مصطفى باشا فهمي١
يا أيها الناعي أبا الوزراءِ
هذا أوانُ جلائلِ الأنباءِ
حُثَّ البريدَ مَشارقًا ومَغاربًا
واركبْ جَناحَ البرقِ في الأرجاءِ٢
واستبكِ هذا الناسَ دمعًا أو دمًا
فاليومُ يومُ مَدامعٍ ودماء
لم تنعَ للأحياءِ غيرَ ذخيرةٍ
ولَّت وغيرَ بقيَّةِ الكُبراء
رُزْءُ البرِيةِ في الوزير زيادةٌ
فيما ألمَّ بها من الأرزاء
ذهبَت على أثرِ المشيَّع دولةٌ
برجالِها وكرائمِ الأشياء
نَدمانُ «إسماعيلَ» في آثاره
ذهبوا وتلك صبابةُ الندماءِ٣
وُلِدوا على راحِ العُلا وترعرعوا
في نعمةِ الأملاك والأُمراء
أوْدَى الرَّدى بمُهذَّبٍ لا تنتهي
إلا إليه شمائلُ الرؤساء
صافي الأديمِ أغرَّ أبلَجَ لم يزد
في الشَّيبِ غيرَ جلالةٍ ورُواءِ٤
مُتجنِّبِ الخُيلاءِ إِلا عزَّةً
في العزِّ حُسنٌ ليس في الخُيلاء
عفِّ السرائرِ والمَلاحظِ والخُطا
نَزِهِ الخلائقِ طاهرِ الأهواء٥
مُتدرِّعٍ صبْرَ الكرامِ على الأذى
إن الكرامَ مشاغلُ السفهاء
نقموا عليه رأيَه وصَنيعَهُ
والحكمُ للتاريخ في الآراء
والرأيُ إن أخلصتَ فيه سريرةً
مِثلُ العقيدةِ فوقَ كلِّ مِراء٦
وإذا الرجالُ على الأمور تَعاقبوا
كشفَ الزمانُ مواقفَ النُّظراء
يا أيُّها الشيخُ الكريمُ تحيةً
أنْدَى لقبرِكَ من زُلالِ الماء
هذا المصيرُ أكان طولَ سلامةٍ
أم لم يكن إِلا قليلَ بَقاء
ماذا انتفاعُك باللياليَ بعدما
مرَّت بك السبعونَ مرَّ عِشاءِ٧
أو بالحياةِ وقد مشى في صفوِها
عادي السنين وعاثَ عادي الداء
من لم يُطبِّبْه الشبابُ فَداؤه
حتى يغيِّبَه بغيرِ دواء
قسَماتُ وجهِك في الترابِ ذخائرٌ
من عفةٍ وتكرمٍ وحياء٨
ولكَم أغارَ على مُحيَّا ماجدٍ
وطوى محاسنَ مَسمحٍ مِعطاء٩
كم موقفٍ صعبٍ على من قامه
ذلَّلتَه ونهضتَ بالأعباء
كِبْرُ الغضنفرِ يومَ ذلك زاده
من نخوةٍ وحميةٍ وإباء١٠
من يَكذبِ التاريخَ يَكذبْ رَبَّه
ويُسيء للأمواتِ والأحياء
السِّلمُ لو لم تُودِ أمسِ بجُرحِها
أودَت بهذي الطعنةِ النَّجلاء١١
لو أُخِّرَت في العيشِ بعدَك ساعةً
لَبكَت عليك بمَدمعِ الخنساء١٢
انفض غبارَك عنك وانظر هل ترى
إلا غبارَ كتيبةٍ ولواء
يا ويحَ وجهِ الأرض أصبح مَأتمًا
بعدَ الفوارس من بني حوَّاء
من ذائدٍ عن حَوضه أو زائدٍ
في مُلكِه من صَولةٍ وثراء
أو مانعٍ جارًا يُناضلُ دونه
أو حافظٍ لعهودِه مِيفاء١٣
يتقاذفون بذاتِ هولٍ لم تهَب
حَرَمَ المسيحِ ولا حِمى العذراءِ١٤
من مُحدَثاتِ العِلمِ إلا أنها
إثمٌ عواقبُها على العلماء
لهفي على رُكنِ الشيوخ مُهدَّمًا
والحاملاتِ الثُّكلَ واليُتماءِ١٥
وعلى الشبابِ بكلِّ أرضٍ مَصرعٌ
لهمُ وهُلكٌ تحتَ كلِّ سماء
خرجوا إلى الأوطان من أرواحِهم
كرمٌ يليق بهم ومحضُ سخاء١٦
من كلِّ بانٍ بالمنيةِ في الصِّبا
لم يتَّخِذ عِرسًا سِوى الهيجاء١٧
المُرضِعاتُ سَكبنَ في وِجدانه
حُبَّ الديارِ وبِغضةَ الأعداء
وقرَرنَ في أُذُنَيهِ يومَ فِطامه
أن الدماءَ مُهورةُ العلياء
أأبا البناتِ رُزِقتَهنَّ كرائمًا
ورُزِقتَ في أصهارِك الكُرماءِ
لا تذهَبنَّ على الذكورِ بحسرة
الذِّكرُ نعمَ سُلالةُ العظماء
وأرى بُناةَ المجدِ يَثلمُ مجدَهم
ما خلَّفوا من طالحٍ وغُثاء١٨
إن البناتِ ذخائرٌ من رحمةٍ
وكنوزُ حبٍّ صادقٍ ووفاء
والساهراتُ لعلَّةٍ أو كَبرةٍ
والصابراتُ لشدةٍ وبلاء
والباكياتُكَ حينَ ينقطعُ البُكى
والزائِراتُكَ في العَراءِ النائي١٩
والذاكِراتُكَ ما حَيِينَ تحدُّثًا
بسَوالفِ الحُرماتِ والآلاء
بالأمس عزَّاهنَّ فيك عقائلٌ
واليومَ جامَلهنَّ فيك رِثائي
وأبيكَ ما الدنيا سِوى معروفِها
والبِرِّ كلُّ صَنيعةٍ بجزاءِ
أجَزِعنَ أن يجري عليهنَّ الذي
من قبلِهنَّ جرى على «الزهراء»٢٠
عذرًا لهن إذا ذهبنَ مع الأسى
وطلبنَ عندَ الدمعِ بعضَ عزاء
ما كلُّ ذي ولدٍ يُسمَّى والدًا
كم من أبٍ كالصخرةِ الصمَّاء
هَبْهنَّ في عقلِ الرجال وحلمِهم
أقلوبُهن سوى قلوبِ نِساء
١
مصطفى باشا فهمي: كان إلهامًا موفقًا لأمير الشعراء حين كنَّاه بأبي الوزراء؛
فهو والد الزعيمة صفية زغلول زوجة الزعيم الخالد سعد زغلول، وكان ياورًا للخديو
إسماعيل، ووزيرًا في عهد توفيق، فرئيسًا للوزراء، ثم استقال، ثم عاد للرئاسة
ولم يتركها إلا لمرضه قُبيل الحرب، وقد توفي أول سنة ١٩١٤م.
٢
البريد: كلمةٌ فارسية معناها القطع، كانوا يقطعون أذناب وأعراف
الخيل المستعملة لنقل رسائلهم؛ علامةً لها حتى لا يعوقها أحد في
الطريق، وأول اصطناع العرب لهذه الطريقة كان في زمن معاوية، وكانوا
يُسمُّون الخيل المستعملة في ذلك خيل البريد، ونحن نُطلِق كلمة
البريد على رسائل البوستة وغيرها كما هو معروف. والمقصود بقوله «حث
البريد» «واركب جناح البرق»: هو الأمر للناعي بإذاعة النعي في
الدنيا بأسرع وسائل الإذاعة، والغرض من ذلك هو إظهار ما للنعي من
قيمة وخطر وعلو شأن.
٣
النَّدمان (بفتح النون الأولى): جمع نديم، وهو الظريف الكيِّس،
أو المُجالِس على الشراب. وإسماعيل: هو سمو الخديو إسماعيل.
٤
الرواء في المرء: هو مظهر السيادة والعظمة.
٥
الملاحظ: جمع ملحظ: اسم مكان لما تقع عليه اللحاظ. يقول: إنه
عفيف القلب وعفيف الأعين، فلا يقع لحظه على الريب.
٦
المِراء: الجدل.
٧
يقصد سبعين عامًا، ولكنه في استعمال لفظ السبعين يجري مجرى العرب
الفصحاء في استعمال هذا اللفظ للدلالة على الكثرة فقط لا العدد
بعينه، وفي هذا الباب جاء القرآن الكريم «إن تستغفر لهم سبعين
مرة»، فليس المقصود عدد الاستغفار، ولكن يراد الدلالة على
كثرته.
٨
القسمات: ملامح وتقاسيم الوجه.
٩
مسمح (بفتح الميم): واسع السماحة، وفي القاموس المحيط: «يقال إن
فيه لمسمحًا كمسكن؛ أي متسعًا.» والمعطاء: كثير العطاء.
١٠
الغضنفر: اسم من أسماء الأسد.
١١
يشير إلى اتفاق موته مع نشوب الحرب العالمية، كأنه يقول: إن
اتفاق موت المرثي مع نشوب الحرب لم يكن إلا لأن المتوفى كان سلمًا
لقومه يُشبِه السلم العام للناس، فهو والسلم توءمان.
١٢
يقول في هذا البيت: إن السلم لو عاشت بعد الفقيد ساعة لبكت عليه
بدمع الخنساء، وهي شاعرة عاشت في صدر الإسلام اشتهرت بمراثيها في
أخيها صخر، وهذا البيت تأكيد لمعنى البيت قبله.
١٣
ميفاء: كثير الوفاء.
١٤
بذات هول: أي مقذوفات موصوفة بأنها ذات هول، وهذا من باب إقامة
الصفة مقام الموصوف.
١٥
الثكل: فقد الأبناء. واليتماء: من اليتم، وهو في الناس فقدُ
الأب، ويكون في غير الناس فقدُ الأم.
١٦
المحض: الخالص من كل شيء.
١٧
يقال: بنى على فلانة، إذا اتخذها زوجة. والعِرس بكسر العين:
الزوجة. يصف هذا الشباب السخي بروحه للأوطان بأنه يألف الحروب،
ويحبها كما يحبُّ غيره من الناس الزوجات والعرائس والعيشة
الوادعة.
١٨
الغثاء، بضم الغين: الفاسد.
١٩
العراء النائي: الخلاء البعيد، ويعني به هنا القبور.
٢٠
الزهراء: فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلوات الله عليه، والذي
جرى عليها هو موت أبيها سيد الخلق.