إسماعيل باشا صبري١
أجلٌ وإن طال الزمانُ مُوافي
أخْلَى يدَيكَ من الخليلِ الوافي
داعٍ إلى حقٍّ أهابَ بخاشعٍ
لبس النذيرَ على هُدًى وعفافِ٢
ذهب الشبابُ فلم يكن رُزْئي به
دونَ المُصابِ بصفوةِ الأُلَّاف
جللٌ من الأرزاءِ في أمثاله
هِمَمُ العزاءِ قليلةُ الإسعاف
خفَّت له العبراتُ وهْي أبيَّةٌ
في حادثاتِ الدهر غيرُ خِفاف
ولكلِّ ما أتلفتَ من مُستكرَمٍ
إلا مودَّاتِ الرجالِ تَلاف٣
ما أنتِ يا دُنيا أرُؤيا نائمٍ
أم ليلُ عُرْسٍ أم بِساطُ سُلاف
نَعماؤكِ الرَّيحانُ إلا أنه
مسَّت حَواشِيه نَقيعَ زُعاف٤
ما زِلتُ أصحَبُ فيكِ خُلْقًا ثابتًا
حتى ظفِرتُ بخُلْقِكِ المُتنافي
ذهب الذَّبيحُ السمحُ مثل سَمِيِّهِ
طُهْرَ المُكفَّنِ طيِّبَ الألفاف٥
كم بات يذبحُ صدرَه لشكاته
أتُراه يحسبها من الأضياف٦
نزلتَ على سَحرِ السَّماحِ ونَحره
وتقلَّبَت في أكرمِ الأكناف٧
لجَّت على الصَّدرِ الرحيبِ وبرَّحَت
بالكاظمِ الغيظَ الصَّفوحِ العافي
ما كان أقْسَى قلبَها من عِلَّةٍ
علِقَت بأرحمِ حبَّةٍ وشَغاف٨
قلبٌ لو انتظم القلوبَ حَنانُهُ
لم يبقَ قاسٍ في الجوانح جافي
حتى رماه بالمنِيَّةِ فانجلتْ
من يبتلي بقضائه ويُعافي
أخنَت على الفلَكِ المُدارِ فلم يدُرْ
وعلى العُبابِ فقرَّ في الرجَّاف٩
ومضَت بنارِ العبقريةِ لم تدَعْ
غيرَ الرَّمادِ ودارساتِ أثافي١٠
حملوا على الأكتافِ نورَ جلالة
يذَرُ العيونَ حواسدَ الأكتاف
وتقلَّدوا النعشَ الكريمَ يتيمةً
ولكَم نعوشٍ في الرقابِ زياف
مُتمايلَ الأعوادِ ممَّا مسَّ من
كَرَمٍ وممَّا ضمَّ من أعطاف
وإذا جلالُ الموتِ وافٍ سابغٌ
وإذا جلالُ العبقريةِ ضافي
ويْحَ الشبابِ وقد تخطَّر بينهم
هل مُتِّعوا بتمسُّحٍ وطواف
لو عاش قدوتُهم ورَبُّ «لِوائهم»
نكسَ «اللواءَ» لثابتٍ وقَّاف١١
فلكَم سقاه الودَّ حينَ وِداده
حربٌ لأهلِ الحكمِ والإشراف
لا يومَ للأقوامِ حتى ينهضوا
بقوادمٍ من أمسِهم وخوافي١٢
لا يُعجِبنَّكَ ما ترى من قُبَّةٍ
ضربوا على موتاهمُ وطِراف١٣
هجموا على الحقِّ المُبينِ بباطلٍ
وعلى سبيلِ القصدِ بالإسراف١٤
يبنون دارَ اللهِ كيف بدا لهم
غُرُفاتِ مُثرٍ أو سقيفةَ عافي١٥
ويُزوِّرون قبورَهم كقصورِهم
والأرضُ تضحكُ والرُّفاتُ السافي
فُجِعَت رُبا الوادي بواحدِ أيكِها
وتجرَّعَت ثُكْلَ الغديرِ الصافي
فقدَت بنانًا كالربيع مُجيدةً
وشْيَ الرياضِ وصنعةَ الأفواف١٦
إن فاته نسَبُ «الرضيِّ» فرُبَّما
جَرْيًا لغاية سُؤددٍ وطِراف١٧
أو كان دون أبي «الرضيِّ» أُبوَّةً
فلقد أعادَ بيانَ «عبدِ مَناف»
شرفُ العصاميِّين صُنْعُ نفوسِهم
من ذا يقيس بهم بني الأشراف
قُل للمُشير إلى أبيه وجَدِّهِ
أعَلِمتَ للقمرَين من أسلاف
لو أن «عمرانًا» نِجارُك لم تَسُدْ
حتى يُشارَ إليك في الأعراف١٨
قاضي القضاة جرَت عليه قضيةٌ
للموتِ ليس لها من استئناف
ومُصرِّفُ الأحكامِ موكولٌ إلى
حُكمِ المنِيَّة ما له من كافي
ومُنادِمُ الأملاكِ تحت قِبابهم
أمسى تُنادِمُه ذِئابُ فيافي١٩
في منزلٍ دارت على الصِّيدِ العُلا
فيه الرَّحى ومشَت على الأرداف٢٠
وأُزِيلَ من حُسنِ الوجوهِ وعزِّها
ما كان يُعبَدُ من وراءِ سِجاف٢١
من كلِّ لمَّاحِ النعيمِ تقلَّبَت
دِيباجَتاهُ على بِلًى وجَفاف
وترى الجماجمَ في الترابِ تماثلتْ
بعدَ العقولِ تماثُلَ الأصداف
وترى العيونَ القاتِلاتِ بنظرةٍ
مَنهوبةَ الأجفانِ والأسياف٢٢
وتُراعُ من ضَحِكِ الثُّغورِ وطالما
فتنَت بحُلوِ تبسُّمِ وهُتاف
غزَتِ القرونَ الذاهبين غزالةٌ
دمُهم بذِمَّةِ قرنِها الرَّعاف٢٣
يجري القضاءُ بها ويجري الدهرُ عن
يَدِها فيَا لثلاثةٍ أحلاف
ترمي البرِيَّةَ بالحُبولِ وتارةً
بحبائلٍ من خيطها وكفاف٢٤
نسجَت ثلاثَ عَمائمٍ واستحدثَت
أكفانَ موتى من ثيابِ زفاف٢٥
«أأبا الحُسين» تحيةً لثراكَ من
رُوحٍ ورَيحانٍ وعذبِ نِطاف
وسَلامُ أهلٍ وُلَّهٍ وصحابةٍ
حَسْرى على تلك الخِلالِ لِهاف
هل في يَديَّ سوى قريضٍ خالدٍ
أُزجيهِ بين يدَيك للإتحاف
ما كان أكرَمَه عليك فهل ترى
أني بعثتُ بأكرمِ الألطاف
هذا هو الرَّيحانُ إلا أنه
نفَحاتُ تلك الروضةِ المِئناف٢٦
والدُّرُّ إلا أن مهدَ يتيمِهِ
بالأمسِ لُجَّةُ بحرِك القذَّاف
أيام أمرَحُ في غُبارِكَ ناشئًا
نهْجَ المِهارِ على غُبارِ «خِصاف»٢٧
أتعلَّمُ الغاياتِ كيف تُرامُ في
مِضمارِ فضلٍ أو مجالِ قوافي
يا راكبَ الحدباءِ خلِّ زِمامَها
ليس السبيلُ على الدليل بِخافي
دانَ المطيَّ الناسُ غيرَ مطيَّةٍ
للحقِّ لا عَجْلى ولا مِيجاف٢٨
لا في الجيادِ ولا النِّياقِ وإنما
خُلِقَت بغيرِ حوافرٍ وخِفاف
تنتابُ بالرُّكبانِ منزلةَ الهدى
وتؤمُّ دارَ الحقِّ والإنصاف
قد بلَّغَت ربَّ المَدائنِ وانتهَت
حيثُ انتهيتَ بصاحبِ الأحقاف٢٩
نَمْ مِلءَ جَفنِك فالغُدُوُّ غوافلٌ
عمَّا يَروعُك والعشيُّ غوافي
في مَضجعٍ يكفيك من حسناتِهِ
أن ليس جَنبُك عنه بالمُتجافي
واضحك من الأقدارِ غيرَ معجَّزٍ
فاليوم لستَ لها من الأهداف
والموتُ كنتَ تخافه بك ظافرًا
حتى ظفِرتَ به فدَعْهُ كَفاف
قُل لي بسابقةِ الوِدادِ أقاتِلٌ
هو حين ينزلُ بالفتى أم شافي
في الأرضِ من أبوَيكَ كنزا رحمةٍ
وهوًى وذلك من جِوارٍ كافي
وبها شبابُك واللِّداتُ بكيته
وبكيتهم بالمَدمع الذَّرَّاف
فاذهب كمصباحِ السماء كلاكما
مال النهارُ به وليس بطافي
الشمسُ تُخلَفُ بالنجوم وأنت بالـ
آثار والأخبار والأوصاف
غلب الحياةَ فتًى يسدُّ مكانَها
بالذِّكرِ فهْو لها بَديلٌ وافي
١
إسماعيل باشا صبري: أحد الشعراء السابقين الفحول، وكان يلقَّب بشيخ الشعراء،
وكان أحد رجال الدولة في عصره، فقد تسنَّم أعلى المناصب القضائية، وترقَّى إلى
منصب وكيل وزارة الحقانية، ثم وافاه الموت سنة ١٩٢٣م.
٢
النذير: الموت.
٣
المستكرَم: هو كل كريم عليك من مال ونحوه.
٤
نقيع زعاف: أي سم ناجع بالغ.
٥
يشبِّه الفقيد بالذبيح، والذبيح قيل سيدنا إسحاق، والمراد هنا
سيدنا إسماعيل، ومن أجل ذلك صار الفقيد سميًّا له. والألفاف: يقصد
بها الكفن. يريد أنه ذهب طيب المَظهر والمَخبر.
٦
الشكاة: هي العلَّة التي يشكوها المريض.
٧
السَّحْر: الرئة. والنَّحْر: أعلى الصدر. والأكناف: جمع كنف، وهو
الجانب.
٨
يريد بقوله «أرحم حبة»: القلب. والشغاف (بالفتح): غلاف
القلب.
٩
العباب: هو الموج. والرجاف: البحر.
١٠
الأثافي: جمع أثفية، وهي ما يوضع عليه القِدر.
١١
رب لوائهم: يقصد به صاحب جريدة اللواء، ومُنشئها زعيم الشباب
الأول المرحوم مصطفى كامل باشا.
١٢
القوادم والخوافي: ريش في جناح الطائر، وقد ورد في قول
بعضهم:
فإن الخوافي قوةٌ للقوادم
١٣
طراف (على وزن كتاب): بيت من أدم، ويقصد بها المقاصير الموضوعة
على بعض القبور.
١٤
القصد: الاعتدال، وهو في كل شيء ضدُّ الإسراف.
١٥
العافي: الفقير.
١٦
الأفواف: الثياب الرقيقة.
١٧
الطراف هنا: من قولهم توارثوا المجد طرفًا؛ أي عن شرف ورفعة.
والرضي: هو الشريف الرضي الشاعر المشهور.
١٨
عمران: أبو موسى عليه السلام، وقد نزلت في القرآن المجيد سورة
باسم آل عمران، كما نزلت سورة باسم الأعراف.
١٩
الأملاك: الملوك. والفيافي: الصحاري.
٢٠
الصيد العلا: الملوك. والأرداف: أبناء الملوك أو الذين يلونهم في
المرتبة.
٢١
السجاف: الستر، كالكلل ونحوها.
٢٢
يريد ﺑ «أسياف العيون»: اللِّحاظ، وكثيرًا ما تعمل اللحاظ في
الناس عمل السيوف، وعبَّر بالأسياف ليجانس بينها وبين
الأجفان.
٢٣
غزالة: هي الشمس. والرعاف: أي قرنها الأحمر الذي يُشبِه
الدم.
٢٤
الكفاف: حبائل الصائد.
٢٥
ثلاث عمائم: الشعر الأسود والأسود فيه شيب والأبيض؛ أي أدوار
العمر الثلاثة.
٢٦
الروضة المئناف والأنف: هي التي تُحمى فلا يكاد أحد يمرُّ بها أو
يجتني منها.
٢٧
المهار: جمع مهر. وخصاف: فرسٌ مشهور في العرب.
٢٨
الميجاف: السريعة.
٢٩
رب المدائن: كسرى. وصاحب الأحقاف: عاد.