سيد درويش١
كلَّ يومٍ مِهرجانٌ كلَّلوا
فيه ميْتًا برياحين الثناءْ٢
لم يعلِّم قومَه حرفًا ولم
يُضِئِ الأرضَ بنورِ الكهرباء
جُومِل الأحياءُ فيه وقضى
شهواتٍ أهلُه والأصدقاء
ما أضلَّ الناسَ؟ حتى الموتُ لم
يخلُ من زُورٍ لهم أو من رِياء٣
إِنما يُبكى شُعاعٌ نابغٌ
كلَّما مرَّ به الدهرُ أضاء
ملأ الأفواهَ والأسماعَ في
ضجَّةِ المَحيا وفي صمتِ الفناء
حائطُ الفنِّ وبانِي رُكنِهِ
«مَعبدُ» الألحانِ «إسحاقُ» الغِناء٤
من أناسٍ كالدَّراري جُدُدٍ
في سمواتِ الليالي قُدماء
غرَس الناسُ قديمًا وبنَوا
لم يدُم غرسٌ ولم يَخلد بِناء
غيرَ غرسٍ نابغٍ أو حَجرٍ
عبقريٍّ فيهما سِرُّ البقاء
من يدٍ موهوبةٍ مُلهَمةٍ
تغرسُ الإِحسانَ أو تَبني العَلاء
بُلبلٌ إسكندريُّ أيكُهُ
ليس في الأرض ولكن في السماء٥
هبطَ الشاطئَ من رابيةٍ
ذاتِ ظلٍّ ورياحينَ وماء
يحملُ الفنَّ نميرًا صافيًا
غَدَقَ النَّبعِ إلى جيلٍ ظِماء٦
حلَّ في وادٍ على فُسحتِهِ
عزَّت الطيرُ به إلا الحِداء
يملأ الأسحارَ تغريدًا إذا
صرف الطيرَ إِلى الأيكِ العِشاء
ربما استلهَم ظَلماءَ الدُّجى
وأتى الكوكبَ فاستوحى الضياء
ورمى أُذْنَيهِ في ناحيةٍ
يخلسُ الأصواتَ خلْسَ الببَّغاء
فتلقَّى فيهما ما راعه
من خفيِّ الهمسِ أو جهرِ النِّداء
أيها الدرويشُ قُم بُثَّ الجوى
واشرَح الحبَّ وناجِ الشهداء
اضرب العُودَ تفُهْ أوتارُهُ
بالذي تهوى وتنطقْ ما تشاء
حرِّكِ النايَ ونُحْ في غابه
وتنفَّسْ في الثُّقوبِ الصُّعَداء٧
واسكُب العَبرةَ في آماقه
من تباريحَ وشجوٍ وعزاء
واسْمُ بالأرواحِ وارفعْها إلى
عالَمِ الُّلطفِ وأقطارِ الصفاء٨
لا تُرِقْ دمعًا على الفن فلن
يَعدِمَ الفنُّ الرُّعاةَ الأُمناء
هو طيرُ اللهِ في رَبوتِهِ
يبعثُ الماءَ إليه والغِذاء
روَّحَ اللهُ على الدنيا به
فهي مِثلُ الدارِ والفنُّ الفِناء
تكتسي منه ومن آذاره
نفحةَ الطِّيبِ وإِشراقَ البَهاء٩
وإذا ما حُرِمَت رِقَّتَهُ
فشَت القسوةُ فيها والجَفاء
وإِذا ما سئمَت أو سقِمَت
طافَ كالشمس عليها والهواء
وإذا الفنُّ على المُلكِ مشى
ظهر الحُسنُ عليه والرُّواء
قد كسا الكرنكُ مصرًا ما كسا
من سَنًا أبْلَى الليالي وسَناء
يُرسِلُ اللهُ به الرُّسْلَ على
فتراتٍ من ظهورٍ وخفاء
كلَّما أدَّى رسولٌ ومضى
جاءَ مَن يُوفِي الرِّسالاتِ الأداء
سيِّدَ الفنِّ استرَحْ من عالمٍ
آخرُ العهدِ بنُعماهُ البَلاء
ربما ضِقتَ فلم تنعَمْ به
وسرى الوحيُ فنسَّاك الشقاء
لقد استخلفتَ فنًّا نابغًا
دفعَ الفنُّ إليه باللِّواء
إن في مُلكِ فؤادٍ بُلبلًا
لم يُتَحْ أمثالُه للخُلفاء١٠
ناحلٌ كالكُرةِ الصغرى سرى
صوتُه في كُرةِ الأرضِ الفضاء
يستحي أن يهتفَ الفنُّ به
وجمالُ العبقرياتِ الحياء
١
الشيخ سيد درويش: كان يُعَدُّ — رحمه الله — في طليعة المجددين في الموسيقى
العربية، وقد أُلقيَت هذه القصيدة في حفلة أُقيمَت لذكراه في سنة ١٩٣١م.
٢
المهرجان: الاحتفال، معرَّب.
٣
الزور: الكذب.
٤
معبد وإسحاق: رجلان من أشهر رجال الغناء والموسيقى.
٥
كان رحمه الله من نشء الإسكندرية. والأيك: في الأصل هو الشجر
الملتفُّ الكثير. يقول: إنه إذا كان لكل بلبل من أيك يتخذه عشًّا،
فهذا البلبل الإسكندري أيكه ليس محله الأرض، ولكن السماء هي محله
اللائق به.
٦
الغدق (بفتح الغين والدال): الكثير.
٧
الصعداء (بضم الصاد وفتح العين): تنفُّس ممدود.
٨
عالم الُّلطف: هو عالم المعاني والأرواح، ولا تسمو إليه الأنفس
إلا في أوقات الصفاء والانشراح.
٩
آذار: شهر من فصل الربيع، أعجمي.
١٠
يُرادُ بالبلبل هنا: الموسيقار النابغة الأستاذ محمد عبد الوهاب،
وهو الذي حمل لواء التجديد في الموسيقى بعد الشيخ سيد
درويش.