أبو هيف بك١
اجعل رِثاءك للرجالِ جزاءَ
وابعثه للوطنِ الحزين عزاءَ
إن الديارَ تُريقُ ماءَ شئونِها
كالأُمهاتِ وتندبُ الأبناءَ٢
ثُكْلُ الرجالِ من البنينَ وإنما
ثُكْلُ الممالكِ فقدُها العلماءَ
يجزَعنَ للعَلمِ الكبيرِ إذا هوى
جزعَ الكتائبِ قد فقدنَ لواءَ٣
عَلمُ الشريعةِ أدركَته شريعةٌ
للموتِ يَنظمُ حكمُها الأحياءَ٤
عانى قضاءَ الأرض عِلمَ مُحصِّلٍ
واليومَ عالجَ للسماءِ قضاءَ
ومضى وفيه من الشباب بقيَّةٌ
للنفعِ أرجى ما تكونُ بقاءَ
إن الشبابَ يُحَبُّ جمًّا حافلًا
وتُحَبُّ أيامُ الشبابِ مِلاءَ٥
بالأمس كانت لابن هيفٍ غضبةٌ
للحقِّ نَذكُرها يدًا بيضاءَ٦
مشَتِ البلادُ إلى رسالةِ «ملنرٍ»
وتحفَّزَت أرضًا لها وسماءَ٧
فلمحتُ أعرجَ في زوايا الحقِّ لم
أعلم عليه ذمةً عَرجاءَ٨
ارتدَّت العاهاتُ عن أخلاقِه
لسُموِّهنَّ وحلَّتِ الأَعضاءَ
عطفَته عطْفَ القوسِ يومَ رمايةٍ
وثَنَته كالماضي فزادَ مَضاءَ٩
لمَّا رأى «التقريرَ» ينفثُ سُمَّهُ
سبقَ الحُواةَ فأخرجَ الرَّقْطاءَ١٠
هتَكَ الحمايةَ والرجالَ وراءَها
يتلمَّسون لها السُّتورَ رياءَ
ما قبَّحوا بالصبح من أشباحها
راحوا إليك فحسَّنوه مَساءَ
يا قيِّمَ الدارِ التي قد أخرجَت
للمُدلِجين مَنارةً زهراءَ١١
وترى لديها الواردين فلا ترى
إلا ظِماءً ينزلون رواءَ١٢
وتُجالِسُ العلماءَ في حُجُراتِها
وتُسامِرُ الحكماءَ والشعراءَ
تَكفيكَ شيطانَ الفراغِ وتعتني
بالجاهلين تردُّهم عُقلاءَ
دارُ الذخائر كنتَ أكملَ كُتْبِها
مجموعةً وأتمَّها أجزاءَ
لمَّا خلَت من كنزِ علمِك أصبحَت
من كلِّ أعلاقِ الكنوزِ خلاءَ١٣
هزَّ الشبابُ إلى رثائك خاطري
فوجدتَ فِيَّ وفي الشبابِ وَفاءَ
«عبدَ الحميد» ألا أُسِرُّك حادثًا
يكسو عِظامَك في البِلى السَّراءَ١٤
قُم من صفوفِ الحقِّ تلقَ كتيبةً
ملمومةً وترَ الصفوفَ سواءَ
وترَ الكِنانةَ شِيبَها وشبابَها
دونَ «القضيَّةِ» عُرضةً وفِداءَ
جمَعَ السلامُ الصُّحْفَ مِن غاراتها
وتألَّفَ الأحزابَ والزُّعماءَ
في كلِّ وِجدانٍ وكلِّ سريرةٍ
خلَفَ الودادُ الحقدَ والبَغضاءَ
وغَدا إلى دينِ العشيرة ينتهي
مَن خالَفَ الأعمامَ والآباءَ
لا يُحجَبون على تجنِّيهم ولا
يجدون إلا الصفحَ والإغضاءَ
والأهلُ لا أهلًا بحَبلِ ولائهم
حتى تراهم بينهم رُحماءَ
كذَبَ المُرِيبُ يقول بعدَ غدٍ لنا
خُلْفٌ يُعِيدُ ويُبدئُ الشَّحناءَ
قلبي يُحدِّثُني وليس بخائني
إن العقولَ ستقهرُ الأهواءَ
يا «سعدُ» قد جرَت الأمورُ لغايةٍ
اللهُ هيَّأها لنا ما شاءَ١٥
سبحانه جمَعَ القلوبَ من الهوى
شتَّى وقوَّى حولَه الضُّعفاءَ
الفُلْكُ بعد العُسرِ يُسِّر أمرُها
واستقبلتْ ريحَ الأمورِ رُخاءَ
وتأهَّبَت بك تستعدُّ لزاخرٍ
تطأ العواصفَ فيه والأنواءَ
رجعَت بِراكبِها إلى رُبَّانها
تُلقي الرجاءَ عليه والأعباءَ
فاشدُدْ بأربابِ النُّهى سُكَّانَها
واجعل مِلاكَ شِراعِها الأكْفاءَ١٦
من ذا الذي يختارُ أهلَ الفضل أو
يَزِنُ الرجالَ إذا اختيارُك ساءَ
أخرِجْ لأبناءِ الحضارة مَجلسًا
يُبقي على اسمِك في العصور ثناءَ
١
هو فقيد العلم والقانون عبد الحميد بك أبو هيف، شغل منصب الأستاذ بكلية
الحقوق، ومنصب القيِّم على دار الكتب المصرية، وقد وقف في معارضة مشروع ملنر
موقفًا قانونيًّا لامعًا، فاقترن اسمه من ذلك الحين بأعلام المجاهدين الكبار في
قضية البلاد، وقد توفي سنة ١٩٢٦م.
٢
ماء الشئون: الدموع.
٣
الكتائب: جمع كتيبة، وهي الجماعة أو الفِرقة من الجيش لها لواء؛
أي رئيس تلتفُّ وحدتها حوله.
٤
الشريعة: القانون.
٥
الملاء: الأغنياء المتمولون، الواحد منهم مليء، ومن معاني الملاء
أيضًا: الحسَنُو القضاء. يقول: إن الشباب يُحَبُّ كثيرًا على أي
حال، ولكن أيام الشباب يُحبَبن أكثر وهن في غنًى من المال الكثير
ومن تولِّي المناصب، كالحال في شباب الفقيد.
٦
يريد غضبته على مشروع ملنر، وموقفه في طليعة معارضيه.
٧
اللورد ملنر: هو أحد وزراء إنجلترا، ورسالته التي مشت البلاد
إليها وتحفَّزت لها هي تقريره المشهور، بُعِث من لندن مع أربعة من
رجالات مصر الساسة، وكادت البلاد تتأثر بهذا المشروع، لولا الفقيد
ومعه نفر قليل جدًّا قاموا بحملتهم ضدَّه، وفي هذه الحملة نشر
الفقيد بحوثًا قانونية في تفنيد المشروع، كانت من أهم مراجع رجال
السياسة في رفضه بعدُ.
٨
كانت ساق الفقيد مبتورة، وكان يمشي على ساقٍ صناعية.
٩
في هذا البيت وصف لهيئة الأعرج، بلغ من جماله أنه قد يحبِّب
المشية العرجاء للناس، فتأمَّل. والماضي: السيف.
١٠
قوله «سبق الحواة فأخرج الرقطاء»: لا يمكن أن يكون هناك أبلغ في
الإعجاز وأدق في الإيجاز من هذا الكلام؛ فقوله «سبق الحواة»: صورةٌ
كاملة تُريك كيف وثب الفقيد فوقف أمام المشروع، كما يثب الحاوي
فيقف أمام جحر الحية؛ وقوله «فأخرج الرقطاء»: أعظم ما يمكن في
تصوير ذلك المشروع، فقد نبَّه على السمِّ الكامن فيه، بالرغم من
جماله الظاهري ونعومته الشبيهة بنعومة الحية.
١١
الدار: هي دار الكتب المصرية، وكان الفقيد يشغل منصب
مديرها.
١٢
الرواء: الماء الكثير.
١٣
أعلاق الكنوز: نفائسها.
١٤
الحادث: هو حادث ائتلاف الأحزاب المصرية في وقت نظم هذه القصيدة
التي تعدُّ من مفاخر المراثي في الشعر العربي.
١٥
سعد: هو الزعيم الخالد الذِّكر سعد باشا زغلول، وكان رئيس
البرلمان في عهد ذلك الائتلاف.
١٦
السكان: مؤخَّر السفينة. ومِلاك الشيء: قوامه الذي يُملَك
به.