الله والعلم١
لمَن ذلك المُلكُ الذي عزَّ جانبُهْ
لقد وَعَظ الأملاكَ والناسَ صاحِبُهْ٢
أمُلكُكَ يا «إدوَردُ» والمَلِكُ الذي
يَغارُ عليه والذي هو واهِبُهْ٣
أراد به أمرًا فجلَّت صُدورُهُ
فأتبعَهُ لُطفًا فجلَّت عواقبُهْ٤
رمى واستردَّ السهمَ والخَلقُ غافلٌ
فهل يتَّقيهِ خلقُه أو يُراقبُهْ٥
أيَبطُلُ عيدُ الدهرِ من أجلِ دُمَّلٍ
وتَخبُو مَجاليه وتُطوَى مَواكبُهْ٦
ويرجع بالقلبِ الكسيرِ وُفودُهُ
وفيهم مصابيحُ الورى وكواكبُهْ
وتسمو يدُ الدهر ارتجالًا ببأسِها
إلى طُنُبِ الأقواسِ والنصرُ ضارِبُهْ٧
ويستغفر الشعبُ الفخورُ لربِّهِ
ويجمعُ من ذيلِ المَخِيلةِ ساحِبُهْ؟٨
ويُحجَبُ ربُّ العيدِ ساعةَ عيدِهِ
وتنقصُ من أطرافهن مآربُهْ؟٩
ألا هكذا الدنيا وذلك ودُّها
فهلَّا تأنَّى في الأمانيِّ خاطِبُهْ١٠
أعدَّ لها إدوَردُ أعيادَ تاجِهِ
وما في حسابِ اللهِ ما هو حاسِبُهْ
مشَت في الثَّرى أنباؤها فتساءَلَت
مَشارقُهُ عن أمرِها ومَغاربُهْ١١
وكاثَرَ في البَرِّ الحصى مَن يَجوبُهُ
وكاثَرَ مَوجَ البحرِ في البحرِ راكِبُهْ١٢
إلى مَوكبٍ لم تُخرِج الأرضُ مثلَهُ
ولن يَتهادى فوقها ما يُقاربُهْ١٣
إذا سارَ فيه سارَت الناسُ خلفَهُ
وشدَّت مَغاويرَ الملوكِ ركائبُهْ١٤
تُحيطُ به كالنَّملِ في البَرِّ خيلُهُ
وتملأُ آفاقَ البحارِ مَراكبُهْ
نظامُ المجالي والمواكبِ حَلَّهُ
زمانٌ وشيكٌ ريبُه ونوائبُهْ١٥
فبَيْنا سبيلُ القومِ أمنٌ إلى المُنى
إذا هو خوفٌ في الظنونِ مَذاهبُهْ١٦
إذا جاءَت الأعيادُ في كلِّ مِسمَعٍ
تجوبُ الثَّرى شرقًا وغربًا جوائبُهْ١٧
رجاءٌ فلم يلبث فخَوفٌ فلم يدُم
سَلِ الدهرَ أيُّ الحادثَين عجائبُهْ١٨
فيا ليت شِعري أين كانت جنودُه؟
وكيف تراخت في الفداءِ قواضبُهْ؟١٩
ورُدَّت على أعقابهنَّ سفينُهُ
وما ردَّها في البحرِ يومًا مُحارِبُهْ؟٢٠
وكيف أفاتَته الحوادث طِلْبةً
وما عوَّدَته أن تفُوتَ رغائبُهْ؟٢١
لكَ المُلكُ يا مَن خَصَّ بالعزِّ ذاتَهُ
ومَن فوقَ آرابِ الملوكِ مآربُهْ٢٢
فلا عرشَ إلا أنتَ وارثُ عِزِّهِ
ولا تاجَ إلا أنتَ بالحقِّ كاسِبُهْ٢٣
وآمنتُ بالعِلمِ الذي أنت نورُهُ
ومنك آياديه ومنك مَناقبُهْ٢٤
تُؤامنُ مِن خَوفٍ به كلَّ غالبٍ
على أمرِه في الأرضِ والدَّاءُ غالِبُهْ٢٥
سَلُوا صاحب المُلكَين هل ملَكَ القُوَى
وأُسْدُ الشَّرى تعنُو له وتُحاربُهْ؟٢٦
وهل رفع الداءَ العُضالَ وزيرُهُ؟
وهل حجب البابَ الممنَّعَ حاجبُهْ؟٢٧
وهل قدَّمَت إلا دعاةً شعوبُهُ؟
وساعَفَ إلا بالصلاةِ أَقاربُهْ؟٢٨
هنالك كان العِلمُ يُبلِي بلاءَهُ
وكان سلاحُ النفس تُغنِي تَجارِبُهْ٢٩
•••
كريمُ الظُّبا لا يَقرب الشرَّ حَدُّهُ
وفي غيره شرُّ الورى ومَعاطبُهْ٣٠
إذا مَرَّ نحوَ المرءِ كان حياتَهُ
كأصبَع عيسى نحوَ ميْتٍ يُخاطبُهْ
وأيسَرُ من جُرحِ الصُّدودِ فعالُهُ
وأسهَلُ من سَيفِ اللِّحاظِ مَضاربُهْ٣١
عجيبٌ يُرجِّي «مِشرطًا» أو يهابُهُ
مَن الغرب راجيه، مَن الشرق هائبُهْ؟٣٢
فلو تُفتدى بالبِيضِ والسُّمرِ فِديةٌ
لألقَت قناها في البلادِ كتائبُهْ٣٣
ولو أن فوق العِلم تاجًا لتوَّجوا
طبيبًا له بالأمس كان يُصاحبُهْ٣٤
فآمنتُ باللهِ الذي عزَّ شأنُهُ
وآمنتُ بالعِلمِ الذي عزَّ طالبُهْ٣٥
١
نُظِمَت هذه القصيدة بمناسبة حفلة تتويج الملك إدوارد السابع، وتأجيل إقامة
الحفلة لإصابة جلالته بدمل، وذلك في سنة ١٩٠٢م.
٢
عزَّ جانبه: قوِيَ. وعظ الأملاك والناس: نصحهم وذكَّرهم
بالعواقب.
٣
الملك الذي يغار عليه والذي هو واهبه: هو الله تعالى.
٤
جلَّت صدوره: عظُمت. وصدور الأمر: جمع صدر، وصدر كل شيء: أوله.
وعواقبه: جمع عاقبة، وهي آخر كل شيء أيضًا. وأتبعه لطفًا: ألحقه.
والمعنى أن الله الذي وهب هذا المُلك قضى فيه بأمرٍ عظيم، هو موت
الملكة فيكتوريا، ولكنه لطف في هذا القضاء بتتويج إدوارد؛ فكانت
عواقب اللطف عظيمة كما كانت أوائل الخَطب عظيمة.
٥
استردَّ السهم: ردَّه وأرجعه إليه، والألف والسين زائدتان.
والغفلة: غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكُّره له، وقد غفل فهو
غافل.
٦
يبطل عيد الدهر: يتعطَّل. تخبو: تُطفأ. ومجاليه: مواضعه، مِن جلا
الأمر: وضَح وانكشف. والمواكب: جمع موكب، وهو القوم الراكبون
للزينة.
٧
تسمو: تعلو. وارتجل الأمر: ابتدأه من غيرِ تهيئةٍ قبلُ. والبأس:
الشِّدة. والطنب: حبل الخباء.
٨
المخيلة: الكبْر.
٩
يُحجَب: يُمنَع عن الناس. والمآرب: جمع مأربة، وهي
الحاجة.
١٠
الودُّ، مفتوح الواو ومضمومها ومكسورها: هو المودَّة. تأنَّى في
الأمر: ترفَّق وتنظَّر. والأماني: جمع أمنية؛ ما يتمناه المرء.
الخاطب: الداعي إلى نفسه، مِن قولهم خطب المرأة: دعا أهلها إلى
تزويجها منه. والمراد أن مَن يطلب لنفسه مودة الدنيا ينبغي له أن
يترفق في ذلك؛ فضمير خاطبه يرجع إلى «الود».
١١
الثرى: التراب، والمراد الأرض. الأنباء: الأخبار، والضمير
للأعياد. مشارقه ومغاربه: أي مشارق الأرض ومغاربها. وأمرها: أي
الأعياد أيضًا؛ بمعنى أن أنباء تلك الأعياد ذاعت في أقطار الأرض،
فتساءلت عنها مشارقها ومغاربها.
١٢
كاثره: غالبه بالكثرة. والبَر: ضد البحر. والحصى: جمع الحصاة.
وجاب البلاد يجوبها: قطعها. لكثرة المُقبِلين على تلك الأعياد صار
مَن يجوبون منهم الأرض من الكثرة بحيث يَغلبون الحصى إذا كاثروه،
وكذلك راكبو البحر المقبلون عليها يَغلبون موجه بالمكاثرة.
١٣
يتهادى: يمشي مشيًا غير قوي متمايلًا. وما يقاربه: أي ما
يدانيه.
١٤
شدَّ الشيء: أوثقه، ومنه شد الرحال. والمغاوير: جمع مغوار، وهو
الكثير الهجوم على العدو لشجاعته. الركائب: جمع ركوبة، وهي كل ما
رُكِب.
١٥
نظام الشيء: ملاكه وطريقته التي عليها يستقيم، وهو أيضًا الخيط
الذي يُنظم به اللؤلؤ. والمجالي: جمع مَجلًى. وشيك. قريب. والريب
هنا: ما يُكرَه من الحوادث. والنوائب: جمع نائبة، وهي ما يُصيب
الإنسانَ من مكروه.
١٦
بينا، كبينما: ظرف زمان للمفاجأة. وقيل هما للابتداء. وعلى كل
حالٍ تقع بعدهما جملةٌ اسمية أو فعلية، ويحتاجان إلى جواب يتمُّ به
المعنى. والسبيل: الطريق. وأمن: مأمونة. والظنون: جمع ظن، وهو غير
اليقين. والمذاهب: الطُّرق والمسالك، جمع مذهب.
١٧
المسمع: الأذن. وجاب الأرض يجوبها: قطعها، ومنه الجواب.
١٨
الرجاء: الأمل. ولم يلبث: لم يمكث.
١٩
شعري: علمي، مِن شعر بالشيء شعرًا إذا فطن إليه وعلِمه. ويا ليت
شعري: أي ليتني علِمتُ. وتراخت: أبطأت. وقواضبه: سيوفه
القواطع.
٢٠
رُدَّت: أُرجِعَت. وأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخَّر القدم، يقال: رجع
على عقبه، ورجعوا على أعقابهم؛ أي على الطريق الذي كانوا يضعون فيه
أقدامهم. والسفين: جمع سفينة.
٢١
أفاتته طِلْبتَه: أذهبَتها عنه. والطِّلْبة: الشيء المطلوب،
وسكون اللام لضرورة الشعر. والرغائب: جمع رغيبة، وهي الأمر المرغوب
فيه، والعطاء الكثير أيضًا.
٢٢
خصَّه بالشيء: جعله له دون سواه. والآراب: جمع أرب، وهو
الحاجة.
٢٣
العرش: سرير المُلك. والتاج: أصله للعجم، يقال: تُوِّج، إذا لبس
التاج، كما تقول العرب: عُمِّم، إذا لبس العمامة، ثم استُعمل على
وجه العموم. وكاسبه: نائله ورابحه.
٢٤
أياديه: جمع يد، وهي هنا النعمة. ومناقبه: جمع منقبة، وهي الفعل
الطيِّب.
٢٥
تؤامن: أي تعطي الأمان. وكل غالب على أمره: أي لا يُعجِزه
شيء.
٢٦
القوى: جمع قوة، ضد الضعف. وتعنو: تخضع وتَذِل.
٢٧
الداء العضال: الشديد الذي يُعيِي الأطباء. والباب الممنَّع:
الذي لا يُرام.
٢٨
ساعف: ساعد.
٢٩
يبلي بلاءه: يجتهد اجتهاده. والتجارب: جمع تجربة، مِن جرَّبت
الشيء، إذا اختبرته مرةً بعد أخرى.
٣٠
كريم الظُّبا: من إضافة الصفة للموصوف؛ أي الظبا الكريمة.
والظبا: جمع ظبة، وهي حدُّ السيف، أو السنان، أو نحو ذلك، والمراد
السيوف أو نحوها ليستقيم المعنى، فيكون مجازًا من إطلاق اسم الجزء
على الكل. والمعاطب: المهالك، جمع معطب.
٣١
الصدود: الإعراض. وفعاله: جمع فعل. واللحاظ: جمع لحظ. ومضاربه:
جمع مضرب.
٣٢
عجيب: صفة موصوف مقدَّر؛ أي أمرٌ عجيب. ويرجِّي: أي يرجو.
والمشرط: المبضع الذي يفتح به الطبيب الجراحات. ويهابه: يخافه.
و«مَن» في «من الغرب راجيه … إلخ»: فاعل «يرجِّي». يقول: إنه
لَأمرٌ عجيب أن هذا المُلك الذي يرجوه الغرب ويخافه الشرق، يتعلق
رجاؤه أو خوفه بمشرط الطبيب الذي يفتح له دمله.
٣٣
تُفتدى: تُستنقَذ بالفدية. والبيض والسمر: السيوف والرماح.
والقنا: جمع قناة، وهي الرمح. والكتائب: جمع كتيبة، وهي الطائفة من
الجيش مجتمِعة.
٣٤
توَّجوه: ألبسوه التاج.
٣٥
عزَّ شأنه: قوِيَ. وطالب العلم: مُحصِّله.