عبده الحامولي١
ساجعُ الشرقِ طارَ عن أوكارِهْ
وتولَّى فنٌّ على آثارِهْ٢
غالَه نافذُ الجناحَين ماضٍ
لا تَفِرُّ النسورُ من أظفارِهْ
يطرُقُ الفرخَ في الغصون ويغشى
«لُبَدًا» في الطويلِ من أعمارِهْ٣
كان مِزمارَه فأصبح داوُ
دُ كئيبًا يبكي على مِزماره٤
«عبدُه» بَيدَ أن كلَّ مُغنٍّ
عبدُه في افتنانِه وابتكاره
مَعبدُ الدولتَين في مصرَ وإسحا
قُ «السَّمِيَّينِ» ربِّ مصرٍ وجاره٥
في بِساطِ الرشيدِ يومًا ويومًا
في حِمى جعفرٍ وضافي سِتاره٦
صفْوُ مُلكَيهما به في ازديادٍ
ومن الصَّفوِ أن يلوذَ بداره
يُخرِجُ المالكين من حِشمةِ المُلـ
ـكِ ويُنسي الوقورَ ذِكرَ وَقاره
رُبَّ ليلٍ أغارَ فيه القَماري
وأثارَ الحِسانَ من أقماره٧
بصَبًا يُذكِرُ الرِّياضَ صَباهُ
وحجازٍ أرقَّ من أسحاره٨
وغناءٍ يُدارُ لحنًا فلَحنًا
كحديثِ النديمِ أو كعُقاره
وأنينٍ لو أنه من مَشوقٍ
عرف السامعون مَوضعَ ناره
يتمنَّى أخو الهوى منه آهًا
حينَ يُلحى تكون من أعذاره
زفَراتٌ كأنها بثُّ «قيسٍ»
في معاني الهوى وفي أخباره٩
لا يُجاريه في تفنُّنِه العو
دُ ولا يشتكي إذا لم يُجاره
يسمع الليلُ منه في الفجر يا ليـ
ـلُ فيُصغِي مُستمهِلًا في فِراره
فُجِعَ الناسُ يومَ ماتَ «الحمولي»
بدواءِ الهمومِ في عطَّاره
بأبي الفنِّ وابنِه وأخيه
القويِّ المكينِ في أسراره
والأبيِّ العفيفِ في حالتَيهِ
والجوادِ الكريمِ في إيثاره
يحبسُ اللحنَ عن غنيٍّ مُدِلٍّ
ويُذيقُ الفقيرَ من مُختاره١٠
يا مُغيثًا بصوته في الرزايا
ومُعينًا بماله في المَكاره
ومُحِلَّ الفقيرِ بين ذَويه
ومُعِزَّ اليتيمِ بين صِغاره
وعِمادَ الصديق إن مال دهرٌ
وشِفاءَ المحزونِ من أكداره
لستَ بالراحلِ القليلِ فتُنسى
واحدُ الفنِّ أُمَّةٌ في ديارِه
غايةُ الدهر إن أتى أو تولَّى
ما لقيتَ الغداةَ من إدباره
نزل الجِدُّ في الثرى وتَساوى
ما مضى من قيامه وعِثاره
وانقضى الداءُ باليقين من الحا
لَينِ فالموتُ مُنتهى إقصاره
لهْفَ قومي على مَخايلِ عزٍّ
زال عنَّا برَوضِه وهَزاره١١
وعلى ذاهبٍ من العيش ولَّيـ
ـتَ فولَّى الأخيرُ من أوطاره
وزمانٍ أنت الرِّضا من بقايا
هُ وأنت العزاءُ من آثاره
كان للناس ليلُه حينَ تشدو
لحِقَ اليومَ ليلُه بنهاره
١
توفي عبده الحامولي في ١٩٠٢، وكان نادرة الزمن في حسن الصوت وفي ابتكار
الألحان، هذا إلى أريحية ومروءة يُضرب بهما المثل.
٢
الأوكار: جمع وكر، وهو عش الطائر.
٣
لبد: اسم نسر.
٤
يشبِّه صوت المرثي في صفائه بمزمار داوود النبي صاحب
المزامير.
٥
يشبهه بمعبد وإسحاق. ويقصد بقوله «رب مصر وجاره»: ملك مصر وجاره
من أرباب الأقطار العربية؛ يعني أن عبده كان يُطرب الأقطار العربية
جميعها كما كان معبد وإسحاق كذلك.
٦
الرشيد: هو هارون الرشيد. وجعفر: هو جعفر البرمكي وزيره. والغرض
أن المرثي كان يتنقل من بساط الملوك المشابهين للرشيد، إلى بساط
الوزراء المشابهين لجعفر.
٧
القماري: جمع قُمْريَّة، نوع من الحمام حسن التغريد. والأقمار:
جمع قمر. يريد أنه كان يُطرب الحسان الشبيهات بالأقمار.
٨
صبا الرياض (بفتح الصاد): نسيمها. أما كلمة «صبا» الواقعة في أول
البيت فمقصود بها نغمة معروفة في فن الغناء، وهي مفتوحة الصاد
أيضًا، كأنها سُميت بذلك تشبيهًا لها بالنسيم المعروف بالصبا،
وكذلك «حجاز» نغمة معروفة في الغناء أيضًا.
٩
قيس: هو ابن الملوح الشهير بمجنون ليلى.
١٠
المُدِل بالمال: المتباهي به. يشير هذا البيت إلى بعض ما يُؤثَر
عن عبده — رحمة الله عليه — أنه كان يلجأ إليه الفقراء ليحيي أفراح
أولادهم، فيحسن إليهم ويجيب طلبهم، وينفق من ماله في تشييد
الاحتفال اللائق بسهرته، وربما آثر هذه الليلة الفقيرة على دعوة
أحد الأغنياء الكبار، ويروى له في هذا الباب حكايات كثيرة.
١١
الهزار: طائرٌ حسن الصوت، فارسي.