أبو الهول١
أبا الهَوْلِ طالَ عليكَ العُصُرْ
وبُلِّغتَ في الأرضِ أقصى العُمُرْ٢
فيا لِدةَ الدَّهر لا الدَّهرُ شَبَّ
ولا أنت جاوزتَ حدَّ الصِّغَرْ٣
إلامَ رُكوبُكَ متنَ الرمالِ
لِطيِّ الأصيلِ وجَوبِ السَّحَرْ٤
تُسافر مُنتقلًا في القرونِ
فأيان تُلقِي غُبارَ السَّفَرْ
أبينكَ عَهدٌ وبينَ الجبالِ
تزولان في المَوعد المُنتظَرْ٥
أبا الهول ماذا وراءَ البقاءِ
إذا ما تطاول غيرُ الضجَرْ٦
عجِبتُ لِلُقمانَ في حِرصهِ
على لُبَدٍ والنُّسورِ الأُخَرْ٧
وشكوى لبيدٍ لطُولِ الحياةِ
ولو لم تَطُلْ لتَشكَّى القِصَرْ٨
ولو وُجِدَت فيك يا ابنَ الصَّفاةِ
لحقتَ بِصانعِكَ المُقتدِرْ٩
فإن الحياةَ تفُلُّ الحديدَ
إذا لبسَتهُ وتُبلِي الحَجَرْ١٠
•••
أبا الهول ما أنتَ في المُعضِلاتِ
لقد ضلَّت السُّبْلَ فيكَ الفِكَرْ١١
تحيَّرَت البدو ماذا تكونُ
وضلَّت بِوادي الظنونِ الحَضَرْ١٢
فكنتَ لهم صورةَ العُنفُوانِ
وكنت مِثالَ الحِجَا والبَصَرْ١٣
وسِرُّكَ في حُجْبِه كلما
أطلَّت عليه الظنونُ استتَرْ١٤
وما راعَهم غيرُ رأسِ الرِّجالِ
على هيكلٍ من ذواتِ الظُّفُرْ
ولو صُوِّروا من نواحي الطِّباعِ
تَوالَوا عليك سِباعَ الصُّوَرْ١٥
فيا رُبَّ وجهٍ كصافي النميرِ
تشابَه حامِلُه والنَّمِرْ١٦
أبا الهول ويْحَك لا يُستقلُّ
مع الدَّهر شيءٌ ولا يُحتقَرْ١٧
تهزَّأتَ دهرًا بدِيكِ الصباحِ
فنقَّرَ عينَيك فيما نقَرْ١٨
أسال البياضَ وسَلَّ السَّوادَ
وأوْغَل مِنقارُه في الحُفَرْ
فعُدْتَ كأنك ذو المَحبِسَينِ
قطيعَ القيام سَليبَ البصرْ١٩
كأن الرِّمالَ على جانِبَيكَ
وبين يدَيك ذنوبُ البَشَرْ
كأنك فيها لواءُ القضاءِ
على الأرضِ أو ديدبانُ القَدَرْ٢٠
كأنك صاحِبُ رملٍ يَرى
خَبايا الغيوبِ خِلالَ السَّطَرْ٢١
•••
أبا الهول أنت نديمُ الزمانِ
نَجِيُّ الأوانِ سميرُ العُصُرْ٢٢
بسطتَ ذراعَيك من آدمٍ
وولَّيتَ وجهَكَ شطْرَ الزُّمَرْ٢٣
تُطِلُّ على عالَمٍ يستهِلُّ
وتُوفِي على عالَمٍ يُحتضَرْ٢٤
فعينٌ إلى مَن بدا للوجودِ
وأخرى مُشيِّعةٌ مَن غَبَرْ٢٥
فحدِّثْ فقد يُهتدى بالحديثِ
وخبِّرْ فقد يُؤتسَى بالخَبَرْ٢٦
ألم تبلُ فرعونَ في عزِّهِ
إلى الشمس مُعتزِيًا والقمرْ٢٧
ظليلَ الحضارةِ في الأوَّلينَ
رفيعَ البناءِ جليلَ الأثَرْ٢٨
يؤسِّسُ في الأرض للغابرينَ
ويغرسُ للآخرين الثَّمَرْ٢٩
وراعَك ما راعَ من خيْلِ قَمْبيـ
ـزَ ترمي سَنابكُها بالشرَرْ٣٠
جوارفُ بالنارِ تغزو البلادَ
وآونةً بالقنا المُشتجِرْ
وأبصرْتَ إسكندرًا في المَلا
قَشيبَ العُلا في الشباب النَّضِرْ٣١
تبلَّجَ في مِصرَ إكليلُهُ
فلم يَعْدُ في المُلك عُمْرَ الزَّهَرْ٣٢
وشاهدتَ قيصرَ كيف استبدَّ
وكيف أذلَّ بمصرَ القَصَرْ٣٣
وكيف تجبَّرَ أعوانُهُ
وساقوا الخلائقَ سوْقَ الحُمُرْ
وكيف ابتُلوا بقليلِ العديدِ
من الفاتحين كريمِ النفَرْ
رمَى تاجَ قيصرَ رمْيَ الزُّجاجِ
وفَلَّ الجموعَ وثلَّ السُّرُرْ٣٤
فدَعْ كلَّ طاغيةٍ للزمانِ
فإن الزمانَ يُقِيم الصَّعَرْ٣٥
رأيتَ الدِّياناتِ في نظْمِها
وحينَ وَهَى سِلكُها وانتثرْ٣٦
تُشادُ البيوتُ لها كالبروجِ
إذا أخَذَ الطرْفُ فيها انحسرْ٣٧
تَلاقى أساسًا وشُمَّ الجبالِ
كما تتلاقى أصولُ الشجرْ٣٨
وإيزيسُ خلْفَ مَقاصيرِها
تخطَّى الملوكُ إليها السُّتُرْ٣٩
تُضيء على صفحاتِ السماءِ
وتُشرِقُ في الأرض منها الحُجَرْ٤٠
وآبيسُ في نِيرِه العالَمونَ
وبعضُ العقائدِ نيرٌ عَسِرْ٤١
تُساسُ به مُعضِلاتُ الأمورِ
ويُرجى النعيمُ وتُخشى سقَرْ
ولا يشعُرُ القومُ إلا به
ولو أخذَتْه المُدى ما شعرْ
يَقِلُّ أبو المِسكِ عَبدًا له
وإن صاغَ أحمدُ فيه الدُّرَرْ٤٢
وآنَستَ موسى وتابوتَهُ
ونورَ العصا والوصايا الغُرَرْ٤٣
وعيسى يَلُمُّ رداءَ الحياءِ
ومريمُ تجمع ذيلَ الخَفَرْ٤٤
وعمرٌو يسوقُ بمصر الصِّحابَ
ويُزجِي الكتابَ ويحدو السُّوَرْ٤٥
فكيف رأيتَ الهُدى والضَّلالَ
ودنيا الملوكِ وأخرى عُمَرْ٤٦
ونبْذَ المُقوقسِ عهدَ الفُجورِ
وأخْذَ المقوقسِ عهدَ الفَجَرْ٤٧
وتبديلَه ظلماتِ الضلالِ
بصبح الهداية لمَّا سَفَرْ٤٨
وتأليفَه القِبطَ والمسلمينَ
كما أُلِّفَت بالولاءِ الأُسَرْ٤٩
أبا الهول لو لم تكن آيةً
لكان وفاؤك إحدى العِبَرْ٥٠
أطَلتَ على الهرمَين الوقوفَ
كثاكلةٍ لا تَريم الحُفَرْ٥١
تُرجِّي لِبانِيهما عودةً
وكيف يعودُ الرميمُ النَّخِرْ٥٢
تجوس بعَينٍ خِلالَ الديارِ
وترمي بأخرى فضاءَ النَّهَرْ٥٣
ترومُ بمنفيسَ بِيضَ الظُّبا
وسُمْرَ القنا والخميسَ الدثرْ٥٤
ومَهْدَ العلومِ الخطيرَ الجلالِ
وعهدَ الفنونِ الجليلَ الخَطَرْ
فلا تستبينُ سوى قريةٍ
أجَدُّ مَحاسنها ما اندثرْ٥٥
تكادُ لإغراقِها في الجمودِ
إذا الأرضُ دارت بها لم تَدُرْ
فهل مَن يُبلِّغ عنَّا الأصولَ
بأن الفروع اقتدَت بالسِّيَرْ٥٦
وأنَّا خطَبْنا حِسانَ العُلا
وسُقنا لها الغاليَ المدَّخَرْ
وأنَّا ركِبْنا غِمارَ الأمورِ
وأنَّا نزلْنا إلى المؤتمرْ٥٧
بكلِّ مُبِينٍ شديدِ اللدادِ
وكلِّ أريبٍ بعيدِ النظَرْ٥٨
تُطالِب بالحقِّ في أُمَّةٍ
جرى دَمُها دونه وانتشرْ٥٩
ولم تفتخر بأساطيلها
ولكن بدستورها تفتخرْ٦٠
فلم يبقَ غيرُك من لم يَحِفْ
ولم يبقَ غيرُك مَن لم يَطِرْ
تحرَّكْ أبا الهول هذا الزمانُ
تحرَّك ما فيه حتى الحَجَرْ
فلمَّا أتمَّها أجابه آخَر كان يختفي وراء التمثال وينطق بلسانه:
نَجِيَّ أبي الهول آنَ الآوانُ
ودانَ الزمانُ ولان القَدَرْ
خبَأتُ لقومِك ما يستقُونَ
ولا يَخبأُ العَذْبَ مِثلُ الحَجَرْ
فعِندي الملوكُ بأعيانها
وعندَ التوابيتِ منها الأثَرْ
محا ظلمةَ اليأسِ صُبحُ الرجاءِ
وهذا هو الفَلَقُ المُنتظَرْ
ثم انشقَّ صدرُ أبي الهول عن فتًى وفتاة، مَثُلا أمامَه، وأنشَدا هذا النشيد:
اليوم نَسود بوادينا
ونُعِيد مَحاسنَ ماضينا
ويشيدُ العزُّ بأيدينا
وطنٌ نَفديه ويَفدينا
وطنٌ بالحقِّ نُؤيِّدُهُ
وبعَينِ الله نُشيِّدُهُ
ونُحسِّنُه ونُزيِّنُهُ
بمآثرِنا ومَساعينا
سِرُّ التاريخ وعُنصرُهُ
وسريرُ الدهرِ ومِنبرُهُ
وجِنانُ الخُلد وكوثُرهُ
وكفى الآباءُ رياحينا
نتَّخذُ الشمسَ له تاجَا
وضُحاها عرشًا وهَّاجَا
وسماءَ السُّؤدَدِ أبراجَا
وكذلك كان أوالينا
العصرُ يَراكُم والأُممُ
والكرنك يلحظُ والهرمُ
أَبَنِي الأوطانِ ألا هِمَمٌ
كبِناءِ الأوَّلِ يَبنينا
سعيًا أبدًا سعيًا سعيَا
لأثيلِ المَجدِ وللعَلْيَا
ولنجعلْ مِصرَ هي الدنيَا
ولنجعلْ مصرَ هي الدينا
١
رُفِع الستار في مسرح حديقة الأزبكية يوم افتتاحه عن تمثال أبي الهول،
يُناجيه رجل بهذه القصيدة.
٢
طال عليك العصر: العَصْر والعِصْر والعُصْر والعُصُر: الدَّهر،
فالعُصُر هنا مفرد لا جمع، ومعنى طول الدهر على أبي الهول أنه
عُمِّر أعمارًا طوالًا. وقد أوضح ذلك مع زيادة في التوكيد بقوله:
وبُلغت في الأرض أقصى العمر. والعُمُر، بضم العين والميم: لغة في
العُمْر.
٣
فيا لِدَة الدَّهر: فيا أخا الدَّهر وقرينه، فكأنك والدَّهر
توءمان، خُلقتما معًا في أوان. والبيت كما ترى آية في الإبداع
وروعة البيان. ولا أنت جاوزت حدَّ الصغر: أي برغم أنك بلغت في
الأرض أقصى العمر.
٤
إلامَ ركوبك: إلى: من حروف الجر، دخلت على «ما» الاستفهامية،
فبُنِيَت بناء كلمة واحدة، وسقطت الألف من «ما» طلبًا للخفة،
واعتدادًا بإلى الموصولة بها، وكذلك يفعلون في بمَ وفيمَ ومِمَّ،
ولا يفعلون ذلك بما الخبرية، ومن العرب مَن يقِف على مثل هذا
بالهاء، فيقولون: إلامه وعمَّه وفيمه ولِمَه. هذا وإنه لَتصويرٌ
شعريٌّ بديعٌ رائع؛ تصوير أبي الهول راكبًا متن الرمال، يطوي الليل
والنهار، ويسافر متنقلًا في القرون والأدهار. وجَوبُ: في معنى
طي.
٥
في الموعد المنتظر: يوم يزول كل شيء؛ أي في اليوم الآخر.
٦
ماذا وراء البقاء: يقول ما وراء البقاء المتطاول غير السأم. قال
زهير بن أبي سُلمى:
سئمتُ تكاليف الحياة ومَن يَعِش
ثمانين حَولًا لا أبا لك يسأمِ
٧
لقمان: هو لقمان بن عادياء، وتزعم العرب أنه الذي بعثته عاد في
وفدها إلى الحرم ليستسقي لها، فلمَّا أُهلكوا، خُيِّر لقمان بين
بقاء سبع بقرات سُمر، من أظبٍ عفر، في جبلٍ وعر، لا يمسها القطر،
أو بقاء سبعة أنسر، كلما أُهلك نسر خلف بعده نسر؛ فاستحقر الأبقار
وآثر النسور. فلمَّا لم يبقَ غير السابع قال ابنُ أخٍ له: يا عم،
ما بقي من عمرك إلا عمر هذا. فقال لقمان: هذا لُبَدٌ. ولبد،
بلسانهم: الدَّهر. قالوا: وكان يأخذ فرخ النَّسر، فيجعله في حوبة
في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش الفرخ خمسمائة سنة، أو أقل أو
أكثر، فإذا مات أخذ آخر مكانَه، حتى هلكت كلها إلا السابع، أخذه
فوضعه في ذلك الوضع وسمَّاه لبدًا، وكان أطولها عمرًا؛ فضربت العرب
به المَثل، فقالوا: «طال الأبد على لبد.» قال الأعشى:
فعاش لقمان — كما زعموا — ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، وقال
النابغة:
وهذا لقمان بن عادياء، غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن
الكريم.
وأنت الذي ألهيت قيلا بكأسه
ولقمان إذ خيَّرت لقمان في العمر
لنفسك أن تختار سبعة أنسر
إذا
ما مضى نسر خلوت إلى نسر
فعمَّر حتى خال أن نسوره
خلودٌ
وهل تبقى النفوس على الدَّهر؟
أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملوا
أخنى عليها الذي أخنى على لبدِ
٨
وشكوى لبيد: أي وعجبت لشكوى لبيد لطول الحياة … إلخ، وهو لبيد بن
ربيعة، الشاعر الجاهلي الإسلامي المخضرم، صاحب المعلقة المشهورة
التي أوَّلها:
كان لبيد من المعمَّرين، رُوي أنه مات وهو ابن مائة وأربعين،
وقيل وهو ابن سبع وخمسين ومائة أولَ خلافة معاوية، أمَّا شكواه
التي ألمح إليها، فذلك حيث يقول:
يقول: إذا لم يكن وراء البقاء المتطاول إلا الضجر، فإني أعجب
للقمان في حرصه على أن تطول حياته. ولَلبيد الذي إن ملَّ الحياة
وسئم من طولها، فإنه لا محالة كان أكثر شكاة إذا هي لم تطُل؛ لأن
حبَّ الحياة جبلَّةٌ مركوزة في الطباع.
عفت الديار محلها
فمقامها
بمِنًى تأبَّد غولها
فرجامها
ولقد سئمتُ من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ؟
٩
وجِدَت: أي الحياة. يا ابن الصفاة: الحجر الصلد الذي لا يُنبِت
شيئًا. وفي المثل: فلان ما تندى صفاته. وفي الحديث: لا تقرع لهم
صفاة. أي لا ينالهم أحد بسوء. وأبو الهول ابن الصفاة؛ لأنه من
الحجر. لحقت … إلخ: أي لأدركك الموت.
١٠
فإن الحياة: من المعاني المبتكَرة التي لا نظن صاحب الديوان قد
سُبِق إليها على هذا الوجه.
١١
ما أنت في المعضلات: خبِّرني أي معضلة أنت في المعضلات وأي
مُعمًّى!
١٢
تحيَّرت: يقول حار الناس قاطبة في أمرك حاضرهم والبادي.
١٣
صورة العنفوان: لِما ينطوي عليه جسمك الذي صُوِّر على صورة الأسد
من معاني القوة. مثال الحجا والبصر: لِما ينمُّ عنه وجهك ورأسك
المصوَّران على صورة وجه الإنسان من معاني الفطنة والبصر
بالأمور.
١٤
يقول: ومع ذلك لا يزال سرك مكتنًّا في حجبه، والناس من أمرك في
ظلام.
١٥
ولو صوِّروا: أي ما كان ينبغي أن يُروِّع الناسَ منك أن كان رأسك
على هيكل من ذوات الظفر؛ لأن الناس لو صُوِّروا من نواحي شيمهم
وطباعهم لتوالوا عليك كأنهم وحوش. وهذا معنًى حَسنٌ بديع، وقد زاده
حُسنًا وأكَّده بقوله: فيا رُبَّ وجهٍ كصافي النمير.
١٦
النمير: الماء الناجع في الري، أو النامي، أو الكثير. والنمر: هو
ذلك الحيوان المعروف بمكره وخبثه وشراسته. وهذا البيت من جوامع
الكلم وروائع الحِكم، ولا يخفى ما فيه من الجناس بين النمير وبين
النمر، وللشعراء فيما يتصل بهذا المعنى ويقاربه ما يُخطئه العدُّ
والإحصاء، فمن ذلك ما يقول القائل:
ويقول الأبيوردي:
ويقول الشريف الرضي:
ويقول:
وقال آخر:
وقال أبو فراس:
وقال آخر:
ويقول أبو تمام:
لا يغرَّنْك ما ترى من أناسٍ
إن
تحت الضلوع داءً دويَّا
يلقاك والعسلُ المُصفَّى يُجتنى
من قوله ومن الفعالِ العلقمُ
يُبدي الهوى ويثور — إن عرضَت له
فرصٌ — عليك كما يثور الأرقمُ
لا تجعلنَّ دليلَ المرءِ صورتَه
كم مَخبرٍ سمجٍ عن مَنظرٍ حَسنِ
وكم صاحبٍ كالرمح زاغت كُعوبه
أبى بعد طول العمر أن يتقوَّما
تقبَّلتُ منه ظاهرًا
مُتبلِّجًا
وأدمج دوني باطنًا
مُتجهِّما
ولو أنني كشَّفته عن
ضميره
أقَمتُ على ما بيننا اليومَ
مأتما
يُعطيك ودًّا صادقًا بلسانه
ويُجِنُّ تحت ضلوعه ألوانا
وقد صار هذا الناس إلا أقلَّهم
ذئابًا على أجسادِهنَّ ثيابُ
ظننت بهم خيرًا فلمَّا بلَوتُهم
نزلت بوادٍ منهمُ غيرِ ذي زرعِ
إن شئت أن يسودَّ ظنك
كله
فأَجِلْه في هذا السوادِ
الأعظمِ
ليس الصديق بمَن يُعِيرك
ظاهرًا
متبسمًا عن باطنٍ
متجهِّمِ
١٧
لا يُستقلُّ: لا يُعَدُّ قليلًا. وهذا البيت كالتمهيد لما
بعده.
١٨
ديك الصباح: يريد الزمن. والعلاقة بين الديَكة وبين الصباح من
ناحية صياحها فيه معروفة، وإنه لَتَخيُّلٌ شعريٌّ جميل. ومن بارع
حسن التعليل أن جعل سبب عبث الدهر بأبي الهول وتشويهه خلقه، حتى
أسال بياض عينَيه وسلَّ سوادهما، هو هُزء أبي الهول به، وسخريته
منه، وعدم اكتراثه له، ثم تعبيره عن الدَّهر بديك الصباح. هذا،
ولمناسبة ذِكر ديك الصباح نقول إنه ورد في بعض الآثار: «لا تسبُّوا
الديَكة؛ فإنها تدعو إلى الصلاة.» ولابن المعتز:
وللمعري:
إلى أن يقول:
أوس بن معير: هو مؤذِّن رسول الله بمكة بعد الفتح. وابن رباح: هو
بلال، كان يؤذِّن لرسول الله سفرًا وحضرًا. ورئمتك: عطفت عليك
ولزمتك. ويوائم: يوافق ويلائم. والسقط: ما سقط من النار بين
الزندَين قبل استحكام الوري. والقرة: البرد.
بشَّر بالصبح هاتفٌ هتفَا
هاج
بالليل بعدما انتصفَا
مُذكِّر بالصبوح هاج بنا
كخاطبٍ
فوق منبر وقفا
صفَّق إمَّا ارتياحةً لِسَنا
الـ
ـفجر وإمَّا على الدُّجى
أسَفَا
أيا ديكُ عُدَّت من أياديكَ
صيحةٌ
بعثتَ بها مَيْتَ الكرى وهْو
نائمٌ
هتفتَ فقال الناس أوس بن مِعيَر
أو ابن رباح بالمحلة قائمُ
عليك ثيابٌ خاطَها اللهُ
قادرًا
بها رَئمَتك العاطفاتُ
الروائمُ
وتاجك معقود كأنك هرمز
يُباهي
به أملاكه ويُوائمُ
وعينك سقطٌ ما خبا عند قرَّة
كلمعةِ برقٍ ما لها الدهرَ شائمُ
وما زِلت للدِّين القويم
دعامة
إذا قلقتْ من حاملِيها
الدعائمُ
١٩
المحبسين: المحبس الموضع الذي يُحبَس فيه، وكان يقال عن أبي
العلاء المعري: رهين المحبسين؛ أي رهين عماه وبيته؛ فكأنه من عماه
في محبس، وكذلك أبو الهول، عدَّه شاعرنا بعد أن نقر ديك الصباح
عينَيه كأنه من عماه وسكونه في محبسين.
٢٠
ديدبان: فارسيةٌ معرَّبة، أصلها ديده بان، ومعنى ديده العين،
وبان ذو؛ أي الرقيب والعين، ومعناها الخاص: الجندي المكلَّف
بالحراسة.
٢١
السَّطَر: السطْر، والسطْر الصف من الكتاب والشجر ونحوهما. ومعنى
البيت ظاهر.
٢٢
نجيُّ الأوان: النجيُّ، بوزن فعيل، الذي تُسارُّه، وفي الحديث:
«اللهم بمحمدٍ نبيك وبموسى نجيِّك.» وهو المُناجي المُحدِّث
للإنسان.
٢٣
من آدم: أي من قديم القديم. والزمر: جمع زمرة؛ الجماعة من الناس،
والمراد هنا الناس جميعًا.
٢٤
يستهل: يعني يُقدِم على الدنيا، مِن استهلَّ الصبي بالبكاء؛ أي
رفع صوته وصاح عند الولادة. ويُحتضر: حُضر فلان واحتُضر إذا نزل به
الموت.
٢٥
وأخرى مُشيِّعة مَن غبر: مَن مضى. وإنَّ هذا البيت لَمُشبَع من
الروعة والجلال.
٢٦
فحدِّث: هذا البيت هو كالمدخل لما بعده.
٢٧
ألم تبلُ فرعون: بلاه يبلوه بلوًا وابتلاء أي جرَّبه واختبره.
وفرعون: لقب يُطلَق على كل مَن ولي مُلك مصر، كالنجاشي لملوك
الحبشة، وقيصر لملوك الرومان، وفرعون أصلها في الهيروغليفية
مُركَّبة من «بي» وهي أداة التعريف كأل، و«راع» أي الشمس، فتكون
كلمة واحدة، و«راع» أو «راهو» معبودٌ قوي وحاكمٌ جبار، يقاتل
احتفاظًا بالحياة وإبقاءً على الكون، ومن هنا كان العتوُّ والجبروت
وما في معناهما من مدلولات كلمة فرعون عند العرب؛ وإذن لا يقصد
بفرعون فرعونًا مُعيَّنًا، ولكن جميع فراعنة مصر، وقد ابتلاهم أبو
الهول. إلى الشمس معتزيًا: تقول ألم تبلُ يا أبا الهول فرعون وهو
في عزِّه، حتى لكأنه من العزِّ والمنعة بحيث يناطح الشمس والقمر؛
لأن مَن اعتزى إلى شيءٍ قارَبه وشاكَله، وقد كان أكثر الفراعنة
يضعون على تيجانهم صورة أوزيريس الشمس، وإيزيس القمر؛ لأنهما من
أصنامهم، فلعله يشير إلى هذا مع إرادة معنى العز والمنعة.
٢٨
ظليل الحضارة: مكانٌ ظليلٌ ذو ظلِّ دائم يُستظلُّ به. يريد أن
حضارة فرعون كانت من الكمال بحيث تُظلُّ الناس، ويرتعون في ذُراها
وكنفها. والحضارة، بكسر الحاء وفتحها: الإقامة في الحضر. والحضر
والحضرة والحاضرة: خلاف البدو والبادية، وهي المدن والقُرى والريف؛
سُمِّيت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم
بها قرار، قال القطامي:
وقال المتنبي:
ولكن الحضارة هنا بمعنى التمدين.
فمَن تكن الحضارة أعجبَته
فأي
رجال بادية ترانا
حُسنُ الحضارة مجلوبٌ
بتطرية
وفي البداوة حسنٌ غير
مجلوبِ
٢٩
للغابرين: الغابر من الأضداد، فيكون بمعنى الباقي، ويكون بمعنى
الماضي؛ ومِن ثَم يكون معنى البيت: إما أن فرعون يُخلِّد ذِكر
الماضين بإقامة الآثار لهم والتماثيل، ويغرس للآتين ما يجنون ثمره
من دور العلم والعرفان وما إليها، وإما أن فرعون يُؤسِّس ويغرس لهم
كل ما يُجدي ويُثمِر.
٣٠
قمبيز: هو ابن كورش الأكبر الذي أسَّس دولة الفُرس العظيمة.
ومعلومٌ أن الفُرس من الدول التي غزَت مصر واستولت عليها حينًا من
الدهر، قال المؤرخون: أخذ الفُرس في غزو مصر أزمانَ الأسرة السادسة
والعشرين، وذلك حين وُلِّي الملك «أبسمتيك الثالث» أحد ملوك هذه
الأسرة، فأعَدَّ الفُرس لهذه الغزاة المُعَدَّات الكبيرة، وجاء
مَلِكهم «قمبيز» بجيشٍ جرَّار لفتح البلاد التي طالما تاقَت نفس
أبيه «كورش» إلى إخضاعها، وكانت مصر إذ ذاك حصينةً غاية في المنعة.
يقول مؤرخو الإغريق: إن أحد الجنود اليونانية، هو الذي خان مصر
والمصريين، ودلَّ الفُرس على أسهل الطُّرق التي يمكنهم بواسطتها أن
يدخلوا البلاد، فهُوجِمت مدينة «بلوز» (الفرما) بحرًا، وزحفت
الجنود الفارسية على مصر بَرًّا، وبعد مقاومةٍ عنيفةٍ جهتَي بلوز
ومنف، سقطت البلاد، وأخذ قمبيز أبسمتيك أسيرًا، وكان ذلك سنة
٥٢٥ق.م، ثم سار قمبيز أوَّل أيامه سيرةً حسنة، وعامَل المصريين
معاملةً طيبة، يحترم دياناتهم وتقاليدهم، ولكنه بعد ذلك لبس لهم
جلد النمر، وحنق على البلاد ومَن فيها، فكرَّ على المعابد والهياكل
فهدمها، وقتل بيده العجل أبيس أثناء أحد الاحتفالات الكبيرة، وعند
عودته إلى فارس مات في الطريق سنة ٥٢١ق.م، ولمَّا ولي ملك فارس
«دارا الأول» زار مصر، وأراد أن يُصلِح ما أفسده قمبيز، فأبدى
احترامًا كبيرًا لديانة المصريين ومعبوداتهم، وشيَّد هيكلًا عظيمًا
للمعبود آمون بواحة سيوة الكبرى، وعضد التجارة، وشيَّد كثيرًا من
المدارس، وفتح الخليج المُوصِّل ما بين النيل والبحر الأحمر، ورأى
المصريون آخر أيامه ما لحقه من الخسائر في واقعة «مرتون» في حربه
مع الإغريق، فخرجوا عن طاعته، وطردوا الفُرس من البلاد بقيادة أحد
الأمراء الوطنيين سنة ٤٨٦ق.م، ثم غزا الفُرس مصر ثانية، وما زالوا
بها حتى طردهم المصريون سنة ٤٠٥ق.م.
٣١
إسكندر: هو الإسكندر الأكبر المقدوني الفاتح العظيم، قال
المؤرخون: بعد أن هزم الإسكندر الفُرس في واقعة أسوس، زحف على
مدينة صور فأخذها عَنوةً؛ وبذلك تم استيلاؤه على الشام، ثم قدِم
إلى مصر، وكان الفُرس قد استدعَوا حاميتها منها بسبب حروبهم مع
الإسكندر. فلما وصل الإسكندر إلى «بلوز» (الفرما) سنة ٣٣٢ق.م،
رحَّب به المصريون؛ لِما سمعوه عن عدالة حكمه، ولِما لاقَوه من
الذل والهوان في حكم الفُرس، ففتحت له مصر أبوابها، ودخلها دون
عناء، حتى إن الوالي الفارسي لم يجرؤ على مقاومته، وقابله في منف
بترحاب؛ ومِن ثَم سار الإسكندر إلى واحة آمون الكبرى، ودخل معبد
آمون، ولقَّبه الكهنة بابن آمون، فاحترم ديانة المصريين وقدَّم
القرابين لمعبوداتهم، ولم يُهمِل مع ذلك التقاليد الإغريقية، فأدخل
منها في مصر الموسيقى والألعاب النظامية. ولمَّا رأى الإسكندر أن
قرية «راقودة» — وهي قريةٌ صغيرة كانت بقرب الإسكندرية — ذات موقع
بحري مُوفَّق، أنشأ بجوارها حاضرةً جديدة له هي الإسكندرية، وبعد
أن استوثق الأمر للإسكندر في مصر خرج إلى فتوحاته الأخرى في
المشرق، وكانت وفاته سنة ٣٢٣م، وكان عمره إذ ذاك ٣٢ سنة ونيفًا، لم
يقُم بمصر — كما ترى — إلا قليلًا، فذلك حيث يقول في البيت
التالي:
وخلف الإسكندرَ على مصر البطالسةُ، وما زالوا بها إلى أن استولى
الرومان عليها.
فلم يعد في الملك عمر الزهر
٣٢
إكليله: تاجه.
٣٣
قيصر: أسلفنا أن قيصرًا هذا لقب ملوك الرومان، قال المؤرخون: ما
كادت دولة الرومان تظهر بين ممالك الأرض، حتى أخذت العلائق تنشأ
بينها وبين البطالسة في مصر، ولبثت بين الدولتَين مدَّة طويلة من
أيام مجد البطالسة إلى انقراضهم، تطوَّرت أثناءها في عدَّة أطوار؛
ابتدأت بمصادقة الرومان للبطالسة، ثم انتقلت إلى حمايتهم لهم، ثم
السيطرة عليهم، ثم انتهت باستيلائهم على مصر سنة ٣٠ق.م في عهد
أغسطس، ودخلت مصر باستيلاء الرومان عليها في عهدِ خمولٍ سياسيٍّ
طويل، امتد نحوًا من ٦٧ سنة، لم يكن لها فيها شيءٌ يُذكَر في
التاريخ، بل كانت كحقلٍ لإنتاج الحبوب وتصديرها إلى رومية لسدِّ
أهم جزء من الخراج، وما زال الرومان بمصر حتى أدال الله منهم
بالعرب سنة ٦٤١م على يد عمرو بن العاص، فذلك حيث يقول: «وكيف
ابتُلوا بقليل العديد … إلخ.» القصر: أي الأعناق، قال
الشاعر:
لا تدلك الشمس إلا حذو منكبه
في
حومة تحتها الهاماتُ والقصَرُ
٣٤
رمى: أي هذا النفر القليل، وهم أصحاب عمرو بن العاص. وفلَّ
الجموع: هزمها. وثلَّ السرر: كسرها. والسرر: جمع سرير، والمراد هنا
العروش التي يجلس عليها القياصرة.
٣٥
الصعر: ميل في العنق، وانقلاب في الوجه إلى أحد الشِّقَّين، وقد
صعَّر خدَّه أماله من الكِبْر، قال المتلمِّس:
والزمان يُقِيم الصعر: يعدل الطغاة، يقال أقمت الشيء فقام؛ أي
استقام.
وكنا إذا الجبار صعَّر خدَّهُ
أقمْنا له من رِدئه فتقوَّما
٣٦
في نظمها وحين وهى سلكها: في حالتَي قوَّتها وضعفها.
٣٧
انحسر: كَلَّ، والبصر يُحسَر عند أقصى بلوغ النظر.
٣٨
تلاقى: تتلاقى، بحذف إحدى التاءين. يريد أنها راسخةٌ رسوخَ
الجبال.
٣٩
إيزيس: هي من معبودات قدماء المصريين، وهي أخت أوزيريس وزوجته في
الوقت نفسه، وأم عوروس وهاريوقراط. يرى قدماء المصريين أن إيزيس
هذه وليت أمر مصر مع أخيها وزوجها أوزيريس حينًا من الدهر ازدهرت
فيه الزراعة، ويُؤخَذ من تقاليد إيزيس أنها عندهم رمز للقمر،
وأوزيريس رمز للشمس، ومن هنا يريد ﺑ «إيزيس» القمر. وقوله «تخطى»:
أي تتخطى، بحذف إحدى التاءين.
٤٠
قوله «تضيء على صفحات السماء»: أي إيزيس؛ بمعنى قمر السماء
الحقيقي. وقوله «وتشرق في الأرض منها الحجر»: أي القمر؛ بمعنى
المعبود في الأرض. وعلى ذلك يكون في الكلام استخدام، وهو عند علماء
البيان أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما، ثم يراد بضميره الآخر، أو
يراد بأحد ضميرَين أحدهما، ثم بالآخر الآخر؛ فالأول كقول معوِّذ
الحكماء:
فإنه أراد بالسماء الغيث، وبضميره النبت. والثاني كقول
البحتري:
فإنه أراد بضمير الغضا في قوله «والساكنيه» المكان، وفي قوله
«شبوه» أي أوقدوا الشجر. والحُجر: جمع حجرة، كغرفة وغرف.
إذا نزل السماءُ بأرضِ قومٍ
رعيناه وإن كانوا غضابا
فسقى الغضا والساكنيه وإن همُ
شبُّوه بين جوانح وقلوبِ
٤١
وآبيس: هو العجل أبيس، روَوا أن «تيفون» إله الشر تغلَّب أخيرًا
على أوزيريس إله الخير وقتله؛ فتقمَّصت روحه جسد عجل، وكان هذا
العجل عندهم يُمثِّل الخصب والتوليد الخلقي، وكانوا يعتقدون أن
العجل الذي تقمَّصته روحه هو ابن بقرة حملت به بواسطة شعاع من
الشمس وشعاع من القمر، وله علاماتٌ ظاهرة في جسده، فإنه يكون أسود
اللون، وفي جبهته سمةٌ بيضاء مربَّعة، أو مثلَّثة، وصورة نسر على
ظهره، وصورة خنفساء تحت لسانه، وكان الكهنة عندما يجدون العجل بعد
موت سلفه، يركبون مركبةً حربية ويسيرون به باحتفالٍ عظيم إلى
هليوبوليس، وكانوا يضعونه فيها في هيكل يتركونه مفتوحًا للعبادة
أربعين يومًا، وكان الأهالي عند موته ينوحون ويلبسون ثوب الحِداد،
ويضعونه في تاووسٍ ثمين جدًّا، وكانوا يقومون بالاحتفال بأيامه
المقدَّسة كل سنة عند ارتفاع النيل، وذلك بإقامة الولائم والأفراح،
وكانوا يطرحون في ذلك الوقت إناءً من الذهب في النيل لإخماد غضب
التماسيح. في نيره: النير هو الخشبة المعترضة على عنق الثورَين
المقرونين بالحراثة بأداتها، وهم يقولون: فلان تحت نير فلان،
يريدون الخضوع والاستخذاء.
٤٢
أبو المسك: كافور الإخشيدي. وأحمد: أبو الطيب المتنبي.
٤٣
التابوت: الذي وُضِع فيه موسى وقُذِف به في النيل. وعصا موسى وما
كان منها من الآيات والوصايا العشر، كل أولئك معروف فلا حاجة بنا
إلى الإفاضة فيه.
٤٤
وعيسى يلمُّ رداء الحياء: يقول: وشاهدت عيسى وهو المَثل الأعلى
للحياء، ومثله في ذلك العذراء.
٤٥
وعمرو: يقول وقد رأيت عمرو بن العاص إذ يسوق المسلمين لفتح مصر،
ويُزجِي كتاب الله وآياته.
٤٦
فكيف رأيت: يقول خبِّرْني يا أبا الهول كيف رأيت فرق ما بين هدى
المسلمين وأخرى عمر؛ أي دنياه التي كأنها الأخرى في الإصلاح، وما
إليه من كل ما كان ماثلًا أيام الفاروق — رضي الله عنه وأرضاه —
وما بين الضلال ودنيا الملوك من القياصرة والفُرس والروم ومن
إليهم.
٤٧
المقوقس: هو سيروس، بطْريق الطائفة الملكانية بالإسكندرية،
والحاكم الإداري بمصر من قِبل الرومان، والذي فتح عمرو بن العاص
مصر في عهده، وفي المقريزي: أنه يُسمَّى المقوقس بن قرقفت، ولعله
محرَّف عن سيروس. عهد الفجور: عهد الانحراف عن الصراط السويِّ، عهد
الإسراف في المعاصي والآثام، عهد الرومان الذي استبدل به المقوقس.
عهد الفجر: أي عهد الخير العميم، عهد النور، عهد التُّقى والإصلاح،
عهد الإسلام؛ إذ مالَأ المسلمين وعبَّد لهم طريق الفتح.
٤٨
وتبديله: في معنى البيت قبله. لمَّا سفر: سفر الصبح وأسفر
أضاء.
٤٩
وتأليفه: أي المقوقس. والأسر: جمع الأسرة، وأسرة الرجل عشيرته
ورهطه الأدنَون.
٥٠
إحدى العبر: إحدى الآيات.
٥١
أطلت … إلخ: بيان لوفاء أبي الهول. كثاكلة: يقول إنك في إطالتك
الوقوف على الهرمين وفاءً منك، كثاكلة ولدها لا تبرح قبره ولا
تُزايله، والثاكلة هي التي فقدت ولدها. ولا تريم: أي لا تبرح.
والحفر: جمع حفرة، وهي ما يُحفَر في الأرض، والمراد بها هنا
القبر.
٥٢
لبانيهما: أي لباني الهرمين.
٥٣
تجوس: تطوف وتتخلل. والنَّهَر والنهْر: واحد الأنهار؛ يعني نهر
النيل.
٥٤
تروم: تنشُد وتطلب. ومنفيس: منف، وموضعها اليوم البدرشين، وميت
رهينة: هي عاصمة ملك الفراعنة، والذي بناها هو «مينا» مؤسِّس
الأسرة المالكة، وكانت كما قال شاعرنا:
ولا يخفى ما في هذا البيت من العكس، والعكس هذا من المحسِّنات
البديعية، وهو أن تقدِّم في الكلام جزءًا، ثم تعكس، فتقدِّم ما
أخَّرت وتؤخِّر ما قدَّمت، مثل قول الحماسي:
وقول أبي الطيب:
وقول الآخر:
الخميس الدثر: الجيش الكثير. يقول: إنك يا أبا الهول لَأوفى
الأوفياء؛ إذ كأني بك وقد فقدت تلك الحضارة الباهرة، والمدنيَّة
الزاهرة، التي تحلَّيت بها حينًا من الدَّهر، وشاهدت عصرها الذهبي،
ثم ذهبت وذهب أهلوها، وأصبحت منفردًا وحيدًا.
فأبى عليك وفاؤك إلا أن تُطيل الوقوف على الهرمين، شأن الثَّكول
فقدت وحيدها، فأبى عليها وجدها أن تريم قبره، وكأنك في وقوفك هذا
تُرجِّي لِباني الهرمين عودة تعود معها تلك المعاني الساميات،
وتنشُد بمنفيس — وهي منك عن كثب — عهد القوة والعظمة والسلطان،
وعهد العلوم والعرفان، وعهد الفنون الخطير الجلال ممَّا رأيت في
الزمن الخالي، فلا تصيب شيئًا من ذلك، ولا تقع عينك من منفيس هذه
إلا على قرية قد اندثرت، ودمنة قد عفَت، تكاد لإغراقها في الجمود
إذا الأرض دارت بها لم تدُر، فترى في هذه الأبيات صورة أبي الهول
في وقوفه هذا، صورة شعرية آية في الإبداع والتخيُّل الشعري، ثم ترى
فيها وصف عظمة المصريين، وأن مصر كانت مهد الحضارة والتمدين، ولا
جرم فقد أَمَّها، وجاوَر فيها للاستفادة أمثال ليكرغ وصولون من
كبار المتشرِّعين، وفيثاغورس وأفلاطون وإقليدس من شيوخ الفلسفة،
كما تُؤمُّ اليوم بلاد الغرب للمجاورة فيها والإفادة منها، ومن هنا
قال بعد ذلك: «… فهل مَن يبلِّغ عنَّا الأصول؟»
ومهد العلوم الخطير الجلال
وعهد الفنون الجليل الخطر
فردَّ شعورهن السود بيضًا
وردَّ وجوههنَّ البيض سودا
فلا مجد في الدنيا لمَن قلَّ ماله
ولا مال في الدنيا لمَن قل مجده
إن الليالي للأنام مناهيل
تُطوى
وتُنشَر دونها الأعمار
فقِصارهن مع الهموم طويلة
وطوالهن مع السرور قِصار
كأن لم يكن بين الحجون إلى
الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة
سامر
٥٥
أجد محاسنها ما اندثر: يقول إن طلولها الدوارس ورسومها المندثرة
البوالي أجدَّت محاسنها، وهو معنًى دقيقٌ عجيب، ولعله ينظر إلى قول
أبي نواس:
هذا ويجوز أن يكون «أجدُّ» مبتدأً، و«ما اندثر» خبرًا؛ أي إن
أجدَّ ما بقي من هذه القرية وأجلَّه، هو آثارها الدوارس.
لِمَن دمن تزداد حُسنَ
رسومِ
على طول ما أقوَت وطِيبِ
نسيمِ
تجافى البِلى عنهن حتى كأنما
لبسن على الأقواء ثوبَ نعيمِ
٥٦
الأصول: أصولنا وآباؤنا الذين وصف. الفروع: نحن المصريين أبناء
هذا الجيل. واقتدت بالسِّيَر: حذت حذو أصولها؛ إذ كان منَّا في هذه
الآونة ما قصَّه بعد.
٥٧
غمار الأمور: شدائدها، جمع غمرة. المؤتمر: مؤتمر الصلح الذي
عُقِد على أثر انتهاء الحرب الأوروبية العامة سنة ١٩٢٠م، الذي
فزعنا إليه في شخص الوفد المصري.
٥٨
الشديد اللداد: أي الشديد الخصومة والجدل الذي لا يُغلَب.
والأريب: العاقل البعيد النظر.
٥٩
تطالب: أي الفروع. ودونه: دون هذا الحق.
٦٠
ولم تفتخر: أي إنها مع ذلك لم تعتز بقوَّتها المادية من جيش
وأسطول وما إلى ذلك، ولكنها تعتز بحقها الطبيعي الذي ليس إلا به
كيانها.