تحية المؤتمر الجغرافي
هل تهبطُ النَّيِّراتُ الأرضَ أحيانَا
وهل تَصوَّرُ أفرادًا وأعيانَا١
نزَلنَ أولَ دارٍ في الثرى رفَعَت
للشمس مُلكًا وللأقمارِ سلطانا٢
تفنَّنَت قبل خلق الفن وانفجرَت
علمًا على العُصُرِ الخالي وعِرفانا٣
أُبوَّةٌ لو سكَتْنا عن مَفاخرِهم
تواضعًا نطقَت صخرًا وصَوَّانا٤
هم قلَّبوا كُرةَ الدنيا فما وجدَت
أقوى على صَولجانِ المُلكِ أيمانا٥
وصيَّروا الدهرَ هُزءًا يسخرون به
حتى ينالَ لهم بالهدمِ بُنيانا٦
لم يَسلُكِ الأرضَ قومٌ قبلهم سُبُلًا
ولا الزواخرَ أثباجًا وشُطْآنا٧
تقدَّمَ الناسَ منهم مُحسِنون مضَوا
للموتِ تحتَ لواءِ العلمِ شُجعانا
جابُوا العُبابَ على عُودٍ وساريةٍ
وأوغلوا في الفَلا كالأُسْدِ وُحْدانا٨
أزمانَ لا البَرُّ ﺑ «الوابور» مُنتهَبًا
ولا «البُخارُ» لِبنتِ الماءِ رُبَّانا٩
هل شيَّعَ النشءُ رَكْبَ العلمِ واكتنَفوا
للعبقرية أحمالًا وأظعانا١٠
وسايَروا الموكبَ المرموقَ مُتَّشِحًا
عِزَّ الحضارةِ أعلامًا وركبانا١١
يسيرُ تحتَ لواءِ العلمِ مُؤتلِفًا
ولن ترى كجنودِ العلمِ إخوانا
العلمُ يجمعُ في جنسٍ وفي وطنٍ
شتَّى القبائلِ أجناسًا وأوطانا١٢
ولم يزِدْكَ كرَسمِ الأرضِ معرفةً
بالأرض دارًا وبالأحياءِ جيرانا١٣
علمٌ أبانَ عن الغبراءِ فانكشفَت
زَرعًا وضرعًا وإقليمًا وسُكانا١٤
وقسَّمَ الأرض آكامًا وأوديةً
وفصَّلَ البحرَ أصدافًا ومرجانا١٥
وبيَّنَ الناسَ عاداتٍ وأمزجةً
وميَّزَ الناسَ أجناسًا وأديانا
وفْدَ الممالكِ هزَّ النِّيلُ مَنكبَهُ
لمَّا نزلتم على واديه ضِيفانا١٦
غدا على الثغرِ غادٍ من مَواكبِكم
فراحَ مُبتسِمَ الأرجاءِ جَذلانا١٧
جرَت سفينتُكم فيه فقلَّبها
على الكرامةِ قَيدومًا وسُكانا١٨
يلقاكمُ بسماءِ البحرِ ضاحيةً
وتارةً بفضاءِ البَرِّ مُزْدانا١٩
ولو نزلتم به والدهرُ مُعتدِلٌ
نزلتمُ بعَروسِ المُلكِ عُمرانا٢٠
إذ «الفَنارُ» وراءَ البحرِ مُؤتلِقٌ
كأنَّه فلقٌ من خِدرِه بانا٢١
أنافَ خلفَ سماءِ الليل مُتَّقِدًا
يُخالُ في شُرفاتِ الجوِّ «كِيوانا»٢٢
تَطوي الجواري إليه اليمَّ مُقبِلةً
تجري بوارجَ أو تنساب خُلجانا٢٣
نورُ الحضارة لا تبغي الركابُ له
لا بالنهار ولا بالليل بُرهانا
يا موكبَ العلمِ قِف في أرض مَنفَ به
يُناجِ مَهدًا ويذكُرْ للصِّبا شانا٢٤
بكى تمائمَهُ طفلًا بها وبكى
مَلاعبًا من رُبا الوادي وأحضانا٢٥
أرضٌ ترعرعُ لم يصحَبْ بساحتها
إلَّا نبيِّين قد طابوا وكُهَّانا
عيسى ابنُ مريم فيها جرَّ بُردتَهُ
وجرَّ فيها العصا موسى بنُ عِمرانا
لولا الحياءُ لناجَتكم بحاجتِها
لعل منكم على الأيام أعوانا
إذا تفرَّقتُمُ في الغربِ ألسنةً
ليَّنتُمُ كلَّ قلبٍ لم يكن لانا
١
النيِّرات: الكواكب، واحدها نيِّر، بالياء المشدَّدة. وتصوَّر:
تتصوَّر. والأعيان: جمع عين، وهو شريف القوم. يقول: إن هؤلاء
العلماء الذين أقبلوا من البلاد الأخرى ليحضروا المؤتمر في مصر هم
الكواكب المُنيرة، ولكنهم مع ذلك أفراد من الناس، وأعيانٌ شرفاء في
أقوامهم، فهل الكواكب تهبط الأرض وتكون كذلك؟
٢
نزلن: أي هذه النيرات. وأول دار … إلخ: هي مصر، وذلك كناية عن
أنها سبقت العالم إلى العلم والمدنية، حتى رسخت قدمها
فيهما.
٣
تفننت: تنوعت فنونها، أو أخذت في فنونٍ كثيرة. والعُصُر
(بضمتَين): الدهر. والخالي: الماضي.
٤
أبوَّة: جمع أب؛ أي لنا أبوَّة أو أولئك أبوَّة. والمفاخر: جمع
مفخرة، بفتح الخاء وضمها، وهي المأثرة أو ما يُفتخر به. والصوَّان:
نوع من الحجارة.
٥
الصولجان: عصًا منعطفة الرأس، والأيمان: جمع يمين، وهي اليد. أي
ما وجد أيمانًا أقوى على صولجان الملك من أيمانهم.
٦
حتى ينال لهم بالهدم بنيانًا: أي وهو لا ينال ذلك، فهم يسخرون به
أبدًا.
٧
لم يسلك الأرض … إلخ: وذلك أن المصريين القدماء هم أوَّل من طافَ
الأرض برًّا وبحرًا. والسبل: جمع سبيل. والزواخر: البحار، مفردها
زاخر. والأثباج: جمع ثبج، وهو معظم البحر. والشطآن: جمع شط، وهو
الشاطئ.
٨
جابوا: طافوا. والعباب: أكثر السيل، والمراد البحر. والعود:
الخشب، والمراد به السفينة. والسارية: عمود يُنصب في وسط السفينة
ليُعلَّق القلع به. والفلا: جمع فلاة، وهي الصحراء الواسعة، وقيل
المفازة لا ماء فيها. والوحدان: جمع واحد.
٩
أزمان: أي فعلوا ذلك من أزمان لم يكن بها الوابور ينهب البر، ولا
البخار يُجري السفن. والربان: مَن يُجري السفينة. وجَوبُ الأرض على
هذه الحال يستدعي عزائم قوية، ويؤدي إلى مخاطر عظيمة.
١٠
هل شيع النشء … إلخ: أي هل خرجوا مع ركب العلم يودعونهم. والنشء:
جمع ناشئ، وهو الغلام جاوز حدَّ الصِّغر. وركب العلم: هم العلماء
الذين جاءوا فحضروا المؤتمر ثم رجعوا إلى بلادهم. واكتنفوا أحمالًا
وأظعانا: أحاطوا بها. والعبقرية: أصلها نسبة إلى عبقر، وهو موضع
كانت العرب تزعم أنه كثير الجن، وقد جعله المعاصرون اسمًا وأرادوا
به التناهي في حذق الشيء وإتقانه. والأحمال: الهوادج، واحدها حمل،
بكسر الحاء وفتحها. والأظعان: الهوادج أيضًا.
١١
المرموق: الذي يُنظَر إليه طويلًا. ومتشحًا: لابسًا.
١٢
شتى القبائل: أي القبائل المتفرِّقة.
١٣
كرسم الأرض: يريد العلم الذي يُعرَف به رسم الأرض، وهو علم
الجغرافيا.
١٤
أبان عن الغبراء: أوضحها، والغبراء: الأرض.
١٥
الآكام: التلال، وقيل ما اجتمع من الحجارة في مكانٍ واحد.
والأودية: جمع وادٍ، وهو المُنفرَج بين جبلَين أو تلَّين.
والأصداف: جمع صدف، وهو غشاء الدُّر. والمرجان: عروقٌ حُمْر تطلع
من البحر.
١٦
المنكب: هو من الحيوان مجتمع رأس الكتف والعضد، ومن غير الحيوان
ناحية كل شيء وجانبه، والمراد المعنى الأول، كناية عن نهوضه
لإكرامهم.
١٧
غدا: أقبل. والثَّغر: هو ثغر الإسكندرية. والمواكب: جمع موكب،
وهو الجماعة ركبانًا أو مشاة. والأرجاء: النواحي. والجذلان:
الفرحان.
١٨
الكرامة: العزازة. والقيدوم: الصدر. والسكان (بالضم): ذنَب
السفينة.
١٩
ضاحية: بارزة منكشفة؛ وهو كناية عن صفائها.
٢٠
ولو نزلتم به: أي بالثغر. ومعتدل: مستقيم؛ أي ليس منحرفًا ولا
معوجًّا عن إنصافنا.
٢١
إذ الفنار: أي إذ يكون الفنار … إلخ. والفنار: هو منارة السفن،
تُقامُ عالية في الميناء ليهتدي الربابنة في الليل بنورها. ومؤتلق:
لامع. والفلق: الصبح أو ما انفلق من عموده. والخدر: السِّتر، وقيل
هو كل ما واراك من بيت ونحوه.
٢٢
أناف: طال وارتفع. وشرفات: واحدتها شرفة، وهي ما أشرف من بناء
القصر. وكيوان: اسمٌ فارسي لكوكب زحل.
٢٣
الجواري: السفن، جمع جارية. واليمُّ: البحر. والبوارج: جمع
بارجة، وهي سفينةٌ كبيرة للقتال. وتنساب: تجري وتتدافع. والخلجان:
جمع خليج، وهو شرم من البحر.
٢٤
أرض منف: هي الأرض المصرية، ومنف: مدينةٌ مصريةٌ قديمة، بناها
الملك «مينا» مؤسس الأسرة الأولى الفرعونية وجعلها مقرَّ ملكه،
وبقيت مقرًّا للملك حتى زالت الأسرة الثامنة. ويناجِ: من ناجاه؛
سارَّه. والمهد: الموضع يُهيأ للصبي ويوطأ. يقول: قف بالعلم في
الأرض التي نشأ فيها؛ ليناجي مهده الأول، ويذكر عهد صباه.
٢٥
بكى: أي العلم. وتمائمه: جمع تميمة، وهي العوذة التي تُعلَّق
للأطفال مخافةَ العين. والملاعب: جمع ملعب، وهو مكان اللعب.
والرُّبا: جمع ربوة، وهي ما ارتفع من الأرض.