سليمان باشا أباظه١
من ظنَّ بعدَكَ أن يقولَ رِثاءَ
فلْيَرثِ من هذا الورى من شاءَ
فجعَ المَكارمَ فاجعٌ في ربِّها
والمجدَ في بانيه والعلياءَ
ونعَى النعاةُ إلى المروءة كنزَها
وإلى الفضائل نجمَها الوضَّاءَ
أأبا محمدٍ اتَّئِدْ في ذا النَّوى
وارفُقْ بآلِك وارحمِ الأبناءَ
واستبقِ عزَّهمُ ﺑ «طهراءَ» التي
كانوا النجومَ بها وكنتَ سماءَ٢
أدْجَى بها ليلُ الخطوبِ وطالما
مُلِئتْ منازلُها سَنًا وسناءَ٣
وإِذا سليمان استقلَّ محلَّةً
كانت بِساطًا للندى ورجاءَ٤
فانظر من الأعوادِ حولك هل ترى
من بعدِ طبِّك للعُفاةِ دواءَ٥
سارت جنازةُ كلِّ فضلٍ في الورى
لمَّا ركبتَ الآلة الحَدباءَ٦
وتيتَّمَ الأيتامُ أوَّلَ مرةٍ
ورمى الزمانُ بِصَرفِه الفقراءَ٧
ولقد عهِدتُكَ لا تُضيِّع راجيًا
واليومَ ضاعَ الكلُّ فيك رجاءَ
وعلِمتُ أنك من يودُّ ومن يفي
فقِفِ الغداةَ لو استطعتَ وفاءَ
وذكرتُ سعيَكَ لي مريضًا فانيًا
فجعلتُ سعييَ بالرثاء جزاءَ
والمرءُ يُذكَر بالجمائل بعده
فارفع لذِكرِكَ بالجميل بِناءَ٨
واعلم بأنك سوف تُذكَر مرةً
فيقالُ أحسنَ أو يقالُ أساءَ
أبَنِيه كُونوا للعِدا من بعده
كيدًا وكُونوا للوليِّ عزاءَ
وتجلَّدوا للخَطبِ مِثلَ ثَباته
أيامَ كان يُدافِعُ الأرزاءَ
واللهِ ما مات الوزيرُ وكنتمُ
فوقَ الترابِ أعِزَّةً أحياءَ
١
سليمان باشا أباظه: أحد سُراة مصر الكبار، وكان في حياته كبير الأسرة
الأباظية الشهيرة، وقد أُسندَت إليه وزارة المعارف العمومية سنة ١٨٨٢م، وتوفي
سنة ١٩٠١م.
٢
طهراء: علَمٌ على بلد الفقيد، وهي من أعمال إقليم الشرقية
بمصر.
٣
تدجى الليل وأدجى: كلاهما بمعنى أظلم. والسنا (بالقصر): الضوء.
والسناء (بالمد): الرفعة.
٤
المحلة: في الأصل هي الناحية التي ينزل بها القوم، ولا تقلُّ عن
مائة بيت. والمراد هنا بقوله «استقلَّ محلة»: أي إنه كان عميدها
المنفرد بزعامتها وبالعمل لرفعتها.
٥
الأعواد: جمع عود، يُطلَق على المنبر وعلى السرير للحي أو الميت.
كان رجل من العرب يُلقَّب «ذا الأعواد»؛ لأنه كان يُحمَل دائمًا في
سرير، والشعراء العظماء يستعملون الأعواد للموتى، وقلَّما يستعملون
النعش؛ تعظيمًا للموت وتكريمًا للميت، قال الشريف الرضي: أرأيت من
حُمِلوا على الأعواد … إلخ. والعُفاة: جمع عافٍ، وهو كل طالب فضل
أو رزق.
٦
الجنازة: بكسر الجيم وفتحها، وقيل بالكسر هي الميت، وبالفتح هي
النعش، وقيل بالعكس، وأرجح تعريف يتناسب مع مألوف عصرنا هو إطلاقها
بالكسر على سرير الميت والمشيعين له. والآلة الحدباء: كناية عن
النعش، وشكله أحدب كما هو معروف.
٧
صرف الزمان: نوائبه وحدثانه.
٨
جمائل: جمع جميلة. والمقصود أن المرء يُذكَر بصنيعته الجميلة، أو
بمأثرته الجميلة، فحذف الموصوف، ثم جمع الصفة واستعملها. أقول:
وهذه صنعةٌ قُصد بها التجميل الفني في الكلام بذِكرِ الجمائل
والجميل في البيت.