مشروع ٢٨ فبراير
أُعِدَّت الراحةُ الكبرى لمَن تعِبَا
وفاز بالحقِّ مَن لم يألُهُ طلبَا١
وما قضَت مصرُ من كلٍّ لُبانتَها
حتى تجُرَّ ذيولَ الغِبطةِ القُشُبَا٢
في الأمرِ ما فيه من جِدٍّ فلا تقِفوا
من واقعٍ جَزعًا أو طائرٍ طَرَبَا٣
لا تُثبِتُ العينُ شيئًا أو تُحقِّقُهُ
إذا تحيَّرَ فيها الدمعُ واضطربَا٤
والصبحُ يُظلِم في عينَيك ناصعُهُ
إذا سدَلتَ عليه الشكَّ والرِّيَبَا٥
إذا طلبتَ عظيمًا فاصبِرنَّ لهُ
أو فاحشدنَّ رماحَ الخطِّ والقُضُبَا٦
ولا تُعِدَّ صغيراتِ الأمورِ لهُ
إن الصغائرَ ليست للعُلا أُهُبَا٧
ولن ترى صحبةً تُرضى عواقبُها
كالحقِّ والصبرِ في أمرٍ إذا اصطُحبَا٨
إن الرجالَ إذا ما أُلجِئوا لجَئُوا
إلى التعاونِ فيما جلَّ أو حَزَبَا٩
•••
لا ريبَ أن خُطا الآمالِ واسعةٌ
وأن ليلَ سُراها صُبحُهُ اقتربَا١٠
وأنَّ في راحتَي مصرٍ وصاحبِها
عهدًا وعقدًا بحقٍّ كان مُغتصَبَا١١
قد فتَّح اللهُ أبوابًا لعلَّ لنا
وراءَها فُسَحَ الآمالِ والرَّحَبَا١٢
لولا يدُ اللهِ لم ندفعْ مَناكبَها
ولم نُعالِجْ على مِصراعِها الأرَبَا١٣
لا تَعدمُ الهمةُ الكبرى جوائِزَها
سيَّانِ مَن غلَب الأيامَ أو غُلبَا١٤
وكلُّ سعيٍ سيَجزي اللهُ ساعيَهُ
هيهاتَ يذهبُ سعيُ المُحسِنين هَبَا١٥
لم يُبرِم الأمرَ حتى يَستبينَ لكم
أساءَ عاقبةً أم سَرَّ مُنقلَبَا!١٦
نِلتُم جليلًا ولا تُعطونَ خردلةً
إلا الذي دفَعَ الدستورُ أو جلَبَا١٧
تمهَّدَت عقباتٌ غيرُ هيِّنةٍ
تَلقى رِكابُ السُّرى من مِثلِها نَصَبَا١٨
وأقبلَت عقباتٌ لا يُذلِّلها
في مَوقفِ الفصل إلا الشَّعبُ مُنتخِبَا
له غدًا رأيُهُ فيها وحِكمتُهُ
إذا تمهَّل فوقَ الشوكِ أو وثَبَا١٩
كم صعَّب اليومُ من سهلٍ هممتَ بِهِ
وسهَّل الغدُ في الأشياءِ ما صَعُبَا٢٠
ضُمُّوا الجهودَ وخَلُّوها مُنكَّرةً
لا تَملَئوا الشِّدقَ من تعريفها عَجَبَا
أفي الوغى ورَحى الهيجاءِ دائرةٌ
تُحصُون مَن مات أو تُحصُون ما سُلِبَا٢١
خَلُّوا الأكاليلَ للتاريخِ إنَّ لهُ
يدًا تُؤلِّفُها دُرًّا ومخشَلَبَا٢٢
أمرُ الرجالِ إليه لا إلى نفَرٍ
مِن بينكم سبَقَ الأنباءَ والكُتُبَا
أملى عليه الهوى والحقدُ فاندفعَت
يداه ترتجلانِ الماءَ واللهَبَا٢٣
إذا رأيتَ الهوى في أُمةٍ حَكَمًا
فاحكمْ هنالك أنَّ العقلَ قد ذهَبَا
قالوا الحمايةُ زالت قُلتُ لا عجَبٌ
بل كان باطلُها فيكم هو العَجبَا
رأسُ الحماية مقطوعٌ فلا عَدِمَت
كنانةُ اللهِ حَزمًا يقطعُ الذَّنَبَا
لو تسألونَ «ألِنْبي» يوم جندَلَها
بأيِّ سيفٍ على يافُوخِها ضرَبَا٢٤
أبِالذي جرَّ يومَ السِّلم مُتَّشِحًا
أم بالذي هزَّ يومَ الحربِ مُختضِبَا
أم بالتكاتُفِ حولَ الحقِّ في بلدٍ
مِن أربعينَ يُنادِي الويلَ والحَرَبَا٢٥
يا فاتحَ القدس خَلِّ السيفَ ناحيةً
ليس الصليبُ حديدًا كان بل خَشَبَا
إذا نظرتَ إلى أين انتهَت يدُهُ
وكيف جاوَزَ في سلطانِه القُطُبَا
علِمتَ أنَّ وراءَ الضعفِ مَقدرةً
وأنَّ للحقِّ لا للقوةِ الغلَبَا
١
لم يألُ: لم يُقصِّر. قال تعالى: لَا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا. وهذا البيت من الحِكم الغالية
التي لا تُتاح لغير أمير الشعراء؛ فكم وراء جهاد الحياة من راحة!
وكم وراء الضعف من قوة!
٢
اللبانة: الحاجة. والقشب، جمع قشيب: الجديد. وفي هذا البيت
استفزاز للهِمم، وبيان لأن سبيل المجد طويل وميدانه متَّسع.
٣
الجد: الاجتهاد في الأمر. وفي هذا البيت نوعٌ من البيان المربِّي
للأمم في نهوضها؛ فكثيرًا ما يَستفزُّ الطرب أناسًا فيطير بهم، أو
يستحكم اليأس منهم فيُرديهم.
٤
تثبت العين: تصحِّح. وفي هذا البيت تصوير للتردُّد والذعر والهلع
والشك الذي يصيب الإنسان من أموره، فلا يستطيع الاهتداء، ولا
يستبين طريق الصواب.
٥
الريب: جمع ريبة، مثل سدرة وسدر، الظن. وكم من رجل تُسدُّ أمامه
كُوى الحياة، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، ولا سبب لهذا إلا الشكوك
والأوهام.
٦
الخطُّ: موضعٌ باليمامة يُنسَب إليه على لفظه، فيقال: رماح خطية.
والرماح لا تنبت به، ولكنه ساحل للسفن التي تحمل القنا إليه وتعمل
به. وقال الخليل: إذا جعلت النسبة اسمًا لازمًا قُلت خِطِّية، بكسر
الخاء، ولم تذكُر الرماح، وهذا كما قالوا: ثياب قبطية (بالكسر)،
فإذا جعلوه اسمًا حذفوا الثياب وقالوا قُبطية (بالضم)؛ فَرقًا بين
الاسم والنسبة. وما أحسنَ أن تنتشر هذه الحِكم بين أفراد أمتنا
الناهضة؛ حتى تعرف حقوقها وواجباتها.
٧
أهب: جمع إهاب، ككتاب وكتب، والإهاب: الجِلد.
٨
بيَّن في هذا البيت شاعرُنا نوعًا من أنواع الصحبة هو خيرها، وهو
وحده المحمود عواقبه؛ ذلك النوع هو أن يصحب الحقَّ — وهو السمح
الكريم — صبرٌ جميل على وثبات الباطل حتى يدمغه فإذا هو زاهق.
والصبر من خير الفضائل التي هي جماع كل خير؛ ولهذا ذُكِر في مَواطن
كثيرة من القرآن الكريم، ورُوي أنه كان الرجلان من أصحاب محمد
ﷺ إذا التقيا لم يتفرقا حتى يُوصيَ كلٌّ منهما أخاه بالصبر
والحق.
٩
أُلجِئُوا: اضطُروا وأُكرِهوا. ولجَئوا: اعتصموا. وجلَّ الشيء
يجِلُّ (بالكسر): عظُم، فهو جليل. وحزَبهم الأمر يحزبهم، من باب
قتل: أصابهم. ولعمري إن المفزع الوحيد عند وثبات الأحداث إنما هو
في الاعتصام بالتعاون والقضاء على التحزُّب.
١٠
السُّرى: جمع سرية، بضم السين وفتحها، يقال: سرينا سَرْية من
الليل، وسُرْية. قال أبو زيد: ويكون السُّرى أول الليل وأوسطه
وآخره. وقد استعملت العرب سُرًى في المعاني تشبيهًا لها بالأجسام
مجازًا واتساعًا. قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ
إِذَا يَسْرِ. وكأن الشاعر أراد حفز الهمم وشحذ
العزائم لاجتلاء صبح الآمال.
١١
الراحة: بطن الكف، والجمع راحات وراح. قصد الشاعر في هذا البيت
أن مصر أصبح بين يدَيها عهدٌ جديد، وأن في يد مليكها عقدًا وثيقًا،
ومظهر ذلك كله استقلال البلاد الذي أعلنه جلالة الملك بعد أن عدا
العادي زمنًا طويلًا عليه.
١٢
فسح: جمع فسحة، مثل غرفة وغرف. والرحب، جمع رحبة، مثل قصبة وقصب،
وهي الساحة المنبسطة.
١٣
يدُ الله: قدرة الله. والمناكب: جمع مَنكِب كمجلس، وهو مجتمَع
رأس العضد والكتف. وعالج الأمر: باشره بمشقة. والمصراع من الباب:
الشطر. والأرب: الحاجة. ولقد شاء الشاعر أن يُصوِّر جهاد الأمة وقد
دجا ليل الحوادث، واستأسد العادي، والأمة تُصابره، وتُدافع الخطوب،
وتُلقي عنها نيرها، وتريد الإفلات من عنَتِها إلى حيث أبوابُ
النصر.
١٤
ما أحسنَ أن يُودِع الشاعر في ثنايا هذا البيت الأمل الواسع
يدركه ذو الهمة الكبيرة ولو بعد حين.
١٥
في هذا البيت شفاءٌ لما يصيب النفوس من ألم الإخفاق وصدمات
الأيام؛ فلئن أعيا الإنسانَ شأنُ تلك الحياة فلن يعدم الخير العميم
في دار النعيم؛ وبذلك يعِد المرء بإحدى الحسنيَين، ولن يذهب العُرف
بين الله والناس.
١٦
لقد شاء أن تقيس الأمة أمرها بمقياس صحيح حتى تتجاوز
الخطل.
١٧
وفي هذا البيت أراد أن يضع بين يدَي الأمة كلَّ دقيق وجليل من
أمرها؛ حتى تستبين حقيقة أمرها، فقال: إن ما جدَّ، وإن كان جليلًا،
إلا أنه قليل إذا قِيس بحقوق الأمة الكاملة. ثم شاء أن يضع على
عواتق رجال الأمة الأمور الخطيرة في حاضرها ومستقبلها، فقال: إن
الأمر للدستور يرفع ما شاء ويجلب ما نفع.
١٨
الركاب (بالكسر): المَطي، الواحد: راحلة، من غير لفظها.
والسُّرى: السير ليلًا، جمع سُرْية مثل مُدْية ومُدًى. ونصبًا:
تعبًا. وقد صوَّر شاعرنا في هذا البيت ما قطَعته الأمة من مراحل
جهادها في سبيل حريتها.
١٩
في هذَين البيتين يُبيِّن الشاعر ما للآراء المجتمِعة من تصريف
الأمور وقيادة الأمم وتهوين الصعاب، وسبيل ذلك اصطفاء نخبة رجالها
إذا جدَّ الجِدُّ وحزب الأمر، فإن شاءوا بحكمتهم جاوزوا الصعاب
وتخطَّوا شوك القتاد، وإن قعدت بهم هممهم وأعوزتهم حكمتهم ذاقوا
وأذاقوا الأمة عذاب الهُون، وقلَّبوها على جمر الغَضا.
٢٠
قصد الشاعر إلى أن بعيد النظر يرى الدهر قُلبًا والأحداث لا تبقى
سرمدًا؛ فلا يُؤيِسه الخَطب الداهم، ويرجو في الغد ما أعجزه
اليوم.
٢١
يريد الشاعر أن يُبيِّن ما يعتور الأممَ في نهوضها فيَثنيها عن
غايتها، ويعوق وُثوبها، ثم هو بعدُ يأمر أمته بأن تُحاذِر الوقوع
في هذا الشر، ورأس تلك الآثام الاعتداد بالنفس، والإعجاب بالعمل،
وانتفاخ الأوداج صلفًا وكبرياء، ثم شاء أن يضرب مثلًا بالجيش
المُقاتِل ينسى ما هو فيه من جلائل الأخطار، ويعمد إلى حطامٍ فانٍ
يُحصيه ويَجمعه، فلا جرم أن نصيب هذا الجيش الفشل اللازم، ولقد
أدَّب الله المؤمنين أدبًا عاليًا حينما خالفوا محمدًا
ﷺ
ولاح لهم النصر، فأخذوا يجمعون الغنائم ويُحصون الأسلاب؛ ففشلوا
وندموا، وذلك مُفصَّل في سورة «آل عمران».
٢٢
الأكاليل: جمع إكليل، شِبه عصابة تُزيَّن بالجوهر، ويُسمَّى
التاج إكليلًا. والمخشلب: الزجاج.
٢٣
ترتجلان: تبتدئان من غير تهيئة. وقد شاء الشاعر أن يُنحي على
أولئك الذين يضعون أنفسهم موضع التاريخ، فيكيلون الثناء ويُفحِشون
في الألقاب، ويخلطون بين المتناقضين.
٢٤
جندلها: أرداها. واليافوخ: مقدَّم الرأس.
٢٥
حرب، كفرح: كَلِبَ واشتدَّ غضبه، فهو حَرِبٌ.