عبد العزيز جاويش١
أصابَ المُجاهدُ عُقبى الشهيدْ
وألقى عصاه المُضافُ الشَّريدْ
وأمسى جمادًا عدوُّ الجمودِ
وباتَ على القيدِ خَصمُ القيودْ
حداه السِّفارُ إِلى منزلٍ
يُلاقي الخفيفَ عليه الوئيدْ
فقرَّ إلى موعدٍ صادقٍ
مُعِزُّ اليقينِ مُذِلُّ الجحودْ
وبات الحواريُّ من صاحِبَيهِ
شهيدَين أسْرَى إليهم شهيدْ
تَسرَّبَ في مَنكبَي «مصطفى»
كأمسِ وبينَ ذِراعَي «فريد»٢
فيالَكَ قبرًا أكَنَّ الكنوزَ
وساجَ الحقوقَ وحاط العهود
لقد غيَّبوا فيك أمضى السيوفِ
فهل أنت يا قبرُ أوْفَى الغُمود
ثلاثُ عقائدَ في حفرةٍ
تَدُكُّ الجبالَ وتُوهِي الحديد
قعَدنَ فكُنَّ الأساسَ المتينَ
وقامَ عليها البِناءُ المَشيد
فلا تنسَ أمسِ وآلاءَهُ
ألا إن أمسِ أساسُ الوجود٣
ولولا البِلى في زوايا القبورِ
لما ظهرَت جِدَّةٌ للمُهود
ومن طلبَ الخُلْقَ من كنزه
فإن العقيدةَ كنزٌ عَتيد
تعلَّمَ بالصبر أو بالثباتِ
جَليدُ الرجالِ وغيرُ الجليد
طريدَ السياسةِ منذُ الشبابِ
لقد آن أن يَستريحَ الطريد
لقِيتَ الدواهيَ من كَيدِها
وما كالسياسةِ داهٍ يَكيد٤
حمَلتَ على النفس ما لا يُطاقُ
وجاوزَتِ المُستطاعَ الجهود
وقُلِّبتَ في النار مِثلَ النُّضارِ
وغُرِّبتَ مِثلَ الجُمانِ الفريد
أتَذكُر إذ أنت تحتَ «اللواءِ»
نَبِيهَ المكانةِ جَمَّ العديد٥
إذا ما تطلَّعتَ في الشاطئَينِ
رَنا الريفُ وافتنَّ فيك الصعيد
وهزَّ النديُّ لك المَنكبَينِ
وراحَ الثرى من زحامٍ يَميد
رسائل تُذرِي بسجعِ البديعِ
وتُنسي رسائلَ عبدِ الحميد
يَعِيها شيوخُ الحِمى كالحديثِ
ويحفظُها النشءُ حِفظَ النشيد
فما بالُها نَكِرَتها الأمورُ
وطولُ المَدى وانتقالُ الجُدود٦
لقد نسِيَ القومُ أمسِ القريبَ
فهل لأحاديثِه من مُعِيد
يقولون ما ﻟ «أبي ناصرٍ»
وللتُّركِ ما شأنُه والهنود
وفِيمَ تحمَّلَ همَّ القريبِ
من المسلمينَ وهمَّ البعيد
فقلتُ وما ضرَّكم أن يقومَ
من المسلمين إمامٌ رشيد
أتَستكثرون لهم واحدًا
وليَّ القديم نصيرَ الجديد
سعى ليُؤلِّفَ بينَ القلوبِ
فلم يَعْدُ هَدْيَ الكتابِ المَجيد
يَشُدُّ عُرا الدينِ في داره
ويدعو إلى الله أهلَ الجحود
ولِلقومِ حتى وراءَ القِفارِ
دعاةٌ تُغنِّي ورُسْلٌ تشيد
جزى اللهُ مَلْكًا من المُحسِنينَ
رءوفَ الفؤادِ رحيمَ الوريد٧
كأنَّ البيانَ بأيامه
أو العِلمَ تحتَ ظلالِ «الرشيد»٨
يُداوي نداه جِراحَ الكرامِ
ويُدرِكُهم في زوايا اللُّحود
أجارَ عِيالَك من دهرهم
وجامَلَهم في البلاءِ الشديد
تولَّى الوليدةَ في يُتمِها
وكفكفَ بالعطفِ دمعَ الوليد
سلامٌ «أبا ناصرٍ» في الترابِ
يُعِيرُ الترابَ رَفيفَ الورود
بعُدتَ وعزَّ إليك البريدُ
وهل بينَ حيٍّ وميْتٍ بريد
أجلْ بينَنا رُسُلُ الذكرياتِ
وماضٍ يُطِيفُ ودمعٌ يجود
وفكرٌ وإن عقلَتهُ الحياةُ
يظلُّ بوادي المنايا يَرود٩
أجلْ بينَنا الخُشُبُ الدائباتُ
وإِن كان راكبُها لا يعود
مضى الدهرُ وهْي وراءَ الدموعِ
قيامٌ بمُلكِ الصَّحارى قُعود
وكم حمَلَت من صديدٍ يَسيلُ
وكم وضعَت من حِناشٍ ودُود
نشَدتُكَ بالموت إلا أبَنتَ
أأنت شقيٌّ به أم سعيد
وكيف يُسمَّى الغريبَ امروٌ
نَزيلُ الأُبوَّةِ ضيفُ الجُدود١٠
وكيف يُقال لِجارِ الأوائِـ
ـلِ جارِ الأواخرِ ناءٍ وَحيد
١
هو الشيخ عبد العزيز جاويش، أحد السابقين في خدمة القضية المصرية، كان زعيمًا
سياسيًّا دينيًّا عظيمًا، وقد كرَّس حياته لخدمة سياسة بلاد الإسلام عامة، ومصر
وتركيا خاصة، ثم حُكِم عليه بالنفي والتشريد مدةً طويلة، ثم عاد إلى مصر ولم
يلبث إلا بضع سنين، ومات في سنة ١٩٢٩م، وله رسائل سياسية كانت مضرب المثل في
الفصاحة والقوة في وقتها.
٢
هو مصطفى كامل الزعيم الوطني الأول. وفريد: هو محمد فريد الزعيم
الوطني الثاني. وكانا صاحبَي الفقيد في المبدأ والجهاد.
٣
الآلاء: النعم.
٤
الداهي: هو الذي يأتي بالداهية، وهي الأمر العظيم.
٥
كان الفقيد محرِّر جريدة اللواء في عهدها الأول.
٦
الجدود هنا: بمعنى الحظوظ.
٧
هو جلالة فؤاد الأول ملك مصر، حيث تعطَّف على أبناء الفقيد ولم
يتركهم بعد وفاة أبيهم لتصاريف الزمن، فأنعم عليهم بهبةٍ ملكيةٍ
وافرة.
٨
هو هارون الرشيد، وقد اعتزَّ العلم والأدب في عهده اعتزازًا
كبيرًا.
٩
يرود: أي يبحث ويكتشف.
١٠
يقول: إن الميت ينزل في التراب ضيفًا على آبائه وجدوده؛ إذن فليس
يصح أن نعتبره غريبًا ولا وحيدًا.