على قبر نابليون
قِفْ على كنزٍ بباريسَ دفينْ
من فريدٍ في المعاني وثمينْ
وافتقِد جوهرةً من شرفٍ
صَدَفُ الدهرِ بِتِربَيها ضنينْ١
قد توارت في الثرى حتى إذا
قدُمَ العهدُ توارت في السنينْ
غرَّبَت حتى إذا ما استيأست
دنَتِ الدارُ ولكن لاتَ حينْ
لم تُذِبْ نارُ الوغى ياقوتَها
وأذابته تباريحُ الحنينْ٢
لا تلوموها أليست حُرَّةً
وهوى الأوطانِ للأحرار دينْ
•••
غيَّبَت باريسُ ذُخرًا ومضى
تُرْبُها القيِّمُ بالحِرزِ الحصينْ٣
نزلَ الأرضَ ولكن بعدما
نزلَ التاريخ قبرَ النابغينْ
أعظُمُ الليثِ تلقَّاها الشَّرى
ورُفاتُ النَّسرِ حازَته الوكونْ٤
وحوى الغِمدُ بقايا صارِمٍ
لم تُقلِّب مِثلَه أيدي القُيونْ٥
شيَّدَ الناسُ عليه وبَنوا
حائطَ الشكِّ على أُسِّ اليقينْ٦
لستَ تُحصِي حوْلَه ألوِيةً
أُسِرَت أمسِ وراياتٍ سُبينْ٧
نامَ عنها وهْي في سُدَّتِهِ
ديدبانٌ ساهِرُ الجَفنِ أمينْ
وكأيٍّ من عدوٍّ كاشحٍ
لك بالأمس هو اليومَ خَدينْ٨
ووليٍّ كان يسقيك الهوى
عسلًا قد بات يسقيك الوزينْ٩
فإذا استكرمتَ ودًّا فاتَّهِمْ
جوهرُ الودِّ وإن صَحَّ ظنينْ١٠
•••
مَرمرٌ أُضجِعَ في مسنونِهِ
حَجَرُ الأرض وضِرغامُ العَرينْ١١
جلَّلَته هيبةُ الثاوي به
رَوعةَ الحكمةِ في الشعرِ الرصينْ١٢
هل درى المرمرُ ماذا تحته
من قُوى نفسٍ ومن خَلقٍ متينْ
أيها الغالون في أجداثهم
ابحثوا في الأرض هل عيسى دفينْ١٣
يمَّحِي الميْتُ ويَبلى رمسُهُ
ويَغولُ الربعَ ما غالَ القطينْ١٤
حصِّنوا ما شئتمُ موتاكمُ
هل وراءَ الموتِ من حصنٍ حصينْ
ليس في قبرٍ وإن نال السُّها
ما يزيد الميْتَ وزنًا ويزينْ١٥
فانزل التاريخَ قبرًا أو فنَمْ
في الثرى غُفْلًا كبعضِ الهامدينْ١٦
واخدَعِ الأحياءَ ما شئتَ فلن
تجِدَ التاريخ في المُنخدِسعينْ
•••
يا عصاميًّا حوى المَجد سِوى
فَضلةٍ قد قُسِّمَت في المُعرِقينْ١٧
أُمُّكَ النفسُ قديمًا أَكرَمَت
وأبوكَ الفضلُ خيرُ المُنجِبينْ١٨
نَسبُ البدرِ أو الشمسِ إذا
جِيءَ بالآباءِ مغمورٌ رهينْ
وأصولُ الخمر ما أزكى على
خُبْثِ ما قد فعلَت بالشاربينْ
لا يقولَنَّ امْرُؤٌ أصلِي فما
أصلُه مِسكٌ وأصلُ الناسِ طِينْ
قد تتوَّجتَ فقالت أُمَمٌ
ولَدُ الثورةِ عقَّ الثائرينْ
وتزوَّجتَ فقالوا ما له
ولِحُورٍ من بناتِ المُلْكِ عِينْ١٩
قسمًا لو قدَروا ما احتشموا
لا يَعِفُّ الناسُ إلا عاجزينْ
•••
أرأيتَ الخيرَ وافى أُمَّةً
لم ينالوا حظَّهم في النابغينْ
يصلُحُ المُلكُ على طائفةٍ
هم جمالُ الأرض حينًا بعدَ حينْ
ملَئوا الدنيا على قِلَّتِهم
وقديمًا مُلئَت بالمُرسَلينْ
يحسُنُ الدهرُ بهم ما طلعوا
وبهم يزدادُ حُسنًا آفلينْ٢٠
قد أقاموا قدوةً صالحةً
ومضَوا أمثلةً للمُحتذِينْ
إنما الأسوةُ والدنيا أُسًى
سببُ العُمرانِ نَظمُ العالَمينْ٢١
يا صريعَ الموتِ ندمانَ البِلى
كلُّ حيٍّ بالذي ذُقتَ رهينْ٢٢
كِدتَ من قتلِ المنايا خبرةً
تعلَمُ الآجالَ أيَّانَ تحينْ٢٣
يا مُبيدَ الأُسْدِ في آجامها
هل أبادت خَيلُكَ الدودَ المهينْ
يا عزيز السجن بالبابا إلى
كم تردَّى في الثرى ذُلَّ السجينْ٢٤
رُبَّ يومٍ لكَ جَلَّى وانثنى
سائلَ الغُرَّةِ ممسوحَ الجبينْ٢٥
أحرَزَ الغايةَ نصرًا غاليًا
لفرنسا وحوى الفتحَ الثمينْ
قيصرَا الأنسابِ فيه نازَلا
قيصرَ النفسِ عصامَ المالكينْ٢٦
مُجلِسَ التاجِ على مَفرِقِهِ
بيدَيه لا بأيدي المُجلِسينْ٢٧
حوْلَ «أُسترلتزَ» كان المُنتقى
واصطدامُ النَّسرِ بالمُستنسِرينْ٢٨
وُضِع الشِّطرَنجُ فاستقبلتَهُ
ببنانٍ عابثٍ باللاعبينْ
فإذا المَلْكانِ هذا خاضعٌ
لك في الجمع وهذا مُستكينْ٢٩
صِدتَ شاهَ الرُّوسِ والنمسا معًا
مَن رأى شاهَينِ صِيدا في كمينْ
•••
يا مُلقَّى النصرِ في أحلامه
أين من وادي الكرى «سنتِ هلينْ»٣٠
يا مُنيلَ التاجِ في المهدِ ابنَهُ
ما الذي غرَّك بالغيبِ الجنينْ٣١
اتَّئِدْ في أُمَّةٍ أرهَقتَها
إنها كالناسِ من ماءٍ وطينْ
أتعبَ الريحَ مَدى ما سلكَت
من سُهولٍ وأجازت من حُزونْ٣٢
من أديمٍ يَهرأُ الدبَّ إلى
فلواتٍ تُنضِجُ الضَّبَّ الكنينْ٣٣
لك في كلِّ مُغارٍ غارُهُ
وعليها الدمعُ فيه والأنينْ٣٤
ومن المكرِ تَغنِّيك بها
هل يُزكِّي الذِّبحَ غيرُ الذابحينْ٣٥
سُخِّرَ الناسُ وإن لم يشعروا
لقوِيٍّ أو غنيٍّ أو مُبينْ
والجماعاتُ ثنايا المُرتقى
في المعالي وجُسورُ العابرينْ
•••
يا خطيبَ الدهرِ هل مالَ البِلى
بلسانٍ كان ميزانَ الشئونْ
تُرجَحُ السلمُ إذا حرَّكتَهُ
كِفَّةً أو تُرجَحُ الحربُ الزَّبونْ
خُطَبٌ لا صوتَ إلا دونَها
في صداها الخيلُ تجري والسنينْ
من قصيرِ اللفظِ في مكرِ النُّهى
وطويلِ الرُّمح في كيدِ الوتينْ
غيرَ وضَّاعٍ ولا واشٍ ولا
مُنكَرِ القولِ ولا لغوِ اليمينْ
سِرنَ أمثالًا فلو لم يُحيِهِ
سيفُه أحيَينَه في الغابرينْ٣٦
•••
قُمْ إلى الأهرام واخشعْ واطَّرِحْ
خيلةَ الصِّيدِ وزهوَ الفاتحينْ٣٧
وتمهَّلْ إنما تمشي إلى
حَرَمِ الدهرِ ومِحرابِ القرونْ
هو كالصخرةِ عندَ القبط أو
كالحطيمِ الطُّهْرِ عندَ المسلمينْ
وتسنَّمْ مِنبرًا من حَجَرٍ
لم يكن قبلَكَ حظَّ الخاطبينْ
وادْعُ أجيالًا تولَّت يسمعوا
لك وابعثْ في الأوالي حاشرينْ
وأعِدْها كلماتٍ أربعًا
قد أحاطت بالقرونِ الأربعينْ٣٨
ألهبَت خيلًا وحضَّت فَيلقًا
وأحالت عسلًا صابَ المَنونْ
قد عرَضتَ الدهرَ والجيشَ معًا
غايةٌ قصَّرَ عنها الفاتحونْ
ما علِمْنا قائدًا في مَوطنٍ
صَفَحَ الدَّهرَ وصفَّ الدارعينْ٣٩
فترى الأحياءَ في مُعترَكٍ
وترى الموتى عليهم مُشرِفينْ
عظةٌ قَومي بها أَولى وإنْ
بعُدَ العهدُ فهل يعتبرونْ
هذه الأهرامُ تاريخُهمُ
كيف من تاريخهم لا يستحونْ
•••
يا كثيرَ الصَّيدِ للصِّيدِ العُلا
قُمْ تأمَّلْ كيف صادَتك المَنونْ
قُمْ تَرَ الدنيا كما غادَرتَها
منزلَ الغدر وماءَ الخادعينْ
وترَ الحقَّ عزيزًا في القنا
هيِّنًا في العُزَّلِ المُستضعَفينْ٤٠
وترَ الأمرَ يدًا فوقَ يدٍ
وترَ الناسَ ذئابًا وضِئينْ٤١
وترَ العزَّ لسيفٍ نَزِقٍ
في بِناء المُلكِ أو رأيٍ رزينْ
سننٌ كانت ونَظمٌ لم يزَلْ
وفسادٌ فوقَ باعِ المُصلِحينْ
١
التِّرب: اللِّدة والنظير، والتثنية هنا في معنى الإفراد.
٢
تباريح الشوق: توهُّجه، على أنه جمع لا مفرد له، أو هو جمع
تبريح.
٣
الحرز: الموضع الحصين.
٤
الشرى: مأسدة بجانب الفرات يُضرَب بها المثل. والوكون: جمع وكن،
وهو عشُّ الطائر في جبل أو جدار.
٥
الصارم: السيف القاطع. والقيون: جمع قين، وهو صانع الحديد.
والشرى والوكون والغمد كلها في هذين البيتين كنايات عن
باريس.
٦
حائط الشك: كناية عن القبر. وأُسُّ اليقين: هو الموت الذي يتمثل
فيما ضم القبر من رفات.
٧
يشير إلى تلك الأعلام التي غنمها نابليون في حروبه، ثم وُضِعَت
على قبره رمزًا لما نال في هذه الحروب من نصر وتوفيق.
٨
العدو الكاشح: هو الباطن العداوة. والخدين: هو الصاحب
والحبيب.
٩
الوزين: حَبُّ الحنظل المطحون.
١٠
الظَّنِين: المتَّهَم.
١١
المرمر المسنون: المصقول. وحجر الأرض: كناية عن محورها، والمراد
به نابليون. والضرغام: الأسد.
١٢
الثاوي: المقيم.
١٣
الغالون: جمع غالٍ، وهو المسرف.
١٤
يمحي: أي يزول. والرمس: القبر. والقطين: السُّكان.
١٥
السُّها: كوكب من بنات نعش الصغرى، يُضرَب به المثل في السمو
والارتفاع.
١٦
غفلًا: أي مجهولًا.
١٧
الفضلة: البقية من كل شيء. والمعرق: العريق الأصل.
١٨
أكرمت: أي ولدت كرامًا.
١٩
يشير إلى زواجه من ماري لويز ابنة إمبراطور النمسا.
٢٠
أفول النجم: غروبه، والمراد به هنا الموت.
٢١
الأسوة: القدوة، وجمعها أُسًى.
٢٢
الندمان: النديم على الشراب، وندمان البلى: كناية عن
الميت.
٢٣
يشير إلى قول نابليون: «إن الرصاصة التي تخرق هذا الصدر لم
تُخلَق بعد.» يقول: إنك لكثرة ما اختبرت المنايا بقتل أعدائك أصبحت
تعرف متى تحين الآجال.
٢٤
يشير إلى ما فعل نابليون بالبابا.
٢٥
جلى: سبق. والغرة في جبين الفرس: بياض. ومسح الجبين: عادة
لسوَّاس الخيل يأتونها بعد سبق جيادهم في حلبة الرهان. ولا يخفى ما
في البيت كله من مراعاة النظير.
٢٦
يريد بقيصرَيِ الأنساب: ملكَي الروسيا والنمسا، وقد وُلدا للملك
والسلطان. وقيصر النفس: نابليون، وهو الذي سوَّد نفسه ولم تسوِّده
الأنساب.
٢٧
الإشارة إلى نابليون، يشير إلى أنه هو الذي توَّج نفسه بيده يوم
قُدِّم إليه التاج، ولم يرَ لأحد ممَّن قدَّموه له حقًّا في هذا
العمل.
٢٨
أسترلتز: موقعة من المواقع التي انتصر فيها نابليون.
٢٩
الملك: بتسكين اللام، هو المَلِك.
٣٠
سانت هيلين: الجزيرة التي نُفي إليها نابليون.
٣١
يشير إلى قول نابليون يوم بُشِّر بولي عهده، أو كما سمَّاه «ملك
روما»: المستقبل لي.
٣٢
الحزون: جمع حزن، وهو ما غلُظ من الأرض.
٣٣
الأديم هنا: سطح الأرض. وهرأ اللحم: أنضجه. والكنين: المستور في
جحره.
٣٤
المغار: الغارة على الأعداء. والغار: ورق الكروم، وقد كان
يُتَّخذ منه إكليل للفاتح المنصور عند القدماء.
٣٥
التزكية: المدح. والذبح: ما يُذبَح.
٣٦
الغابر: الماضي والآتي، من أسماء الأضداد.
٣٧
الصيد: الملوك.
٣٨
يشير إلى تلك الجملة المشهورة التي قالها وهو على قمة الهرم
يشجِّع جنوده البواسل: «أيها الجنود، إن أربعين قرنًا تنظر إليكم
من قمة الأهرام.»
٣٩
صفح الكتاب: قلَّب صفحاته.
٤٠
القنا: جمع قناة، وهي الرمح.
٤١
الضِّئين: الغنم.