خلافة الإسلام١
عادت أغاني العُرسِ رَجْعَ نُواحِ
ونُعيتِ بين مَعالمِ الأفراحِ٢
كُفِّنتِ في ليلِ الزفافِ بثوبِهِ
ودُفنتِ عندَ تبلُّجِ الإصباحِ٣
شُيِّعتِ من هَلَعٍ بعَبرةِ ضاحكٍ
في كلِّ ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ٤
ضجَّت عليكِ مآذنٌ ومَنابرٌ
وبكَت عليكِ مَمالكٌ ونواحِ
الهندُ والهةٌ ومصرُ حزينةٌ
تبكي عليكِ بمدمعٍ سحَّاحِ٥
والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسٌ
أمَحَا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ
وأتَت لكِ الجُمَعُ الجلائلُ مأتمًا
فقعَدنَ فيه مَقاعدَ الأنواحِ٦
يا لَلرجالِ لحُرَّةٍ مَوءُودةٍ
قُتِلَت بغيرِ جريرةٍ وجُناحِ٧
إنَّ الذين أسَت جِراحَكِ حربُهم
قتلَتكِ سِلمُهمُ بغيرِ جِراحِ٨
هتكوا بأيدِيهم مُلاءةَ فخرِهم
مَوشيَّةً بمَواهبِ الفتَّاحِ٩
نزَعوا عن الأعناقِ خيرَ قِلادةٍ
ونضَوا عن الأعطافِ خيرَ وِشاحِ١٠
حَسَبٌ أتى طُولُ الليالي دونَهُ
قد طاح بينَ عشيةٍ وصباحِ١١
وعَلاقةٌ فُصِمَت عُرَى أسبابِها
كانت أبرَّ علائقِ الأرواحِ
جمَعَت على البِرِّ الحُضورَ وربَّما
جمَعَت عليه سرائرَ النُّزَّاحِ١٢
نظمت صفوفَ المسلمين وخَطوَهم
في كلِّ غُدوةِ جُمعةٍ ورَواحِ
بكَت الصلاةُ وتلك فتنةُ عابثٍ
بالشرع عِربيدِ القضاءِ وَقاحِ١٣
أفْتى خُزَعبلةً وقال ضلالةً
وأتى بكفر في البلادِ بَرَاحِ١٤
إنَّ الذين جرى عليهم فِقهُهُ
خُلِقوا لفِقهِ كتيبةٍ وسلاحِ
إن حدَّثوا نطقوا بخُرسِ كتائبٍ
أو خُوطِبوا سَمِعوا بصُمِّ رِماحِ
أستغفرُ الأخلاقَ لستُ بجاحدٍ
مَن كنتُ أدفعُ دونَه وأُلاحي١٥
ما لي أُطوِّقُه المَلامَ وطالما
قلَّدتُه المأثورَ من أمداحي
هو ركنُ مملكةٍ وحائطُ دُولةٍ
وقَريعُ شهباءٍ وكبشُ نِطاحِ١٦
أأقولُ مَن أحيا الجماعةَ مُلحِدٌ
وأقولُ مَن ردَّ الحقوقَ إباحي
الحقُّ أَولى من وليِّك حُرمةً
وأحقُّ منكَ بنصرةٍ وكِفاحِ
فامدح على الحقِّ الرجالَ ولُمهُمُ
أو خَلِّ عنكَ مَواقفَ النُّصَّاحِ
ومِن الرجالِ إذا انبرَيتَ لهدمهم
هرمٌ غليظُ مَناكبِ الصُّفَّاحِ١٧
فإذا قذَفتَ الحقَّ في أجلادِهِ
ترَكَ الصِّراعَ مُضعضَعَ الألواحِ١٨
أدُّوا إلى الغازي النصحيةَ يَنتصحْ
إن الجوادَ يثوبُ بعدَ جِماحِ١٩
إن الغرورَ سقى الرئيسَ بِراحِهِ
كيف احتيالُك في صريعِ الراحِ
نقَلَ الشرائعَ والعقائدَ والقُرى
والناسَ نقْلَ كتائبٍ في الساحِ٢٠
ترَكَته كالشبحِ المُؤلَّهِ أُمةٌ
لم تَسلُ بعدُ عِبادةَ الأشباحِ
هم أطلقوا يده كقيصرَ فيهمُ
حتى تناوَل كلَّ غيرِ مُباحِ
غرَّته طاعاتُ الجُموعِ ودولةٌ
وجَدَ السوادُ لها هَوى المُرتاحِ
وإذا أخذتَ المَجدَ من أُمِّيَّةٍ
لم تُعطَ غيرَ سَرابِه اللَّمَّاحِ٢١
مَن قائلٌ للمسلمين مَقالةً
لم يُوحِها غيرَ النصيحةِ واحِ
عهدُ الخلافة فيَّ أولُ ذائدٍ
عن حوضِها ببراعةٍ نضَّاحِ٢٢
حُبٌّ لِذاتِ الله كان ولم يزَل
وهوًى لِذاتِ الحقِّ والإصلاحِ
إني أنا المصباحُ لستُ بضائعٍ
حتى أكونَ فراشةَ المِصباحِ٢٣
غزواتُ «أدهم» كُلِّلَت بذوابلٍ
وفتوحُ أنوَرَ فُصِّلَت بِصِفاحِ٢٤
ولَّت سيوفُهما وبان قناهما
وشَبَا يَراعِي غيرُ ذاتِ بَراحِ٢٥
لا تَبذلوا بُردَ النبي لِعاجزٍ
عُزُلٍ يُدافَعُ دونَه بالرَّاحِ٢٦
بالأمس أوْهَى المسلمين جِراحةً
واليوم مدَّ لهم يدَ الجَرَّاحِ٢٧
فلتَسمعُنَّ بكلِّ أرضٍ داعيًا
يدعو إلى «الكذَّابِ» أو لِسَجَاحِ٢٨
ولَتَشهدُنَّ بكلِّ أرضٍ فِتنةً
فيها يُباعُ الدِّين بيعَ سَمَاحِ
يُفتَى على ذهبِ المُعِزِّ وسيفِهِ
وهوى النفوس وحِقدِها المِلحاحِ٢٩
١
ما كاد العالم الإسلامي يفرح بانتصار الأتراك على أعدائهم في ميدان الحرب
والسياسة؛ ذلك النصر الحاسم الذي كان حديث الدنيا، والذي تمَّ على يد مصطفى
باشا كمال في سنة ١٩٢٣م، حتى أعلن هذا إلغاء الخلافة، ونفى الخليفة من بلاد
الأتراك؛ فنظَم الشاعر هذه القصيدة يرثي فيها الخلافة، ويُنبِّه مَمالك الإسلام
إلى إسداء النصح للغازي؛ لعله يبني ما هُدِم ويُنصِف مَن ظُلِم.
٢
الأغاني: جمع أغنية، وهي ما يُترنم به ويُتغنى فيه من شعر ونحوه.
والرجع: ما يُردُّ في المكان الخالي على الإنسان إذا رفع صوته.
والمعالم: جمع مَعلَم، وهو مَوضع الشيء الذي يُظَن فيه
وجوده.
٣
تبلُّج الإصباح: إشراقه وإنارته.
٤
الهلع: الجزع الشديد. والعَبرة: الدمعة قبل أن تفيض، وقيل هي
تحلُّب الدمع.
٥
الوالهة: الحزينة، أو التي ذهب عقلها حزنًا. وسحاح: كثير السحِّ،
وهو أن يسيل الماء من أعلى إلى أسفل.
٦
الجُمَع: واحدتها جمعة، وهي الصلاة المفروضة بهذا الاسم.
والأنواح: النائحات.
٧
الموءودة: التي تُدفَن حيَّةً في التراب. والجُناح: الإثم.
٨
أسَت جراحك: داوتها. السلم: الصلح، والسلام أيضًا.
٩
يقال: هتك الستر ونحوه خرقه، أو جذبه فقطعه من موضعه، أو شق منه
جزءًا فبدا ما وراءه. وموشية: منقوشة منمنَمة. والفتَّاح: من أسماء
الله تعالى.
١٠
نضَوا: خلعوا. والأعطاف: جمع عِطف، وهو الجانب من كل شيء.
والوشاح: شِبه قلادة يُنسَج من جلد عريض ويرصَّع بالجوهر، فتشدُّه
المرأة بين عاتقها وكشحَيها.
١١
طاح: ذهب.
١٢
البرُّ: الصلة والرفق. والنُّزَّاح: البعيدون، جمع نازح.
١٣
العربيد: الشرير، والكثير العربدة، وهي سوء الخُلق من السُّكْر.
والوقاح: ذو الوقاحة، وهي قلة الحياء.
١٤
الخزعبلة: الفكاهة والمزاح، أما الباطل فهو الخزعبيل والخزعبل.
ويقال: جاء بالكفر بواحًا؛ أي بيِّنًا، وقيل جهارًا.
١٥
أدفع دونه: أردُّ عنه بالحُجَّة. أُلاحي: من الملاحاة، وهي
الملاعنة.
١٦
القريع: الغالب في المقارعة، وهي أن يضرب الأبطال بعضهم بعضًا.
والشهباء: الكتيبة العظيمة الكثيرة السلاح.
١٧
المناكب هنا: الجوانب والنواحي، والصُّفَّاح: حجارةٌ عريضةٌ
رقيقة.
١٨
الأجلاد والتجاليد: جسم الإنسان وبدنه.
١٩
الغازي: مصطفى كمال، وهو أيضًا المراد بالرئيس في البيت
الثاني.
٢٠
الساح: جمع ساحة، والمراد ساحة الحرب.
٢١
اللمَّاح: اللمَّاع.
٢٢
الذائد: الحامي الدافع. والنضَّاح: الدافع أيضًا.
٢٣
الفراشة: حيوان ذو جناحَين، يطير ويتهافت على السِّراج حتى
يحترق.
٢٤
الذوابل: صفة للرماح. والصفاح: جمع صفح، وهو عرض السيف. وأدهم
وأنور: هما القائدان التركيان الكبيران. والمراد بالرماح والسيوف
هنا: الأقلام.
٢٥
القنا: جمع قناة. والشَّبَا: جمع شَبَاة، وهي حدُّ كل شيء.
البراح: الزوال.
٢٦
العاجز العزل: حسين بن علي شريف الحجاز؛ يريد أنه طامع في
الخلافة، فالأتراك إذا أصرُّوا على خروجها منهم، كانوا بذلك قد
بذلوها لهذا العاجز الذي لا يملك لحمايتها إلا يدًا خالية. والراح:
جمع راحة، وهي بطن الكف.
٢٧
بالأمس أوهى … إلخ: الموصوف بهذا العمل هو حسين بن علي أيضًا،
وهو إشارة إلى خروجه على المسلمين، وموالاته أعداءهم في الحرب
الكبرى.
٢٨
يريد أنَّ تنحِّي الأتراك عن الخلافة أطمع فيها مَن لا يصلح لها،
وجعل الدعاة لهؤلاء الطامعين يظهرون بكل مكان. والمراد بالكذَّاب:
مسيلمة الكذَّاب. وسجاح: امرأة كانت تدَّعي النبوَّة.
٢٩
المراد بذهبه وسيفه: المال الذي كان يبذل لمَن أطاعوه، والعقاب
الذي كان يصيب مَن خالفوه.