خاتمة رياض١
كبيرَ السابقين من الكرامِ
برغمي أنْ أنالَكَ بالملامِ٢
مقامُك فوق ما زعموا ولكن
رأيتُ الحقَّ فوقك والمقامِ٣
لقد وجدوك مفتونًا فقالوا
خرجتَ من الوقار والاحتشامِ٤
وقال البعضُ كيدُكَ غيرُ خافٍ
وقالوا رميةٌ من غيرِ رامِ٥
وقيل شططتَ في الكفران حتى
أرَدتَ المُنعِمين بالانتقامِ٦
غمرتَ القومَ إطراءً وحمدًا
وهم غمروك بالنِّعمِ الجِسامِ٧
رأوا بالأمس أنفَك في الثريا
فكيف اليوم أصبح في الرَّغامِ٨
أمَا واللهِ ما علِموك إلا
صغيرًا في ولائك والخصامِ
إذا ما لم تكن للقول أهلًا
فما لك في المواقفِ والكلامِ
خطبتَ فكنتَ خَطْبًا لا خطيبًا
أُضيفَ إلى مصائبِنا العِظامِ
لهجتَ بالاحتلال وما أتاه
وجُرحُك منه لو أحسَستَ دامي٩
وما أغناهُ عمَّن قال فيه
وما أغناك عن هذا الترامي١٠
أحبَّتك البلادُ طويلَ دهرٍ
وذا ثمنُ الولاءِ والاحترامِ
حقَرتَ لها زمامًا كنتَ فيه
لَعُوبًا بالحكومةِ والذمامِ١١
مَحاسنُه غِراسُك والمَساوي
لك الثمرانِ من حمدٍ وذامِ١٢
فهلَّا قُلتَ للشبان قولًا
يليقُ بحافلِ الماضي الهمامِ
يبثُّ تجاربَ الأيامِ فيهم
ويدعو الرابضين إلى القِيامِ١٣
خطبتَ على الشبيبةِ غيرَ دارٍ
بأنَّك من مَشيبِك في منامِ
ولولا أن للأوطان حبًّا
يُصِمُّ عن الوِشايةِ كالغرامِ
جنَيتَ على قلوبِ الجمعِ يأسًا
كأنَّك بينهم داعي الحِمامِ١٤
أراعَك مَقتلٌ من مصرَ باقٍ
فقمتَ تزيدُ سهمًا في السهامِ١٥
وهل تركَت لك السبعون عقلًا
لعرفانِ الحلالِ من الحرامِ
ألا أُنبِيك عن زمنٍ تولَّى
فتذكُرَه ودمعُكَ في انسجامِ١٦
سَلِ «الحلميةَ» الفيحاءَ عنه
وسَلْ دارًا على «نورِ الظلامِ»١٧
وسلْ مَن كان حولك عبدَ جاهٍ
يُريكَ الحُبَّ أو باغي حُطامِ١٨
رأوا إرثًا سيذهبُ بعدَ حينٍ
فكانوا عُصبةً في الاقتسامِ
ونالوا السمعَ من أُذُنٍ كريمٍ
فنالوا منه أنواعَ المرامِ١٩
هُمُ حزبٌ وسائرُ مصرَ حزبٌ
وأنت أصمُّ عن داعي الوئامِ٢٠
وكيف ينالُ عونَ اللهِ قومٌ
سراتُهمُ عواملُ الانقسامِ٢١
إذا الأحلامُ في قومٍ تولَّت
أتى الكبراءُ أفعالَ الطَّغامِ٢٢
فيا تلك اللياليَ لا تَعودي
ويا زمنَ النفاقِ بلا سلامِ٢٣
أُحِبُّكِ مصرُ من أعماقِ قلبي
وحبُّكِ في صميمِ القلبِ نامي٢٤
سيجمعُني بكِ التاريخُ يومًا
إذا ظهر الكرامُ على اللئامِ٢٥
لأجلِكِ رُحتُ بالدنيا شقيًّا
أصدُّ الوجهَ والدنيا أمامي
وأنظرُ جَنَّةً جمعَت ذئابًا
فيَصرفُني الإباءُ عن الزحامِ٢٦
وهَبتُكِ غيرَ هيَّابٍ يَراعًا
أشدَّ على العدوِّ من الحسامِ٢٧
سيكتبُ عنكِ فوقَ ثَرى رياضٍ
وفي التاريخِ صفحةَ الاتهامِ
أفِي السبعين والدنيا تولَّت
ولا يُرجى سوى حُسنِ الختامِ
تكون وأنت أنت رياضُ مصرٍ
عرابي اليوم في نظرِ الأنامِ
١
قِيلَت بعد خطبة المرحوم رياض باشا في مدرسة محمد علي الصناعية في ٨ يونيو
سنة ١٩٠٤م.
٢
الخطاب في هذا البيت لمصطفى رياض باشا، وكان قد خطب في افتتاح
مدرسة محمد علي الصناعية، التي أنشأتها في الإسكندرية جمعية العروة
الوثقى سنة ١٩٠٤م، وكان اللورد كرومر عميد الدولة المحتلَّة حاضرًا
هذا الافتتاح؛ فتملَّقه الخطيب بكلامٍ كفر به نعمة مصر وأصحاب عرشها.
٣
رأيت الحق فوقك والمقام: أي وفوق مقامك.
٤
الوقار: الرزانة والحِلم. والاحتشام: الاستحياء.
٥
الكيد: المكر والخبث وإرادة ضرر الغير خفية. ورمية من غير رام:
يريد أنه لم يقصد الكيد بما قاله، وأصل المثل رُبَّ رمية من غيرِ
رامٍ، وهو يقال لمَن يصيب في أمر وعادته أن يخطئ.
٦
شططت: أفرطت.
٧
غمرت القوم: من قولهم غمرت فلانًا بالمعروف والفضل؛ أي بالغت في
الإحسان إليه.
٨
الثريا: سبعة كواكب في عنق البرج المعروف بالثور. والرَّغام
(بفتح الراء): التراب.
٩
لهجت بالاحتلال: من قولهم لهج بالشيء، إذا أُغريَ به فثابَر
عليه. والدامي: الذي يسيل دمه.
١٠
وما أغناه … إلخ: أي ما أغنى الاحتلال عنك، وما أغناك من أن
تترامى على أصحابه بمثل ما قلت.
١١
حقرت (بفتح القاف مخففة): استصغرت. الزمام (بالزاي): ملاك الأمر.
والذمام (بالذال): الحقُّ والحرمة.
١٢
محاسنه: الضمير للزمام؛ أي أنت الذي غرست ما لهذا الزمام من
المحاسن والمساوئ، فلك ما يُثمِر من حمد وذم.
١٣
يبثُّ: ينشر ويذيع. والتجارب: جمع تجربة، وهي اختبار الشيء مرة
بعد مرة. والرابضين: جمع رابض، وهو مَن يأوي إلى المكان فلا
يفارقه.
١٤
يقول: لولا أن الذين سمعوك يحبُّون بلادهم حبًّا يمنعهم من
القعود عن العمل لإنقاذها من الاحتلال، لأصابهم اليأس والقنوط بسبب
كلامك.
١٥
أراعك: أي أأفزعك. والمقتل: العضو الذي إذا أُصيبَ لا يكاد صاحبه
يسلَم. يقول: هل أفزعك أن رأيت بعض مَقاتل مصر سليمة لم تُصَب فزدت
سهمًا ليصيبها؟
١٦
أنبيك: أخبرك. والانسجام: سيلان الدمع.
١٧
الحلمية: حيٌّ من أحياء القاهرة. ونور الظلام: اسم شارع بهذا
الحي فيه دار رياض.
١٨
الباغي: الطالب. والحطام: المال قلَّ أو كثر.
١٩
رجلٌ أذن (بضم الذال): إذا كان يسمع مقال كل أحد ويقبله.
٢٠
الوئام: الوفاق.
٢١
السراة: جمعُ سريٍّ، وهو السيد الشريف السخي.
٢٢
الأحلام: العقول. والطغام (بفتح الطاء): أوغاد الناس.
٢٣
بلا سلام: أي اذهب بلا سلام.
٢٤
في صميم القلب: أي في القلب، والصميم: الخالص من الشيء.
٢٥
إذا ظهر الكرام على اللئام: أي إذا غلبوهم.
٢٦
الإباء: الكبر والنخوة.
٢٧
اليراع: القلم. والحسام: السيف.