حسين شيرين بك١
أرأيت زينَ العابدينَ مُجهَّزًا
نقلوه نقلَ الوَردِ من مِحرابِهِ٢
من دارِ تَوءمِه وصِنوِ حياتِه
والأولِ المألوفِ من أترابِهِ٣
ساروا به من باطلِ الدنيا إلى
بُحبوحةِ الحقِّ المُبينِ وغابِهِ٤
ومضَوا به لسبيلِ آدمَ قبله
ومَصايرِ الأقوامِ من أعقابه
تحنو السماءُ على زكيِّ سَريره
ويمسُّ جِيدَ الأرضِ طِيبُ رِكابه
وتَطيبُ هامُ الحاملين وراحُهم
من طِيبِ مَحملِه وطِيبِ ثيابه
وكأنَّ مصرَ بجانبَيهِ رَبوةٌ
آذارُ آذَنها بوشْكِ ذَهابه
ويكاد من طربٍ لعادته الندى
يَنسلُّ للفقراءِ من أثوابه٥
الطَّيِّبُ ابنُ الطَّيِّبينَ وربما
نضحَ الفتى فأبانَ عن أحسابه
والمؤمنُ المعصومُ في أخلاقه
من كلِّ شائنةٍ وفي آدابه
أبدًا يراه اللهُ في غَلَسِ الدُّجى
في صحنِ مسجده وحولَ كِتابه
ويرى اليتامى لائذينَ بظلِّهِ
ويرى الأراملَ يعتصمْنَ ببابِهِ
ويراه قد أدَّى الحقوقَ جميعَها
لم ينسَ منها غيرَ حقِّ شبابه
أدَّى من المعروف حِصَّةَ أهله
وقضى من الأحسابِ حقَّ صِحابه٦
«مهويشُ» أين أبوكِ هل ذهبوا به
لِمَ لمْ يعُد أيَّانَ يومُ إيابِهِ؟٧
قد وكَّل اللهَ الكريمَ وعَينَهُ
بكِ فاحسبِيه على كريمِ رِحابه
ودَعِي البُكى يكفيه ما حمَّلتِهِ
من دمعِكِ الشاكي ومن تَسْكابه
ولقد شرِبتِ بحادثٍ يا طالما
شرِبَت بناتُ العالمين بِصَابه
كلُّ امرئٍ غادٍ على عُوَّاده
وسؤالِهم ما حالُه ماذا به؟
والمرءُ في طلبِ الحياةِ طويلةً
وخُطى المَنيَّةِ من وراءِ طِلابه
في برِّ «عمِّكِ» ما يقوم مكانَهُ
في عَطفِه وحنانِه ودعابه
•••
«إسكندريةُ» كيف صبرُكِ عن فتًى
الصبرُ لم يُخلَق لمِثلُ مُصابه٨
عطِلَت سماؤك من بَريقِ سحابِها
وخبا فضاؤكِ من شُعاعِ شِهابه
زَينُ الشبابِ قضى ولم تتزوَّدي
منه ولم تتمتَّعي بقَرابه
قد نابَ عنكِ فكان أصدقَ نائبٍ
والشعبُ يَهوى الصِّدقَ في نُوَّابه
أعَلِمتِه اتَّخذ الأمانةَ مرةً
سببًا يُبلِّغُه إلى آرابه
لو عاش كان مؤمَّلًا لمواقفٍ
يرجو لها الوادي كِرامَ شبابه
يَجلو على الألبابِ هِمَّةَ فِكرِهِ
ويُناولُ الأسماعَ سِحرَ خِطابه
ويَفِي كدَيدنِه بحقِّ بلادِهِ
ويَفِي بعهدِ المسلمين كَدَابه٩
•••
تَقْواكَ «إسماعيلُ» كلُّ عَلاقةٍ
سيَبُتُّها الدهرُ العَضوضُ بنابه١٠
إنَّ الذي ذُقْتَ العشيَّةَ فقْدَهُ
بِتَّ اللياليَ مُوجَعًا لعَذابه
فارقتَ صِنوَك مرتَينِ فَلاقِهِ
في عالَمِ الذكرى وبينَ شِعابه١١
من عادة الذكرى تردُّ من النوى
من لا يدَينِ لنا بِطيِّ غِيابه
حُلمٌ كأحلامِ الكرى وسِنَاتِهِ
مُستعذَبٌ في صِدقِه وكِذابه
اسكُبْ دُموعَكَ لا أقول استبقِها
فأخو الهوى يبكي على أحبابه
١
حسين بك شيرين: كان مثالًا عاليًا من أمثلة مكارم الأخلاق، وكانت بينه وبين
أمير الشعراء صداقة تُشبِه القُربى، وقد توفي في سنة ١٩٣١م، فنظم فيه هذه
القصيدة رثاءً له وتعزيةً لشقيقه إسماعيل بك شيرين.
٢
أراد تشبيهه بعلي زين العابدين ابن سيدنا الحسين رضي الله عنهما،
وفي زين العابدين هذا يقول الشاعر الفرزدق:
وتجهيز الميت: تهيئته للقبر.
ما قال «لا» قط إلا في تشهُّده
لولا التشهُّد كانت لاؤه «نعم»
٣
الصنو: الأخ الشقيق. والتوءم: المولود مع غيره في بطن، وهذه حال
الفقيد مع أخيه. والأتراب: لِداتُ المرء وزملاؤه الذين وُلدوا في
سنٍّ متقاربة معه.
٤
بحبوحة المكان: وسطه.
٥
الندى: الكرم.
٦
المعروف هنا: بمعنى البر بالناس والقيام بواجب المحتاجين.
٧
مهويش: اسمٌ تركي، وهو عَلم على ابنة الفقيد.
٨
كان الفقيد من الإسكندرية منشأً، وعضو مجلس بلديتها.
٩
الديدن: العادة.
١٠
إسماعيل بك شيرين: شقيق المرثي.
١١
يشير هذا البيت إلى أن الفقيد كان مغتربًا في سويسرا طِيلةَ زمن
الحرب الكبرى.