منزلته في الشعر عند العلماء والشعراء
أجمعت كلمة العلماء بالأدب على أن امرأ القيس من الشعراء الفحول، وأنه من شعراء الطبقة الأولى، وأكثرهم على أنه رأس الطبقة الأولى، وقد شهد له بالفضل والتقدم أهل الفصاحة، وأعلام البيان والأدب والشعر.
•••
خرج وفد من جهينة، فلما قدموا على النبي ﷺ سألهم عن مسيرهم، فقالوا: «يا رسول الله! لولا بيتان قالهما امرؤ القيس لهلكنا!» قال: «وما ذاك؟» قالوا: «خرجنا نريدك! حتى إذا كنا ببعض الطريق، إذا برجل على ناقة له مقبل إلينا، فنظر إليه بعض القوم، فأعجبه سير الناقة، فتمثل ببيتين لامرئ القيس، وهما:
ومر لبيد بن ربيعة بمجلس بني نهد في الكوفة وبيده عصًا يتوكأ عليها، فبعثوا غلامًا يسأله: من أشعر الناس؟ فقال: ذو القروح بن حجر الذي يقول:
•••
•••
وقال فيه علي بن أبي طالب: «رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وإنه لم يقل لرغبة أو رهبة.»
•••
وقال أيضًا: «إن الشعر كان جملًا بازلًا عظيمًا فنحر، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرنه، ولم يبق إلا الذراع والبطن فتوزعناهما بيننا … إلخ.»
وروى الجمحي أن سائلًا سأل الفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح. قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول:
وقال أبو عبيدة: «أشعر الناس أهل الوبر خاصة، وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة.»
•••
وقال أبو زيد الخطابي: «القول عندنا ما قال أبو عبيدة: أشعر الناس امرؤ القيس ثم زهير والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة!»
•••
وقال نصيب: «… وليس لأحد من الشعراء بعد امرئ القيس ما للنابغة وزهير.» فقد قدمه عليهم جميعًا.
•••
واجتمع عند عبد الملك أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرئ القيس:
وقال:
وقال:
وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن أشعر الشعراء في الجاهلية، وأشعر شعراء وقته، فقال: «أشعر شعراء الجاهلية امرؤ القيس، وأضربهم مثلًا طرفة.»
•••
وكان دعبل يقدم امرأ القيس بقوله في وصف عقاب:
وسمع قول النبي ﷺ المتقدم: «… وقائدهم إلى النار!» فقال: «لا يقود قومًا إلا أميرهم.»
•••
فإن كلامه انتهى إلى قوله الجزع، وزيادة المعنى في قوله: الذي لم يثقب، وفي هذه الزيادة من الحسن والإجادة ما لا يخفى.»
•••
وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب وكان العتبي أنشد مروان بن أبي حفصة لزهير، فقال: هذا أشعر الناس. ثم أنشده للأعشى، فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشده لامرئ القيس، فكأنما سمع به غناء على الشراب، فقال: امرؤ القيس — والله! — أشعر الناس.
وقال أيضًا: «امرؤ القيس، من أهل نجد، من الطبقة الأولى»، وذكر قوله:
ثم قال: «وكل ما قيل في هذا المعنى فمنه أخذ.»
•••
وقالت طائفة من المتعقبين: «الشعراء ثلاثة: جاهلي وإسلامي ومولد، فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرمة، والمولد ابن المعتز، وهذا قول من يفضل البديع على جميع فنون الشعر.»
•••
وقد قال العلماء بالشعر إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها؛ لأنه قيل أول من لطف المعاني، واستوقف على الطلول، وشبه النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه.
•••
وفي العمدة: ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى، إلا بحلاوة الكلام وطلاوته مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذلك محمولًا عنهم؛ إذ هو طبع من طباعهم.
•••
وقال التبريزي في شرح أبيات إصلاح المنطق: «النسبة إلى امرئ القيس مَرْقَسِي، وأشعر المراقسة ابن حجر هذا.»
•••
وقال العسكري: «أئمة الشعر أربعة: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى.»
•••
وقال أبو عمرو: «اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى، فامرؤ القيس من اليمن، والنابغة وزهير من مضر، والأعشى من ربيعة، وأشعر الأربعة امرؤ القيس، ثم النابغة، ثم زهير، ثم الأعشى.»
•••
وقال يونس: «كان علماء البصرة يقدمون امرأ القيس.»
•••
وقال الأصمعي: سألت بشارًا: من أشعر الناس؟ فقال: «أجمع أهل البصرة على امرئ القيس وطرفة.»
•••
وذكر محمد بن سلام الجمحي امرأ القيس في الطبقة الأولى من الشعراء الجاهليين.
•••
وقال الفراء: «كان زهير واضح الكلام، جيد المقاطع … وكان النابغة جزل الكلام حسن الابتداء والمقطع … وكان امرؤ القيس شاعرهم الذي علم الناس الشعر والمديح والهجاء بسبقه إياهم …»
•••
وفي السيوطي عن ابن عساكر: أتى قوم رسول الله ﷺ فسألوه عن أشعر الناس فقال: ائتوا حسان. فأتوه، فقال: ذو القروح (يعني امرأ القيس)؛ لأنه لم يعقب ولدًا ذكرًا، بل إناثًا. فرجعوا فأخبروا رسول الله ﷺ فقال: صدق! رفيع في الدنيا خامل في الآخرة.
•••
وقال أبو عمرو بن العلاء: سألت ذا الرمة عن أي قول الشعراء الذين وصفوا الغيث أشعر، فقال قول امرئ القيس:
وذِكر الأبيات الآتية في الوصف.
(١) الخلاصة
إذا استقرأنا أقوال الأئمة السابقة، ونخلنا ما تحصل من آرائهم، يتبين لنا أن جمهرة العلماء بالشعر، يفضلون امرأ القيس على الشعراء عامة؛ لأولياته التي مر ذكرها مجملًا وسيأتي مفصلًا، ولإجادته في أشياء استحسنها الشعراء فاحتذوا على مثاله فيها، ولاختياره ضروبًا من الكلام الساحر بحلاوته، الباهر بطلاوته، مع ابتعاده عن السخف والركاكة.
ونزيد على هذا أن امرأ القيس وفق إلى معان أفرغها في قوالب من الألفاظ المطربة بنغماتها، الرائقة بأسلوبها، فجاءت مثلًا أعلى في الجودة.
وقد حاول كثير من الشعراء، في عصره وبعد عصره، أن يجاروه فيها، فقصرت بهم الأداة عن اللحاق به، فضلًا عن سبقه وتقدمه؛ ولذلك غلبت شهرته على من تقدمه، ومن كان في عصره من الشعراء، فكان كما قال النابغة في النعمان:
وسيأتي زيادة في الإيضاح لهذا البحث.
وكان امرؤ القيس يعلم ذلك من نفسه؛ ولهذا كان كثير الإدلال في شعره، شديد الاعتداد بنفسه، واثقًا بقدرته، وكان يعتقد أن لا يطاوله أحد في الشعر.
فقال امرؤ القيس:
فقال التوأم:
فقال امرؤ القيس:
فقال التوأم:
فقال امرؤ القيس:
فقال التوأم:
فقال امرؤ القيس:
فقال التوأم:
فقال امرؤ القيس:
فقال التوأم:
فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك العصر من يمائنه آلى أن لا ينازع الشعر أحدًا آخر الدهر. وفي البدائع: فقال امرؤ القيس: لا أتعنت على أحد بعد ذلك بالشعر (روى ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء).
وقال أبو عمرو: ولو نظر بين الكلامين لوجد التوأم أشعر في شعرهما هذا؛ لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما أراد، والتوأم محكوم عليه بأول بيت، مضطر في القافية التي مدارهما جميعًا عليها، ومن هنا عرف له امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف.
ونزل به علقمة بن عبدة فتنازعا الشعر، وادعاه كل واحد منهما على صاحبه، فقال علقمة: «فقل شعرًا تمدح به فرسك والصيد، وأقول في مثل ذلك.» فقال كل منهما قصيدة في ذلك، وحكما أم جندب زوجة امرئ القيس، فقالت لزوجها: «علقمة أشعر منك.» وبينت سبب ذلك، وسيأتي.
فقال امرؤ القيس:
فقال عبيد:
فقال امرؤ القيس:
فقال عبيد:
فقال امرؤ القيس:
فقال عبيد:
فقال امرؤ القيس:
فقال عبيد:
فقال امرؤ القيس:
فقال عبيد:
فقال امرؤ القيس:
فقال عبيد:
فقال امرؤ القيس:
فقال عبيد:
فقال امرؤ القيس:
وإذا أمعن الباحث في هذه الأبيات، ورأى ما فيها من وهن في التأليف وضعف في الأسلوب، وما فيها من الحشو في مثل قوله: جهارًا في علانية … وألفاظ المؤمنين، مثل: إذا الرحمن أرسلها، والرحمن أنزلها رب البرية، وجعلها مقياسًا بين الناس … لا يستبعد أن تكون نسبتها إلى امرئ القيس وعبيد غير صحيحة، وأن تكون وليدة العصر العباسي كلها أو بعضها، ولم يكد يعرف للمتقدمين مثل هذه المماتنة أو الممالطة، ولو صحت لكان امرؤ القيس أشعر من عبيد لتقيده بالقافية والوزن والموضوع والزمن، ولو صح ما قاله أبو عمرو في شعر التوأم اليشكري، لا يوجب تفضيله على امرئ القيس في بقية شعره.