قاسم بك أمين١
يا أيُّها الدمعُ الوفيُّ بَدارِ
نقضي حقوقَ الرُّفقةِ الأخيارِ٢
أنا إن أهنتُك في ثراهم فالهوى
والعهدُ أن يُبكَوا بدمعٍ جاري٣
هانوا وكانوا الأكرمين وغُودِروا
بالقَفرِ بعد مَنازلٍ وديارِ
لَهْفي عليهم أُسكِنوا دورَ الثرى
من بعدِ سُكْنى السمعِ والأبصار
أين البشاشةُ في وسيمِ وجوههم
والبِّشرُ للنُّدماءِ والسُّمَّار٤
كُنَّا من الدنيا بهم في رَوضةٍ
مرُّوا بها كنسائمِ الأسحار
عطفًا عليهم بالبكاءِ وبالأسى
فتَعهُّدُ الموتى من الإيثار٥
يا غائبينَ وفي الجوانحِ طَيفُهم
أبْكِيكمُ من غُيَّبٍ حُضَّار
بيني وبينكمُ وإن طال المَدى
سفرٌ سأزمعُه من الأسفار
إني أكادُ أرى محلِّيَ بينكم
هذا قَرارُكمُ وذاك قَراري
أوَكُلَّما سمحَ الزمانُ وبُشِّرَت
مصرٌ بفردٍ في الرجالِ مَنار٦
فُجِعَت به فكأنه وكأنها
نجمُ الهدايةِ لم يَدُم للساري
إن المصيبةَ في «الأمين» عظيمةٌ
محمولةٌ لمشيئةِ الأقدار
في أرْيَحيٍّ ماجدٍ مُستعظَمٌ
رُزْءُ الممالكِ فيه والأمصار
أوْفَى الرجالٍ لعهدِه ولِرأيه
وأبَرُّهم بصديقه والجار
وأشَدُّهم صبرًا لمُعتقَداته
وتأدُّبًا لمُجادلٍ ومماري
يَسقي القرائحَ هادئًا مُتواضعًا
كالجدولِ المُترقرِقِ المُتواري
قُل للسماءِ تَغُضُّ من أقمارها
تحتَ الترابِ أحاسنُ الأقمار
من كلِّ وضَّاءِ المآثرِ فائتٍ
زُهْرَ النجومِ بزَهْرِه السيَّار
تمضي اللياليَ لا تنالُ كمالَهُ
بمَعيبِ نقصٍ أو مَشينٍ سرار٧
آثارُه بعدَ المواتِ حياتُهُ
إن الخلودَ الحقَّ بالآثار
يا من تَفرَّدَ بالقضاءِ وعِلمِهِ
إلا قضاءَ الواحدِ القهَّار
ما زِلتَ ترجوه وتخشى سهمَهُ
حتى رمى فأحطتَ بالأسرار
هلَّا بُعِثتَ فكنتَ أفصحَ مَخبرًا
عمَّا وراءَ الموتِ من «لازار»٨
انفُضْ غُبارَ الموتِ عنك وناجِني
فعَسايَ أعلمُ ما يكونُ غُباري
هذا القضاءُ الجِدُّ فارْوِ وهاتِ عن
حُكمِ المنِيَّةِ أصدقَ الأخبار
كُلٌّ وإن شغَفَته دُنياه هوًى
يومًا مُطلِّقُها طلاقَ «نَوار»٩
للهِ «جامعةٌ» نهضتَ بأمرها
هي في المَشارقِ مَصدرُ الأنوار١٠
أُمنيةُ العُقلاءِ قد ظفِروا بها
بعدَ اختلافِ حوادثٍ وطواري
والعقلُ غايةُ جَرْيِه لأعِنَّةٍ
والجهلُ غايةُ جَرْيِه لعِثَار
لو يعلمون عظيمَ ما تُرجى له
خرجَ الشحيحُ لها من الدينار
تشري الممالكُ بالدَّمِ استقلالَها
قُوموا اشتروه بفضةٍ ونُضار
بالعِلمِ يُبنى المُلكُ حقَّ بِنائه
وبه تُنالُ جلائلُ الأخطار
ولقد يُشادُ عليه من شُمِّ العُلا
ما لا يُشادُ على القنا الخطَّار١١
إن كان سرَّك أن أقمتَ جِدارَها
قد ساءها أن مالَ خيرُ جِدار
أضحَت من اللهِ الكريمِ بذمَّةٍ
مرموقةِ الأعوانِ والأنصار
كُلِئتْ بأنظارِ «العزيزِ» وحُصِّنَت
ﺑ «فؤادَ» فهْي مَنيعةُ الأسوار١٢
وإذا العزيزُ أعارَ أمرًا نظرةً
فاليُمنُ أعجَلُ والسُّعودُ جواري
ماذا رأيتَ من الحِجابِ وعُسرِهِ
فدعَوتَنا لِتَرفُّقٍ ويَسار
رأيٌ بدا لك لم تَجِدْه مُخالفًا
ما في الكتابِ وسُنَّةِ المُختار
والباسِلان شجاعُ قلبٍ في الوغى
وشُجاعُ رأيٍ في وغى الأفكار
أوَدِدتَ لو صارت نساءُ النيل ما
كانت نساءُ «قُضاعةٍ» و«نِزار»١٣
يَجمَعنَ في سِلمِ الحياةِ وحربِها
بأسَ الرجالِ وخشيةَ الأبكار
إن الحِجابَ سماحةٌ ويسارةٌ
لولا وحوشٌ في الرجالِ ضواري
جهِلوا حقيقتَه وحِكمةَ حُكمِهِ
فتَجاوَزوه إلى أذًى وضِرار
يا قُبَّةَ «الغوريِّ» تحتَكِ مأتمٌ
تبقى شعائرُه على الأدهار
يُحيِيه قومٌ في القلوبِ على المَدى
إن فاتهم إحياؤه في دار
هَيهات تُنسى أُمَّةٌ مدفونةٌ
في أربعينَ من الزمانِ قِصارِ
إن شئتَ يومًا أو أردتَ فحقبةً
كُلٌّ يمرُّ كلَيلةٍ ونهار
هاتوا ابنَ «ساعدةٍ» يُؤبِّنُ قاسمًا
وخُذوا المراثيَ فيه من «بشَّار»١٤
من كلِّ لائقةٍ لباذخِ قدرِهِ
عصماءَ بينَ قلائدِ الأشعار
١
المرحوم قاسم بك أمين: هو الزعيم صاحب دعوة تحرير المرأة في مصر، وقد توفي في
سنة ١٩٠٩م.
٢
بدار: يعني بادِرْ.
٣
يقول: إن الذين أبذل دمعي وأهينه في ترابهم هم هواي وموضع حبي،
وليس عجيبًا أن يبكي الإنسان أهل حبه وهواه.
٤
السمار: جمع سامر، والسمر حديث الأصدقاء بالليل.
٥
الإيثار: هو أن تعطي لغيرك ما أنت محتاج إليه.
٦
المنار: هو العَلم يهتدي الناس به في الطريق.
٧
سرار (يفتح السين وكسرها): مشتق من قولهم استسر القمر، إذا خفي
ليلة السرار، وهي آخر ليلة أو ليلتين في الشهر.
٨
لازار، أو عازار: اسم الرجل الذي أحياه سيدنا عيسى. ويقول: لو
بعثت لكنت أفصح في إخبارك عن الموت من هذا الرجل.
٩
نوار: اسم امرأة بعينها كانت زوجة الفرزدق الشاعر، فطلَّقها فندم
كثيرًا حتى ضُرِب المثل بندامته في كل طلاق نادم.
١٠
هي الجامعة المصرية، وكان للفقيد فضلٌ مذكور في إنشائها.
١١
الخطار: أي المهتز، واهتزاز القنا كناية عن استعداده
للقتال.
١٢
العزيز: هو كل ملك لمصر، وكان الخديو عباس وقتئذٍ. وفؤاد: هو
جلالة ملك مصر فؤاد الأول.
١٣
ليس الغرض نساء هاتَين القبيلتين قضاعة ونزار بالذات، وإنما
المقصود المرأة العربية الموصوفة في البيت التالي.
١٤
ابن ساعدة: هو قُسُّ بن ساعدة الإيادي، أحد خطباء العرب الحكماء،
يُضرب به المثل في بلاغة الخطب. وبشَّار: هو بشَّار بن بُرد الشاعر
المشهور. يقول: إن قاسمًا لا يؤبِّنه إلا أمثال قُسٍّ من الخطباء
وأمثال بشَّار من الشعراء.