رياض باشا١
مَماتٌ في المواكب أم حياةُ
ونعشٌ في المناكب أم عِظاتُ
ويومُكَ في البرِيَّةِ أم قيامٌ
وموكبُك الأدلةُ والشِّياتُ٢
وخطْبُكَ يا «رياضُ» أم الدواهي
على أنواعها والنَّازلاتُ
يجِلُّ الخَطْبُ في رجلٍ جليلٍ
وتكبرُ في الكبيرِ النائباتُ
وليس الميْتُ تَبكيه بلادٌ
كمَن تَبكي عليه النائحاتُ
وهل تَلقى مناياها الرواسي
فتَهوي ثم تُضمِرها فَلاةُ٣
وتُكسَرُ في مراكزها العوالي
وتُدفَنُ في التراب المُرهَفاتُ٤
ويُغشى الليثُ في الغاباتِ ظُهرًا
وكانت لا تَقَرُّ بها الحَصاةُ
ويرمي الدهرُ «ناديَ عينِ شمسٍ»
ولا يحمي لِواءهم الرُّماةُ٥
أجَلْ حُمِلَت على النعشِ المعالي
ووُسِّدتِ الترابَ المَكرُماتُ
وحُمِّلتِ المَدافعُ ركنَ سلمٍ
يُشيِّعه الفوارسُ والمُشاةُ
وحلَّ المجدُ حُفرتَه وأمسى
يُطِيفُ به النوائحُ والبُكاةُ
هوى عن أوجِ رِفعتِه «رياضٌ»
وحازَته القرونُ الخالياتُ
كأن لم يملأِ الدنيا فعالًا
ولا هتفَت بدولته الرُّواةُ
نعاه «البرقُ» مُضطرِبًا فماجت
نجومٌ في السماء مُحلِّقاتُ
كأن الشمسَ قد نُعِيَت عِشاءً
إليها فهْي حَسْرى كاسفاتُ
صحيفةُ غابرٍ طُوِيَت وولَّت
على آثارِ من درَجوا وفاتوا
يقول الآخرون إذا تلَوها
كذلك فَلْيَلِدنَ الأُمَّهاتُ
جزى اللهُ الرضا أبوَي «رياضٍ»
هما غرَسا وللوطنِ النباتُ
بنو الدنيا على سفرٍ عقيمٍ
وأسفارُ النوابغِ مُرجعاتُ
أرى الأمواتَ يَجمعُهم نشورٌ
وكم بُعِثَ النوابغُ يومَ ماتوا
صلاحُ الأرضِ أحياءٌ ومَوتى
وزِينتُها وأنجُمُها الهُداةُ
قرائحُهم وأيديهم عليها
هدًى ويسارةٌ ومُحسَّناتُ
فلو طُلِبَت لهم دِيَةٌ لقالت
كنوزُ الأرضِ نحن هي الدِّياتُ
أبا الوطن الأسيفِ بكَتكَ مصر
كما بكَت الأبَ الكهلَ البناتُ
قضَيتَ لها الحقوقَ فتًى وكهلًا
ويومَ كبِرتَ وانحنَتِ القَناةُ
ويومَ النهي للأمراءِ فيها
ويومَ الآمرون بها العُصاةُ٦
فكنتَ على حكومتها سِراجًا
إذا بسطتْ دُجاها المُشكِلاتُ
يزيد الشَّيبُ نفسَك من حياةٍ
إذا نقصَت مع الشَّيبِ الحياةُ
وتملؤك السِّنونَ قُوًى وعزمًا
إِذا قيل السِّنونَ مُثبِّطاتُ
كسَيفِ الهندِ أبْلَى حين فُلَّت
ورَقَّت صَفحتاه والظُّباتُ٧
رفيعُ القدرِ بالأمصار يُرني
كما نظرَت إلى النَّجمِ السُّراةُ٨
كأنك في سماءِ المُلكِ «يحيى»
وآلُك في السماءِ النيِّراتُ٩
تَسوسُ الأمرَ لا يُعطي نفاذًا
عليك الآمرون ولا النُّهاةُ
إذا الوزراءُ لم يُعطوا قِيادًا
نبذتَهمُ كأنهم النَّواةُ
زَماعٌ في انقباضٍ في اختيالٍ
كذلك كان «بسمركُ» الثباتُ١٠
صِفاتٌ بلَّغَتك ذُرا المعالي
كذلك ترفع الرجلَ الصِّفاتُ
وجدتَ المجدَ في الدنيا لواءً
تلقَّاه المقاديمُ الأُباةُ
ويبقى الناسُ ما داموا رعايا
ويبقى المُقدِمون همُ الرُّعاةُ
«رياضُ» طويتَ قرنًا ما طوَته
مع «المأمون» «دِجلةُ» و«الفراتُ»١١
تمنَّت منه أيامًا تحلَّى
بها الدُّولُ الخوالي الباذخاتُ
وودَّ «القيصران» لوَ انَّ «روما»
عليها من حضارته سِماتُ١٢
حبَاكَ اللهُ «حاشيتَيهِ» عُمْرًا
وأعمارُ الكرامِ مُبارَكاتُ
فقمتَ عليه تَجرِبةً وخُبرًا
ومدرسةُ الرجالِ التجرِباتُ
تمرُّ عليك كالآياتِ تَترى
صنائعُ أهلِه والمُحدَثاتُ
فأدركتَ «البخارَ» وكان طفلًا
فشبَّ فبايعَته الصافِناتُ١٣
تُجابُ على جَناحَيه الفيافي
وتحكم في الرياح المنشآتُ
ويُصعَد في السماء على «بروجٍ»
غدًا هي في العوالم بارِجاتُ١٤
وبَينا الكهرباءُ تُعَدُّ خرقًا
إذا هي كلَّ يومٍ خارقاتُ
ودانَ البحرُ حتى خِيضَ عُمقًا
وقِيدَت بالعِنانِ السافياتُ١٥
وبُلِّغتِ الرسائلُ لا جَناحٌ
يَجوبُ بها البحارَ ولا أداةُ
كأن القُطرَ حين يُجيبُ قُطرًا
ضمائرُ بينها مُتناجِياتُ
رَهينَ الرَّمسِ حدِّثني مَليًّا
حديثَ الموتِ تبدُ ليَ العِظاتُ١٦
هو الخبرُ اليقينُ وما سواه
أحاديثُ المُنى والتُّرَّهاتُ١٧
سألتُكَ ما المنِيَّةُ أيُّ كأسٍ
وكيف مَذاقُها ومَن السُّقاةُ
وماذا يُوجِسُ الإنسانُ منها
إذا غصَّت بعَلقمِها اللَّهاةُ١٨
وأيُّ المَصرعَين أشدُّ موتٌ
على عِلمٍ أم الموتُ الفَواتُ١٩
وهل تقعُ النفوسُ على أمانٍ
كما وقعَت على «الحرمِ» القطاةُ٢٠
وتخلُدُ أم كزعمِ القول تَبلى
كما تَبلى العِظامُ أو الرُّفاتُ
تعالى اللهُ قابِضُها إليه
وناعِشُها كما انتعشَ النباتُ
وجازِيها النعيمَ حِمًى أمينًا
وعيشًا لا تُكدِّره أذاةُ
أمِثلُك ضائقٌ بالحقِّ ذَرْعًا
وفي بُرْدَيك كان له حُماةُ٢١
أليس الحقُّ أن العيشَ فانٍ
وأن الحيَّ غايتُه المماتُ
فنَمْ ما شِئتَ لا تُوحِشْك دنيا
ولا يحزُنْكَ من عيشٍ فَواتُ
تصرَّمَت الشبيبةُ والليالي
وغاب الأهلُ واحتجبَ اللِّداتُ
خلَت «حِلميَّةٌ» ممَّن بناها
فكيف البيتُ حولك والبناتُ٢٢
أفِيهِ من «المحلة» قوتُ يومٍ
ومن نِعمٍ مَلأنَ «الطَّودَ» شاةُ٢٣
وهل لك من حريرِهما وِسادٌ
إذا خشُنَت لجنبَيك الصَّفاةُ٢٤
تولَّى الكلُّ لم ينفعْكَ منه
سوى ما كان يلتقطُ العُفاةُ
عِبادُ اللهِ أكرمُهم عليه
كِرامٌ في برِيَّتِه أُساةُ
كمائدةِ المسيحِ يقومُ بُؤسٌ
حوالَيها وتقعدُ بائساتُ
أخذتُكَ في الحياةِ على هنَاتٍ
وأيُّ الناس ليس له هنَاتُ٢٥
فصفحًا في الترابِ إذا التقَينا
ولُوشِيَتِ العداوةُ والتِّراتُ
خُلِقتُ كأنني «عيسى» حرامٌ
على قلبي الضَّغينةُ والشَّماتُ
يُساءُ إليَّ أحيانًا فأمضي
كريمًا لا أقوتُ كما أُقاتُ
وعندي للرجال وإن تجافَوا
مَنازلُ في الحفاوةِ لا تُفاتُ
طلعتَ على «النديِّ» بعينِ شمسٍ
فوافَتها بشمسَينِ الغداةُ
على ما كان يندو القومُ فيها
توافَى الجمعُ وائتمَرَ السَّراةُ٢٦
تملَّكَهم وقارُك في خشوعٍ
كما نظمَت مُقيمِيها الصَّلاةُ
رأيتَ وجوهَ قومِك كيف جلَّت
وكيف ترعرعَت مصرُ الفتاةُ
أُجِيلَ الرأيُ بين يدَيك حتى
تبيَّنَتِ الرَّزانةُ والحَصاةُ٢٧
وأنتَ على أعِنَّتهم قديرٌ
وهُم بك في الذي تقضي حُفاةُ٢٨
إذا أبدى الشبابُ هوًى وزَهوًا
أشار إليه حِلمُكَ والأناةُ
فهلَّا قُمتَ في النادي خطيبًا
لك الكَلِمُ الكبارُ الخالداتُ
تُفجِّرُ حكمةَ «التسعين» فيه
فآذانُ الشَّبيبةِ صادياتُ٢٩
تقول متى أرى «الجيرانَ» عادوا
وضُمَّ على الإخاءِ لهم شَتاتُ٣٠
وأين أُولو النُّهى منَّا ومنهم
عسى يأسُون ما جرح الغُلاةُ٣١
مشَت بينَ العشيرةِ رُسْلُ شرٍّ
وفرَّقَتِ الظُّنونَ السيئاتُ
إذا الثقةُ اضمحلَّت بينَ قومٍ
تمزَّقَتِ الرَّوابطُ والصِّلاتُ
فثِقْ فعسى الذين ارتبتَ فيهم
على الأيام إخوانٌ ثِقاتُ
وربَّ مُحبَّبٍ لا صبرَ عنه
بدَت لك في مَحبَّتِه بَداةُ٣٢
ومكروهٍ على أخَذاتِ ظنٍّ
تُحبِّبُه إليك التجرِباتُ
بَنِي الأوطان هُبُّوا ثم هُبُّوا
فبعضُ الموتِ يجلبُه السُّباتُ٣٣
مشى للمجدِ خطْفَ البرقِ قومٌ
ونحن إذا مشَينا «السلحفاةُ»
يُعِدُّون القُوى برًّا وبحرًا
وعُدَّتُنا الأماني الكاذباتُ
١
يقترن تاريخ رياض باشا بتاريخ كبار الحوادث في مصر منذ الخديو إسماعيل إلى
أواخر حكم عباس الثاني تقريبًا؛ فتاريخه في الواقع هو تاريخ مصر طيلة هذه
الحقبة من الزمن.
٢
الشيات: جمع شية، وهي العلامة. يشبِّه يوم ممات رياض بيوم
القيامة، ويشبِّه جنازته بأشراط وعلامات القيامة.
٣
الفلاة: الصحراء.
٤
العوالي: الرماح. والمرهفات: السيوف.
٥
نادى عين شمس: موضع المؤتمر الذي أقامه أعيان المسلمين ردًّا على
المؤتمر الذي أقامه أعيان القبط في فترة من خلاف وقع بين
الطائفتَين المصريتين، لا أعادها الله.
٦
يشير إلى أيام الثورة العرابية في مصر، وإلى لون الحكم قبل تلك
الثورة.
٧
الظبات جمع ظبة (بضم الظاء): حدُّ السيف.
٨
السراة (بضم السين): جمع سارٍ، ولا يكون السُّرى إلا للمشي
بالليل.
٩
يحيى: هو يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد.
١٠
بسمرك: وزيرٌ ألماني ضُرِب مثلًا في الحنكة والمهارة والسياسة.
والزماع: الذي يزمع الأمر في جرأة وإقدام ثم لا ينثني.
١١
المأمون: هو المأمون العباسي. ودجلة والفرات: نهران
بالعراق.
١٢
سمات: علامات.
١٣
الصافنات: الخيل.
١٤
يريد بالبروج: الطائرات.
١٥
العنان: الزمام. والسافيات: الرياح.
١٦
الرمس: القبر.
١٧
الترهات: جمع ترَّهة، بتشديد الراء مفتوحة، وهي الباطل.
١٨
اللهاة (بفتح اللام): اللحمة المُشرِفة على الحلق من أقصى
الفم.
١٩
الموت الفوات: الموت المفاجئ.
٢٠
القطاة: الحمام أو طير يُشبِه الحمام. ويقصد بالحرم: الحرم
المكي، حيث يحرُم صيد الطيور اللائذة به.
٢١
حماة: جمع حامٍ، وهو المُدافع والمانع من العدوان، والحامي:
الأسد لحمايته عرينَه.
٢٢
الحلمية: حيث كانت دار الفقيد. وقوله «وكيف البيت حولك والبنات»:
يسأله عن حاله في القبر، وعن زاده هناك.
٢٣
المحلة: محلة روح، قرية في إقليم الغربية بمصر، حيث كانت توجد
أملاك الفقيد الواسعة.
٢٤
الصفاة: الحجر، والمقصود به هنا القبر.
٢٥
الهنات: جمع هنة، وهي الشيء الصغير، وقد تعرف أسباب تلك الهنات
من قصيدة مطبوعة في الجزء الأول من الشوقيات.
٢٦
يندو القوم: إذا اجتمعوا ليتشاوروا في ناديهم. والسراة: جمع سري،
وهو السيد الشريف.
٢٧
الحصاة: العقل والرأي.
٢٨
الحفاة: جمع حفي، وهو هنا بمعنى العالم يتعلم باستقصاء، قال الله
تعالى: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا؛ أي
سائل عنها باستقصاء.
٢٩
التسعين: هي مدة عمر الفقيد. وصاديات: أي ظامئات.
٣٠
الجيران: هم القبط والمسلمون في مصر.
٣١
الغلاة: هم البالغون حد الإفراط في عقائدهم وآرائهم.
٣٢
البداة: من قولهم بدا لي في هذا الأمر بداء؛ أي ظهر لي فيه
شيء.
٣٣
السبات: النوم، وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا.