ثروت باشا١
يموتُ في الغابِ أو في غيره الأَسدُ
كلُّ البلادِ وِسادٌ حين تُتَّسَدُ٢
قد غيَّبَ الغربُ شمسًا لا سَقامَ بها
كانت على جنَباتِ الشرقِ تَتَّقِدُ
حدا بها الأجَلُ المحتومُ فاغتربَت
إن النفوسَ إلى آجالِها تَفِدُ
كلُّ اغترابٍ مَتاعٌ في الحياةِ سوى
يومٍ يُفارِقُ فيه المُهجةَ الجسدُ
نعى الغمامَ إلى الوادي وساكنِهِ
برقٌ تَمايلَ منه السهلُ والجَلَدُ
برقُ الفجيعةِ لمَّا ثارَ ثائرُهُ
كادت كأمسٍ له الأحزابُ تَتَّحد
قام الرجالُ حَيارى مُنصِتين له
حتى إذا هدَّ من آمالهم قعدوا
علا الصعيدَ نهارٌ كلُّه شجَنٌ
وجلَّل الريفَ ليلٌ كلُّه سُهُدُ
لم يُبقِ للضاحكين الموتُ ما وجدوا
ولم يَرُدَّ على الباكين ما فقدوا
وراءَ ريبِ الليالي أو فُجاءتِها
دمٌ لكلِّ شماتٍ ضاحكٍ رَصَدُ٣
باتت على الفُلْكِ في التابوتِ جَوهرةٌ
تكادُ بالليل في ظلِّ البِلى تَقِدُ٤
يُفاخِرُ النيلُ أصدافَ الخليج بها
وما يدبُّ إلى البحرين أو يَرِدُ٥
إن الجواهرَ أسناها وأكرَمُها
ما يقذفُ المهدُ لا ما يقذفُ الزَّبَدُ
حتى إذا بلَغَ الفُلكُ المَدى انحدرَت
كأنها في الأكُفِّ الصارمُ الفَرِدُ
تلك البقيَّةُ من سيفِ الحِمى كِسَرٌ
على السرير ومن رُمحِ الحِمى قِصَدُ٦
قد ضمَّها فزَكا نعشٌ يُطافُ به
مُقدَّمٌ كلِواءِ الحقِّ مُنفرِدُ
مشَت على جانبَيه مصرُ تنشُدُهُ
كما تدلَّهَت الثَّكْلى وتفتقِدُ٧
وقد يموتُ كثيرٌ لا تُحِسُّهمُ
كأنهم من هَوانِ الخَطبِ ما وُجِدوا
ثُكْلُ البلادِ له عقلٌ ونكْبتُها
هي النجابةُ في الأولاد لا العدد
مُكلِّلُ الهامِ بالتصريح ليس له
عُودٌ من الهامِ يَحويه ولا نَضَدُ٨
وصاحبُ الفضلِ في الأعناقِ ليس له
من الصنائعِ أو أعناقهم سَنَدُ
خلا من المِدفعِ الجبَّارِ مَركَبُهُ
وحلَّ فيه الهُدى والرفقُ والرَّشَدُ
إن المَدافعَ لم يُخلَقْ لصُحبتِها
جندُ السلام ولا قُوَّادُه المُجُدُ
يا بانِيَ الصرحِ لم يَشغَلْه مُمتدِحٌ
عن البِناءِ ولم يصرفْه مُنتقِدُ
أصمَّ عن غضبٍ من حولِه ورِضًا
في ثورةٍ تَلِدُ الأبطالَ أو تَئِدُ٩
تصريحُك الخطوةُ الكبرى ومرحلةٌ
يدنو على مِثلِها أو يبعدُ الأمَدُ
الحقُّ والقوةُ ارتدَّا إلى حَكمٍ
من الفياصل ما في دينه أوَدُ
لولا سِفارتُك المهديَّةُ اختَصما
وملَّ طُولَ النِّضالِ الذئبُ والنَّقَدُ١٠
ما زِلتَ تَطرقُ بابَ الصلحِ بينهما
حتى تفتَّحتِ الأبوابُ والسُّدَدُ
وجدتَها فرصةً تُلقي الحِبالُ لها
إن السياسةَ فيها الصَّيدُ والطَّرَدُ١١
طلبتَها عندَ هُوجِ الحادثاتِ كما
يمشي إلى الصيدِ تحتَ العاصفِ الأَسَدُ
لمَّا وجدتَ مُعَدَّاتِ البناءِ بنَت
يداك للقوم ما ذمُّوا وما حمِدوا
بنَيتَ صرْحَك من جُهدِ البلاد كما
تُبنى من الصَّخَرِ الآساسُ والعُمُدُ
فيه ضحايا من الأبناءِ قيِّمةٌ
وفيه سعيٌ من الآباءِ مُطَّرِدُ
وفي أواسِيه أقلامٌ مُجاهِدةٌ
على أسِنَّتِها الإحسانُ والسَّدَدُ١٢
وفيه ألويةٌ عزَّ الجهادُ بهم
لولا المنِيَّةُ ما مالوا ولا رقدوا
رمَيتَ في وَتِدِ الذلِّ القديمِ به
حتى تزعزعَ من أسبابه الوتِدُ
طوى حِمايتَه المحتلُّ وانبسطتْ
حمايةُ اللهِ فاستذرى بها البلدُ
نَمْ غيرَ باكٍ على ما شِدتَ من كرمٍ
ما شِيدَ للحقِّ فهْو السَّرمدُ الأبدُ
يا «ثروةَ» الوطنِ الغالي كفَى عظةً
للناس أنك كَنزٌ في الثرى بَدَدُ١٣
لم يُطغِك الحُكمُ في شتَّى مَظاهرِهِ
ولا استخفَّك لِينُ العيشِ والرَّغَدُ
تغدو على الله والتاريخ في ثقةٍ
ترجو فتُقدِمُ أو تخشى فتَتَّئدُ
نشأتَ في جبهةِ الدنيا وفي فمِها
يدورُ حيث تدورُ المجدُ والحسَدُ
لكلِّ يومٍ غدٌ يمضي بِرَوعتِهِ
وما ليومِك يا خيرَ اللِّداتِ غدُ
رمَتكَ في قنواتِ القلبِ فانصدعَت
منِيَّةٌ ما لها قلبٌ ولا كَبِد
لمَّا أناخت على تامُورِك انفجرَت
أزْكَى من الوَردِ أو من مائه الوُرُدُ١٤
ما كلُّ قلبٍ غدا أو راحَ في دمه
فيه الصديقُ وفيه الأهلُ والولد
ولم تُطاوِلْكَ خوفًا أن يُناضِلَها
منك الدهاءُ ورأيٌ مُنقِذٌ نَجِدُ
فهل رثى الموت للبرِّ الذَّبيحِ وهل
شجَاه ذاك الحنانُ الساكنُ الهَمِدُ
هَيهات لو وُجِدَت للموت عاطفةٌ
لم يَبكِ من آدمٍ أحبابَه أحَدُ
مشَت تَذودُ المنايا عن وديعتها
مدينةُ النورِ فارتدَّت بها رَمَدُ١٥
لو يُدفَعُ الموتُ ردَّت عنك عادِيَهُ
للعِلمِ حولك عينٌ لم تنَمْ ويَدُ
«أبا عزيزٍ» سلامُ اللهِ لا رُسُلٌ
إليك تحمل تسليمي ولا بُرُدُ١٦
ونفحةٌ من قوافي الشِّعرِ كنتَ لها
في مجلسِ الراحِ والرَّيحانِ تحتشدُ
أرسلتُها وبعثتُ الدمعَ يكنفُها
كما تَحدَّرَ حولَ السَّوسنِ البَرَدُ١٧
عطفتُ فيك إلى الماضي وراجَعَني
ودٌّ من الصِّغَرِ المعسولِ مُنعقِدُ
صافٍ على الدهر لم تُقفِرْ خليَّتُهُ
ولا تغيَّر في أبياتِها الشُّهُدُ
حتى لمحتُكَ مرموقَ الهلالِ على
حداثةٍ تَعِدُ الأوطانَ ما تَعِدُ
والشِّعرُ دمعٌ ووِجدانٌ وعاطفةٌ
يا ليتَ شِعريَ هل قلتُ الذي أَجِدُ١٨
١
هو المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، كان زعيمًا وطنيًّا عظيمًا، وسياسيًّا
إداريًّا خطيرًا، تولَّى رياسة الحكم في البلاد أكثر من مرة، وظفر من السياسة
الإنجليزية لمصر بتصريح ٢٨ فبراير، وقد سافر إلى أوروبا لبعض المفاوضات
السياسية المتممة لاستقلال مصر، فلم يُمهِله الموت، فقضى بفرنسا في سنة ١٩٢٨م،
وجيء به ميتًا، وكان بينه وبين أمير الشعراء صداقةٌ حميمة ومودةٌ قديمة، ظهر
أثرهما في هذه المرثية التي تقرؤها فتُحِسُّ رجْعَها يعود إليك من أعماق
الخلود.
٢
هذا المطلع يُشير إلى موته بفرنسا.
٣
رصد: بمعنى مترقِّب.
٤
يشير إلى مجيئه من أوروبا في نعش على الباخرة. وتقد:
تضيء.
٥
يريد بالخليج: الخليج الفارسي، وبالبحرين: مجموعة جزر عربية
بالقرب من الشاطئ الغربي للخليج الفارسي، وعندها يصاد
اللؤلؤ.
٦
القصد (بكسر القاف): جمع قِصدة بكسرها أيضًا، وهي القطعة مما
يُكسَر، ويقال رمح قصد، بكسر الصاد؛ أي منكسر.
٧
التدلُّه: ذهاب الفؤاد من عشق أو حزن ونحوهما. وقوله «تفتقد»: من
قولهم وفي الليلة الظلماء يُفتقَد البدرُ.
٨
العود هنا: هو السرير. النضد (محركة الضاد): ما نُضِّد من متاع،
والسرير يُنضد عليه. كأنه يعجب لمَن كلَّل هامات مصر بمجيئه لها
بهذا الفوز السياسي في تصريح ٢٨ فبراير، كيف لا يحويه ميتًا سريرٌ
متَّخَذ من الهام أو منضد بها؛ حتى يكون الجزاء من جنس العمل؟! ومن
هذا النحو يقول البيت التالي: «وصاحب الفضل في الأعناق …
إلخ.»
٩
يريد بالثورة: ثورة مصر سنة ١٩١٩م. والوأد: دفن الأحياء. يريد
أنه كان يعمل في بناء صرح الوطن بدون رغبة في مدح أو خوف من ذم، في
شجاعة لا تخاف الثورة وهي لا عقل لها.
١٠
النقد: جنس من الغنم قبيح الشكل من الهزال أو غيره.
١١
الطرد: مطاردة الصيد.
١٢
الأواسي: جمع آسية، وهي من البِناءِ المُحكُمُ الدعامة. والسدد:
بمعنى السداد؛ أي الصواب.
١٣
البدد: المتفرق.
١٤
التامور: القلب. والوُرُد، جمع وريد: العِرق في الجسم.
١٥
مدينة النور: تُطلَق في هذا العصر على باريس.
١٦
البُرُد: جمع بريد.
١٧
السوسن: نوع من الزهر. والبرَد: هو ما يتساقط من المطر كحبات
الثلج.
١٨
أي هل قلت الذي يجيش في وجداني.