عاطف بركات باشا١
خفَضتُ لعزةِ الموتِ اليَراعا
وجدَّ جلالُ مَنطقِه فراعا
كفى بالموتِ للنُّذُرِ ارتجالًا
وللعَبَراتِ والعِبَرِ اختراعا
حكيمٌ صامتٌ فضح الليالي
ومزَّق عن خنا الدنيا القناعا
إِذا حضر النفوسَ فَلا نعيمًا
ترى حولَ الحياةِ ولا مَتاعا
كشفتُ به الحياةَ فلم أجِدْها
ولَمْحةَ مائها إلا خِداعا
وما الجرَّاحُ بالآسي المُرجَّى
إِذا لم يقتُلِ الجُثَثَ اطِّلاعا٢
فإن تقُلِ الرِّثاءَ فقُل دموعًا
يُصاغُ بهنَّ أو حِكمًا تُراعى
ولا تكُ مِثلَ نادبةِ المُسجَّى
بكَت كسبًا ولم تبكِ الْتِياعا٣
خلَت دولُ الزمانِ وزُلْنَ رُكنًا
وركنُ الأرض باقٍ ما تداعى٤
كأن الأرضَ لم تشهدْ لقاءً
تكادُ له تَميدُ ولا وداعا
ولو آبَت ثواكلُ كلِّ قرنٍ
وجَدنَ الشمسَ لم تَثكلْ شُعاعا
ولكن تُضرَبُ الأمثالُ رُشدًا
ومنهاجًا لمَن شاءَ اتِّباعا
ورُبَّ حديثِ خيرٍ هاجَ خيرًا
وذِكرِ شجاعةٍ بعث الشُّجاعا
«معارفُ» مصرَ كان لهنَّ ركنٌ
فذُقْنَ اليومَ للركنِ انصداعا
مضى أعلى الرجالِ لها يمينًا
وأرحَبُهم بخلَّتِها ذِراعا
وأكثرُهم لها وقَفاتِ صِدقٍ
إباءً في الحوادث أو زَماعا
أتَته فنالَها نَفَلًا وفَيئًا
فلا هِبةً أتَته ولا اصطناعا٥
تنقَّلَ يافعًا فيها وكهلًا
ومن أسبابها بلَغَ اليَفاعا
فتًى عجمَته أحداثُ الليالي
فلا ذُلًّا رأينَ ولا اختضاعا
سجنَّ مُهنَّدًا ونفَينَ تِبرًا
وزِدنَ المِسكَ من ضغطٍ فضاعا٦
شديدٌ صُلَّبٌ في الحقِّ حتى
يقولَ الحقُّ لِينًا واتِّداعا٧
ومدرسةٍ سمَت بالعلمِ ركنًا
وأنهضَتِ القضاءَ والاشتراعا٨
بناها مُحسِنًا بالعلمِ بَرًّا
يَشيدُ له المَعالمَ والرِّباعا٩
وحارَبَ دونها صَرْعى قديمٍ
كأن بهم عن الزمن انقطاعا
إذا لمحَ الجديدُ لهم تولَّوا
كَذِي رمدٍ على الضوء امتناعا
أخا «سيشيلَ» لا تذكُرْ بِحارًا
بعُدنَ على المزارِ ولا بقاعا١٠
وربِّك ما وراءَ نَواكَ بُعدٌ
وأنت بظاهرِ الفُسطاطِ قاعا١١
نزلتَ بعالَمٍ خرقَ القضايا
وأصبح فيه نظمُ الدهرِ ضاعا
فخلِّ الأربعين لحافليها
وقُم تَجِدِ القرونَ مرَرنَ ساعا١٢
مرِضتَ فما ألحَّ الداءُ إلا
على نفسٍ تعوَّدَتِ الصِّراعا
ولم يكُ غيرَ حادثةٍ أصابَت
مُفلِّلَ كلِّ حادثةٍ قِراعا١٣
ومن يتجرَّعِ الآلامَ حيًّا
تسُغْ عندَ المماتِ له اجتراعا
أرِقتَ وكيف يُعطى الغُمضَ جَفنٌ
تَسُلُّ وراءه القلبَ الرُّواعا١٤
ولم يهدأ وِسادُك في الليالي
لعِلمِك أنْ ستُفنيها اضطجاعا
عجبتُ لشارحٍ سببَ المنايا
يُسمِّي الداءَ والعِللَ الوِجاعا
ولم تكن الحتوفُ محلَّ شكٍّ
ولا الآجالُ تحتملُ النزاعا
ولكنْ صُيَّدٌ ولها بُزاةٌ
ترى «السَّرطانَ» منها والصُّداعا١٥
أرى التعليم لمَّا زلتَ عنه
ضعيفَ الركنِ مخذولًا مُضاعا
غريقٌ حاولت يدُه شِراعًا
فلمَّا أوشكَت فقدَ الشِّراعا
سَراةُ القومِ مُنصرِفون عنه
وصُحْفُ القومِ تقتضبُ الدفاعا١٦
لقد نسَّاه يومُك ناصباتٍ
من السَّنواتِ قاساها تِباعا١٧
قُمِ ابنِ الأُمَّهاتِ على أساسٍ
ولا تبنِ الحصونَ ولا القِلاعا
فهُنَّ يلِدنَ للقَصبِ المَذاكي
وهُنَّ يلِدنَ للغابِ السِّباعا١٨
وجدتُ مَعانيَ الأخلاق شتَّى
جُمِعنَ فكنَّ في اللفظ الرَّضاعا
عَزاءَ الصابرين «أبا بهيٍّ»
ومِثلُك من أناب ومن أطاعا١٩
صبرتَ على الحوادث حينَ جلَّت
وحينَ الصبرُ لم يكُ مُستطاعا
وإن النفسَ تهدأ بعدَ حينٍ
إذا لم تلقَ بالجزع انتفاعا
إذا اختلف الزمانُ على حزينٍ
مضى بالدمع ثم محا الدِّماعا
قُصارى الفَرقَدين إلى قضاءٍ
إذا عثرا به انفصما اجتماعا
ولم تحوِ الكنانةُ آلَ سعدٍ
أشدَّ على العِدا منكم نِباعا٢٠
ولم تحملْ كشَيخِكم المُفدَّى
نُهوضًا بالأمانةِ واضطلاعا
غدًا فصلُ الخِطابِ فمَن بَشيري
بأن الحق قد غلب الطِّماعا
سَلُوا أهلَ الكنانةِ هل تداعَوا
فإن الخصمَ بعدَ غدٍ تَداعى
وما «سعدٌ» بمُتَّجِرٍ إذا ما
تعرَّضتِ الحقوقُ شرى وباعا
ولكن تحتمي الآمالُ فيه
وتدَّرِعُ الحقوقُ به ادِّراعا٢١
إذا نظرَت قلوبُكمُ إليه
علا للحادثاتِ وطالَ باعا٢٢
١
عاطف بركات باشا: أحد رجالات مصر المقدَّمين، وأحد نوابغ جيله المُعلَمين،
ترقَّى إلى منصب وكيل وزارة المعارف، وقد توفي سنة ١٩٣٥م.
٢
يقال قتل الأمر اطلاعًا، إذا بحثه طويلًا. والآسي:
الطبيب.
٣
المسجَّى: الميت. والالتياع: شدة الحزن.
٤
تداعى الركن: أي سقط متهدِّمًا.
٥
النفل: مفرد الأنفال؛ يعني العطايا المكتسبة من الفيء. والفيء:
الغنيمة. والاصطناع: هو ما يُعبَّر عنه في زماننا
بالمحسوبية.
٦
ضاع المسك والطيب: سطع عطره. لمَّا قال «فتى عجمته أحداث
الليالي» شرح كيف كان ذلك، فأخبر أنه سُجِن فكان أشبه بالمهنَّد،
ونُفي فكان مثل التِّبر، وحين اشتدت أحداث الليالي ضغطًا كان
الفقيد أشبه بالمسك الذي يُسحَق فيزيد أرجًا وطيبًا.
٧
صُلَّب (باللام المشددة): أي كثير الصلابة. والاتِّداع: من
الوداعة، وهي رقة الخُلق.
٨
يشير بهذا البيت إلى أن الفقيد كان هو أول قيِّم على مدرسة
القضاء الشرعي، وقد أُنشئتْ تلك المدرسة لتخريج القضاة الشرعيين،
ولم يستغنِ عنها إلا بعد إصلاح الأزهر والاكتفاء بأبنائه.
٩
الرباع جمع ربع: الدار.
١٠
سيشل: إحدى جزر الهند النائية، نُفي إليها الفقيد حين اتهمته
السلطات الإنجليزية بالتحريض السياسي في ثورة مصر الكبرى.
١١
الفسطاط: مدينة مصر. وظاهر الفسطاط: أي ضاحيتها. والقاع في
الأصل: هو المنخفض من الأرض، ويريد به هنا موضع القبر حيث دُفِن
الفقيد.
١٢
الأربعين في هذا البيت: مقصود بها الأيام التي مضت على وفاته، أو
السن التي توفي فيها. والساع: جمع ساعة.
١٣
القراع: نوع من الحرب والمغالبة.
١٤
الرُّواع: من قولهم ناقة رُواع الفؤاد، بضم الراء وفتح الواو؛ أي
شهمة زكية.
١٥
البزاة: جمع بازٍ، وهو ضرب من الصقور.
١٦
سراة القوم: سادتهم. والاقتضاب: بمعنى القطع أو الإيجاز
والاختصار.
١٧
ناصبات: من قولهم عيشٌ ناصب؛ أي فيه كدٌّ وجهد. وتباعًا: أي
متتابعة.
١٨
المذاكي: الخيل التي كمُلت قوَّتها. والقصب: هو الخط الذي يتراهن
عليه المتسابقون.
١٩
أبا بهي: ينادي بهذه الكنية فتح الله بركات باشا شقيق الفقيد.
وأناب: رجع إلى الله.
٢٠
النباع: جمع نبع، وهو شجر للقسيِّ والسهام ينبت في قمة الجبال.
آل سعد: آل زغلول باشا أخوال الفقيد.
٢١
تدَّرع الحقوق به: أي تجعل منه درعًا لها، والدرع ثوب حديد يلبسه
المحارب ليحتمي به من السيوف وأشباهها.
٢٢
طال باعًا: أي طال شأوًا وعظُم قوة.