اعتداء١
نجا وتَماثَلَ رُبَّانُها
ودقَّ البشائرَ رُكبانُها٢
وهلَّلَ في الجوِّ قيدومُها
وكبَّرَ في الماءِ سُكَّانُها٣
تحوَّلَ عنها الأذى وانثنى
عُبابُ الخطوبِ وطوفانُها
نجا «نوحُها» من يدِ المُعتدي
وضلَّ المَقاتلَ عُدوانُها٤
يدٌ للعنايةِ لا ينقضي
وإن نفد العُمْرُ شُكرانُها
وقى الأرضَ شرَّ مقاديرِهِ
لطيفُ السماءِ ورَحمانُها٥
ونجَّى الكنانةَ من فتنةٍ
تهدَّدَتِ النِّيلَ نيرانُها٦
يسيلُ على قرنِ شيطانِها
عقيقُ الدماءِ وعِقْيانُها٧
فيا «سعدُ» جُرحُك ساءَ الرجالَ
فلا جُرِحَت فيك أوطانُها
وقَتكَ العنايةُ بالرَّاحتَينِ
وطوَّقَ جِيدَك إحسانُها٨
منايا أبَى اللهُ إذ ساوَرَتكَ
فلم يُلقِ نابَيهِ ثُعبانُها٩
حوَت دمَكَ الأرضُ في أنفِها
زكيًّا كأنك «عثمانُها»١٠
ورقَّت لآثاره في القميصِ
كأن قميصَك قرآنُها
ورِيعَت كما رِيعَت الأرضُ فيكَ
نواحي السماءِ وأعنانُها١١
ولو زُلْتَ غُيَّبَ «عمرُو» الأمورِ
وأخلى المنابرَ «سَحبانُها»١٢
•••
رماكَ على غِرَّةٍ يافِعٌ
مُثارُ السريرةِ غضبانُها١٣
وقِدْمًا أحاطت بأهلِ الأمورِ
ميولُ النفوسِ وأضغانُها١٤
تلمَّسَ نفسَك بينَ الصفوفِ
ومن دونِ نفسِكَ إيمانُها١٥
يريدُ الأمورَ كما شاءَها
وتأبى الأمورُ وسلطانُها
وعندَ الذي قهرَ القيصرَينِ
مصيرُ الأمور وأحيانُها١٦
ولو لم يُسابِقْ دروسَ الحياةِ
لبصَّرَه الرُّشدَ لقمانُها١٧
فإن الليالي عليها يَحُولُ
شعورُ النفوسِ ووجدانُها١٨
ويختلف الدهرُ حتى يَبينَ
رُعاةُ العهودِ وخُوَّانُها١٩
•••
أرى مصرَ يلهو بحدِّ السلاحِ
ويلعبُ بالنارِ وِلدانُها٢٠
وراحَ بغيرِ مجالِ العقولِ
يُجيلُ السياسةَ غِلمانُها
وما القتلُ تحيا عليه البلادُ
ولا همةُ القولِ عُمرانُها
ولا الحُكمُ أن تنقضي دولةٌ
وتُقبِلَ أخرى وأعوانُها
ولكن على الجيشِ تقوى البلادُ
وبالعلمِ تشتدُّ أركانُها
فأين النبوغُ وأين العلومُ
وأين الفنونُ وإتقانُها
وأين من الخُلْقِ حظُّ البلادِ
إذا قتلَ الشيبَ شبانُها٢١
وأين من الرِّبحِ قسطُ الرجالِ
إذا كان في الخُلْقِ خسرانُها
وأين المُعلِّمُ ما خُطبُهُ
وأين المدارسُ ما شأنُها
لقد عبثَت بالنِّياق الحُداةُ
ونامَ عن الإبْلِ رُعيانُها٢٢
إلى الخُلْقِ أنظرُ فيما أقولُ
وتأخذُ نفسيَ أشجانُها
•••
ويا «سعدُ» أنت أمينُ البلادِ
قد امتلأتْ منك أيمانُها٢٣
ولن ترتضي أن تُقَدَّ القناةُ
ويُبتَرَ من مصرَ سوادنُها٢٤
وحُجَّتُنا فيهما كالصباحِ
وليس بمُعيِيك تِبيانُها٢٥
فمصرُ الرياضُ وسوادنُها
عيونُ الرياضِ وخلجانُها٢٦
وما هو ماءٌ ولكنَّهُ
وريدُ الحياةِ وشريانُها٢٧
تُتمِّمُ مصرَ ينابيعُهُ
كما تمَّمَ العينَ إنسانُها٢٨
وأهْلُوه منذ جرى عذْبُهُ
عشيرةُ مصرَ وجيرانُها
وأما الشريكُ فعِلَّاتُهُ
هي الشَّرِكاتُ وأقطانُها
وحربٌ مضَت نحن أوزارُها
وخيلٌ خلَت نحن فرسانُها٢٩
وكم مَن أتاكَ بمجموعةٍ
من الباطلِ الحقُّ عنوانُها
فأين من «المَنشِ» بحرُ الغزالِ
وفيضُ «نيانزا» وتهتانُها٣٠
وأين التماسيحُ من لُجَّةٍ
يموتُ من البردِ حيتانُها٣١
ولكنْ رءوسٌ لأموالهم
يُحرِّك قَرنَيه شيطانُها
ودعوى القويِّ كدعوى السباعِ
من النابِ والظُّفْرِ بُرهانُها
١
اعتزم سعد زغلول السفر إلى إنجلترا للمفاوضة مع حكومتها، وكان على رأس
الوزارة المصرية يومئذٍ، فترصَّد له شابٌّ وأطلق عليه النار، ولكن الله أنجى
حياته، ووقى البلادَ شرَّ فتنة كادت تعصف بين الأحزاب، فنظم صاحب الديوان هذه
القصيدة تهنئةً له، ونصيحةً لأهل النزق والطيش من الشبان، وحضًّا على الإصلاح
العملي، وتذكيرًا بمنزلة السودان وقناة السويس، اللذَين هما من مصر بمنزلة
الرُّوح من الجسد.
٢
تماثل العليل: أقبل وقارب البُرء. والرُّبَّان: مُجري
السفينة.
٣
هلل: قال لا إله إلا الله. وقيدومها: صدرها. وسكانها، بضم السين:
ذنَبها.
٤
المقاتل: جمع مقتل، وهو العضو الذي إذا أُصيبَ لا يكاد صاحبه
يسلَم.
٥
المقادير: جمع مقدور، وهو الأمر المحتوم. والضمير للَطيفِ السماء
وهو الله تعالى.
٦
الكنانة: مصر.
٧
العقيان: الذهب؛ أي الدماء التي تُشبِه في حمرتها العقيق
والعقيان.
٨
الراحتان: تثنية راحة، وهي الكف. والجيد: العنق.
٩
المنايا: جمع منيَّة، وهي الموت. وساورتك: وثبت عليك.
١٠
عثمانها: يريد الخليفة عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء الراشدين،
قُتِل وهو جالس يتلو القرآن وفي حجره المصحف.
١١
ريعت: فزِّعت، بتشديد الزاي. وأعنان السماء: نواحيها.
١٢
عمرو الأمور: أي مُصرِّف الأمور بحذقه وفطنته، وهو عمرو بن العاص
وسحبان: خطيبٌ عربيٌّ مشهور من بني وائل.
١٣
اليافع: مَن راهق العشرين، أو مَن ترعرع وناهز البلوغ. والسريرة:
ما يُسرُّه الإنسان من أمره.
١٤
الأضغان. الأحقاد.
١٥
تلمس نفسك: تطلَّبها مرة بعد أخرى.
١٦
مصير الأمور: مرجعها. وأحيانها: جمع حين، وقالوا إنه وقتٌ مبهم
يصلح لجميع الأزمان، طالت أو قصرت. والقيصران: ملك الروم وملك
الفُرس حين الفتح الإسلامي، والله تعالى هو الذي قهرهما.
١٧
لقمانها: أي مَن هو كلقمان، وهو يُضرَب به المثل.
١٨
عليها يحول: أي يتحوَّل ويتبدَّل. والمراد أن ما يكون للنفوس من
ميول ووجدان يتغير بمضي الزمن.
١٩
رعاة العهود: الحافظون لها، جمع راعٍ. وخوانها: جمع خائن.
٢٠
الولدان: الصِّبيان، جمع وليد.
٢١
الخلق: المروءة والدِّين والسجيَّة، ويغلب الآن على السجية
الفاضلة. والمعنى أنه إذا كان شبان البلاد يقتلون شيبها، فلا حظَّ
لها من الخلق النافع.
٢٢
الحُداة: جمع حادٍ، وهو مَن يغنِّي للإبل لتنشط في سيرها.
٢٣
أيمانها: جمع يمين، وهي إحدى يدَي الإنسان، والمراد أنها
تأكَّدَت فيما بلغ إليه حُسن ظنها أنك أمين عليها، كما يتأكَّد
الإنسان مما يكون في يده.
٢٤
القدُّ والبتر، هنا: بمعنى الضياع.
٢٥
وليس بمعييك: أي بمعجزك.
٢٦
الرياض: أي كالرياض في نضرتها وجمالها. والسودان: كالعيون
والخلجان التي تستقي منها ماءها، فكما تجفُّ الرياض وتقفر إذا
انقطعت عنها العيون والخلجان، كذلك تقفر مصر وتبور إذا فُصِل عنها
السودان.
٢٧
الوريد: عِرق في العنق من الأوردة التي ترتبط بها الحياة.
والشريان: العرق الذي يحمل الدمَ من القلب.
٢٨
الينابيع: عيون الماء، واحدها ينبوع. وإنسان العين: الدائرة التي
تُرى في سوادها.
٢٩
أوزارها: أسلحتها، جمع وزر، وهو السلاح.
٣٠
المنش: بحر في الشمال الغربي لأوروبا، بين إنجلترا شمالًا وفرنسا
جنوبًا. وبحر الغزال: أحد فروع النيل الأبيض في السودان. ونيانزا:
إحدى البحيرات الثلاث التي يخرج منها النيل.
٣١
وأين التماسيح … إلخ: أي إن مسافة التقاطع وعدم الاتصال بعيدةٌ
جدًّا بين السودان وبلاد الإنجليز بقدرِ التناقض بين طبيعتهما؛
فهذا تعيش التماسيح في مائه، وتلك تموت الحيتان في مائها.