مقدمة الطبعة الثالثة
عندما سلَّمتُ النص النهائي لهذا الكِتاب إلى المطابع في أبريل ٢٠٠٤ لم أكن أتخيَّل أنَّني أحمِل بين يدي قُنبلةً موقوتة ستنفجِر لتُمزِّق الصَّمتَ المُهيمِن على الحياة الثقافية والفكرية في مصر منذ أكثرَ من ثلاثين عامًا.
كنتُ أتوقَّع أنَّ بعض الأقلام ستهبُّ للدِّفاع عن اللغة العربية من مُنطلَق الرَّفض المُسبَق لأيِّ مِساسٍ بلُغة الضاد، بل لأيِّ جديدٍ في أيِّ مجال. وكنتُ أُمنِّي نفسي بأنَّ أصحاب الفكر المُتطوِّر ودُعاة الاستِنارة سيُشهِرون أقلامهم ردًّا لحُجَج الجُمود والتحجُّر.
لكنَّ ما حدَث خلال الأشهُر الثلاثة الماضية جعلَني أُعيد النظر في بعض قناعاتي عن تَوازُنات الحياة الثقافية في مصر.
والضَّجَّة التي أثارها الكِتاب تدلُّ على واقعٍ لا يُمكن مُجادَلَته، وهو اعتراف الجميع، من مُؤيِّدين ومعارِضين، بأنَّ هناك مشكلةً حقيقة تُواجِه اللغة العربية الآن. ولولا أنَّني وضعتُ يدي على العَصَب المكشوف لَما انتبَه أحد لكِتابي ولَما ثارت ثائِرة الكثيرين عليه.
لكن ما أذْهَلَني أن الغالبيَّة العُظمى ممَّن تصدَّوا للتعليق على الكتاب لم يقرءوه وقد اتَّضَح من خلال تعليقاتهم أنَّهم اكتفَوا بالمَثل القائل: «الكِتاب يُقرأ من عنوانه»!
- أولًا: كان الاتِّهام الأول هو أنَّني أدعو إلى هَجْر الفُصحى واللُّجوء إلى اللَّهَجات العامية، ومن يقرأ الكِتاب يتَّضِح له أنَّني أُنادي بعكس ذلك تمامًا، بل إنَّ استِشراء اللَّهَجات كان من أهمِّ دَوافِعي للتفكير في الكتابة حِفاظًا على الفُصحى.
- ثانيًا: الاتِّهام الثاني هو أنَّني أسعى إلى هدْم اللغة العربية وتشويهها، مع أنَّ كلَّ سطور الكتاب، وما وراءها، هي دِفاع مَوضوعي عن الفُصحى.
- ثالثًا: الاتِّهام الثالِث هو أنَّني أُطالِب في الكتاب بإلغاء النحو، وهذا اتِّهام مُضحِك للغاية، فلا يُمكن أن يكون هناك لُغة في العالم بِغَير نحوٍ وقواعد، فلُغات «الهوسا» في نيجيريا، و«البمبرا» في مالي، لدَيها قواعِد نَحوٍ تَحكمها. وما أُطالِب به هو تطوير وتيسير النَّحو العربي.
- رابعًا: الاتِّهام الرابع هو أنَّني لستُ مُتخصِّصًا في اللغة حتى أتناوَل هذا الموضوع، وردِّي أنَّ اللُّغة هي أداتي وأداة كلِّ عَرَبي للتعبير عن نفسه من ناحية، وللاتِّصال بالآخرين من جِهةٍ أخرى، وبالتالي فمن حقِّي، كاتبًا ومثقفًا، بِرأيي في وَضع اللغة الحالي الذي يعترِف الجميع بأنه مأسوي.
- خامسًا: أن غَالبية من شاركوا في الحَملَةِ على الكتاب ركَّزوا على اقتراحاتي التَّطبيقية مثل إلغاء المُثنَّى ونون النسوة وغير ذلك، وقد قلتُ بوضوحٍ إن هذه مُجرَّد اجتهادات لا أتمَسَّك بها ولا أدَّعي أنَّني أملِك سُلطةَ إقرارِها، لكنَّني أقول بوضوح مرَّةً أخرى: إنَّ المَجامِع اللُّغوية في العالم العربي هي الوَحيدة المَنوط بها إقرار كيفيَّة تطوير النَّحو والصَّرف بالتنسيق فيما بينها.
على أن ما راعَني هو المُزايَدات التي جاءت ممَّن يقِفون خلْف ساتِر «قُدسِيَّة اللغة»، فهؤلاء يَرَون أن أيَّ مِساسٍ باللُّغة هو مِساس بالقُرآن الكريم، مع أن هذه قضية حُسِمَت منذ قُرون، وقد جئتُ بأدِلَّة دَامِغة في كِتابي تُفنِّد هذه الحُجَّة. واللغة ليست شرطًا من شُروط الإيمان، فإذا أراد أجنبيٌّ أن يَعتنِق الإسلام فهل تَشترِط عليه مُسبقًا تَعلُّم اللغة العربية؟
وعلى الرغم من عُنف الانتقادات، إلا أنَّني لم أغضَب من أصحاب الأقلام الجادَّة الذين اختلَفوا معي، فأنا لا أدَّعي — مثل البعض — أنَّني أمتلِك الحقيقة المُطلَقة. وقد جاء بعض الذين انتَقدوا الكِتاب بِحُجَجٍ وَجِيهة وأمثِلةٍ في الصميم استفدْتُ منها كثيرًا، لكن البعض الآخر انزلَقَ إلى أسفلِ الدَّرْك في توجيه الاتِّهامات العشوائية، وهؤلاء لا يستحِقُّون مُجرَّد الرَّدِّ ولا الالتفات.
وفي النهاية، فإن ما أصابني بِخَيبة أمَلٍ هو نُكوص الكثير من أصحاب الأقلام التنويريَّة الذين من المُفترَض أن يُحارِبوا مَعركتَهم في مُواجَهة الاتِّجاه المُحافظ وتيَّارات الانغِلاق، فقد هنَّأني بعضُهم في الحُجُرات المُغلَقة، ثم لاذوا بالصَّمتِ الرَّهيب خارِجَها؛ إيثارًا للسلامة.