعله يكتبُ بالأمانِ
لي ولأصحابي من الجِيرانِ
فسارَ للكلبِ على يدَيهِ
ومكَّن الترابَ من عينَيهِ
فاشتغلَ الراعي عن الجِدارِ
ونزلَ القِطُّ على بِدارِ
مُبتهِجًا يَفْكرُ في ولِيمة
وفي فريسةٍ لها كريمة
يجعلُها لِخَطبِه علامة
يذكُرها فيذكُرُ السَّلامة
فجاءَ ذاكَ الفأرُ في الأثناءِ
وقال عاشَ القِطُّ في هَناءِ
رأيتَ في الشدةِ من إخلاصي
ما كان منها سبَبَ الخَلاصِ
وقد أتيتُ أطلبُ الأمانا
فامنُنْ به لِمَعشري إحسانا
فقال حقًّا هذه كرامة
غنيمةٌ وقبْلَها سلامة
يَكفيك فخرًا يا كريمَ الشِّيمة
أنك فأرُ الخَطبِ والوليمة
وانقَضَّ في الحالِ على الضَّعيفِ
يأكلُه بالمِلحِ والرغيفِ
فقلتُ في المقامِ قولًا شاعا
«مَن حفِظَ الأعداءَ يومًا ضاعا»
سليمان والهدهد
وقفَ الهُدهدُ في با
بِ سُليمانَ بذِلَّة
قال يا مولايَ كُن لي
عِيشَتي صارت مُمِلَّة
متُّ من حَبَّةِ بُرٍّ
أحدثَت في الصدر غُلَّة
لا مِياهُ النِّيلِ تُروِيـ
ـها ولا أمواهُ دِجلة
وإذا دامت قليلًا
قتَلتَني شرَّ قِتلة
فأشار السيِّدُ العا
لي إلى مَن كان حوْلَهْ
قد جَنَى الهُدهدُ ذنبًا
وأتى في اللؤمِ فَعْلة
تلك نارُ الإثمِ في الصَّد
رِ وذي الشكوى تَعِلَّة
ما أرى الحَبَّةَ إلا
سُرِقَت من بيتِ نملة
إن للظالمِ صَدرًا
يشتكي من غيرِ عِلَّة
سليمان والطاووس
سمعتُ بأن طاووسًا
أتى يومًا سليمانا
يُجرِّرُ دونَ وفْدِ الطَّيـ
ـرِ أذيالًا وأردانا
ويُظهِرُ ريشَه طورًا
ويُخفِي الرِّيشَ أحيانا
فقال لديَّ مسألةٌ
أظنُّ أوانَها آنا
وها قد جئتُ أعرضُها
على أعتابِ مولانا
ألستُ الرَّوضَ بالأزها
رِ والأنوارِ مُزْدانا
ألمْ أستوفِ آيَ الظَّرْ
فِ أشكالًا وألوانا
ألمْ أُصبِحْ ببابِكمُ
لِجَمعِ الطيرِ سُلطانا
فكيف يليقُ أن أبقى
وقومي الغُرُّ أوثانا
فحُسْنُ الصوتِ قد أمسى
نصيبي منه حِرمانا
فما تيَّمتُ أفئدةً
ولا أسكرتُ آذانا
وهذي الطيرُ أحقَرُها
يزيدُ الصَّبَّ أشجانا
وتهتزُّ الملوكُ له
إذا ما هزَّ عِيدانا
•••
فقال له سُليمانٌ
لقد كان الذي كانا
تعالت حِكمةُ الباري
وجلَّ صنيعُه شانا
لقد صغَّرتَ يا مغرو
رُ نُعْمى اللهِ كُفْرانا
ومُلكُ الطيرِ لم تحفِلْ
به كِبْرا وطُغيانا
فلو أصبحتَ ذا صوتٍ
لما كلَّمتَ إنسانا
الغصن والخنفساء
كان برَوضٍ غُصُنٌ ناعمٌ
يقول جلَّ الواحدُ المُنفرِدْ
فقامتي في ظَرفِها قامتي
ومِثلُ حُسْني في الورى ما عُهِدْ
فأقبلتْ «خُنفُسةٌ» تنثني
ونجلُها يمشي بجَنبِ الكَبِد
تقول يا زَينَ رياضِ البَها
إن الذي تطلُبُه قد وُجِد
فانظُر لِقَدِّ ابْنِي ولا تفتَخرْ
ما دامَ في العالَمِ أُمٌّ تَلِد
القُبَّرة وابنُها
رأيتُ في بعضِ الرياضِ قُبَّرة
تُطيِّرُ ابنَها بأعلى الشَّجرة
وهْي تقول يا جمالَ العُشِّ
لا تعتمدْ على الجَناحِ الهَشِّ
وقِفْ على عودٍ بجنبِ عودِ
وافعل كما أفعلُ في الصُّعودِ
فانتقلتْ من فَنَنٍ إلى فَنَنْ
وجعَلتْ لكلِّ نقلةٍ زَمَنْ
كي يستريحَ الفَرخُ في الأثناءِ
فلا يَمَلُّ ثِقَلَ الهواءِ
لكنَّه قد خالَفَ الإشارة
لمَّا أراد يُظهِرُ الشَّطارة
وطار في الفضاء حتى ارتفعا
فخانَه جَناحُه فوقعا
فانكسرَت في الحالِ رُكبتاهُ
ولم ينَل من العُلا مُناهُ
ولو تأنَّى نالَ ما تمنَّى
وعاش طولَ عُمرِه مُهنَّا
لكلِّ شيءٍ في الحياة وقتُهُ
وغايةُ المُستعجِلِين فوْتُهُ
النعجتان
كان لِبعضِ الناسِ نَعجتانِ
وكانتا في الغيطِ ترعيانِ
إحداهما سمينةٌ والثانية
عِظامُها من الهُزالِ بادية
فكانتِ الأُولى تُباهي بالسِّمَنْ
وقولِهم بأنها ذاتُ الثَّمَنْ
وتَدَّعي أن لها مِقدارا
وأنها تستوقفُ الأبصارا
فتصبرُ الأُختُ على الإدلالِ
حاملةً مَرارةَ الإذلالِ
حتى أتى الجزَّارُ ذاتَ يومِ
وقلبَ النعجةَ دونَ القومِ
فقال للمالكِ أشتريها
ونقَدَ الكيسَ النفيسَ فيها
فانطلقتْ من فورِها لأُختِها
وهْي تشكُّ في صلاحِ بختِها
تقولُ يا أُختاهُ خبِّرِيني
هل تعرفينَ حامِلَ السِّكينِ
قالت دَعِيني وهُزالي والزَّمَن
وكلِّمِي الجزَّارَ يا ذاتَ الثَّمَنْ
لكلِّ حالٍ حُلوُها ومُرُّها
ما أدَبُ النعجةِ إلا صبرُها
السفينة والحيوانات
لمَّا أتمَّ نوحٌ السَّفينة
وحرَّكَتها القُدرةُ المُعِينة
جَرى بها ما لا جَرى بِبالِ
فما تعالى الموجُ كالجِبالِ
حتى مشى اللَّيثُ مع الحمارِ
وأخذ القِطُّ بأيدي الفارِ
واستمعَ الفيلُ إلى الخِنزيرِ
مُوتنِسًا بصوتِه النَّكيرِ
وجلس الهِرُّ بجنبِ الكلبِ
وقبَّل الخروفُ نابَ الذئبِ
وعطفَ البازُ على الغزالِ
واجتمعَ النملُ على الأكَّالِ
وفلَّتِ الفرخةُ صُوفَ الثعلبِ
وتيَّمَ ابنَ عِرسِ حُبُّ الأرنبِ
فذهبَت سوابقُ الأحقادِ
وظهرَ الأحبابُ في الأعادي
حتى إذا حطُّوا بسَفحِ الجُودي
وأيقنوا بعَودةِ الوجودِ
عادوا إلى ما تَقتضيه الشِّيمة
ورجَعوا للحالةِ القديمة
فقِسْ على ذلك أحوالَ البَشَرْ
إن شمِلَ المحذورُ أو عمَّ الخَطَرْ
بيْنا ترى العالَمَ في جِهادِ
إذ كلهم على الزمان العادي
القرد في السفينة
لم يَتَّفقْ مما جرى في المَركبِ
ككَذِبِ القردِ على نوحِ النبي
فإنه كان بأقصى السَّطحِ
فاشتاقَ من خِفتِه للمَزحِ
وصاحَ: يا لَلطيرِ والأسماكِ
لِمَوجةٍ تجِدُّ في هلاكي
فبعثَ النبي له النسورا
فوجدَته لاهيًا مسرورا
ثم أتى ثانيةً يصيحُ
قد ثُقِبَت مَركبُنا يا نوحُ
فأرسل النبيُّ كلَّ من حَضَرْ
فلم يرَوا كما رأى القِردُ خَطَرْ
وبينما السَّفيهُ يومًا يَلعبُ
جادت به على المِياهِ المَركبُ
فسمِعوه في الدُّجى يَنوحُ
يقول إني هالكٌ يا نوحُ
سقطتُ من حماقتي في الماءِ
وصِرتُ بين الأرضِ والسماءِ
فلم يُصدِّقْ أحدٌ صِياحَهْ
وقيلَ حقًّا هذه وقاحة
قد قال في هذا المقامِ مَن سَبَقْ
أكذبُ ما يُلفى الكذوبُ إن صَدَقْ
من كان مَمنُوًّا بِداءِ الكذِبِ
لا يَتركُ اللهَ ولا يُعفِي نبي
نُوح — عليه السلام — والنملة في السفينة
قد وَدَّ نوحٌ أن يُباسِطَ قومَهُ
فدعا إليه مَعاشرَ الحيوانِ
وأشار أن يَلِيَ السفينةَ قائدٌ
منهم يكونُ من النُّهى بمكان
فتقدَّمَ اللَّيثُ الرفيعُ جلالُهُ
وتعرَّضَ الفيلُ الفخيمُ الشان
وتلاهُما باقي السِّباعِ وكلُّهم
خرُّوا لهيبتِه إلى الأذقان
حتى إذا حيُّوا المُؤيَّدَ بالهدى
ودعَوا بطولِ العزِّ والإمكان
سبَقَتهمُ لخِطابِ نوحٍ نملةٌ
كانت هناك بجانبِ الأردان
قالت نبيَّ اللهِ أرضى فارسٌ
وأنا يقينًا فارسُ المَيدان
سأُديرُ دِفَّتَها وأحمي أهلَها
وأقودُها في عصمةٍ وأمان
ضحِكَ النبيُّ وقال إن سفينتي
لهِيَ الحياةُ وأنتِ كالإنسان
كلُّ الفضائلِ والعظائمِ عنده
هو أوَّلٌ والغيرُ فيها الثاني
ويودُّ لو ساسَ الزمانَ وما له
بأقلِّ أشغالِ الزمانِ يَدان
الدُّب في السفينة
الدُّبُّ معروفٌ بسوءِ الظنِّ
فاسمعْ حديثَه العجيبَ عنِّي
لمَّا استطال المُكْثَ في السفينة
ملَّ دوامَ العيشةِ الظنينة
وقال إن الموتَ في انتظاري
والماءُ لا شكَّ به قراري
ثم رأى مَوجًا على بُعدٍ عَلا
فظنَّ أن في الفضاءِ جبلا
فقال لا بد من النزولِ
وصلتُ أو لم أحْظَ بالوصولِ
قد قال من أدَّبَه اختبارُهْ
السعيُ للموتِ ولا انتظارُهْ
فأسلمَ النفسَ إلى الأمواجِ
وهْي مع الرياحِ في هياجِ
فشرِبَ التعيسُ منها فانتفَخْ
ثم رَسا على القرارِ ورسَخْ
وبعدَ ساعتَين غِيضَ الماءُ
وأقلعَت بأمرِه السماءُ
وكان في صاحبِنا بعضُ الرَّمَقْ
إذ جاءه الموتُ بطيئًا في الغَرَقْ
فلمحَ المركبَ فوقَ الجُودي
والرَّكبُ في خيرٍ وفي سُعودِ
فقال يا لَجَدِّيَ التعيسِ
أسأتُ ظنِّي بالنبي الرئيسِ
ما كان ضرَّني لو امتثلتُ
ومِثلَما قد فعلوا فعلتُ
الثعلب في السفينة
أبو الحُصَينِ جالَ في السفينة
فعرَف السمينَ والسمينة
يقول إن حالَه استحالا
وإن ما كان قديمًا زالا
لِكَونِ ما حلَّ من المصائبِ
من غضبِ اللهِ على الثعالبِ
ويُغلِظُ الأيمانَ للديوكِ
لِمَا عسى يبقى من الشكوكِ
بأنهم إن نزلوا في الأرضِ
يرَونَ منه كلَّ شيءٍ يُرضي
قيل فلما تركوا السفينة
مشى مع السمين والسمينة
حتى إذا ما نصَفوا الطريقا
لم يُبقِ منهم حوْلَه رفيقا
وقال إذ قالوا عَديمُ الدِّينِ
لا عَجَبٌ إن حنثَت يَميني
فإنما نحن بَني الدَّهاءِ
نعملُ في الشدةِ للرخاءِ
ومن تخاف أن يَبيعَ دينَهْ
تَكفيكَ منه صُحبةُ السفينة
الليث والذئب في السفينة
يُقال إن الليثَ في ذي الشدة
رأى من الذئبِ صَفا المَودة
فقال يا من صانَ لي مَحلِّي
في حالتَي ولايتي وعَزْلي
إن عُدْتُ للأرض بإذنِ اللهِ
وعاد لي فيها قديمُ الجاهِ
أُعطيكَ عِجلَين وألفَ شاةِ
ثم تكونُ والِيَ الولاةِ
وصاحِبَ اللِّواءِ في الذِّئابِ
وقاهِرَ الرعاةِ والكلابِ
حتى إذا ما تمَّتِ الكرامة
ووَطِئَ الأرضَ على السلامة
سعى إليه الذئبُ بعدَ شهرِ
وهْو مُطاعُ النَّهي ماضي الأمرِ
فقال يا من لا تُداسُ أرضُهُ
ومن له طُولُ الفَلا وعَرضُهُ
قد نِلتَ ما نِلتَ من التكريمِ
وذا أوانُ المَوعدِ الكريمِ
قال تجرَّأتَ وساءَ زعمُكا
فمَن تكونُ يا فتًى وما اسمُكا
أجابَه إن كان ظنِّي صادِقا
فإنني والي الولاةِ سابقا
الثعلب والأرنب في السفينة
أتى نبيَّ اللهِ يومًا ثعلبُ
فقال يا مولايَ إني مُذنِبُ
قد سوَّدَت صحيفتي الذُّنوبُ
وإن وجدتُ شافعًا أتوبُ
فاسألْ إلهي عفْوَه الجليلا
لِتائبٍ قد جاءه ذليلا
وإنني وإن أسأتُ السَّيْرا
عمِلتُ شرًّا وعملتُ خيرا
فقد أتاني ذاتَ يومٍ أرنبُ
يرتعُ تحتَ منزلي ويَلعبُ
ولم يكُن مُراقِبٌ هُنالكا
لكنَّني تركتُه معْ ذلكا
إذ عِفتُ في افتراسِه الدَّناءة
فلم يَصِلْه من يدي مَساءة
وكان في المجلسِ ذاك الأرنبُ
يَسمعُ ما يُبدِي هناك الثعلبُ
فقال لمَّا انقطعَ الحديثُ
قد كان ذاك الزُّهدُ يا خبيثُ
وأنت بينَ الموتِ والحياةِ
من تُخمةٍ ألقَتك في الفلاةِ
الأرنب وبِنت عِرس في السفينة
قد حمَلَت إحدى نِسا الأرانبِ
وحلَّ يومُ وضعِها في المَركبِ
فقلِقَ الرُّكابُ من بكائها
وبينما الفتاةُ في عَنائها
جاءت عجوزٌ من بَناتِ عِرسِ
تقولُ أَفدِي جارَتي بنفسي
أنا التي أُرْجَى لهذي الغاية
لأنني كنتُ قديمًا «دايَة»
فقالتِ الأرنبُ لا يا جارة
فإن بعدَ الأُلفةِ الزيارة
ما لي وثوقٌ ببناتِ عِرسِ
إني أريدُ دايةً من جنسي
الحمار في السفينة
سقط الحِمارُ من السفينة في الدُّجى
فبكى الرِّفاقُ لِفَقدِه وتَرحَّموا
حتى إذا طلع النهارُ أتَت به
نحوَ السفينةِ مَوجةٌ تتقدَّمُ
قالت خُذوه كما أتاني سالمًا
لم أبتلعْه لأنه لا يُهضَمُ
سليمان — عليه السلام — والحمامة
كان ابنُ داوودٍ يُقَرِّ
بُ في مَجالسِه حمامة
خدمَته عُمرًا مِثلَما
قد شاءَ صِدقًا واستقامة
فمضَت إلى عُمَّالِهِ
يومًا تُبلِّغُهم سَلامَهْ
والكُتْبُ تحتَ جَناحِها
كُتِبَت لها فيها الكرامة
فأرادتِ الحمقاءُ تَعـ
ـرفُ من رسائلِه مَرامَهْ
عمدَت لأوَّلِها وكا
نَ إلى خليفتِه بِرَامة٨
فرأتْه يأمرُ فيه عا
مِلَه بتاجٍ للحمامة
ويقول وفُّوها الرِّعا
يةَ في الرحيلِ وفي الإقامة
ويُشيرُ في الثاني بأن
تُعطَى رِياضًا في تِهامة٩
وأتَت لِثالثِها ولم
تَستحْيِ أن فضَّت خِتامَهْ
فرأتْه يأمرُ أن تكو
نَ لها على الطيرِ الزعامة
فبكَت لذاك تندُّمًا
هَيهاتَ لا تُجدِي الندامة
وأتَت نبيَّ اللهِ وهْـ
ـيَ تقول يا رَبِّ السلامة
قالت فقدتُ الكُتْبَ يا
مولايَ في أرضِ اليَمامة١٠
لِتَسرُّعي لمَّا أتا
ني البازُ يدفعُني أمامَهْ
فأجابَ بل جِئتِ الذي
كادت تقومُ له القيامة
لكن كفاكِ عقوبةً
من خانَ خانَته الكرامة
الأسد والضِّفدع
انفع بِما أُعطيتَ من قدرةٍ
واشفع لذي الذنبِ لدى المجمعِ
إذ كيف تسمو للعُلا يا فتًى
إن أنتَ لم تنفع ولم تَشفعِ
عندي لهذا نبأٌ صادقٌ
يُعجِبُ أهلَ الفضلِ فاسمع وعِ
قالوا استوى الليثُ على عرشِهِ
فجيءَ في المجلسِ بالضِّفدعِ
وقيل للسُّلطانِ هذي التي
بالأمسِ آذَت عالِيَ المِسمعِ
تُنقنِقُ الدهرَ بلا عِلَّةٍ
وتدَّعي في الماءِ ما تدَّعي
فانظر إليك الأمرُ في ذنبِها
ومُرْ نُعلِّقْها من الأربعِ
فنهضَ الفيلُ وزيرُ العُلا
وقال يا ذا الشرفِ الأَرفعِ
لا خيرَ في المُلكِ وفي عِزِّهِ
إن ضاقَ جاهُ الليثِ بالضِّفدعِ
فكتبَ الليثُ أمانًا لها
وزاد أن جاد بمُستنقَعِ
النملة الزاهدة
سعيُ الفتى في عيشِه عِبادة
وقائدٌ يَهديه للسعادة
لأن بالسعيِ يقومُ الكونُ
واللهُ للسَّاعِينَ نِعْمَ العَونُ
فإن تشأ فهذه حكاية
تُعَدُّ في هذا المَقامِ غاية
كانت بأرضٍ نملةٌ تِنْبالة
لم تسْلُ يومًا لذَّةَ البطالة
واشتهرَت في النمل بالتقشُّفِ
واتصفَت بالزهدِ والتصوُّفِ
لكن يقومُ الليلَ من يَقتاتُ
فالبطنُ لا تَملؤُه الصلاةُ
والنملُ لا يسعى إليه الحَبُّ
ونَملتي شَقَّ عليها الدأبُ
فخرجَت إلى التماسِ القوتِ
وجعلتْ تطوفُ بالبيوتِ
تقولُ هل من نملةٍ نقيَّة
تُنعِمُ بالقوتِ لذي الوليَّة
لقد عيِيتُ بالطَّوى المُبرِّحِ
ومُنذ ليلتَين لم أُسبِّحِ
فصاحَتِ الجاراتُ يا لَلعارِ
لم تتركِ النملةُ للصرصارِ
متى رضِينا مِثلَ هذي الحالِ
متى مدَدْنا الكفَّ للسؤالِ
ونحن في عَينِ الوجودِ أُمَّة
ذاتُ اشتهارٍ بعُلوِّ الهِمَّة
نحمِلُ ما لا يصبِرُ الجِمالُ
عن بعضِه لو أنها نِمالُ
ألمْ يقُل من قولُه الصوابُ
ما عندنا لسائلٍ جَوابُ
فامضي فإنَّا يا عجوزَ الشُّومِ
نرى كمالَ الزُّهدِ أن تصومي
اليمامة والصياد
يمامةٌ كانت بأعلى الشَّجرة
آمِنةً في عُشِّها مُستتِرة
فأقبلَ الصيَّادُ ذاتَ يومِ
وحامَ حوْلَ الرَّوضِ أيَّ حَوْمِ
فلم يجِدْ للطيرِ فيه ظِلَّا
وهمَّ بالرحيلِ حينَ مَلَّا
فبرَزَت من عُشِّها الحمقاءُ
والحُمقُ داءٌ ما له دواءُ
تقول جهلًا بالذي سيَحدثُ
يا أيُّها الإنسانُ عَمَّ تبحثُ
فالتَفتَ الصيَّادُ صوبَ الصوتِ
ونحوَه سدَّدَ سهْمَ الموتِ
فسقطَت من عرشِها المَكينِ
ووقعَت في قبضةِ السِّكينِ
تقول قولَ عارفٍ مُحقِّقِ
«ملكتُ نفسي لو ملكتُ مَنطقي»
الكلب والحمامة
حكايةُ الكلبِ معَ الحمامة
تشهدُ للجنسَين بالكرامة
يُقالُ كان الكلبُ ذاتَ يومِ
بينَ الرِّياضِ غارقًا في النَّومِ
فجاء من ورائه الثعبانُ
مُنتفِخًا كأنه الشيطانُ
وهمَّ أن يَغدِرَ بالأمينِ
فرقَّتِ الوَرقاءُ للمِسكينِ
ونزلتْ توًّا تُغِيثُ الكلبا
ونقَرَته نقرةً فهبَّا
فحمِدَ اللهَ على السلامة
وحفِظَ الجميلَ للحمامة
إذ مرَّ ما مرَّ من الزمانِ
ثم أتى المالكُ للبُستانِ
فسبَقَ الكلبُ لتلك الشجرة
ليُنذِرَ الطيرَ كما قد أنذرَهْ
واتَّخَذ النَّبحَ له علامة
ففهِمَت حديثَه الحمامة
وأقلعتْ في الحالِ للخلاصِ
فسلِمَت من طائرِ الرَّصاصِ
هذا هو المعروفُ يا أهلَ الفِطَنْ
الناسُ بالناسِ ومن يُعِنْ يُعَنْ
الكلب والببَّغاء
كان لبعضِ الناسِ بَبَّغاءُ
ما ملَّ يومًا نُطْقَها الإصغاءُ
رفيعةُ القَدرِ لدى مولاها
وكلُّ من في بيتِه يهواها
وكان في المنزلِ كلبٌ عالي
أرخَصَه وجودُ هذا الغالي
كذا القليلُ بالكثيرِ يَنقصُ
والفضلُ بعضُه لبعضٍ مُرخِصُ
فجاءها يومًا على غِرارِ
وقلبُه من بُغضِها في نارِ
وقال يا مليكةَ الطيورِ
ويا حياةَ الأُنسِ والسرورِ
بحُسنِ نُطقِكِ الذي قد أصبى
إلا أرَيتِني اللسانَ العَذْبا
لأنني قد حِرتُ في التفكُّرِ
لمَّا سمعتُ أنه من سُكَّرِ
فأخرجَت من طيشِها لسانَها
فعضَّه بِنابِه فشانَها
ثم مضى من فَورِه يصيحُ
قطَعتُه لأنه فصيحُ
وما لها عنديَ من ثأرٍ يُعَد
غيرَ الذي سمَّوه قِدْمًا بالحسد
الحمار والجَمل
كان لبعضِهم حِمارٌ وجَمَلْ
نالَهما يومًا من الرِّقِّ مَلَلْ
فانتظَرا بَشائرَ الظَّلماءِ
وانطَلقا معًا إلى البَيداءِ
يَجتلِيانِ طلعةَ الحُرِّيَّة
ويَنشَقانِ ريحَها الزكيَّة
فاتفَقا أن يَقضيا العُمْرَ بها
وارتضَيا بمائِها وعُشبِها
وبعدَ ليلةٍ من المَسيرِ
التفتَ الحِمارُ للبعيرِ
وقال كربٌ يا أخي عظيمُ
فقِفْ فمَشْيي كلُّه عقيمُ
فقال سَلْ فِداكَ أُمِّي وأبي
عسى تنالُ بي جليلَ المَطلبِ
قال: انطلِق معي لإدراكِ المُنى
أو انتظِر صاحبَكَ الحُرَّ هنا
لا بد لي من عَودة للبلدِ
لأنني تركتُ فيه مِقودي
فقال سِرْ والزَمْ أخاكَ الوَتِدا
فإنما خُلِقتَ كي تُقيَّدا!
دودةُ القَزِّ والدُّودةُ الوضَّاءة
لِدُودةِ القَزِّ عندي
ودُودةِ الأضواءِ
حكايةٌ تَشتهِيها
مَسامعُ الأذكياءِ
لمَّا رأتْ تلك هذي
تُنِيرُ في الظَّلماءِ
سعَت إليها وقالت
تعيشُ ذاتُ الضِّياءِ
أنا المؤمَّلُ نفعي
أنا الشهيرُ وفائي
حلا ليَ النفعُ حتى
رضيتُ فيه فنائي
وقد أتَيتُ لِأحْظَى
بوجهِكِ الوضَّاءِ
فهل لنُورِ الثَّرى في
مَودَّتي وإخائي
قالت عرَضتِ علينا
وجهًا بغيرِ حياءِ
من أنتِ حتى تُداني
ذاتَ السَّنا والسَّناءِ
أنا البديعُ جمالي
أنا الرفيعُ عَلائي
أين الكواكبُ منِّي
بل أين بدرُ السماءِ
فامضي فلا ودَّ عندي
إذ لستِ من أَكْفائي
وعند ذلك مرَّت
حسناءُ معْ حسناءِ
تقول للهِ ثوبي
في حُسنِه والبَهاءِ
كم عندنا من أيادٍ
للدودةِ الغرَّاءِ
ثم انثنَت فأتَت ذي
تقول للحمقاءِ
هل عندكِ الآن شكٌّ
في رُتبتي القَعساءِ
وقد رأيتِ صنيعي
وقد سمعتِ ثنائي
إن كان فيك ضياءٌ
إن الثناءَ ضيائي
وإنه لضياءٌ
مؤيَّدٌ بالبقاءِ
الجَمل والثعلب
كان على بعضِ الدُّروبِ جَمَلُ
حمَّله المالكُ ما لا يُحمَلُ
فقال يا لَلنَّحسِ والشقاءِ
إن طال هذا لم يطُل بقائي
لم تحمِلِ الجبالُ مِثلَ حِملي
أظنُّ مولاي يُريد قتلي
فجاءه الثعلبُ من أمامِهْ
وكان نالَ القصدَ من كلامِهْ
فقال مهلًا يا أخا الأحمالِ
ويا طويلَ الباعِ في الجِمالِ
فأنتَ خيرٌ من أخيكَ حالا
لأنني أتعَبُ منك بالا
كأن قُدَّاميَ ألفَ ديكِ
تسألُني عن دمها المسفوكِ
كأن خَلفي ألفَ ألفِ أرنبِ
إذا نهضتُ جاذبَتني ذَنَبي
ورُبَّ أُمٍّ جئتُ في مُناخِها
فجعتُها بالفتكِ في أفراخِها
يبعثُني من مَرقدي بُكاها
وأفتحُ العَينَ على شكواها
وقد عرفتَ خافيَ الأحمالِ
فاصبِرْ وقُل لأُمَّةِ الجِمالِ
ليس بحِملٍ ما يَمَلُّ الظهرُ
ما الحِملُ إلا ما يُعاني الصَّدرُ
الغزالة والأتان
غزالةٌ مرَّت على أتانِ
تُقبِّلُ الفَطيمَ في الأسنانِ
وكان خلفَ الظَّبيةِ ابنُها الرَّشا
بِودِّها لو حمَلتْه في الحَشا
ففعلتْ بسيِّدِ الصِّغارِ
فِعلَ الأتانِ بابنِها الحمارِ
فأسرع الحمارُ نحوَ أُمِّهِ
وجاءها والضِّحكُ مِلءُ فمِهِ
يصيحُ يا أُمَّاه ماذا قد دها
حتى الغزالةُ استخفَّتِ ابنَها
الثعلب الذي انخدع
قد سمِعَ الثعلبُ أهلَ القُرى
يَدْعونَ مُحتالًا بيا ثعلبُ
فقال حقًّا هذه غايةٌ
في الفخرِ لا تُؤتى ولا تُطلَبُ
من في النُّهى مِثلِيَ حتى الورى
أصبحتُ فيهم مَثلًا يُضرَبُ
ما ضَرَّ لو وافيتُهم زائرًا
أُرِيهمُ فوقَ الذي استغرَبوا
لعلَّهم يُحيُون لي زينةً
يَحضرُها الدِّيكَ أو الأرنب
وقصَدَ القومَ وحيَّاهمُ
وقام فيما بينهم يَخطُب
فأُخِذَ الزائرُ من أُذْنِهِ
وأُعطيَ الكلبَ به يَلعب
فلا تَثِق يومًا بِذِي حِيلةٍ
إذ ربما يَنخدعُ الثعلب
ثُعالة والحمار
أتى ثُعالةَ يومًا
من الضواحي حِمارُ
وقال إن كنتَ جاري
حقًّا ونِعْمَ الجارُ
قُل لي فإني كئيبٌ
مُفكِّرٌ مُحتارُ
في مَوكبِ الأمسِ لمَّا
سِرْنا وسارَ الكِبارُ
طرحتُ مولاي أرضًا
فهل بذلك عارُ
وهل أتيتُ عظيمًا
فقال لا يا حِمارُ
البغل والجواد
بَغلٌ أتى الجوادَ ذاتَ مَرَّة
وقلبُه مُمتلئٌ مَسرَّة
فقال فضلي قد بدا يا خِلِّي
وآنَ أن تعرفَ لي مَحلِّي
إذ كنتَ أمسِ ماشيًا بجانبي
تعجَبُ من رقصيَ تحتَ صاحبي
أختالُ حتى قالتِ العِبادُ
لمَن من الملوكِ ذا الجوادُ
فضَحِكَ الحِصانُ من مَقالِهِ
وقال بالمعهودِ من دلالِهِ
لم أرَ رقصَ البغلِ تحتَ الغازي
لكن سمعتُ نقرةَ المِهمازِ
الفأرة والقط
سمِعتُ أن فأرةً أتاها
شقيقُها يَنعى لها فَتاها
يصيحُ يا لي من نُحوسِ بَختي
من سلَّط القِطَّ على ابنِ أختي
فوَلولتْ وعضَّتِ التُّرابا
وجمَعَت للمأتمِ الأترابا
وقالتِ اليومَ انقضَت لذَّاتي
لا خيرَ لي بعدَكَ في الحياةِ
من لي بهِرٍّ مِثلِ ذاك الهِرِّ
يُريحُني من ذا العذابِ المُرِّ
وكان بالقُربِ الذي تريدُ
يَسمعُ ما تُبدِي وما تُعِيدُ
فجاءها يقول يا بُشْراكِ
إن الذي دعَوتِ قد لبَّاك
ففزِعَت لمَّا رأتْه الفارة
واعتصمَت منه ببَيتِ الجارة
وأشرفتْ تقول للسَّفيهِ
إن مِتُّ بعدَ ابني فمَن يَبكيهِ
الغزال والخروف والتَّيس والذئب
تَنازَعَ الغزالُ والخروفُ
وقال كلٌّ إنه الظَّريفُ
فرأيا التَّيسَ فظنَّا أنَّهُ
أعطاه عقلًا من أطالَ ذقنَهُ
فكلَّفاه أن يُفتِّشَ الفَلا
عن حَكَمٍ له اعتبارٌ في المَلا
ينظرُ في دَعواهُما بالدِّقَّة
عساهُ يُعطِي الحقِّ مُستحقَّهْ
فسارَ للبحثِ بلا تَواني
مُفتخِرًا بثِقةِ الإخوانِ
يقول عندي نظرةٌ كبيرة
ترفعُ شأنَ التَّيسِ في العشيرة
وذاكَ أن أجدَرَ الثَّناءِ
بالصِّدقِ ما جاءَ من الأعداءِ
وإنني إذا دعوتُ الذِّيبا
لا يستطيعانِ له تكذيبا
لكونِه لا يَعرفُ الغزالا
وليس يُلقِي للخروفِ بالا
ثم أتى الذِّيبَ فقال طِلبَتي
أنتَ فسِرْ معي وخُذ بلحيتي
وقادَه للموضع المعروفِ
فقامَ بين الظَّبيِ والخروفِ
وقال لا أحكمُ حسْبَ الظاهرِ
فمزَّقَ الظَّبيَينِ بالأظافرِ
وقال للتَّيسِ انطلقْ لِشأنِكا
ما قتَلَ الخَصمَين غيرُ ذقنكا
الثعلب والأرنب والديك
من أعجَبِ الأخبارِ أن الأرنبا
لمَّا رأى الدِّيكَ يَسُبُّ الثعلبا
وهْو على الجِدارِ في أمانِ
يغلبُ بالمكانِ لا الإمكانِ
داخَلهُ الظنُّ بأن الماكرا
أمسى من الضَّعفِ يُطيقُ الساخرا
فجاءه يَلعنُ مِثلَ الأوَّلِ
عِدادَ ما في الأرضِ من مُغفَّلِ
فعصَفَ الثعلبُ بالضعيفِ
عصْفَ أخيه الذِّيبِ بالخروفِ
وقال لي في دَمِكَ المسفوكِ
تسليةٌ عن خَيبتي في الديكِ
فالتفتَ الديكُ إلى الذبيحِ
وقال قولَ عارفٍ فصيحِ
ما كلُّنا ينفعُه لسانُهْ
في الناسِ من يُنطِقُه مكانُهْ
الثعلب وأم الذئب
كان ذئبٌ يَتغدَّى
فجرَتْ في الزَّورِ عَظْمة
ألزمَته الصَّومَ حتى
فجعَتْ في الروح جسمَهْ
فأتى الثعلبُ يبكي
ويُعزِّي فيه أُمَّهْ
قال يا أُمَّ صديقي
بيَ ممَّا بِكِ غُمَّة
فاصبِري صبرًا جميلًا
إن صبرَ الأُمِّ رحمة
فأجابت يا ابنَ أُختي
كلُّ ما قد قلتَ حِكمة
ما بيَ الغالي ولكن
قولُهم ماتَ بعَظْمة
ليتَه مِثلَ أخيهِ
ماتَ محسودًا بتُخْمة
١
الرئيس: ابن سينا.
٢
نُشرَت في سنة ١٩٢٩م.
٣
زِيدَت في الطبعة الثانية.
٤
البصير: الأعمى.
٥
تعني الليل، والخفاش لا يأنس إلا بالظلام.
٦
أبو المسك الخصي: كافور الإخشيد، وكان عبدًا أَسود.
٧
تعني الضوء.
٨
رامة وتهامة واليمامة: أمكنة.
٩
رامة وتهامة واليمامة: أمكنة.
١٠
رامة وتهامة واليمامة: أمكنة.