محمد فريد بك١
كلُّ حيٍّ على المنِيَّة غادي
تتوالى الرِّكابُ والموتُ حادي٢
ذهب الأوَّلونَ قَرنًا فقَرنًا
لم يدُم حاضرٌ ولم يبقَ بادي٣
هل ترى منهمُ وتسمعُ عنهم
غيرَ باقي مآثرٍ وأيادي٤
كُرَةُ الأرضِ كم رمَت صَولجانًا
وطوَت من مَلاعبٍ وجِياد
والغُبارُ الذي على صفحتَيها
دوَرانُ الرَّحى على الأجساد٥
كلُّ قبرٍ من جانبِ القَفرِ يبدو
علَمَ الحقِّ أو مَنارَ المعاد
وزِمامُ الرِّكابِ من كلِّ فجٍّ
ومَحطُّ الرِّحالِ من كلِّ وادي
تطلعُ الشمسُ حيث تطلعُ نَضْخًا
وتَنَحَّى كمِنجَلِ الحصَّاد٦
تلك حمراءُ في السماءِ وهذا
أعوَجُ النَّصلِ من مِراسِ الجِلاد
ليتَ شِعري تعمَّدا وأصرَّا
أم أعانا جِنايةَ الميلاد
كذَبَ «الأزهرانِ» ما الأمرُ إلا
قدَرٌ رائحٌ بما شاءَ غادي٧
يا حَمامًا ترنَّمَت مُسعِداتٍ
وبها فاقةٌ إلى الإسعاد٨
ضاقَ عن ثُكلِها البُكى فتغنَّت
رُبَّ ثُكلٍ سمِعتَه من شادي٩
الأناةَ الأناةَ كلُّ أليفٍ
سابقُ الإلفِ أو مُلاقي انفراد
هل رجَعتُنَّ في الحياة لفَهمٍ
إن فَهمَ الأمورِ نِصفُ السَّداد
سَقَمٌ من سلامةٍ وعزاءٌ
من هناءٍ وفُرقةٌ من وِداد
يُجتنى شهدُها على إبَرِ النحـ
ـلِ ويُمشى لوَردِها في القَتاد١٠
وعلى نائمٍ وسَهرانَ فيها
أجَلٌ لا ينامُ بالمِرصاد
«لُبَدٌ» صادَه الرَّدى وأَظنُّ النَّـ
ـسْرَ من سَهمِه على ميعاد١١
ساقةَ النَّعشِ بالرئيس رُوَيدًا
مَوكِبُ الموتِ مَوضعُ الإتِّئادِ١٢
كلُّ أعوادِ مِنبرٍ وسريرٍ
باطلٌ غيرَ هذه الأعواد
تستريح المطِيُّ يومًا وهذي
تنقلُ العالَمِين من عهدِ عادِ
لا وراءَ الجِيادِ زِيدَت جلالًا
منذ كانت ولا على الأجياد
أسَألتُم حقيبةَ الموتِ ماذا
تحتَها من ذخيرةٍ وعَتاد
إن في طيِّها إمامَ صُفوفٍ
وحَواريَّ نِيَّةٍ واعتقاد١٣
لو تركتُم لها الزِّمامَ لَجاءت
وحْدَها بالشهيدِ دارَ الرشاد
انظروا هل ترَونَ في الجمعِ مِصرًا
حاسرًا قد تجلَّلَت بسواد
تاجُ أحرارِها غُلامًا وكهلًا
راعَها أن تراه في الأصفاد
وسِّدُوه الترابَ نِضوَ سِفارٍ
في سبيلِ الحقوقِ نِضوَ سُهاد١٤
واركزوه إلى القيامةِ رُمحًا
كان للحَشدِ والنَّدى والطِّراد
وأقِرُّوه في الصفائحِ عَضبًا
لم يَدِنْ بالقَرارِ في الأغماد
نازِحَ الدارِ أقصرَ اليومَ بَينٌ
وانتهَت مِحنةٌ وكفَّت عوادي١٥
وكفَى الموتُ ما تخافُ وترجو
وشفى من أصادقٍ وأعادي
مَن دنا أو نأى فإن المنايا
غايةُ القُربِ أو قُصارى البِعاد
سِرْ معَ العمرِ حيثُ شِئتَ تَئوبا
وافقدِ العمرَ لا تَؤبْ من رُقاد
ذلك الحقُّ لا الذي زعموه
في قديمٍ من الحديث مُعاد
وجرى لفظُه على ألسُنِ النا
سِ ومعناه في صدورِ الصِّعاد١٦
يتحلَّى به القويُّ ولكنْ
كتحلِّي القتالِ بِاسمِ الجهاد
هل ترى كالترابِ أحسنَ عدلًا
وقيامًا على حقوقِ العباد١٧
نزل الأقوياءُ فيه على الضَّعْـ
ـفَى وحلَّ الملوكُ بالزُّهَّاد
صفَحاتٌ نَقِيَّةٌ كقلوبِ الرُّ
سْلِ مغسولةٌ من الأحقاد
قُم إنِ اسْطَعتَ من سريرك وانظر
سِرَّ ذاك اللواءِ في الأجناد
هل تراهم وأنتَ مُوفٍ عليهم
غيرَ بُنيانِ أُلفةٍ واتِّحاد١٨
أُمَّةٌ هُيِّئَت وقومٌ لخير الدَّ
هْرِ أو شرِّهِ على استعداد
مصرُ تبكي عليك في كلِّ خِدرٍ
وتَصوغُ الرثاءَ في كلِّ نادي
لو تأمَّلتَها لَراعَك منها
غُرَّةُ البِرِّ في سَوادِ الحِداد
مُنتهى ما به البلادُ تُعزَّى
رجُلٌ مات في سبيلِ البلاد
أُمَّهاتٌ لا تحملُ الثُّكلَ إلا
للنجيبِ الجريء في الأولاد
ﮐ «فريدٍ» وأين ثاني فريدٍ
أيُّ ثانٍ لواحدِ الآحاد
الرئيسِ الجوادِ فيما علِمْنا
وبلَونا وابنِ الرئيسِ الجواد
أكَلَت مالَه الحقوقُ وأبْلَى
جِسمَه عائدٌ من الهمِّ عادي
لك في ذلك الضَّنى رِقَّةُ الرو
ح وخفْقُ الفؤادِ في العُوَّاد
عِلَّةٌ لم تَصِلْ فِراشَك حتى
وطِئتْ في القلوب والأكباد
صادفَت قُرحةً يُلائمها الصبـ
ـرُ وتأبى عليه غيرَ الفساد
وعَدَ الدهرُ أن يكون ضِمادًا
لك فيها فكان شرَّ ضِماد
وإذا الرُّوح لم تُنفِّس عن الجسـ
ـمِ ﻓ «بقراطُ» نافخٌ في رماد١٩
١
محمد بك فريد: الرئيس الثاني للحزب الوطني، وهو الضحية الغالية للوطنية
المصرية؛ فقد ورِث عن والده ثروةً طائلة جدًّا، بذلها إلى آخر درهم في سبيل طلب
الاستقلال لمصر والسودان، وظل يجاهد إلى أن مات مُعدمًا فقيرًا في سنة ١٩٢٠م،
محكومًا عليه بالنفي والتشريد، حيث لم يُسمح له بالعودة إلى وطنه إلا
ميتًا.
٢
الحادي: هو الذي يغنِّي للقافلة فتنشط في مَسيرها.
٣
الحاضر: ساكن الحضر. والبادي: ساكن البادية.
٤
الأيادي: جمع يد، ويقصد باليد العطية أو الصنيعة، ولا تجمع اليد
على أيادٍ إلا بهذا المعنى، فإذا أريد جمع اليد الحقيقية قيل:
أيدٍ.
٥
المفهوم من المقام أن الرحى المقصودة هي رحى المنون، فاكتفى
بتعريفها بأل، كأنه يقول: الرحى المعهودة.
٦
قوله «وتنحَّى كمنجل الحصاد»: أي هلالًا شكله كالمنجل في
اعوجاجه.
٧
الأزهران: الشمس والقمر.
٨
الإسعاد: الإعانة، تقول أسعِدْني على كذا؛ أي أعنِّي
عليه.
٩
الثكل هنا: بمعنى الحزن. والشادي: المغنِّي.
١٠
القتاد: شجرٌ صلب له شوك كالإبرة.
١١
لبد، بضم اللام وفتح الباء: علَمٌ على آخر نسور لقمان، زعموا أن
لقمان هذا عاش عمر سبعة أنسر، كان آخرها النسر المسمى «لبد». أما
قوله «وأظن النسر» فليس المقصود الطائر المعروف بالنسر، وإنما يقصد
أحد الكواكب في السماء معروفًا باسم النسر. يقول: إن لكل كائن
سهمًا من المنية مقدورًا.
١٢
ساقة الجيش أو ساقة النعش: هم السائرون في المقدمة. والاتئاد:
بمعنى الترفُّق والتمهُّل.
١٣
الحواري: مفرد الحواريين، وهم الصفوة المختارة من الصحاب.
١٤
النضو: المهزول الجسم.
١٥
عوادي الدهر: عوائقه.
١٦
الصعاد: الرماح.
١٧
يقول: إنه لم يجد الحق خالصًا في هذه الأرض إلا للقوة، ولم يجد
العدل كاملًا إلا في التراب، حيث يسوِّي الأقوياء بالضعفاء،
والطامعين بالقانعين.
١٨
يشير هذا البيت إلى حقيقةٍ تاريخية، هي أن عودة الفقيد ميتًا
كانت في زمن اتحاد الأمة المصرية جميعًا على طلب الاستقلال التام،
فلم يكن هناك أحزاب مختلفة المطالب وقتئذٍ.
١٩
بقراط: هو أبو الطب كما يقولون.