وداع اللورد كرومر
أيامُكم أم عهدُ إسماعيلا
أم أنت فرعونٌ يسوسُ النيلا١
أم حاكمٌ في أرضِ مصرَ بأمره
لا سائلًا أبدًا ولا مسئولا
يا مالكًا رِقَّ الرقابِ ببأسه
هلَّا اتَّخذتَ إلى القلوبِ سبيلا٢
لمَّا رحلتَ عن البلادِ تشهَّدَت
فكأنك الداءُ العياءُ رحيلا
أوْسَعتَنا يومَ الوداعِ إهانةً
أدبٌ لعَمرُك لا يُصيبُ مَثيلا
هلَّا بدا لك أن تُجامِلَ بعدما
صاغَ الرئيسُ لك الثَّنا إكليلا٣
انظر إلى أدبِ الرئيسِ ولُطفِهِ
تجِدِ الرئيسَ مُهذَّبًا ونبيلا
•••
في مَلعبٍ للمُضحِكاتِ مُشيَّدٍ
مثَّلتَ فيه المُبكِياتِ فصولا٤
شهد «الحسينُ» عليه لعْنَ أصولِهِ
وتَصدَّرَ «الأعمى» به تطفيلا٥
جُبنٌ أقَلَّ وحطَّ من قدرَيهما
والمرءُ إن يجبُنْ يعِشْ مَرذولا
لمَّا ذكرتَ به البلادَ وأهلَها
مثَّلتَ دورَ مماتها تمثيلا٦
أنذرتَنا رِقًّا يدوم وذلةً
تبقى وحالًا لا تَرى تحويلا
أحسِبتَ أن الله دونكَ قدرةً
لا يملكُ التغييرَ والتبديلا
الله يحكم في الملوكِ ولم تكن
دُوَلٌ تُنازِعه القُوى لتَدولا٧
فرعونُ قبْلَك كان أعظمَ سطوةً
وأعزَّ بين العالمينَ قبيلا٨
اليوم أخلفَت الوعودَ حكومةٌ
كنا نظنُّ عهودَها الإنجيلا
دخلَت على حُكمِ الودادِ وشرعِهِ
مصرًا فكانت كالسُّلالِ دخولا٩
هدَمَت مَعالمَها وهدَّت رُكنَها
وأضاعت استقلالَها المأمولا١٠
قالوا جلبتَ لنا الرفاهةَ والغِنى
جحدوا الإلهَ وصُنعَه والنِّيلا١١
كم مِنَّةٍ موهومةٍ أتبَعتَها
منًّا على الفَطِنِ الخبيرِ ثقيلا١٢
في كلِّ تقريرٍ تقولُ خلقتُكم
أفهَل ترى تقريرَك التنزيلا١٣
هل مِن نداك على المدارس أنها
تذرُ العلومَ وتأخذ «الفُوتبولا»١٤
أم من صِيانتِك القضاءُ بمصرَ أن
تأتي بقاضي دِنشِوايَ وكيلا١٥
أم هل يَعُدُّ لك الإضاعةَ مِنَّةً
جيشٌ كجيش الهند بات ذليلا
انظر إلى فِتيانِه ما شأنُهم
أوَليس شأنًا في الجيوش ضئيلا
حرَّمتَهم أن يبلُغوا رُتَبَ العُلا
ورفعتَ قومَك فوقهم تفضيلا
فإذا تطلَّعتِ الجيوشُ وأمَّلَت
مستقبلًا لم يملكوا التأميلا
من بعدما زَفُّوا لإدوَردَ العُلا
فتحًا عريضًا في البلادِ طويلا١٦
لو كنتُ من حُمْرِ الثيابِ عبَدتُكم
من دونِ عيسى مُحسِنًا ومُنيلا١٧
أو كنتُ بعضَ الإنجليز قبِلتُكم
مَلِكًا أُقطِّعُ كفَّه تقبيلا
أو كنتُ عضوًا في «الكلوب» ملأتُهُ
أسفًا لفُرقتِكم بُكًى وعويلا١٨
أو كنتُ قسيسًا يَهيمُ مُبشِّرًا
رتَّلتُ آيةَ مَدحِكم ترتيلا١٩
أو كنتُ صرَّافًا بِلَندنَ دائنًا
أعطيتُكم عن طِيبةٍ تحويلا
أو كنتُ «تيمسكم» ملأتُ صحائفي
مدحًا يُردَّد في الورى موصولا٢٠
أو كنتُ في مصرٍ نزيلًا جاهدًا
سبَّحتُ بِاسمِك بُكرةً وأصيلا
أو كنتُ «سِريونًا» حلفتُ بأنكم
أنتم حيَوتُم بالقناةِ الجيلا٢١
ما كان من عقباتِها وصِعابِها
ذلَّلتموه بعزمكم تذليلا
عهدُ الفرنج وأنت تعلَم عهدَهم
لا يبخسون المُحسِنين فَتيلا
فارحل بحفظِ الله جلَّ صنيعُهُ
مستعفيًا إن شئتَ أو معزولا
واحمل بِساقِك ربطةً في لندنٍ
واخلُف هناك غِراي أو كمبيلا٢٢
أو شاطِرِ المَلِكَ العظيمَ بلادَهُ
وسُسِ الممالك عرضَها والطولا
إنَّا تمنَّينا على الله المُنى
واللهُ كان بنيلهنَّ كفيلا
مَن سبَّ دينَ محمدٍ فمحمدٌ
متمكنٌ عند الإله رسولا٢٣
١
إسماعيل: هو الخديو إسماعيل باشا. وفرعون: لقب كل ملك من ملوك
مصر الأقدمين.
٢
رقَّ الرقاب: استعبادها. والبأس: الشدة والقوة.
٣
الرئيس: هو مصطفى باشا فهمي، كان رئيس مجلس الوزراء لعهد اللورد
كرومر، وهو الذي أقام له حفلة توديع في دار الأوبرا يوم خروجه من
مصر، وخطب له يودِّعه ويُثنِي عليه، ثم خطب اللورد فأهان الأمة،
وأهان الخديو إسماعيل في وجه الأمير حسين كامل (السلطان حسين)، ولم
يُراعِ شيئًا من الأدب ولا المجاملة.
٤
يريد ملعب دار الأوبرا.
٥
الحسين: هو السلطان حسين كامل. والأعمى: هو الشيخ عبد الكريم
سلمان، وكان قد ضعف بصره وكاد يكف.
٦
لمَّا ذكرت به: أي بذلك الملعب.
٧
لتدول: لتظهر على غيرها ويحالفها إقبال الحظ.
٨
القبيل: الجماعة من أصلٍ واحد.
٩
السلال، بضم السين: هو داء السُّل.
١٠
المعالم: جمع مَعلَم، وهو موضع الشيء الذي يظن الناس فيه
وجوده.
١١
قالوا جلبت: الخطاب للورد كرومر.
١٢
المنُّ: أن تعُدَّ لغيرك ما فعلته معه من الصنائع، كأن تقول فعلت
لك كذا وأعطيتك كذا، وهو قبيحٌ مذموم.
١٣
كان اللورد كرومر يضع كلَّ سنة تقريرًا مطوَّلًا عن الحالة
العامة في مصر والسودان، وكان في كل تقرير يدَّعي لنفسه من وجوه
الإصلاح في مصر ما يُكذِّبه الواقع.
١٤
الندى: الكرم. تذر: تترك. والفوتبول: كلمة من لغة الإنجليز
معناها كرة القدم.
١٥
قاضي دنشواي: هو أحمد فتحي زغلول باشا، كان قاضيًا في المحكمة
المخصوصة التي عاقبَت أهل دنشواي بالشنق والجلد والسجن، جعله
اللورد كرومر بعد هذه المحاكمة وكيلًا لوزارة الحقانية، وقد كان
رئيسًا لمحكمة مصر الابتدائية الأهلية.
١٦
يشير إلى فتح السودان، وأن الجيش المصري هو الذي قام بعبئه كله،
ولم يكن لجنود الإنجليز فيه من أثرٍ يُذكَر. وإدوارد: هو ملك
الإنجليز.
١٧
حمر الثياب: هم الإنجليز. يقول: لو كنت إنجليزيًّا لعبدتك ولم
أعبد عيسى؛ لأنك أنَلتَ الإنجليز وأحسنت إليهم بما لا مثيل له من
إنالة وإحسان. والخطاب للورد كرومر.
١٨
الكلوب: دار ندوة في القاهرة، يشترك في الإنفاق عليه كل مَن يشاء
من السراة المصريين وكبار الموظفين الإنجليز.
١٩
ذلك لأن اللورد كرومر كان يؤيِّد التبشير بالمسيحية في مصر،
ويحمي القسوس القائمين به.
٢٠
أو كنت تيمسكم: أي لو كنت جريدة التيمس الخاصة بكم.
٢١
المسيو دي سريون: مدير شركة قناة السويس.
٢٢
واحمل بساقك ربطة: يشير إلى نشان عند الإنجليز يُسمَّى نشان ربطة
الساق، قيل يوم عزل كرومر أُنعِم عليه به. وغراي وكمبيل: وزيران من
وزراء الإنجليز.
٢٣
كان اللورد كرومر قد طعن على الدين الإسلامي في تقريره سنة
١٩٠٦م، فزعم أنه دين لا يصلح لهذا العصر، فشاعرنا يشير إلى ذلك
بقوله: مَن سبَّ دينَ محمدٍ … إلخ.