دِين امرئ القيس
اختلفت كلمة الباحثين في دِين امرئ القيس وعقيدته على وجوه جروا فيها على الأهواء وأفاضوا على ما خيلت واتخذ كل قائل لتأييد مذهبه حججًا أوهى من بيت العنكبوت.
(١) وثنيته
ذهب فريق إلى أن امرأ القيس وثني واستدل على ذلك باسمه «امرأ القيس»، وزعم أن قيسًا صنم، فيكون المعنى «إنسان القيس أو عبد القيس». وأن امرأ القيس خرج لغزو فمر بتبالة وفيها صنم يقال له: ذو الخَلَصة، فاستقسم بقداحه الثلاثة: الآمر والناهي والمتربص، ولو لم يكن وثنيًّا لما استقسم بها.
وهذا زعم لحمته الوهم وسداه الباطل، فإن لفظ «امرئ» لا يفيد معنى العبودية، ولم يرد في اللغة إلا بمعنى الإنسان والرجل، وقد أطلقه بعضهم على الذئب مجازًا.
ولفظ القيس وردت لِمعانٍ كثيرة ذكرها أصحاب المعاجم، كالشدة والتبختر والجوع والذكر، وقالوا للرخمة: أم قيس.
وليس في معاني اللفظين ما يدل على معنى العبودية أو المعبود أو الصنم، ولم يذكر ابن الكلبي في كتاب «الأصنام» صنمًا يسمى قيسًا، وكلمة اللغويين متفقة على أن معنى امرئ القيس رجل الشدة. ولو فرضنا أن لفظ امرئ يفيد معنى «عبد» لا يوجب ذلك أن يكون وثنيًّا، فإن عبد المطلب سمي كذلك، ولم يكن المطلب وثنًا ولا كان هو عابدًا له، واستنباط الأحكام والعلل من الأسماء أمر غير مطرد.
على أن امرأ القيس لقب لا علم، فلعله لقِّب بذلك لشدته كما لقب رجل بجذل الطعان وآخر بمُلاعب الأسنَّة وثالث بحامي الظعينة.
ويدل على أن امرأ القيس ليس معناه عبد الصنم أو رجل الصنم أو إنسان الصنم، أن كثيرًا من المسلمين كانوا يسمون بهذا الاسم ولم ينكر النبي ﷺ، ولا أصحابه عليهم أسماءهم ولا غيروها، منهم: امرؤ القيس بن عابس الكندي، وامرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي، وامرؤ القيس بن الفاخر بن الطماح.
فهذه الواقعة تدل على أن امرأ القيس إنما أتى ذا الخلصة ليتفاءل بقداحه، ولو كان يعبده أو يعبد غيره من الأوثان لما احتقره وضرب وجهه بالقداح وأعضه على هن أبيه وخالفه فنجح بمخالفته. ولا يكاد الباحث يجد في شعره ما يدل على أنه كان يعبد وثنًا، وما ورد في شعره من أسماء بعض الأوثان لا يدل على أنه كان يعبدها؛ لأنه ذكر الفرس والناقة والذئب والكلب والجبال والأودية وغيرها وليس شيء منها معبودًا.
(٢) مزدكيته
ذهب فريق آخر إلى أن امرأ القيس كان على دين مزدك، واحتج لهذا الرأي بأن جده الحارث تابع مزدك على رأيه وشايعه في هواه.
وأن امرأ القيس اقترف كثيرًا من الفواحش وطلق النساء وأرخى لنفسه العِنان في ميادين اللذة والشهوة.
وقد كان مزدك أمر بتناول اللذات والانهماك في الشهوات والمشاركة في الحرم والأزواج! وامرؤ القيس طبع على هذا الغرار.
وهذا الفريق أشد عمًى من الأول وأضل سبيلًا؛ لأن التاريخ لم ينقل إلينا أن جد امرئ القيس ظل على دين مزدك واعتصم به أعقابه من بعده، بل إن الحارث لم يَدِنْ بهذا المذهب اعتقادًا بصحته أو حسنه، وإنما اتخذه وسيلة يقوم مقام المناذرة في التقرب من كسرى والتملك على العرب، فلما طارده كسرى لم يُسمع من فمه كلمة تتعلق بهذا الدين حتى فارق الحياة، ولا نُقل إلينا أن بنيه كانوا يدينون به. والحكم على شخص بالتزامه كهذا الدين يحتاج إلى أدلة تاريخية موثوق بها، وليس لدينا شيء من ذلك.
على أن امرأ القيس صرح في شعره بأنه يصبي على المرء عرسه ويمنع عرسه أن يزنَّ بها الخالي.
وأنه عقر للعذارى مطيته وأنه اصطاد كثيرًا من بقر الوحش وغيرها، وطعم منها وأطعم، واتخذ له الطهاة منها صفيف شواء وقديرًا …
وأنه قَتل كثيرًا في الحرب التي وقعت بينه وبين بني أسد منهم ومن عمرو ومن كاهل وطعنهم سلكى ومخلوجة حتى تركهم أرجلهم كالخشب الشائل.
كل هذا خروج على مذهب مزدك، فإنه يبيح النساء ولا يجيز منعها وينهى عن قتل الحيوان وأكله وعن المباغضة والقتال. ولا تكاد تلمس في شعره أثرًا لهذا المذهب، فإلزامه ما لم يلتزم ضرب من الهذيان.
(٣) نصرانيته
وذهب فريق إلى أن امرأ القيس كان نصرانيًّا واستدل على هذا بأن في شعره كثيرًا من الإقرار بقدرة الله وحسابه وما شاكل هذا من عقائد النصارى التي لا يقر بها الوثني والمزدكي، فهو يقول:
ويقول: والله أنجح ما طلبت به …
وفي شعره كثير من الإشارات النصرانية كقوله:
وقوله:
وقوله في وصف كلاب الصيد حين أدركت الثور الذي تطرده:
وما شابه هذا من الأدلة.
- (١)
أن الإقرار بالله وقدرته وذكر الحساب وما شاكل ذلك مستفيض في كلام العرب ممن كان على دين إبراهيم أو ممن كان يعبد الأوثان؛ فإنهم لم يعبدوها إلا لتقربهم إلى الله، فذكر الله وذكر قدرته لا يقتضي الحكم بنصرانية شخص ولا وثنيته ولا مزدكيته؛ لأن كلًّا من هذه الأديان لا يحتم إنكار الإله ولا يحرم ذكره.
- (٢)
وأن تشبيه النجوم أو المرأة بمصابيح الراهب أو منارته لا يوجب أن يكون المشبه متدينًا بالدين الذي له علاقة بالمشبه به. وإذا علمنا أن الشاعر قضى شطرًا كبيرًا من حياته في الفلوات وأنه كان يرى مصابيح الرهبان من بعيد، وقلما رأى مصابيح غيرهم؛ تبين لنا السبب في التشبيه بها لأنها أكثر خطورًا في ذهنه وأقرب تناولًا إذا أراد التشبيه بها من غيرها، وأن ذلك لم ينشأ عن التدين بها.
ولو جاز لنا أن نتخذ مصابيح الرهبان دليلًا على نصرانيته لجاز لنا أن نتخذ من قوله في وصف بقر الوحش:
دليلًا على وثنيته وعبادته «دوارًا»، وهو صنم كانت العرب تنصبه يجعلون موضعًا حوله يدورون به.
وقد شبه في شعره بكثير مما كان يعبده الناس، كالشمس والثريا والحجارة والذئب والنار ونحوها.
وحينئذٍ يجب أن نجعله متدينًا بعبادة كل هذه الأشياء، وهذا ما لا يتصوره عاقل.
على أننا علمنا أن امرأ القيس تزوج جملة من النساء، وطلق أم جندب، وهذا مخالف لأصول النصرانية.
وقد شبه الكلاب حين أخذت بنسا الثور بالولدان تشبرق ثوب المقدس، وفي هذا التشبيه ضرب من الغضاضة لا يصدر عمن يدين بدين ويحترم رؤساءه.
ولا تكاد تجد في شعره أثرًا يدل على اعتقاد أو عمل إلا ما كان من التشبيه بمصابيح الرهبان ومصاحفهم، وهذا وحده لا يصح أن يكون حجة كما أسلفنا.
والظاهر أنه كان على دين هواه ولذته لا يدين بمذهب آخر، ولا يحترم دينًا سواه.
وقد أسلفنا قوله:
وفيه من الاستخفاف بعادات الجاهلية وعقائدها ما لا يخفى.