أما أغراض شعره فلا تكاد تخرج عن أغراض الشعر في الجاهلية من: غزل، وحماسة، وفخر،
وعتاب، ومدح، وهجاء، ووصف.
(١) الغزل
البداة لا يعرفون مظهرًا من مظاهر الجمال خيرًا من المرأة، فالمرأة هي المثل الأعلى
فيه عندهم، والعرب ذوو نفوس حساسة وأذواق
لطيفة: إذا رأى أحدهم الجمال أخذ بمجامع قلبه، وملك عليه مشاعره، وشغل نفسه عما سواه،
فإذا فارق من أحب جاشت مراجل الحب في نفسه،
فقذفت على فيه ما يختلج فيها من آلام البعد، وتباريح الشوق، فأخذ يشكي
١ ويبكي، ويترنم بوصف من أحب بالصفات التي تثير في نفسه كوامن الشوق؛ ولذلك كانوا يقدمون
الغزل في فاتحة
أشعارهم.
ولامرئ القيس آيات رائعة في الغزل؛ فقد بلغ فيه غاية لم يُسبق إليها، وسلك سبيلًا
اتبعه من جاء بعده، وشعره وإن كان مطبوعًا
بطابع البداوة أحيانًا، فإن غزله يكاد يذوب لطافة ورقة.
وسبيله في الغزل مختلف: منه العفيف الشريف، ومنه ما أفحش فيه وخرج عن الأدب، بالنسبة
إلى هذا العصر، ولعل ذلك كان مرغوبًا فيه
في عصره، فإن النابغة الذبياني بلغ من الصراحة في وصف «المتجردة» ما لم يبلغه امرؤ القيس
في كل أدبه الصريح.
وقد يظهر للباحث أن امرأ القيس مولع بالنساء، شديد الحب لهن، ولكن حبه غير صحيح ولا
ثابت، بل هو محب للجمال، يتبعه حيث كان كما
يتبع الراعي ساقط الغيث، ومنابت الكلأ.
وقد سئل مرة: ما أطيب لذات الدنيا؟ فقال: بيضاء رعبوبة،
٢ بالحسن مكبوبة، بالشحم مكروبة،
٣ بالمسك مشبوبة.
٤
ولشدة شغفه بالنساء كان يكره أن يمسي وليس لديه من يأنس بها أية كانت، فقد قال من
قصيدة:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وكان سريع العشق، متى رأى أحب، يشهد لذلك أنه كان في طيء وكلب (لما نفاه أبوه)، فرأى
«هر» — وهي أم الحويرث ابنة سلامة بن علند
٥ — فأحبها، واصطادت قلبه، وأقصدته بسهم: فأسبل دمعًا كالجمان، ثم دنا منها، فتسداها،
ولم يره كاشح، وألحق بها شرًّا،
ووصمها بسبة لا تمحى، وقد أجاد في وصفها حيث يقول:
٦
وفيمن أقام من الحي هر
أم الظاعنون بها في الشُّطُر؟
٧
وإذ هي تمشي كمشي النزيـ
ـف يَصْرعه بالكثيب البُهُر
١١
بَرَهْرَهَةٌ
١٢ رُودَةٌ رَخْصَة
١٣
كَخُرْعُوبة
١٤ البانة المنفطر
١٥
فَتُور
١٦ القيام قطيعُ
١٧ الكلا
م تفترُّ
١٨ عن ذي غروب
١٩ خَصِر
كأن المُدام وصوب الغمام
وريح الخزامى
٢٠ ونَشْر
٢١ القُطُر
٢٢
يُعَلُّ
٢٣ بها بَرْدُ أنيابها
إذا طرَّب
٢٤ الطائر المستحر
٢٥
فبتُّ أكابد
٢٦ ليل التَّما
م
٢٧ والقلب من خشية مقشعر
٢٨
فثوبًا نسيت وثوبًا أجُر
٣٠
ولم يَرَنَا كالئٌ
٣١ كاشح
٣٢
ولم يُفْشَ منا لدى البيت سر
وقد رابني
٣٣ قولها: يا هَنَا
ه ويحك ألحقت شرًّا بشر!
٣٤
وذكر أنه علقها وليدًا إلى أن فني شبابه؛ ولذلك كان يفضل ليالي ذات الطلح؛ إذ كان
يصطبح فيها عندها، وعند فرتنى بقوله:
ليالٍ بذات الطلح عند محجرٍ
أحب إلينا من ليالٍ على أُقُر
٣٥
أغادي الصبوح عند هر وفرتنى
وليدًا وهل أفنى شبابي غير هر؟
إذا ذقت فاها قلت: طعم مدامة
معتقة مما تجيء به التُّجُر
٣٦
هما نعجتان من نعاج تبالة
٣٧
لدى جؤذرين أو كبعض دمى هَكِر
٣٨
إذا قامتا تضوع المسك منهما
برائحة من اللَّطِيمَة
٣٩ والقُطُر
كأن التِّجَارَ أَصْعدوا
٤٠ بِسَبِيئَة
٤١
من الخص
٤٢ حتى أنزلوها على يُسُر
٤٣
فلما استطابوا صُبَّ في الصحن
٤٤ نصفُه
وشُجَّتْ بماءٍ غير طَرْقٍ
٤٥ ولا كَدِر
بماء سحاب زل عن متن صخرة
إلى بطن أخرى طيب ماؤها خصر
وأحب فاطمة
٤٦ (وهي من بني كلب) فاستكثر تدللها، وتذلل لها، وسألها أن تجمل صرمه، وتسل ثيابه من ثيابها
إن كانت خليقته ساءتها، ثم
غامر بنفسه وتجاوز الأحراس إليها، حتى جاءها وقد نضت ثيابها، ثم خرج بها وهي تعفي الأثر
بأذيالها، حتى تجاوز ساحة الحي، فصهر
بفودي رأسها، ثم نعتها بأجمل ما ينعت به عاشق معشوقته، ولم يدع مظهرًا من مظاهر الحسن
في جسمها إلا وصفه وصفًا يستهوي الأفئدة،
بأسلوب ينحدر إلى قرارة النفوس، فقال:
أفاطمُ مهلًا! بعضَ هذا التدلُّل
وإن كنتِ قد أزمعت
٤٧ صَرْمِي
٤٨ فأجْملي
٤٩
وإن تك قد ساءتك مني خليقة
٥٠
فسُلِّي ثيابي
٥١ من ثيابك تنسل
٥٢
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟!
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار
٥٣ قلب مقتَّل
٥٤
وبيضة خدر لا يُرام خباؤها
تمتعتُ من لهو بها غير معجل
٥٥
تجاوزت أحراسًا وأهوال معشر
عليَّ حِراصًا لو يُسِرُّون مقتلي
٥٦
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرُّض أثناءِ الوشاح المفصَّل
٥٧
فجئت وقد نضَّتْ لنوم ثيابها
لدى الستر إلا لْبسة المتفضِّل
٥٨
فقالت: يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
خرجتُ بها أمشي تَجُرٌّ وراءنا
على أثرَينا ذَيلَ مِرطٍ مرحَّل
٥٩
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
بنا بطنُ خَبْتٍ ذي قِفَافٍ عَقَنْقَل
٦٠
هَصَرْتُ بفَوْدَي رأسها فتمايلت
عليَّ هضيم الكَشْحِ رَيَّا المُخلخَل
٦١
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
٦٢
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرة من وحش وَجْرَة مطفل
٦٣
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطَّل
٦٤
وفرع يغشي المتن أسودَ فاحمٍ
أثيثٍ كَقِنْوِ النخلة المتعثْكل
٦٥
غدائرهُ مستشزراتٌ إلى العلى
تضِل المداري في مُثنى ومُرسل
٦٦
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوبِ السقي المُذلل
٦٧
وَيُضْحي فَتِيتُ المِسكِ فوق فراشها
نئومُ الضُّحى لم تَنْتَطِقْ عن تَفضُّل
٦٨
وَتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنَّه
أساريعُ ظبي أو مساويكُ إسْحِل
٦٩
تُضيء الظلامَ بالعشي كأنها
منارةُ مُمسَى راهب متبتل
٧٠
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
إذا ما اسبكرَّت بين درع ومِجْوَل
٧١
كِبِكْرِ المُقاناةِ البَياضُ بصُفْرَة
غذاها نميرُ الماء غير المحلَّلِ
٧٢
تسلت عَمايات الرجالِ عن الهوى
وليسَ صِبايَ عن هواها بِمنْسَلِ
٧٣
ألا رُبَّ خَصْمٍ فيكِ ألْوَى رَدَدتُه
نصيحٍ على تعذَاله غير مؤتَل
٧٤
وأحب عنيزة،
٧٥ فدخل عليها الخدر، وأشفقت على بعيرها أن ينعقر، ثم ذكر لها أن النساء تشتهيه، حتى الحبالى
والمراضع:
ويوم دخلتُ الخدر خدر عنيزة
فقالت لك الويلات إنكَ مُرجلي
٧٦
تقولُ وقد مالَ الغَبيطُ بنا معًا
عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل
٧٧
فقُلتُ لها سيري وأرْخي زِمامَه
ولا تُبعديني من جناك المعلل
٧٨
فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضعٍ
فألهيتُها عن ذي تمائمَ مُحول
٧٩
إذا ما بكى من خلفها انْحرَفَتْ له
بشِقٍّ وَتحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ
٨٠
ويومًا على ظهر الكثيبِ تعذَّرت
عَليَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
٨١
وأحب سلمى، فوقف على طللها البالي، وحيَّاه، ودعا له بالنعيم، ثم قال: إنه لا ينعم
إلا سعيد مخلد قليل الهموم، وكيف ينعم من كان
أحدث عهده ثلاثين شهرًا؟! ثم ذكر أنها تحسب نفسها أنها لا تزال في مكان ترى فيه الوحش
والبيض، وهو موضع التربع والتبدي، أو أنها
ترى نفسها حديثة، ثم شبهها بالريم في قوله:
٨٢
ألا عِمْ صَبَاحًا أيهَا الطلَلُ البَالي
وَهل يَعِمَنْ مَن كان في العُصُرِ الخالي
٨٣
وَهَل يَنعمَنْ إلا سَعِيدٌ مُخَلَّد
قليل الهموم ما يَبيتُ بأوجال
٨٤
وَهَل يَنعمَنْ مَن كان أحدثُ عَهدِه
ثَلاثِينَ شهرًا في ثَلاثَةِ أحوَال؟
٨٥
دِيارٌ لسَلمَى عَافِيَاتٌ بذِي خَال
ألَحَّ عَلَيها كُلُّ أسْحَمَ هَطَّال
٨٦
وتحسبُ سلمى لا تزالُ ترى طَلا
من الوَحشِ أوْ بَيضًا بمَيثاءِ مِحْلالِ
٨٧
وتحسبُ سلمى لا نزالُ كعهدنا
بوَادي الخُزَامى أوْ على رَسِّ أوْعال
٨٨
لَيَاليَ سَلَمى إذْ تُرِيكَ مُنَصَّبًا
وجيدًا كجيد الرئم ليس بمعطال
٨٩
وزعمت «بسباسة» — وهي امرأة من أسد — أنه لا يحسن اللهو لكبره، فكذبها بقوله:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
٩٠
كذبتِ! لقد أُصبي على المرءِ عِرْسَه
وأمنع عرسي أن يزنَّ بها الخالي
٩١
وبين أنه لجماله يصبي عرس غيره، ويمنع عرسه أن يصيبها غيره، ثم عاد إلى وصف سلمى فقال:
وَيَا رُب يَوْمٍ قَد لهَوْتُ وَلَيْلَةٍ
بِآنِسَةٍ كَأنهَا خَطُّ تِمْثَالِ
٩٢
يُضيء الفراشَ وجهها لضجيعها
كمصباح زيت في قناديل ذُبَّال
٩٣
كأنَّ على لبَّاتها جمرَ مُصطلٍ
أصاب غضًى جزلًا وكُفَّ بأجذال
٩٤
وَهَبتْ لهُ رِيحٌ بمُخْتَلَفِ الصُّوَى
صبًا وشمال في منازلِ قفَّال
٩٥
إذا ما الضجيعُ ابتزها من ثيابه
تَمِيلُ عَلَيهِ هُونَةً غَيرَ مِجْبال
٩٦
كحِقْفِ النَّقَا يَمشِي الوَليدَانِ فوْقَه
بما احتسبا من لين مسٍّ وتَسهال
٩٧
لَطِيفَةُ طَيِّ الكَشْح غيرُ مُفَاضَة
إذَا انْفَتَلَتْ مُرْتجَّةً غَيرَ مِتفالِ
٩٨
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها
بيَثْرِبَ أدْنى دَارِهَا نَظَرٌ عَال
٩٩
نظرت إليها والنجوم كأنها
مصابيح رهبان تُشَتُّ لقُفَّال
١٠٠
سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالًا على حال
١٠١
فقالت: سباك الله! إنك فاضحي
ألست ترى السمار والناس أحوالي؟
١٠٢
فقلت: يمين الله أبرح قاعدًا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
١٠٣
حلفت لها بالله حلفة فاجر
لناموا فما إنْ من حديث ولا صال
١٠٤
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
هصرتُ بغصن ذي شماريخ ميَّال
١٠٥
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
ورُضْتُ فذَلَّت صعبة أي إذلال
١٠٦
فلما انتهى معها إلى هذا الحد، وشغفها حبًّا، وكاد قلب بعلها يتميز من الغيظ والحنق،
ولكن امرأ القيس لم يعبأ به؛ لأن معه
سلاحًا وذاك أعزل:
فأصبحت معشوقًا وأصبح بعلها
عليه القتام سيئ الظن والبال
١٠٧
يغط غطيط البكر شد خناقه
ليقتلني والمرء ليس بقتَّال
١٠٨
أيقتلني والمشرفي مُضاجعي
ومسنونة زُرق كأنياب أغوال
١٠٩
وليس بذي رمح فيطعنني به
وليس بذي سيف وليس بنبَّال
١١٠
أيقتلني أني شَغَفْتُ فؤادها
كما شغف المهنوءةَ الرجل الطالي
١١١
وقد علمت سلمى وإن كان بعلها
بأن الفتى يهذي وليس بفعال
١١٢
وماذا عليه أن ذكرت أوانسًا
كغزلان رمل في محاريب أقوال
١١٣
وبيت عذارى يوم دجن ولجته
يطُفْنَ بحُبَّاء المرافق مكسال
١١٤
سباط البنان والعرانين والقنا
لطاف الخصور في تمام وإكمال
١١٥
نواعم يُتبِعن الهوى سبل الردى
يقلن لأهل الحلم ضُلٌّ بتَضْلال
١١٦
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
ولست بمقلي الخلال ولا قال
١١٧
وبعد أن سما إليها بعدما نام أهلها، وصار معها إلى الحسنى، وشغف قلبها؛ لم يثبت على
مودتها فقد قال:
غلِقْنَ بِرَهْن من حبيب به ادعت
سليمى فأمسى حبلها قد تبترا
١١٨
وكان لها في سالف الدهر خُلة
يسارق بالطرف الخِباء المسترا
١١٩
وكان امرؤ القيس، على جمال صورته، مفرَّكًا، تبغضه النساء، ولا يحظى عندهن، فلما
هرب من المنذر بن ماء السماء، صار إلى جبلي طيء
فأجاروه، فتزوج امرأة منهم يقال لها أم جندب، فلما بات عندها قامت في بعض الليل فقالت:
أصبحت يا خير الفتيان! فقم. فلم يقم،
فكررت عليه فقام، فإذا الليل باقٍ عليه أكثره، فقال لها: ما حملك على ما فعلت؟ فسكتت،
فألح عليها وقال: لتخبريني. قالت: كرهتك!
قال: ولمَ؟ قالت: لأنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة.
١٢٠ فعرف من نفسه صدق قولها، فسكت عنها، فلما أصبح أتاه علقمة بن عبدة — من زيد مناة بن
تميم من نزار — وهو في خيمته،
وخلفه أم جندب، فتذاكرا الشعر، وادعاه كل واحد منهما على صاحبه، فقال علقمة: قل شعرًا
تمدح به فرسك والصيد، وأقول في مثل ذلك،
وهذه الحكم بيني وبينك، فقال امرؤ القيس:
خليليَّ! مُرَّا بي على أم جندب
لنقضي لبانات الفؤاد المعذَّب
١٢١
فإنكما إن تنظرانيَ ساعة
من الدهر تنفعْني لدى أم جندب
١٢٢
ألم ترياني كلما جئت طارقًا
وجدت بها طيبًا وإن لم تطيَّب؟
١٢٣
عقيلة أتراب لها لا دميمة
ولا ذات خُلْق إن تأملت جَأْنب
١٢٤
ألا ليت شعري كيف حادث وصلها
وكيف تراعى وصلة المتغيب؟
١٢٥
أقامت على ما بيننا من مودة
أميمة أم صارت لقول المخبِّب؟
١٢٦
فإن تنأَ عنها حقبة لا تلاقها
فإنك مما أحدثت بالمجرَّب
١٢٧
وقالت: متى يبخل عليك ويعتلل
يسؤْك وإن يكشف غرامك تدرب
١٢٨
ثم وصف فرسه والصيد، وكان من قوله:
فللساق ألهوب وللسوط درة
وللزجر منه وقع أهوج منعب
١٢٩
فلما فرغ من قوله، قال علقمة قصيدة مطلعها:
ذهبت من الهجران في كل مذهب
ولم يك حقًّا كل هذا التجنب
وكان من قوله في وصف الفرس:
فأقبل يهوي ثانيًا من عنانه
يمر كمر الرائح المتحلِّب
١٣٠
فتحاكما إليها، فقالت: علقمة أشعر منك؛ لأنك ضربت فرسك بسوطك وامتريته بساقك، وزجرته
بصوتك، وأدرك فرس علقمة الصيد ثانيًا من
عنانه.
فغضب امرؤ القيس، وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته، فطلقها وتزوجها علقمة، وبهذا سمي
«علقمة الفحل».
وأحب ابنة «عفزر»
١٣١ و«أم هاشم» و«بسباسة ابنة يشكر»، وقد كان لا يرى شيئًا يشفي من الأولى، ودعا على نفسه
بالويل إن لم تكن الثانيتان
قريبتين منه.
نشيمُ بروقَ المزن أين مصابه
ولا شيء يشفي منك يا ابنة عفزرا
١٣٢
من القاصرات الطرف لو دبَّ مُحْوِل
من الذر فوق الإتب منها لأثَّرا
١٣٣
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وعلق بهند والرباب وفرتَنَى، ووقف على أطلالها فشجته، وذكر فيها ليالي كان يدعوه الهوى
فيجيبه، وما كان يدفع به كروبه،
فقال:
لمن طلل أبصرته فشجاني
كخط الزبور في العسيب اليماني
١٣٤
ديار لهند والرباب وفرتنى
ليالينا بالنعف من بدلان
١٣٥
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه
وأعين من أهوى إليَّ روان
١٣٦
وإن أمس مكروبًا فيا رب بُهمة
كشفت إذا ما اسودَّ وجه الجبان
١٣٧
وإن أمس مكروبًا فيا رب قينة
لها مزهر يعلو الخميس بصوته
أجش إذا ما حركته اليدان
١٣٩
وأحب امرأة من نبهان — ونبهان من طيء — حين كان نازلًا فيهم، فبكى لذكرها، وجمع جميع
أوصاف الدمع من كثرة وقلة، يشير إلى أنه كان
في أوقات مختلفة، فقال:
أمن ذكر نبهانية حل أهلها
بجزع الملا عيناك تبتدران
١٤٠
فدمعهما سحٌّ وسكبٌ وديمة
ورشٌّ وتوْكافٌ وتنهملان
كأنهما مَزَادتا متعجِّل
فرِيَّانِ لما يُسْلَقَا بدِهان
١٤١
وأحب امرأة تدعى «ماوية»، وكان في شك من حبها إياه فقال لها:
أماويَّ! هل لي عندكم من مُعَرَّس
أم الصرم تختارين بالوصل نيأسِ
١٤٢
أبيني لنا إن الصريمة راحة
من الشك ذي المخلوجة المتلبِّسِ
١٤٣
ولقد وقف على ديارها، فاستعجمت عن جوابه، فتحسر لذلك وقال:
يا دار ماويَّة بالحائل
فالسهب فالخبتين من عاقل
١٤٤
صَمَّ صداها وعفا رسمها
واستعجمت عن منطق السائل
١٤٥
وأحب «لميس» فيمن أحب، وغشي ديارها، فكان من أسفه على سكانها كالسكران من خمرة عانة،
وبكى عليها تأسيًا بابن حذام، قال:
لمن الديار غشيتها بسحام
فعمايتين فهَضْب ذي أقدام
١٤٦
فصفا الأطيط فصاختين فغاضر
تمشي النعاج بها مع الآرام
دار لهند والرباب وفرتنى
ولميس قبل حوادث الأيام
١٤٧
عوجا على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن حذام
١٤٨
أوما ترى أظعانهن بواكرًا
كالنخل من شوكان حين صرام
١٤٩
حُور تعلل بالعبير جلودها
بيض الوجوه نواعم الأجسام
١٥٠
فظللت في دِمَن الديار كأنني
نشوان باكره صبوح مدام
أُنُفٌ كَلَوْن دم الغزال معتَّقٌ
من خمر عانة أو كروم شِبام
١٥١
الخلاصة
إذا أنعمنا النظر فيما قاله امرؤ القيس وفيما قيل فيه، يتضح لنا أمور كثيرة منها:
- (١)
أن امرأ القيس كان شغفًا بالنساء، وكان طِلْب نساء، وتبع نساء، وزِيرَ نساء،
وحِدْث نساء.
- (٢)
أنه كان غير صادق في محبته؛ ولذلك لم يقتصر على خُلة واحدة، ولم تدم محبته لواحدة، وإنما
كان حبه متصلًا بلذته وشهوته، فكان
لا يصبر على طعام واحد، بل يتنقل من حب واحدة إلى أخرى، كالنحلة تلمُّ بالزهرة حتى إذا
قضت وطرها منها انتقلت إلى غيرها، وأن
الذكريات كانت تهيجه وتثير كوامن نفسه، فيشبب بجماعة من حبِيباته تارة، وبواحدة منهن
أخرى، وعلى بعده من الحب الصادق يتراءى في
خلال أبياته كلمات تُوهم أنه صادق الحب، وأن بين جنبيه نفسًا تتَّقد فيها جذوة الصبابة
واللوعة، وتفيض بعواطف الحب الخالص، وهذا
أثر من آثار قدرته على التصرف بفنون القول حتى يجعل الباطل في صورة الحق.
- (٣)
أن امرأ القيس استطاع أن يأتي في باب الغزل ما لا يستطيع غيره أن يأتي به: من رقة الألفاظ،
ورشاقة الأسلوب، وجمال
الديباجة، وشرف المعنى، وسعة الخيال، ودقة التشبيه، وروعة الكناية، وما شاكل ذلك من المحسنات.
- (٤)
أنه سلك في الغزل أسلوبًا قصصيًّا فتح به هذا الباب، ومهَّد به السبيل لكل من سلكه من
بعده، كعمر بن أبي ربيعة.
فهو يقول في معلقة إنه دخل الخدر على عنيزة، ودعت عليه بالويلات وقالت له: انزل عقرت
بعيري، فلم يصغ إلى قولها، وقال لها:
سيري وأرخي زمامه، وبين لها أنه طوق أمثالها من الحسان ما بين حبلى ومرضع، ثم ذكر ما
دار بينه وبينها من الحوار اللطيف، ثم
أفاض في بيان رحلته إليها، فذكر أنه تجاوز إليها معشرًا يحرصون على قتله، فأتاها وقد
نضت ثيابها للنوم، فأنكرت ذلك عليه، ثم
خرج بها، وكانت تعفي آثار أقدامها بذيلها، حتى انتهيا إلى مكان منخفض، فهصر بفودي رأسها،
ونال من جناها المعلل، ثم أخذ يصف
أعضاها وصْف ماهر لبق.
ومن تأمل هذه الأبيات تَمثَّل أمام عينيه امرؤ القيس وفاطمة أو عنيزة، وخيل إليه أنه
يسمع ما كانا يقولان، ويرى ما كانا
يفعلان. وفي المعلقة أيضًا نمط آخر من هذا القبيل، قَصَّ فيه علينا ما وقع له يوم عقر
الناقة، فذكر أنه عقر ناقته ليطعم العذارى،
فلما شبعن جعلن يرتمين باللحم والشحم.
وفيها مثال آخر أتى عليه بعد أن وصف الجواد بما وصفه به، فذكر أن سربًا من بقر الوحش
عرضن له فأرتعنَ، فأدبرنَ فرارًا منه،
فألحقه الجواد بالسابقات منها، وترك المتأخرات في صرة، وأن الجواد عادى بين ثور ونعجة،
ولم يتعب. ثم ذكر أن الطهاة نوعوا
الطعام من لحم الصيد ما بين شواء وقدير.
وفي قصيدته البائية نمط لا يقل في البراعة والجودة عما في المعلقة، إذا لم يزِد عليه
فيهما؛ وذلك أنه وصف الجواد وصفًا
بديعًا، ثم ذكر أن شدة جريه أخرج الفأر من أنفاقهن، وأنه عادى بين ثور ونعجة، وكان لثيران
الرمل غماغم،
١٥٣ وكان يطعنها بالرمح، فهي بين ساقط على جبينه ومتقٍّ بقرنه، فقال لفتيانه: انزلوا. فنزلوا،
ونصبوا ثوبًا كالخيمة،
فكانت أعمدته من الرماح، وأوتاده من الدروع، وأطنابه حبال النوق وأعلاه ثوب أبيض؛ فدخلوه
وسندوا ظهورهم إلى رحال أو سيوف
حيرية، فلما أكلوا مشُّوا أيديَهم بأعراف الجياد، وطرحوا عيون الوحش الشبيهة بالجزع حول
الأخبية، ثم راحوا يحملون الصيد في
أعدالهم وحقائبهم.
وفي قصيدته الرائية يقص علينا أنه خرج إلى الصيد ومعه القانصان: الرجل والفرس، وكان يتبعهم
كلب ألوف نشيط، فرأى ثورًا
فتبعه حتى أدركه وأنشب أظفاره في نَسَاه، فكرَّ إليه الثور بقرنه فأدخله فيه، فجعل يستدير
ويرنح كأنه حمار أصابته النعرة في
أنفه.
ولعل أروع شيء له في هذا الباب ما في قصيدته اللامية:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي!
فهو يقول فيها إنه سما إليها بعدما نام أهلها، فدعت عليه، وأنكر عمله؛ لأن السمَّار
حولها، فأقسم أن لا يبرح قاعدًا عندها
ولو قطعوا رأسه وأوصاله، ثم أقسم أن الحي ناموا، ثم تنازعا الحديث، فلانت وانقادت له
بعد تمردها وعصيانها، ثم هصر بفوديها
وصارا إلى الحسنى ورق كلامها.
فأصبح محبوبًا لديها قد شغف فؤادها، وأصبح بعلها سيئ الظن، كاسف البال، يغط غطيط البكر
المشدود خناقه، لغيظه وحنقه، ويود أن
يقتله، ولكنه لم يستطع ذلك؛ لأنه كان أعزل ليس بذي رمح ولا سيف ولا نبال، وكان مع امرئ
القيس سيف مشرفي ونصال محددة.
ثم ذكر في هذه القصيدة أنه ولج في يوم غيم بيت عذارى فرآهن يطفن بفتاة كثيرة اللحم
كسول.
ثم انتقل إلى وصف الجواد وذكر أنه ذعر به سربًا أبيض الجلود موشى الأكارع، فاتقى ذلك
السرب بثور مُسنٍّ، فاصطاد الجواد ثورًا
ونعجة في طلق واحد، وكان لسرعة لحاقه الصيد كالعقاب التي تصطاد ذكور الأرانب، وتختفي
الثعالب خوفًا منها، حتى كثر الصيد
لديها، وكانت قلوب الطير حول وكرها كالعناب والحشف.
ويتضح أيضًا أن امرأ القيس كان مع ولعه بالنساء، مولعًا بالخمر والقيان، وأنه كان
مفركًا، ومع ذلك يحب أن تحبه النساء،
ويكون له حظوة عندهن ويتمدح بذلك فيقول:
ويا رب يوم قد أروح مُرَجَّلًا
حبيبًا إلى البيض الكواعب أملسا
١٥٤
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه
كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
١٥٥
ويقول في الأبيات المتقدمة:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
ولست بمقليِّ الخلال ولا قالِ
لياليَ يدعوني الهوى فأجيبه
وأعيُن من أهوى إليَّ روان
وكان يرى لذة الحياة في الخمر والنساء فيحض على التمتع بهما إذ يقول:
تمتع من الدنيا فإنك فانِ
من النشوات والنساء الحسان
من البيض كالآرام والأُدْم كالدمى
حواصنها والمبرقات روان
١٥٦
(٢) نظره في المرأة
وكان امرؤ القيس، على شدة حبه للمرأة وعلو منزلتها من نفسه، لا يراها أهلًا للوفاء
والحب الصادق للرجل، وإنما تحبه ما دام
شابًّا كثير المال؛ لأن في ذلك بلوغ أمنيتها وقضاء لذتها، فإذا فقد الرجل ذلك فليس له
نصيب من محبتها، وهذا معنى قوله:
أراهن لا يحببن من قل ماله
ولا من رأين الشيب فيه وقوَّسا
ولعل علقمة أخذ هذا البيت وطبع على غراره في قوله:
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له من ودهن نصيب
ولاعتقاده هذا في المرأة أنكر على بسباسة ادعاءها أنه كبر، وأنه لا يحسن اللهو حيث
يقول:
لقد زعمت بسباسة اليوم أنني
كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
كذبت! لقد أصبي على المرء عرسه
وأمنع عرسي أن يُزنَّ بها الخالي
ولعل امرأ القيس حكم على المرأة بما يكنه صدره، فإنه لا يحب المرأة إلا لحاجة في نفسه؛
ولذلك كان لا يصْدق في حب، ولا يرعى
لخليل حق الخلة — كما أسلفنا — فانظر إلى قوله:
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي!
وقوله:
فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل
وقوله:
وخليلٍ قد أفارقه
ثم لا أبكي على أثره
وقوله:
أأسماء أمسى ودها قد تغيرا
سنبدل إن أبدلت بالود آخرا
ونحو ذلك … تتمثل لك نفس تحمل بين جوانحها قلبًا لا يعرف للحب معنًى إلا التمتع باللذة،
ولا تشعر بحسن الوفاء للخلة
والمودة.
(٤) الوصف
ومن الأغراض التي نظم فيها الشعر الوصفُ، فإنه شغل جزءًا عظيمًا من شعره، وبرع في
ضروب منه براعة بذَّ فيها كل من تقدمه، وأبرَّ على
من تأخر عنه؛ وصف الخيل والإبل والدروع، والفلوات، والجبال، والوحش، والأودية، والبرق،
والسحاب، والمطر، والليل.
وأظهرُ موطن تنجلي فيه براعته وصفُ الخيل، حتى قيل: «أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب.»
وفي شعره طائفة تدل على تفوقه في هذا
الباب، منها قوله يصف ذهابه إلى الصيد والكلب والصيد والناقة من قصيدة مطلعها:
أَحارِ بن عمرو كأني خمر
ويعدو على المرء ما يأتمر
١٥٧
ذكر فيها أنه لا يفر، وأن تميم بن مر وكندة حوله إذا ركبوا تحرقت الأرض واليوم قرٌّ.
١٥٨ ثم ذكر أن «هرًّا» أصابت فؤاده بسهم، ثم شبب بها ونعتها، ثم دنا منها فتسداها، ثم قال:
وَقَدْ أغْتَدِي وَمَعي القَانِصَان
وَكُلٌّ بمَرْبَأةٍ مُقْتَفِر
١٥٩
فَيُدْرِكُنَا فَغِمٌ دَاجِن
سَمِيعٌ بَصِيرٌ طَلُوبٌ نَكِر
١٦٠
ألَصُّ الضُّرُوسِ حَبيُّ الضلُوعِ
تَبُوعٌ طَلُوبٌ نَشِيطٌ أشِرْ
١٦١
فأنْشَبَ أظْفَارَهُ في النَّسَا
فَقُلْتُ هبِلْتَ! ألا تَنتَصِرْ؟
١٦٢
فَكَرَّ إلَيْهِ بمِبْراتِهِ
كمَا خَلَّ ظَهْرَ اللِّسانِ المُجِر
١٦٣
فَظَل يُرَنِّحُ في غَيْطَل
كمَا يَسْتَديرُ الحِمَارُ النَّعِر
١٦٤
ثم انتقل إلى وصف الفرس فقال:
لها حافز مثل قعب الوليـ
ـد رُكِّب فيه وظيف عجر
١٦٦
لها كَفَلٌ كصفاة المسيـ
ـل أبرز عنها جُحافٌ مُضر
١٦٩
لها متنتان خظاتا كما
أكبَّ على ساعديه النمر
١٧١
لها عذر كقرون النسا
ء ركِّبن في يوم ريح وَصِر
١٧٢
وسالفة كسَحوق اللُّبا
ن أضرم فيها الغويُّ السُّعر
١٧٣
وعين لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ
فشقَّت مآقيهما من أُخُر
١٧٦
إذا أقبلتْ قلت دُبَّاءةٌ
من الخدر مغموسة في الغُدُر
١٧٧
وإن أعرضت قلت سُرعوفة
لها ذنب خِلفها مُسْبَطِر
١٧٩
وللسوط فيها مجال كما
تَنَزَّل ذو بَرَد منهمر
١٨٠
لها وَثَبَاتٌ كوثب الظباء
وتعدو كعدو نُجاة الظبا
ء أخطأها الحاذف المقتدر
١٨٢
وقال في معلقته يصف جواده:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
١٨٣
مكر مفر مقبل مدبر معًا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
١٨٤
كميت يزل اللبد عن حال متنه
كما زلَّت الصفواء بالمتنزِّل
١٨٥
على العقْب جيَّاش كأن اهتزامه
إذا جاش فيه حَمْيُه غليُ مِرْجل
١٨٦
مِسَحٌّ إذا ما السابحات على الونى
أَثَرْنَ غبارًا بالكديد المرَكَّل
١٨٧
يطير الغلام الخِفُّ عن صهواته
ويُلوي بأثواب العنيف المثقل
١٨٨
دريرٍ كخُذْروف الوليد أمرَّه
تتابع كفيه بخيط موصَّل
١٨٩
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
١٩٠
ضليع إذا استدبرتَه سدَّ فرجه
بضافٍ فُويق الأرض ليس بأعزل
١٩١
كأن على الكتفين منه إذا انتحى
مَدَاك عروس أو صلابة حنظل
١٩٢
كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حناء بشيب مرجَّل
١٩٣
ثم استطرد إلى وصف بقر الوحش التي اصطادها على هذا الفرس فقال:
فعنَّ لنا سرب كأن نعاجه
عذارى دُوارٍ في مُلاءٍ مُذيَّل
١٩٤
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
بجيد معمٍّ في العشيرة مخول
١٩٥
فألحقَنا بالهاديات ودونه
جواحرها في صرَّةٍ لم تزَبَّلِ
١٩٦
فعادى عداءً بين ثور ونعجة
دِراكًا ولم يُنضحْ بماء فيغسل
١٩٧
وظلَّ طهاة اللَّحم من بين مُنضج
صفيفٍ شِواءٍ أوْ قديرٍ معجَّل
١٩٨
ورُحنا يكاد الطِّرف ينفض رأسه
مَتَى ما ترقَّ العين فيه تَسَهَّلِ
١٩٩
وباتَ عليه سرجُهُ ولجامه
وباتَ بعيني قائمًا غير مرسلِ
٢٠٠
وقال من قصيدة مطلعها:
ألا عِمْ صَبَاحًا أيهَا الطلَلُ البَالي
وَهل يَعِمنْ مَن كان في العُصُرِ الخالي
٢٠١
كأني لم أركب جوادًا للذة
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
٢٠٢
ولم أسبأ الزقَّ الروي ولم أقل
لخيليَ كِرِّي كَرَّة بعد إجفال
٢٠٣
ولم أشهد الخيل المغيرة بالضحى
على هيكل عبل الجُزَارَة جوال
٢٠٤
سليم الشظى عبل الشوى شَنِج النسا
له حَجَبَات مشرفات على الفالي
٢٠٥
وصمٌّ صلاب ما يقين من الوجى
كأن مكان الردف منه على رال
٢٠٦
وقد أغتدي والطير في وكناتها
لغيث من الوسمي رائده خال
٢٠٧
تحاماه أطراف الرماح تحاميًا
وجادَ عليه كلُّ أسحمَ هطَّال
٢٠٨
بعَجْلَزَة قد أترز الجري لحمها
كميت كأنها هراوة منوال
٢٠٩
ذَعَرتُ بها سربًا نقيًا جلوده
وأكْرُعُه الوِشْي البرود من الخال
٢١٠
كأنَّ الصُّوار إذ تَجَهَّد عدْوُه
على جُمُد خيل تجولُ بأجلال
٢١١
فجال الصوار واتقين بقرهب
طويل القرا والرَّوق أخنس ذيال
٢١٢
فعادى عداءً بين ثور ونعجة
وكان عداء الوحش مني على بال
٢١٣
كأني بفَتْخَاءِ الجناحين لَقْوَة
صيود من العقبان طأطأت شملالي
٢١٤
تَخَطف خزَّان الشَّرَبة بالضحى
وقد جحرتْ منها ثعالب أَوْرال
٢١٥
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
٢١٦
وقال يصف الجواد من قصيدة مطلعها:
خليليَّ مرَّا بي على أم جندب
لنقضي لبانات الفؤاد المعذب
وقد أغتدي والطَّير في وكراتها
وماء الندى يجري على كل مِذنب
٢١٧
بمنجرد قيد الأوابد لاحه
طراد الهوادي كل شأو مغرب
٢١٨
على الأين جياش كأن سراته
على الضمر والتعداء سرحة مرقب
٢١٩
يباري الخنوفَ المستقلَّ زماعُه
ترى شخصه كأنه عود مشجب
٢٢٠
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وصهوة عير قائم فوق مرقب
٢٢١
ويخطو على صُمٍّ صلاب كأنها
حجارة غيل وارسات بطحلب
٢٢٢
له كفل كالدِّعص لبَّده الندى
إلى حارك مثل الغبيط المذأَّب
٢٢٣
وعين كمرآة الصناع تديرها
بمحجرها من النصيف المنقب
٢٢٤
له أذنان تعرف العلق فيهما
كسامعتي مذعورة وسْط ربرب
٢٢٥
ومستفلك الذفرى كأن عنانه
ومثناته في رأس جذع مشذب
٢٢٦
وأسحم ريان العسيب كأنه
عثاكيل قنوٍ من سُمَيْحَة مُرْطب
٢٢٧
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه
تقول هزيز الريح مرَّت بأثأب
٢٢٨
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا:
تعالوا إلى أن يأتي الصيد مُخْطِبِ
٢٢٩
يدير قَطَاةً كالمحالة أشرفت
إلى سند مثل الغبيط المذأب
٢٣٠
فيومًا على سِرب نقي جلوده
ويومًا على بيدانة أُم تَوْلب
٢٣١
فبينا نعاج يرتمين خميلة
كمشي العذارى في الملاء المهدب
٢٣٢
فكان تنادينا وعقد عذاره
وقال صحابي قد شأوْنكَ فاطلب
٢٣٣
فلأيًا بلأي ما حملنا غلامنا
على ظهر محبوك السَّراة محنب
٢٣٤
وولَّى كشؤبوب العشي بوابل
ويخرجن من جعد ثراه منصب
٢٣٥
فللسوط ألهوب وللساق درة
وللزجر منه وقع أهوج منعب
٢٣٦
فأدركَ لم يَجْهَد ولم يُثنِ شأوه
يمر كخذروف الوليد المثقب
٢٣٧
ترى الفأر في مستيفع القاع لاحبًا
على جدد الصحراء من شد ملهب
٢٣٨
فعادى عداءً بين ثور ونعجة
وبين شبوب كالقضيمة قرهب
٢٤٠
وظل لثيران الصريم غماغمٌ
يُداعسها بالسَّمْهَريِّ المُعلَّب
٢٤١
فكابٍ على حر الجبين ومتقٍ
بمدْريةٍ كأنَّها ذلق مشعب
٢٤٢
وقلنا لفتيانٍ كرامٍ ألَا انزلوا
فعالوا علينا فضل ثوب مطنب
٢٤٣
وأطنابه أشطان خوض نجائب
وصهوته من أتحميٍّ مشرعب
٢٤٥
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا
إلى كل حاريٍّ حديد مشطب
٢٤٦
كأن عيون الوحش حول خِبائنا
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
٢٤٧
نَمشُّ بأعراف الجياد أكفَّنا
إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
٢٤٨
ورحنا كأنا من جؤاثي عشية
نعالي النعاج بين عِدْل ومُحقب
٢٤٩
وراح كَتَيْسِ الَّرْبل ينفض رأسه
أذاةً به من صائكٍ مُتَحَلِّبِ
٢٥٠
وأنت إذا استدبرته سد فرجه
بضاف فويق الأرض ليس بأصهب
٢٥٢
وقال من قصيدة مطلعها:
لمن طلل أبصرته فشجاني
كخط الزبور في العسيب اليماني
وإن أمس مكروبًا فيا رب غارة
شَهِدْتُ عَلى أقَبَّ رَخْوِ اللَّبَان
٢٥٣
عَلى رَبِذٍ يَزْدَادُ عَفْوًا إذَا جَرَى
مِسَحٍّ حَثِيثِ الرَّكْضِ وَالذَّأَلان
٢٥٤
ويردي على صُمٍّ صِلابٍ مَلاطِس
شَدِيدَاتِ عَقْدٍ لَينَاتٍ مثَاني
٢٥٥
وَغَيْثٍ منَ الوَسمِي حُوٍّ تِلاعُه
تَبَطنْتُهُ بِشَيْظَمٍ صَلَتَان
٢٥٦
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا
كَتَيسِ ظِبَاءِ الحُلَّبِ العَدَوَان
٢٥٧
إذَا مَا جَنَبْنَاهُ تَأوَّدَ مَتْنُهُ
كعِرْقِ الرُّخامى اهْتَزَّ في الهَطَلان
٢٥٨
وقال من قصيدة مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان …
وغيث كألوان الفنا قد هبطْته
تعاور فيه كل أوطف حنَّان
٢٥٩
على هيكلٍ يعطيك قبل سؤاله
أفانينَ جريٍ غيرَ كزٍّ ولا وان
٢٦٠
كتَيْس الظباء الأعفر انضرجت له
عُقاب تدلت من شماريخ ثهلان
٢٦١
وخرق كجوف العَيْر قفر مَضِلَّةٍ
قطعتُ بسامٍ ساهمِ الوجه حُسَّان
٢٦٢
يدافع أعطاف المطايا بِرُكنه
كما مال غصن ناعم بين أغصان
٢٦٣
وقال من قصيدة:
ومَرْقَبة كالزُّجِّ أشْرفتُ فوقها
أُقلِّب طَرْفي في فضاء عريض
٢٦٤
فظلْتُ وظلَّ الجَوْن عندي بلبده
كأني أعدِّي عن جناح مهيض
٢٦٥
فلما أجَنَّ الشمس عني غيارها
نزلتُ إليه قائمًا بالحضيض
٢٦٦
يباري شباةَ الرمح خدٌّ مذلَّقٌ
كصفح السنان الصُّلَّبي النحيض
٢٦٧
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد عبلِ اليدين قبيض
٢٦٨
له قُصْرَيَا عَيْرٍ وساقا نعامة
كفحل الهجان القيسري الغضيض
٢٦٩
يجم على الساقين بعد كلاله
جموم عيون الحِسْي بعد المخيض
٢٧٠
ذعرت بها سربًا نقيًا جلودها
كما ذعر السرحان جنب الربيض
٢٧١
فأقصد نعجة فاعرض ثورها
كفحل الهجان ينتحي للعضيض
٢٧٢
ووالى ثلاثًا واثنتين وأربعًا
وغادر أخرى في قناة رفيض
٢٧٣
فآب إيابًا غير نَكْد مواكل
وأخلف ماءً بعد ماء فضيض
٢٧٤
وسِنٍّ كَسُنَّيْق سناء وسُنَّم
ذعرت بمدلاج الهجير نَهُوض
٢٧٥
وقال يصف الناقة:
وإنك لم تقطع لُبانة عاشق
بمثل غدو أو رواح مؤَوِّب
٢٧٦
بأدماء حرجوج كأن قتودها
على أبلق الكَشْحَين ليس بمُغرَب
٢٧٧
يغرد بالأسحار في كل سُدفة
تغرد مياح الندامى المُطَرب
٢٧٨
أقبَّ رَباعٍ من حمير عماية
يمجُّ لُعاع البقل في كل مشرب
٢٧٩
بمَحنيَّةٍ قد آزر الضالَ نبتُها
مجرَّ جيوش غانمين وخيَّب
٢٨٠
وقال من قصيدته الرائية:
سما لك شوق بعدما كان أقصرا
فدَعْ ذا وَسَلِّ الهمَّ عنكَ بجَسْرَةٍ
ذَمُولٍ إذا صَامَ النَّهار وَهَجَّرَا
٢٨١
تُقَطَّعُ غِيطَانًا كَأن مُتُونَهَا
إذا أظهرت تُكسى ملاءً منشَّرا
٢٨٢
بَعِيدَةُ بَينَ المَنْكِبَينِ كَأنمَا
ترى عند مجرى الظفر هرًّا مشجَّرًا
٢٨٣
تُطاير ظرَّانَ الحصى بمناسمٍ
صِلابِ العُجى مَلثومُها غيرُ أمعَرَا
٢٨٤
كأن الحَصَى مِنْ خَلفِهَا وَأمامِهَا
إذا نجَلَته رِحلُها خَذْفُ أعسَرَا
٢٨٥
كَأن صَلِيلَ المَرْوِحِينَ تُشدُّهُ
صليل زيوفٍ ينتقدنَ بعبقرا
٢٨٦
وقال من قصيدة مطلعها:
غشيت ديار الحي بالبكرات
فعارمةٍ فبُرْقةِ العبرات
كأني وردفي والقراب ونُمرقي
على ظهر عير وارد الخَبِرَات
٢٨٧
أرن على حُقب حيال طَروقة
كَذَوْد الأجير الأربع الأشِرات
٢٨٨
عنيف بتجميع الضرائر فاحش
شتيم كَذَلْقِ الزُّج ذي ذمرات
٢٨٩
ويأكلن بُهْمى جَعْدَةٍ حبشية
ويشربْن بَرد الماء في السَّبَرات
٢٩٠
فأوردها ماءً قليلًا أنيسه
يحاذرن عَمرًا صاحب القترات
٢٩١
تلُتُّ الحصى لتًّا بسُمر رزينة
موازن لا كُزْمٍ ولا مَعِرات
٢٩٢
ويرخين أذنابًا كأن فروعها
وعنس كألواح الإران نسأتها
على لاحب كالبُرد ذي الحبرات
٢٩٤
فغادرتها من بعد بُدْن رَذِيَّة
تغالي على عوج لها عود لها كَدِنَات
٢٩٥
وأبيض كالمخراق بلَّيت حدَّه
وهبَّته في الساق والقَصَرَات
٢٩٦
وقال من قصيدة مطلعها:
أماوي هل لي عندكم من معرس
كأني ورحلي فوق أحقب قارح
بشربة أوطى وبعرنان موجس
٢٩٧
تعشَّى قليلًا ثم أنحى ظلوفه
يثير التراب عن مبيت ومكنس
٢٩٨
يهيل ويذري تربها ويثيره
إثارة نبَّاث الهواجر مُخْمِس
٢٩٩
فبات على خد أحم ومنكب
وضِجْعَتُه مثل الأسير المُكَرْدس
٣٠٠
وبات إلى أرطاةَ حقف كأنها
إذا ألْثَقتْها غَبْيَةٌ بيتُ معرس
٣٠١
فصبَّحه عند الشروق غُدَيَّة
كلاب ابن مُر أو كلاب ابن سِنبس
٣٠٢
مغرثة زرقًا كأن عيونها
من الذَّمْر والإيحاء نُوَّارُ عَضْرَس
٣٠٣
فأدبر يكسوها الرغام كأنها
على الصمد والآكام جَذْوة مُقْبِس
٣٠٤
وأيقنَّ إن لاقيْنَه أن يومه
بذي الرِّمْث أو ماوتْنَه يوم أنفُس
٣٠٥
فأدركنه يأخذن بالساق والنَّسا
كما شَبْرَقَ الولدان ثوب المقدس
٣٠٦
وغوَّرْنَ في ظل الغضا وتركْنَه
كفحل الهجان الفادر المتشمس
٣٠٧
وقال يصف الناقة أيضًا:
ومُجِدَّةٍ نسَّأْتُها فتكمَّشت
رَتْكَ النعامة في طريقٍ حام
٣٠٨
تَخْدي على العِّلات سامٍ رأسها
روعاء مَنسمها رثيم دام
٣٠٩
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري
إني امرؤ صرعي عليك حرام
٣١٠
فجزيت خير جزاء ناقة واحد
ورجعت سالمة القرا بسلام
٣١١
وقال من قصيدة يصف الفرس والرمح والسيف والدرع:
وأعددتُ للحرب وثَّابة
جواد المحَثَّة والمُرْوَد
٣١٢
ومطَّردًا كَرِشاء الجرُو
رِ من خُلُب النخلة الأجرد
٣١٤
وذا شُطَب غامضًا كلْمُه
إذا صاب بالعظم لم ينأد
٣١٥
ومشدودة السك موضونة
تضاءلُ في الطي كالمبْرد
٣١٦
وقال من قصيدة يصف السيف:
وقال يصف الغيث:
تُخرج الودَّ إذا ما أشْجَذَت
وتواريه إذا ما تَشْتَكر
٣٢١
وترى الضَّب خفيفًا ماهرًا
وترى الشَّجْراء في ريِّقها
كرءوسٍ قطعت فيها الخُمُر
٣٢٣
ساعةً ثم انتحاها وابلٌ
ساقط الأكناف واهٍ منهمر
٣٢٤
راح تَمريه الصبا ثم انتحى
ثجَّ حتى ضاق عن آذيِّه
عرض خيْم فخُفاف فيُسُر
٣٢٦
قد غدا يحملني في أنفه
لاحق الأيطل محبوك مُمر
٣٢٧
وقال يصف البرق والسحاب:
أعِني على برق أراه وميض
يضيء حبيًّا في شماريخ بيض
٣٢٨
ويهدأ تارات سناه وتارة
ينوء كتعتاب الكسير المهيض
٣٢٩
وتخرج منه لامعات كأنها
أكف تَلقَّى الفوز عند المُفيض
٣٣٠
قعدت وأصحابي بين ضارج
وبين تلاع يثلث فالعريض
٣٣١
أصاب قُطيَّات فسال اللوى لها
فَوادي البدي فانتحى للأريض
٣٣٢
بِميث دِماث في رياض أثيثة
تُحيل سواقيها بماء فضيض
٣٣٣
بلاد عريضة وأرض أريضة
مَدافع غيث في فضاء عريض
٣٣٤
فأضحى يَسُحُّ الماء عن كل فيقة
يحور الضباب في صفاصف بيض
٣٣٥
فأسقي به أختي ضعيفة إذ نأت
وإذ بعُد المزار غير القريض
وقال يصف البرق والسحاب والغيث وما أثره:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
كلمع اليدينِ في حَبِيٍّ مُكلل
٣٣٦
يُضيءُ سَناهُ أوْ كمصباح راهِبٍ
أهان السليط في الذُّبال المفتَّل
٣٣٧
قَعَدْتُ لَهُ وصُحبتي بينَ ضارِج
وبين العُذيْب بُعدَ ما متأملي
٣٣٨
علا قَطَنًا بالشَّيْمِ أيْمَنُ صَوْبِهِ
وأيْسَرُهُ على الستارِ فَيَذْبُلِ
٣٣٩
وأضحى يسحُّ الماء عن كل فيقة
يكبُّ على الأذقان دوحَ الكَنَهْبُلِ
٣٤٠
كأن مكاكيَّ الجواء غُديَّة
صُبِحنَ سلافًا من رحيقٍ مفلفل
٣٤١
وَمَرَّ على القَنَانِ مِنْ نَفَيَانِهِ
فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِن كل مَوئِل
٣٤٢
وَتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَة
وَلَا أُطُمًا إلا مَشِيْدًا بِجَنْدَل
٣٤٣
كأَنَّ ثَبِيرًا في عَرَانِينِ وَبْلِهِ
كَبِيرُ أُنَاسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
٣٤٤
كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيمِرِ غُدْوَة
مِنَ السَّيلِ والغُثاءِ فَلْكَةُ مِغْزَل
٣٤٥
كَأَنَّ سباعًا فيهِ غَرْقَى غديةً
بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُل
٣٤٦
وَأَلْقَى بِصَحْراءِ الغَبِيْطِ بَعَاعَه
نُزُولَ اليَمَانيْ ذي العِيَابِ المُحَمَّل
٣٤٧
وقال يصف الليل:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
٣٤٨
فقلت له لما تمطَّى بصلبه
وأردف أعجازًا وناءَ بكَلْكَلِ
٣٤٩
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
٣٥٠
فيا لك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بِيَذْبُل
٣٥١
كأن الثريا علقت في مصامها
بأمراس كتان إلى صم جندل
٣٥٢
ولقد أجاد امرؤ القيس غاية الإجادة في وصف الليل؛ إذ شبهه بموج البحر في شدة ظلمته
وتتابع أهواله الكثيرة، وإذ جعل له سدولًا
لتكون ظلماته أشد، وبرع غاية البراعة في استعارته لليل الصلب والعجز والكلكل، وفي كنايته
عن طوله بشد نجومه بيذبل، وفي مخاطبته
إياه مخاطبة الند للند، ولا يعلم لشاعر من المتقدمين وصف لليل يساوي وصف امرئ القيس هذا
أو يتقدمه.
وقد تشاجر
٣٥٣ الوليد بن عبد الملك وأخوه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة في وصف الليل، أيهما أجود،
فرضيا بالشعبي، فأحضر،
فأنشده الوليد أبيات النابغة الثلاثة:
كليني لهم يا أميمة ناصب …
وأنشد مسلمة قول امرئ القيس:
فضرب الوليد برجله طربًا، فقال الشعبي: بانت القضية!
الخلاصة
إن امرأ القيس بلغ من الإجادة في الوصف، ولا سيما وصف الخيل، ما لم يبلغه غيره من
شعراء الجاهلية وغيرهم. وافتنانه في وصف
الشيء الواحد، وإيراده في صور مختلفة أو متقاربة، كلها في الدرجة القصوى من البراعة،
شاهد عدل على أن امرأ القيس شاعر فذ،
خنذيذ مُفْلِق، أتى بما لم تستطعه الأوائل والأواخر.
وصف الفرس
وصف الفرس في مواضع من شعره، ولم يكد يدع وصفًا حسنًا إلا وصفه به وأجاد فيه.
وإذا أمعنت النظر في معلقته، تبين لك أن فرسه فيها منجرد، قيد الأوابد، هيكل، مكر،
مفر، مقبل مدبر معًا، سريع كالحجر الذي
حطه السيل من مكان عال، كُميت اللون، مصقول المتن، جياش مع ضموره، مِسَح حين يعيا غيره،
لا يستطيع أن يستقر على ظهره راكب
لسرعته، سريع كخذروف الوليد، يشبه الظبي في ضمور خاصرتيه، والنعامة في قصر ساقيها، والذئب
في إرخائه، والتتفل في تقريبه. وهو
قوي، سابغ الذنب، ليس بأعزله، يشبه ظهره مداك العروس في اكتنازه وملاسته ولمعانه، مخضب
النحر بدماء الصيد، يوالي بين ثور
ونعجة في طلق واحد، تام الحسن، إذا نظرتْ العين أعلاه لا بد أن تنظر أسفله؛ لأنه حسن
كله، وبعد أن اصطاد عليه بات ينفض رأسه
من المرح والنشاط؛ لأنه لم يتعب في الصيد.
وهذا الفرس اصطاد عليه، فوصفه بكل ما يتطلبه الوصف لهذا الغرض: من قوة وصلابة وسرعة
ونشاط، وشبَّهه بأجمل ما عند أهل البادية
من المشبهات بها، للدلالة على الأغراض التي يقصدها. ولم يصف جميع أعضائه؛ لأن غرضه أن
يصفه بما يتطلبه الصيد، وهذا لا يتوقف
عليه ذكر الأعضاء وما شاكلها.
وأما فرسه في مَواطن أخرى من شعره، فهو: منجرد، قيد الأوابد، غيَّره مطاردة السوابق
من الوحش، جيَّاش مع تعبه، كأن ظهره سرحة
مرقب، وكأنه عود مشجب، يشبه الظبي في خاصرتيه، والنعامة في ساقيها، والعير في صهوته،
حوافره صلبة مصفرة كحجارة الغَيْل، وكفله
كالدعص الملبَّد، وحاركه كالغبيط المذأَّب، وعينه كمرآة الصناع، وأذناه كريمتان حسنتان
كأذني البقرة الوحشية المذعورة، وذفراه
مستديرة، ورأسه عالٍ، وذنبه أسود، كثير الشعر، ريان العسيب، إذا أسرعَ سمعت له حفيفًا
كحفيف الأثأب إذا ضربته الريح، قطاته
كالمحالة، يغير ما به يومًا على بقر الوحش، ويومًا على حُمرها، وهو محبوك الظهر، محنب،
سريع كشؤبوب العشي، سريع كالخذروف،
يدرك الصيد من غير أن يجهد، أزعج الفأر من أنفاقها، وعادى بين ثور ونعجة وبين شبوب، وترك
للثيران غماغم، وهي بين كابٍ على
جبينه ومتَّقٍ بقرنه، وقد تأذى من رائحة عرقه، فجعل ينفض رأسه، وتلطخ نحره بدماء الهاديات
وذَنَبه ضافٍ فويق الأرض.
وقد وصف كثيرًا من أعضائه؛ كعينه، وأذنه، وذفراه، ورأسه، وشعره، وعذره، وسالفته، وجبهته،
ومنخره، وظهره، وخاصرتيه، وحاركه،
وصدره، وكفله، وقطاته، وذَنَبه، وساقيه، وحوافره، وثننه. ولم يكد يدع شيئًا من أعضائه،
وشبهه بتشبيه رائع مؤنق، ووصفه مقبلًا
ومدبرًا ومعرضًا، ونعته بالسرعة والنشاط والتقدم.
وقص علينا اصطياده عليه، ووثوقه بالصيد منذ ركبه، وكثرة الصيد الذي ألقيت عيونه حول
الخباء، كل ذلك بأسلوب ساحر
عذب.
وقد افتنَّ في التشبيه افتنانًا يدل على براعة رائعة، ومَلَكَة مطاوعة، وكثيرًا ما
يشبِّه العضو الواحد بأشياء متعددة مختلفة؛ فقد
شبه ظهره بمداك العروس، وصلابة الحنظل، وصهوة العير، وعرف الرخامى، وسرحة مرقب.
وشبه حافره بعقب الوليد، وحجارة الغيل الوارسة، والملاطس، وهكذا كثير من أعضائه.
ووصفه بالسرعة بأبيات لا يمكن لغيره أن يحوم حولها أو يدانيها مثل قوله:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله
أفانين جرْي غير كزٍّ ولا وانِ
وقوله:
على ربذٍ يزداد عفوًا إذا جرى
مِسَحٍّ حثيث الركض والذألانِ
وقوله:
… … … … …
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
وقوله:
درير كخذروف الوليد …
… … … …
وقوله:
يجم على الساقين بعد كلاله
جموم عيون الحسي بعد المخيض
وقوله:
وولَّى كشؤبوب العشي بوابل
… … … … …
وقوله:
سبوحًا جموحًا وإحضارها
كمعمعة السعف الموقد
وقوله:
كأني بفتخاء الجناحين لقوة
صيود من العقبان طأطأت شملالا
وقوله:
كأن غلامي إذ علا حال متنه
على ظهر باز في السماء محلق
وقوله:
يخرجن من خلل الغبار عشية
بالدارعين كأنهن ظباء
وبهذا وأمثاله يتضح لنا معنى قولهم: «أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب.»
وصف الناقة
أما وصف الناقة فلا يقل في إجادته وبراعته عن وصف الفرس؛ فقد وصفها في مواطن من شعره،
فهي: أدماء، طويلة، جسرة، ذمول، بعيدة
بين المنكبين، كأن قطًّا مربوطًا عند ضفرها، صلبة، قوية، قوية كألواح التابوت، قوائمها
صلاب غلاظ.
وهي نشيطة، سريعة تطاير الحصى فيصك بعضه بعضًا، حتى كأنه صليل زيوف في يد النقاد.
وقد شبهها مرة بحمار وحش عنيف بتجميع الضرائر، أورد أُتُنَه ماء، وهن يحاذرن صيادًا
من بني ثعل.
وشبهها أخرى بحمار بات إلى أرطاة، فصبحته كلاب ابن مر، أو ابن سنبس، فأدبر يثير التراب،
ثم أدركنه، فأخذن بساقه ونساه ثم
تركنه. وشبهها بالظليم في قوله:
كأني ورحلي والقراب ونُمْرُقي
إذا شبَّ للمرو الصغار وبيص
٣٥٤
على نقنق هيق له ولعرسه
بمنعرج الوعساء بيض رصيص
٣٥٥
وصف كلب الصيد
وصف كلب الصيد بأنه فغم، داجن، تبوع، طلوب، نكر، ألص الضروس، وقص علينا كيف أنشب أظفاره
في نسا ثور الوحش، وكيف كر
هذا بمبراته، وأدخلها في الكلب، فيجعل يرنح ويستدير، كالحمار النعر.
وهو الذي مهد السبيل للنابغة وزهير، وفتح لهما هذا الباب، فوصفا كلاب الصيد، وما دار
بينها وبين الثور الذي شبها به الناقة
من المواثبة والعراك، وهما طبعًا على غرار امرئ القيس، وترسما خطاه في ذلك.
وصف الغيث والسيل
وقد وصف المطر وصفًا دقيقًا رائعًا، فجعل الديمة الهطلاء طبق الأرض؛ إذا ضعفت أظهرت
الجبل، وإذا اشتدت وارته، وجعل الشجر
كرءوس فيها خمر مقطعة، ثم كثر المطر حتى ضاقت عن موجه خيم وخُفاف ويسر.
وجعله في موضع آخر يكب دوح الكنهبل، وينزل العصم عن موائلها، ولم يدعْ نخلة بتيماء
إلا اقتلعها، ونزل على ثبير فجعله كالشيخ
المزمل في البجاد، وأحاط بالمجيمر حتى صار رأسه كلفلكة المغزل، وعامت السباع الغرقى فيه
كأنها أنابيش عنصل.
•••
ووصف البرق وشبَّهه بلمع اليدين مرة، وبِتَعْتَاب الكسير مرة أخرى، وبالأكف التي تتلقى
الفوز عند مفيض القداح مرة ثالثة.
ووصف النبات وشبهه بعد المطر بما في عياب اليماني من الثياب المنقوشة المختلفة الألوان،
وشبهه مرة أخرى بألوان عنب
الثعلب.
ووصف الدرع والسيف والوادي والليل والذئب وصفًا يدل على براعة فائقة، ومهارة باهرة.
ولعل أظهر موطن تتجلى فيه براعته
وعبقريته في الوصف وصْف الخيل ووصف النساء، وقد قدمنا أمثلة من شعره تدل على هذا.
(٥) الفخر
علمنا أن امرأ القيس كان مولعًا بالنساء والصيد وما إليهما، مما تقتضيه الصبوة، وكذلك
كان شجاعًا فارسًا، طماحًا إلى معالي
الأمور، بعد أن أفاق من سكرته، وأيقظه الدهر من رقدته.
وكان شديد الاعتداد بنفسه، واسع الآمال، لا يسعى إلا إلى مجد مؤثل يدركه أمثاله، ولا
يقيم ببلدة يأذى بها، وينازل البطل الشديد
ولا تطيش سهامه؛ ولذلك استطاع أن يأتي في شعره بصور من الفخر رائعة، كقوله من قصيدة —
بعد أن وصف ناقته:
عليها فتًى لم تحمل الأرض مثله
أبرَّ بميثاق وأوفى وأصبرا
٣٥٦
هو المُنزل الآلاف من جو ناعطٍ
بني أسد حزنًا من الأرض أوعرا
٣٥٧
ولو شاء كان الغزو من أرض حِمير
ولكنه عمدًا إلى الروم أنفرا
٣٥٨
بكى صاحبِي لما رأى الدَّرب دونه
وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا
٣٥٩
فقلت له لا تبك عينُك إنما
نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
٣٦٠
•••
وكنا أناسًا قبل غزوة قَرْمَل
ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا
٣٦١
وما جبنت خيلي ولكن تذكرتْ
مرابطها في بربعيص وميسرا
٣٦٢
ألا رُب يوم صالح قد شهدتُه
بِتأذِفَ ذات التل من فوق طرطرا
٣٦٣
ولا مثل يوم في قدَاران ظِلته
كأني وأصحابي على قرن أعفرا
٣٦٤
ونشرب حتى نحسب الخيل حولنا
نِقادًا وحتى نحسب الجون أشقرا
٣٦٥
وكان حجر استعان ببني حنظلة من بني تميم، فبعثت بنو أسد إلى حنظلة تسألها أن تخلي
بينها وبين كندة، فاعتزلت حنظلة وخذلت حجرًا،
فلما التقت أسد وكندة انهزمت كندة وقتل حجر، فأقسم امرؤ القيس لابنة العامري أن تميم
بن مر وأشياعها لا يدعون أنه يفر إذا كانت
كندة مجتمعة حوله؛ لأن الأرض تحترق إذا ركبوا واستلأموا في اليوم البارد، وذلك حيث يقول:
فلا وأبيك ابنة العامر
يِّ لا يدعي القوم أني أفر
تميم بن مر وأشياعها
وكندة حولي جميعًا صُبُر
٣٦٦
إذا ركبوا الخيل واستلأموا
تحرَّقت الأرض واليوم قر
٣٦٧
وقال:
فلو أنما أسعى لأدنى معيشة
كفاني — ولم أطلب — قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
٣٦٨
وقال:
وشمائلي ما قد علمت وما
نبحت كلابك طارقًا مثلي
وكان بين امرئ القيس وبين سبيع بن عوف بن مالك بن حنظلة قرابة، فأتاه امرؤ القيس يسأله،
فلم يعطه شيئًا، فقال سبيع أبياتًا
يعرِّض فيها بامرئ القيس، فقال امرؤ القيس مجيبًا له من قصيدة:
أبلغ سبيعًا إن عرضت رسالة
أني كهمك إن عشوت أحامي
٣٦٩
فاقْصر إليك من الوعيد فإنني
مما ألاقي لا أشد حزامي
٣٧٠
وأنا المنية بعد ما قد نوَّموا
وأنا المعالن صفحة النُّوَّام
٣٧١
وأنا الذي عرفت مَعَدٌّ فضله
ونَشَدْت عن حُجر ابن أم قطام
٣٧٢
خالي ابن كبشة قد علمتَ مكانه
وأبو يزيد ورهطُه أعمامي
٣٧٣
وإذا أذِيت ببلدة ودعتها
ولا أقيم بغير دار مقام
٣٧٤
وأنازل البطل الكريه نزالُه
وإذا أناضل لا تطيش سهامي
٣٧٥
وقد تقدم أن امرأ القيس يعد حب النساء له مفخرة يفتخر بها كما يفتخر بشجاعته ورباطة
جأشه.
وتقدمت كلمته التي ذكر فيها أنه سما إلى محبوبته بعدما نام أهلها، وهصر بفوديها وراضها
فذلت، وافتخر بحبها إياه حتى أصبح
معشوقًا لها، وأصبح بعلها سيئ الحال، يغط غطيط البكر، ثم تغنى بقوله:
كأنيَ لم أركب جوادًا للذة
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
إلى آخر الأبيات …
وقال من قصيدة أخرى يفتخر بنظر أحبائه إليه، وتطربه بالقيان، وكشفه المعضلات، لسداد
رأيه، ورجاحة عقله، وشهوده الغارات
لشجاعته:
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه
وأَعْين من أهوى إليَّ روان
٣٧٦
وإن أُمسِ مكروبًا فيا رُب بهمة
كشفت إذا ما اسودَّ وجه الجبان
٣٧٧
وإن أُمْسِ مكروبًا فيا رب قَينة
منعَّمة أعملتها بِكران
٣٧٨
لها مزهر يعلو الخميس بصوته
أجش إذا ما حركتْه يدان
٣٧٩
وإن أمسِ مكروبًا فيا رب غارة
شهدت على أقبَّ رخو اللبان
٣٨٠
وقال حين أغار على قتلة أبيه في بني كنانة ولم يظفر بهم:
والله لا يذهب شيخي باطلا
٣٨١
حتى أبير مالكًا وكاهلا
٣٨٢
القاتلين الملك الحُلاحلا
٣٨٣
وخيرهم قد علموا فواضلا
٣٨٥
يا لهف هند إذ خطئْن كاهلا
٣٨٦
نحن جلبنا القرَّح القوافلا
٣٨٧
يحملننا والأسَل النواهلا
٣٨٨
مستفرمات بالحصى جوافلا
٣٨٩
تستثفر الأواخر الأوائلا
٣٩٠
وقال من قصيدة بعد أن وصف الجواد بأبيات تقدمت وذكر فيها أنه قطع خرقًا بعيدًا كجوف
العير مضلة:
ومَجْرٍ كغُلَّان الأَنَيْعَم بالغٍ
ديار العدو ذي زُهاء وأركان
٣٩١
مطوت بهم حتى تكل مطيُّهم
وحتى الجياد ما يُقَدن بأرسان
٣٩٢
وحتى ترى الجون الذي كان بادنًا
عليه عوافٍ من نسور وعقبان
٣٩٣
وقال من قصيدة يتوعد بها بني أسد، وقد نسبها في «معاهد التنصيص» إلى امرئ القيس بن
عانس الكندي الصحابي الجليل:
تطاول ليلُك بالأثمد
ونام الخليُّ ولم تَرقدِ
٣٩٤
وبات وباتت له ليلة
كلَيلة ذي العائر الأرمد
٣٩٥
وذلك من نبأ جاءني
وأنبئته عن أبي الأسود
ولو عن نثا غيره جاءني
وجُرْح اللسان كجرح اليد
٣٩٦
لقلت من القول ما لا يزا
لُ يؤثر عني يد المُسنَد
٣٩٧
بأي علاقتنا ترغبو
ن أعن دم عمرو على مرثد
٣٩٨
فإن تدفنوا الداء لا نُخفِهِ
وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
٣٩٩
متى عهدنا بطعان الكما
ة والمجد والحمد والسؤدد
وبَنْي القباب وملء الجفا
ن والنار والحطب المفأد
٤٠١
وأعددت للحرب وثابة
جواد المحثَّة والمُرْود
الخلاصة
كان امرؤ القيس شديد الإعجاب بحسنه، شديد الاعتداد بنفسه وبشجاعته، كثير الطموح إلى
المعالي، شديد الإباء.
وكل ما يفتخر ويمتدح به ميل الحسان إليه، وشغف أفئدتهن به، وشرب الخمر، وسباء الزق
للذة، وتبطن الكاعب، وإعمال القيان
بالكران، ونحو هذا مما تقتضيه جهلة الفتوة.
ويتمدح بركوب الجياد، ومطاردة الوحش عليها، وشهود الغارات وكشف البهم، وركوب النوق
لتسلية الهموم.
ويفتخر بخلائقه، فهو المنية أو المنبه، وهو الأبي الذي لا يقيم على ضيم، والشجاع الذي
ينازل الأبطال، والرامي الذي لا تطيش
سهامه، والبطل المنزل الآلاف من بني أسد، ولا ينام على وتر، ويمطر بالمجر حتى تكل جياده،
ويهزل سمانها، ونحو هذا مما تطلبه
الشجاعة والأنفة.
ويفتخر بعظم آماله وأمانيه، وكبر نفسه، فهو لم تحمل الأرض مثله أبر وأوفى وأصبر، وهو
يحاول ملكًا أو يموت، وهو لا يسعى إلا
لمجد مؤثل قد يدركه أمثاله.
ونحو هذا مما يلائم النفس العظيمة، العظيمة الأمل.
ويفتخر بقومه وشجاعتهم، ويعتز ببأسهم وصبرهم.
وهذه الخلال التي يتمدح بها أهل عصره وبيئته، وقد أجاد فيها كلها.
ولم ينقصه إلا التمدح بالجود، ولعله لم يرَ إطعام الطعام لصحبه ومعتنفيه مَنقبة تستحق
أن يباهي بها، على أنه ذكر في معلقته
عقر ناقته للعذارى، وذكر فيها وفي غيرها ما كان من عمل الطهاة وإنضاجهم صفيف شواء أو
فديرًا معجلًا، وذكر في بائيته ما كان
من مشهم أيديهم بأعراف الجياد، ولكنه لم يورد شيئًا من هذا على سبيل الفخر إلا في قوله
السابق:
وبني القباب وملء الجفا
ن والنار والحطب المُفْأد
(٧) الهجاء
قال يوم ظفر ببني أسد (قاتلي أبيه حجر)، وكان قد حرم على نفسه شرب الخمر حتى يدرك
ثأره:
يا دار ماويَّة بالحائل
فالسُّهب فالجَنْبَتيْن من عاقل
٤٣٢
صم صداها وعفا رسمها
واستعجمت عن منطق السائل
٤٣٣
قولا لدودان عبيد العصا
ما غرَّكم بالأسد الباسل؟!
٤٣٤
ومن بني غُنْم بن دودانَ إذ
نقذف أعلاهمْ على السافل
٤٣٦
نطعنهم سُلكي ومَخْلوجةً
كرَّك لأْميْن على نابل
٤٣٧
حلَّت لي الخمرُ وكنتُ امرأً
عن شربها في شغُلٍ شاغل
٤٤٠
فاليوم أُسقى غير مستحقب
إثمًا من الله ولا واغل
٤٤١
وقال يهجو البراجم لأنهم قعدوا عن نصرة عمه شرحبيل، وهم خمسة إخوة: الظليم، وكلْفة،
وغالب، وعمرو، وقيس من بني حنظلة، وهم من أم
واحدة، ولهم إخوة لأبيهم:
ألا قبَّح الله البراجم كلَّها
وجدَّع يربوعًا وعفَّر دارِما
٤٤٢
وآثر بالملحاة آل مُجاشع
رِقاب إماءٍ يَقْتَنِينَ المَغَارِمَا
٤٤٣
فما قاتلوا عن ربِّهم وربيبهم
ولا آذنوا جارًا فيَظعنَ سالما
٤٤٤
ولا فعلوا يوم العُوَيْر بِجاره
لدى باب هندٍ إذ تجرَّد قائما
٤٤٥
ونزل
٤٤٦ بعامر بن جُوَيْن الطائي فأراد أخذ ماله، فارتحل ونزل بسعد بن الضباب الإيادي، فقال
من قصيدة يمدحه ويهجو عامرًا، وقيل
إنه يهجو هانئ بن مسعود:
لعمرك ما سعد بخلة آثم
ولا نأنأٍ يوم الحفاظ ولا حصر
٤٤٧
لعمري لقوم قد نرى في ديارهم
مرابط للأمهار والعكر الدثر
٤٤٨
أحب إلينا من أناس بقُنَّة
يروح على آثار شائهم النَّمِر
٤٤٩
يفاكهنا سعد ويغدو لجمعنا
بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر
٤٥٠
لعمري لَسَعد بن الضباب إذا غدا
أحب إلينا منك فا فرس حمر
٤٥١
ونعرف فيه من أبيه شمائلًا
ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
٤٥٢
سماحة ذا وبرَّ ذا ووفاء ذا
ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر
ونزل في بني عدوان فلم يحمدهم فقال:
بُدلْتُ مِنْ وَائِلٍ وكنْدَةَ عَدْ
وَانَ وَفَهْمًا، صَمِّي ابنَةَ الجَبَل
٤٥٣
قَوْمٌ يُحَاجُونَ بِالبِهَام ونسـ
ـوَانٌ قِصَارٌ كَهَيْئَةِ الحَجَلِ
٤٥٤
وقال يهجو بني حنظلة:
أبْلِغْ بَني زَيْدٍ مَا لَقِيتَهُم
وَأبْلِغْ بَني لُبْنى وَأبْلِغْ تُماضِرَا
٤٥٥
وَأبْلِغْ وَلا تَتْرُكْ بَني ابنَةِ مِنْقَر
أُفَقِّرُهُمْ إني أُفَقِّرُ نابِرَا
أحَنظلَ لَوْ كُنتُم كِرَامًا صَبرْتُمُ
وَحُطْتُمْ وَلا يُلفى التَميميُّ صَابِرَا
الخلاصة
إذا استقرأنا كلام امرئ القيس في المدح والهجاء، يتضح لنا أن مدحه كان اعترافًا بالجميل،
وشكرًا على الصنيع، وإشادة
بالمعروف الذي أسدي إليه؛ ولذلك نجد الصور التي تمثل مدحه خالية من الغلو، قريبة المنال،
ليس فيها شيء من البراعة التي تتمثل
في بقية أغراضه، وإنما هو عبارة عن التعبير عما يخالج نفسه بصورة بسيطة، فقد مدح بني
عوف بأنهم ابتنوا حسبًا، وأدوا الخفارة
إلى جارهم، وأن ثيابهم نقية، وأنهم أبلغوا حيه أهلهم، وأنهم أبر الناس بميثاق وأوفاهم
لجار.
ومدح المعلى بأنه منيع الحمى، لا يقتدر عليه ملكا العراق والشام.
ومدح قومه بأنهم مصابيح الظلام، وأنهم أقروا حشاه.
ومدح طريف بن مالك بأنه كريم عند الجدب والشتاء.
ومدح سعد بن الضباب بأنه حماه ومنعه، وأنه أوثق الناس جارًا، وأعزهم نصرًا للفريد.
وهذه الصور التي أوردها، وإن كانت قوية الأسر، متينة التأليف، جميلة الأسلوب، إلا
أنها خالية من الروعة التي تلمس في غزله
ووصفه وقصصه، وأقل رونقًا، وأنزر نوطة في القلب، وهزة في النفس.
وكذلك إذا تصفحنا هجاءه، لا نجد فيه من جمال الديباجة، وروعة الأسلوب، ما نجده في
غزله ووصفه وطردياته.
فلقد هجا «دودان» فجعلهم عبيد العصا، ومثل ضعفهم إذ جعلهم يطعنون سلكى ومخلوجة، وهم
فرق كرجل الدبى، حتى أصبحت أرجلهم
كالخشب الشائل.
ودعا على البراجم ويربوع وطرام، وجعل آل مجاشع رقاب إماء، وجعل بني عدوان وفهم يحاجون
بالبهام، والنساء القصار، وهكذا
دواليك …
فمديحه عبارة عن الثناء على معروف، وهجاؤه عبارة عن اللوم على خذلانه والقعود عن نصرته.
وكلامه في المدح والهجاء مثل أعلى في بلاغته، وجلاء معناه، وحسن ترصيفه، ولطف كناياته،
إلا أنه أدنى في الصناعة والبراعة
من بقية شعره.
ولعل السبب في هذا أن امرأ القيس لم يتكسب في شعره، فيجهد قريحته في المدح، وكان ملكًا
وابن ملك، فترفع عن الإسفاف في
هجائه.
ومديحه وهجاؤه يمثلان لنا صورة المدح والهجاء في عصره؛ فقد كان كل منهما بسيطًا قريبًا
من الطبع، بريئًا من التعمل والغلو،
وظل هذا سبيله حتى قام عبيد الشعر، فأجهدوا أنفسهم، وكدوا قرائحهم في الابتكار والتنقيح
والمغالاة؛ تزلفًا من الممدوحين،
وإرهابًا للمهجوين، فأصبح كل من المدح والهجاء غرضًا مقصودًا، وأمنية متوخاة، وميدانًا
يتبارى فيه الطامعون في
التكسب.