عمر المختار١
ركَزوا رُفاتَكَ في الرِّمال لِواءَ
يستنهضُ الوادي صباحَ مَساءَ٢
يا ويْحَهم نصبوا مَنارًا من دمٍ
تُوحِي إِلى جيلِ الغدِ البَغضاءَ٣
ما ضرَّ لو جعلوا العَلاقةَ في غدٍ
بينَ الشعوب مودةً وإخاءَ
جُرحٌ يصيحُ على المَدى وضحيةٌ
تتلمَّسُ الحريةَ الحمراءَ٤
يا أيها السيفُ المجرَّدُ بالفَلا
يكسو السيوفَ على الزمانِ مَضاءَ
تلك الصحارى غِمدُ كلِّ مُهنَّدٍ
أبْلَى فأحسنَ في العدوِّ بَلاءَ
وقبورُ مَوتى من شبابِ أُميَّةٍ
وكهولِهم لم يبرحُوا أحياءَ
لو لاذَ بالجوزاءِ منهم مَعقلٌ
دخلوا على أبراجِها الجوزاءَ٥
فتحوا الشمالَ سُهولَه وجبالَهُ
وتوغَّلوا فاستعمروا الخضراءَ
وبنَوا حضارتَهم فطاوَلَ ركنُها
«دارَ السلامِ» و«جِلَّقَ» الشمَّاءَ٦
خُيِّرتَ فاخترتَ المَبيتَ على الطَّوى
لم تبنِ جاهًا أو تلمَّ ثَراءَ٧
إنَّ البطولةَ أن تموتَ من الظَّما
ليس البطولةُ أن تعُبَّ الماءَ
أفريقيا مهدُ الأُسودِ ولَحدُها
ضجَّت عليكَ أراجلًا ونساءَ
والمسلمون على اختلافِ ديارِهم
لا يملكون مع المُصابِ عزاءَ
والجاهليةُ من وراءِ قُبورِهم
يبكون زيدَ الخيل والفَلحاءَ٨
في ذمةِ اللهِ الكريمِ وحفظِهِ
جسدٌ ﺑ «برقةَ» وُسِّدَ الصحراءَ٩
لم تُبقِ منه رحى الوقائع أعظُمًا
تَبلى ولم يُبقِ الرِّماحُ دماءَ
كرُفاتِ نَسرٍ أو بقيَّةِ ضَيغمٍ
باتا وراءَ السَّافياتِ هَباءَ١٠
بطلُ البداوةِ لم يكن يغزو على
«تَنكٍ» ولم يكُ يركبُ الأجواءَ١١
لكنْ أخو خيلٍ حَمى صهَواتِها
وأدارَ من أعرافها الهيجاءَ
لبَّى قضاءَ الأرضِ أمسِ بمُهجةٍ
لم تخشَ إلا للسماءِ قَضاءَ
وافاه مرفوعَ الجبينِ كأنه
سُقراطُ جرَّ إِلى القُضاةِ رِداءَ
شيخٌ تَمالَك سِنَّه لم ينفجرْ
كالطفلِ من خوفِ العِقابِ بُكاءَ
وأخو أمورٍ عاشَ في سرَّائها
فتغيَّرَت فتوقَّع الضرَّاءَ
الأُسدُ تزأرُ في الحديدِ ولن ترى
في السِّجنِ ضِرغامًا بكى استخذاءَ
وأتى الأسيرُ يجرُّ ثِقلَ حديده
أسدٌ يُجرِّرُ حيةً رَقطاءَ
عضَّت بساقَيهِ القيودُ فلم يَنُؤْ
ومشَت بهَيكله السِّنونَ فناءَ
تِسعونَ لو ركِبَت مَناكبَ شاهقٍ
لَترجَّلَت هضَباتُه إعياءَ١٢
خفِيَت عن القاضي وفات نصيبُها
من رِفقِ جُندٍ قادةً نُبلاءَ
والسِّنُّ تعصفُ كلَّ قلبِ مُهذَّبٍ
عرَفَ الجُدودَ وأدركَ الآباءَ
دفعوا إِلى الجلَّادِ أغلبَ ماجدًا
يأسو الجِراحَ ويُطلِقُ الأُسراءَ
ويُشاطرُ الأقرانَ ذُخْرَ سِلاحِهِ
ويصُفُّ حولَ خِوانِه الأعداءَ١٣
وتخيَّروا الحبلَ المَهينَ مَنيَّةً
للَّيثِ يلفِظُ حولَه الحَوباءَ١٤
حرَموا المماتَ على الصَّوارمِ والقَنا
من كان يُعطي الطَّعنةَ النَّجلاءَ
إني رأيتُ يدَ الحضارةِ أُولعَت
بالحقِّ هدمًا تارةً وبِناءَ
شرَعَت حُقوقَ الناسِ في أوطانِهم
إلا أُباةَ الضَّيمِ والضُّعفاءَ
يا أيُّها الشعبُ القريبُ أسامعٌ
فأصوغَ في عُمَرَ الشهيدِ رِثاءَ
أم ألجمَت فاكَ الخطوبُ وحرَّمَت
أُذُنَيك حينَ تُخاطَبُ الإصغاءَ
ذهب الزعيمُ وأنتَ باقٍ خالدٌ
فانقُدْ رِجالَك واختَرِ الزُّعماءَ
وأرِحْ شيوخَك من تكاليفِ الوغى
واحمِلْ على فِتيانِك الأعباءَ
١
شهيد المسلمين والعرب، بطل طرابلس الخالد عمر المختار، هو من الأسرة السنوسية
أصحاب الطريقة السنوسية ذات النفوذ الروحاني العظيم في كثير من أقطار الإسلام،
ظل يقاتل الطليان في سبيل الذود عن وطنه وقومه، حتى قبضوا عليه وأعدموه شنقًا
سنة ١٩٣١م، وأُشيعَ وقتئذٍ أنهم سلكوا في إعدامه سبلًا بشعة متوحشة، ولم يرحموا
سِنَّه التي نيَّفت على التسعين.
٢
ركَز اللواء: غرزه في الأرض. وهذا استعمالٌ لغويٌّ مشتق من
الركيزة، وهي قطع الفضة والذهب والمعادن، كان العرب في الجاهلية
يحفرون لها في الأرض، ويُسمُّونها الدفائن، فقوله «ركزوا رفاتك»
استعمال أُريدَ به الإشارة إلى أن هذا الرفات من النفائس والذخائر،
التي يُضَنُّ بها ويُحرَص عليها.
٣
المنار: موضع النور، وجعلها منارًا من دم هو لون من التشبيه
العجيب، كأنه يعجب كيف جعلوا موضع النور والائتناس محلًّا للتنفير
والإزعاج.
٤
الحريَّة الحمراء: هي المكتسبة بالدم، إشارة إلى قولهم: الحرية
شجرة لا تنبت إلا بالدماء.
٥
الجوزاء: نجمٌ معروف في السماء.
٦
دار السلام: بغداد. وجلَّق: دمشق.
٧
اللَّم: الجمع.
٨
الفلحاء: لقب عنترة العبسي. أما زيد الخيل فعَلمٌ على فارس بهذا
الاسم.
٩
برقة: هي المنطقة الشرقية من ليبيا، فتحها عمرو بن العاص سنة
٦٤١م، وسُمِّيت باسم عاصمتها القديمة، وقد اشتهرت بوقائعها الحربية
المتعددة التي حدثت بين العرب والطليان.
١٠
السافيات: الرياح.
١١
تنك: هي الدبَّابة المستعملة في الحروب.
١٢
الشاهق: الجبل. والتسعون: هي التسعون عامًا التي يحدد بها عمر
المرثي حين قبضوا عليه ليعدموه.
١٣
الخوان: مائدة الطعام.
١٤
الحوباء: النفس.