يرثي جدَّته١
خُلِقْنا للحياةِ وللمماتِ
ومن هذَين كلُّ الحادثاتِ
ومن يُولَدْ يعِشْ ويمُتْ كأن لم
يمرَّ خيالُه بالكائناتِ
ومهدُ المرءِ في أيدي الرواقي
كنعشِ المرءِ بينَ النائحاتِ٢
وما سلِمَ الوليدُ من اشتكاءٍ
فهل يخلو المعمَّرُ من أذاةِ٣
هي الدنيا قِتالٌ نحن فيه
مقاصدُ للحُسامِ وللقَناةِ
وكلُّ الناسِ مدفوعٌ إليه
كما دُفِعَ الجبانُ إلى الثباتِ
نُروَّعُ ما نُروَّعُ ثم نُرمى
بسهمٍ من يدِ المقدورِ آتي
صلاةُ اللهِ يا «تمزارُ» تجزي
ثَراكِ عن التلاوةِ والصَّلاةِ
وعن تسعينَ عامًا كنتِ فيها
مثالَ المُحسِناتِ الفُضلَياتِ
برَرتِ المؤمناتِ فقال كلٌّ
لعلَّكِ أنتِ أمُّ المؤمناتِ
وكانت في الفضائل باقياتٌ
وأنتِ اليومَ كلُّ الباقياتِ
تبنَّاكِ الملوكُ وكنتِ منهم
بمنزلةِ البَنِينَ أو البناتِ
يُظِلُّون المناقبَ منكِ شتَّى
ويُئوُونَ التُّقى والصالحاتِ
وما ملكوكِ في «سوقٍ» ولكنْ
لدى ظلِّ القَنا والمُرهَفاتِ
عنَنتِ لهم ﺑ «مُورةَ» بنتَ عشرٍ
وسيفُ الموتِ في هامِ الكُماةِ٤
فكنتِ لهم وللرحمنِ صيدًا
وواسطةً لعِقدِ المُسلِماتِ
تَبِعتِ محمدًا من بعدِ عيسى
لخيرِكِ في سِنِيكِ الأُولياتِ
فكان الوالدان هدًى وتَقْوى
وكان الوِلدُ هذي المعجزاتِ
ولو لم تَظهري في العُربِ إلا
بأحمدَ كنتِ خيرَ الوالداتِ٥
تجاوزتِ الولائدَ فاخراتٍ
إلى فخرِ القبائلِ واللغاتِ
وأحكمِ من تحكَّمَ في يَراعٍ
وأبلغِ من تبلَّغَ من دواةِ
وأبرأِ من تبرَّأ من عداءٍ
وأنزهِ من تنزَّه من شَماتِ
وأصوَنِ صائنٍ لأخيه عِرضًا
وأحفظِ حافظٍ عهدَ اللِّداتِ
وأقتلِ قاتلٍ للدهرِ خُبرًا
وأصبرِ صابرٍ للغاشياتِ
كأني والزمانَ على قتالٍ
مُساجَلةً بميدانِ الحياةِ٦
أخافُ إذا تثاقلَت الليالي
وأُشفِقُ من خُفوفِ النائباتِ
وليس بنافِعي حذَري ولكنْ
إباءً أن أراها باغِتاتِ
أمأمونٌ من الفَلَكِ العوادي
و«برجَلُه» يخطُّ الدائراتِ
تأمَّلْ هل ترى إلا شِباكًا
من الأيامِ حوْلَك مُلقَياتِ
ولو أن الجهاتِ خُلِقنَ سبعًا
لكان الموتُ سابعةَ الجهاتِ
لَعًا للنعش لا حُبًّا ولكنْ
لأجلِكِ يا سماءَ المَكرُماتِ٧
ولا خانَته أيدي حامِلِيه
وإن سارُوا بصبريَ والأناةِ
فلم أرَ قبله المريخَ مُلقًى
ولم أسمع بدفنِ النيِّراتِ
هناك وقفتُ أسألُكِ اتِّئادًا
وأُمسِكُ بالصفات وبالصَّفاةِ٨
وأنظرُ في تُرابِكِ ثم أُغضِي
كما يُغضي الأبيُّ على القَذاةِ
وأذكُر من حياتِكِ ما تقضَّى
فكانَ من الغداةِ إلى الغداةِ
١
جدَّته: هي المرحومة السيدة «تمزار» معتوقة جنتمكان إبراهيم باشا والي مصر،
وسترى في القصيدة كيف بلغت الجدة المحترمة تلك المنزلة العالية.
٢
المهد: الموضع يُهيَّأ للطفل. والرواقي: جمع راقية، والراقية عند
العرب هي الأم أو نحوها، تضع التمائم والتعاويذ على الطفل حفظًا له
من العين أو من الشياطين، على زعمهم.
٣
المعمَّر: هو الذي يُمَدُّ له في العمر. يقول في هذه الأبيات
الثلاثة: إن الدنيا لا ثبات لها، فالإنسان كأنه لم يوجد، فالراقيات
والنائحات والمهد والنعش والصغر والكبر في لقاء الأقدار سواءٌ، فلا
شيء يردُّ الموت ولا يمنع القدر.
٤
عننت لهم … إلخ: مأخوذة من قولهم «عنَّ الصيد للصائد» إذا ظهر.
ومورة: علَم على صقع بعينه هو الوطن الأول لجدته. والكماة: جمع
كمي، وهو الفارس المدجج بالسلاح. بعد أن قال إن جدته كانت متبنَّاة
للملوك بيَّن كيف وقع لها ذلك، فقال: إنها لاحت للفُرسان المغيرين
على وطنها «مورة»، فأخذوها أسيرة حرب وهي لم تجاوز العاشرة، وكان
هذا لخيرها؛ حيث أكرمها الله، فنشأت مسلمة، ونزلت من الملوك بمنزلة
بناتهم.
٥
أحمد: هو الاسم الشريف لأمير الشعراء. يقول لجدته في هذا البيت:
إذا لم يكن لك نسب في العرب إلا ولادتك لي لكنت بهذا خير أمهات
العرب. لقد وضع هذا البيت نفسه توءمًا لبيت المتنبي الذي يخاطب به
أمه، فيقول:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونُك لي أُمَّا
٦
المساجلة في القتال هي من قولهم: «الحرب سجال؛ يوم لك ويوم
عليك.»
٧
لعًا: كلمة دعاء تقال للعاثر، تقول «لعًا له» إذا أردت سلامته،
و«لا لعًا له» إذا أردت غير ذلك.
٨
الصَّفاة: الحجر الصلد، والمقصود بها هنا القبر.