على سفح الأهرام١
قِف ناجِ أهرامَ الجلالِ ونادِ
هل من بُناتِكَ مجلسٌ أو نادِ٢
نشكو ونفزعُ فيه بين عيونهم
إن الأُبوَّةَ مَفزعُ الأولادِ٣
ونبثُّهم عبثَ الهوى بتُراثِهم
من كلِّ مُلقٍ للهوى بقِيادِ٤
ونُبِينُ كيف تفرَّقَ الإخوانُ في
وقتِ البلاءِ تفرُّقَ الأضدادِ٥
إن المُغالِطَ في الحقيقةِ نفسَهُ
باغٍ على النفسِ الضعيفةِ عادِ٦
•••
قُل للأعاجيبِ الثلاثِ مقالةً
من هاتفٍ بمكانِهنَّ وشادِ٧
للهِ أنتِ فما رأيتُ على الصفا
هذا الجلالَ ولا على الأوتادِ٨
لكِ كالمعابدِ روعةٌ قدسيَّةٌ
وعليك روحانيَّةُ العُبَّادِ٩
أُسِّستِ من أحلامِهم بقواعدٍ
ورُفعتِ من أخلاقهم بِعِمادِ١٠
تلك الرمالُ بجانبَيكِ بقيةٌ
من نعمةٍ وسماحةٍ ورمادِ١١
إنْ نحن أكرَمْنا النزيلَ حِيالَها
فالضيفُ عندك مَوضعُ الإرفادِ١٢
هذا «الأمين» بحائطَيكِ مُطوِّفًا
مُتقدِّمَ الحُجَّاجِ والوُفَّادِ؟١٣
إن يَعْدُه منكِ الخلودُ فشِعرُهُ
باقٍ وليس بَيانُه لنفادِ١٤
•••
إيهٍ «أمينُ» لمستَ كلَّ مُحجَّبٍ
في الحُسن من أثرِ العقول وبادِ١٥
قم قبِّل الأحجارَ والأيدي التي
أخذَت لها عهدًا من الآبادِ١٦
وخُذ النبوغَ عن الكنانة إنها
مَهدُ الشموسِ ومَسقطُ الأرآدِ١٧
أُمُّ القِرى إن لم تكن أُمَّ القُرى
ومثابةُ الأعيانِ والأفرادِ١٨
ما زال يَغشى الشرقَ من لمحاتِها
في كلِّ مُظلِمةٍ شُعاعٌ هادِ١٩
رفعوا لكَ الريحان كاسمِك طيِّبًا
إن العَمارَ تحيَّةُ الأمجادِ٢٠
وتخيَّروا للمِهرجانِ مكانَهُ
وجعلتُ مَوضعَ الاحتفاءِ فؤادي٢١
سلفَ الزمان على المودَّة بيننا
سنواتُ صحوٍ بل سناتُ رقادِ٢٢
وإذا جمعتَ الطيِّباتِ ردَدتَها
لعتيقِ خمرٍ أو قديمِ ودادِ٢٣
يا نجمَ سوريَّا ولستَ بأولٍ
ماذا نمَت من نيِّرٍ وقَّادِ٢٤
اطلُعْ على يمَنٍ بيُمنِك في غدٍ
وتجلَّ بعد غدٍ على بغدادِ
وأجِلْ خيالَك في طُلولِ ممالكٍ
ممَّا تجوبُ وفي رُسُومِ بلادِ٢٥
وسَلِ القبورَ ولا أقول سَلِ القُرى
هل من ربيعة حاضرٌ أو بادِ٢٦
سترى الديار من اختلافِ أمورِها
نطَقَ البعيرُ بها وعيَّ الحادي٢٧
•••
قضَّيتَ أيامَ الشباب بعالَمٍ
لبِسَ السنين قشيبةَ الأبرادِ٢٨
ولدَ البدائعَ والروائعَ كلها
وعَدَتهُ أن يَلدَ البيانَ عوادِ
لم يخترع شيطانَ حسَّانٍ ولم
تُخرِج مَصانعُه لسانَ زيادِ٢٩
الله كرَّم بالبيان عصابةً
في العالمينَ عزيزةَ الميلادِ
«هوميرُ» أحدَثُ من قرونٍ بعدَهُ
شعرًا وإن لم تخلُ من آحادِ٣٠
والشِّعرُ في حيث النفوسُ تلَذُّهُ
لا في الجديد ولا القديم العادي
حقُّ العشيرة في نبوغِك أوَّلًا
فانظُرْ لعلك بالعشيرةِ بادِ٣١
لم يكفِهم شطرُ النبوغِ فزِدهمُ
إن كنت بالشطرَين غيرَ جوادِ
أو دَعْ لسانَك واللغاتِ فربَّما
غنَّى الأصيلُ بمَنطقِ الأجدادِ
إن الذي ملأ اللغاتِ مَحاسنًا
جعلَ الجمالَ وسِرَّه في الضادِ٣٢
١
أمين أفندي الريحاني أديب من أدباء سوريا، وفد على مصر فأقام له بعض الأدباء
حفلًا على سفح الأهرام، شاطَرهم إيَّاه صاحب الديوان.
٢
ناجِ: من المناجاة، وهي المُسارَّة. والجلال: التناهي في عِظم
القدر. والبناة: جمع بانٍ. المجلس: مكان الجلوس. والنادي: اسم
للمجلس حين يجتمع فيه القوم ليتحدثوا، فإذا تفرَّقوا فليس
ناديًا.
٣
نشكو: نُعلِن الشكوى. ونفزع: نستغيث. وضمير «فيه» للمجلس أو
النادي. بين عيونهم: أي أمامهم. والأبوَّة: كون الرجل أبًا.
٤
نبثُّهم: نُكاشِفهم. والعبث: اللعب. والهوى: إرادة النفس، وهو
غالب في الشر. القياد: في الأصل حبلٌ يُقاد به.
٥
نُبِين: مضارع أبان الشيء أوضحه. والبلاء: الغمُّ يُبلي
الجسم.
٦
المغالط نفسه: مُوقعها في الغلط. باغٍ: ظالم. عادٍ: ظالم
أيضًا.
٧
الأعاجيب الثلاث: يريد بها الأهرام الثلاثة، وإنما كانت أعاجيب؛
لأن الإنسان يستعظمها، فتعتريه روعة عند ذلك، وهذا هو العَجب،
والمفرد أعجوبة، وهي اسم لما يكون العجب منه. هاتف: مادح، من هتف
به مدحه. شادِ: من شدا الشعر؛ أي غنَّى به وترنَّم.
٨
الصفا: جمع صفاة، وهي الحجر الصلد الضخم الذي لا يُنبت. الأوتاد:
الجبال.
٩
الروعة: الفزعة، والمسحة من الجمال. والعبَّاد: جمع عابد.
١٠
الأحلام: العقول، جمع حِلم. وعماد الشيء: ما يُسند به. والخطاب
في هذا البيت والبيتَين قبله للأعاجيب الثلاث.
١١
السماحة: موافقة الرجل على ما يُراد منه، وهي الجود والعطاء
أيضًا. والرماد: ما يبقى من المواد المحترقة بعد احتراقها، وقد
كنَّى به عن الكرم، كما يقولون: فلان كثير الرماد؛ أي كريم؛ لأنه
يُكثِر من إيقاد النار لكثرة صنع الطعام للآكلين من
الأضياف.
١٢
النزيل: الضيف. وحيالها: قبالتها. الإرفاد: الإعطاء.
١٣
مُطوِّفًا: دائرًا حولهما. والحجَّاج: القُصَّاد. والوفَّاد: جمع
وافد، من وفد إذا قدِم.
١٤
إن يَعْدُه: أي إن يُجاوِزه ويفُتْه. والخلود: الدوام والبقاء،
والمراد خلود الذِّكر لا خلود الشخص. والنفاد: الذهاب
والانقطاع.
١٥
إيه: اسم فعل، معناه زِدني من حديثك. المحجَّب: المستور. البادي:
الظاهر.
١٦
الآباد: جمع أبد، وهو الدَّهر.
١٧
النبوغ: الإجادة. والكنانة: مصر. والأرآد: جمع رأد، والمراد
الضحى، وهو وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء في الخُمس الأول من
النهار.
١٨
القِرى: الضيافة، أو ما قُرِي به الضيف. والقُرى: جمع قرية.
والمثابة: مجتمع القوم بعد تفرُّقهم. والأعيان: جمع عين، وهو كبير
القوم وشريفهم. أفراد الناس: كبارهم، ولا يقال للإنسان الواحد فرد،
بل يقال له فريد.
١٩
يغشى الشرق: يغطِّيه. واللمحات: جمع لمحة، وهي النظرة الخفيفة
بالعجلة. والشعاع: ما ينتشر من ضوء الشمس.
٢٠
الريحان: نباتٌ طيِّب الرائحة. والأمجاد: جمع مجيد، وهو الكريم
الشريف.
٢١
المهرجان: هو عيد الفُرس، وكان يوافق أول الشتاء، ثم صار في
الخريف، والمراد به هنا الاحتفال. والاحتفاء: المبالغة في الإكرام
وإظهار السرور والفرح.
٢٢
سلف: مضى. والسنوات: جمع سَنَة. والسنات: جمع سِنَة، وهي النعاس.
والرقاد: النوم.
٢٣
رددتها: أي أرجعت نِسبتها. والعتيق: القديم.
٢٤
ولست بأولٍ: احتراس من الإطلاق؛ أي وإن كنت نجم سوريا فلست الأول
من نجومها، الأول سواك، أو لست أول نجم لها، فقد سبقك أوائل آخرون.
وماذا نمت: أي كم ذا رفعت بالانتساب إليها.
٢٥
الطلول: جمع طلل، وهو ما شخص من آثار الدار. والرسوم: جمع رسم،
وهو الأثر.
٢٦
ربيعة: قبيلة من العرب. والحاضر: مَن ينزل الحضر. والبادي: مَن
يذهب إلى البادية.
٢٧
عيَّ الحادي: لم يستطع البيان والإفصاح.
٢٨
قضيت: خطاب للريحاني. والعالم الذي قضى به أيام شبابه هو أمريكا
التي قام بها. قشيبة الأبراد: جديدتها. والأبراد: جمع بُرد.
٢٩
لم يخترع … إلخ: يريد أنه عالم لم يرتقِ في اختراعه إلى حيث
يبتدع البلاغة اللسانية التي كرَّم الله بها العرب. وحسَّان:
الشاعر الصحابي المعروف. وزياد: هو زياد بن أبي سفيان، كان من أخطب
العرب.
٣٠
هومير: شاعرٌ يونانيٌّ قديم، كان شعره قصصًا يُضمِّنه وصف
الأبطال والإشادة بذِكرهم، وهو صاحب الإلياذة. يريد أن شعره — على
أنه قديم — أجود من شعر الذين جاءوا بعده، وإن كانت أيامهم لم تخلُ
من شعراء مُجيدين هم آحاد في عددهم.
٣١
حق العشيرة … إلخ: في هذا البيت والأبيات بعده أمورٌ أخذ بها
الريحاني في رفق ولين، فهو يقول له إن كانت معانيك في كتابتك جيدة،
فألفاظك فيها رديئة؛ لأنك أهملت جانب اللغة العربية، وهي الشطر
الثاني من شطرَي النبوغ، وأيضًا يقتضي الوفاء لعشيرتك وقومك أن
تُحسِن لغتهم حتى تغني بها.
٣٢
الضاد: اللغة العربية، وإنما سُمِّيت كذلك؛ لأن الضاد لا توجد في
لغة سواها، ولا يقوى أهل اللغات الأخرى على النطق بها.