هل العربية لُغةٌ مُقدَّسة؟
مِن المُؤكَّد أنَّ اللُّغة العربيَّة تُدِينُ باستمرارِ وُجودِها حتى بداية القَرْن الحادي والعشرين للقُرآن الكريم؛ فلولا القرآن لَمَا ظلَّت العربية لغةً مُتماسِكة يتحدَّث بها أكثر من ٢٤٠ مليون من البَشَر في العالَم أجمع.
ومن هنا فإنَّ علاقة اللُّغة بالدِّين من أخطَر القضايا وأكثرِها حساسية. وقد أسهمَتْ بعض الأفكار الجامِدة التي تقِف بالمِرصاد في وَجْه أيِّ تطوُّر في تَحنيط اللُّغة وعَزْلِها عن مُجاراة العصر.
وتَصُبُّ هذه الأفكار في قَالبٍ واحد وهو الرَّبْط المُباشِر بين العربية والدِّين.
ويزعُم أصحاب هذه الأفكار أنَّ العربية ليسَت فقَط اللُّغة التي نزَل بها القرآن، ولكنَّها لُغة الدِّين ذاته؛ وبالتَّالي فهي مُحاطَة بِقدسيَّةٍ خاصَّة ترفَعُها إلى مرتبةٍ تَجعَل المِساسَ بها نَوعًا من أنواع الكُفر. ومن هذا المُنطلَق ظهرَت نظريَّةٌ تَصِف اللُّغة العربية بأنَّها لُغةٌ «توقيفيَّة» أي أنَّها مُنزَّلة من السَّماء؛ وبالتالي فهي مُتوقِّفة بِجوهَرِها عن أيِّ إضافةٍ أو حذْفٍ أو تعديلٍ بيَدِ البَشر.
وفي مُواجَهة هذا التيَّار ظهرَت نظريَّة أُخرى سانَدَها أصحاب العقل تقول: إنَّ العربية مِثلها مِثل باقي لُغات العالم، هي لُغة «اصطلاحية»، أي أنَّ الناس اصطلَحوا على كلِماتٍ ومَعانٍ من واقِع ثقافَتِهم وتَجارِبِهم المُتراكِمة، ووضعوا قواعِدَ لضَبْط لُغَتِهم.
وفِكرة قُدسيَّة اللغة وانتمائها إلى عالَمٍ يَسمو فوق مُستوى عالَم الإنسان، قديمة قِدَم التاريخ، فالمصريون في عصر الفراعنة كانوا يؤمنون بالإله تُحُتُ، ربِّ الحِكمة والكِتابة، وكانت اللُّغة المِصريَّة القديمة تُكتَبُ بخطوطٍ ثلاثة هي الهيروغليفية والهيراطيقية وظهَرَتا في تَوقيتٍ واحِد تقريبًا نحو ٣٢٠٠ قبل الميلاد، ثم ظهرَت الدِّيموطيقية في نَحو القرن السابِع قبل الميلاد.
وكان أهل مصر يَعتبِرون كلَّ هذه الخُطوط واللُّغة نفسها هابِطةً من السماء، وأنَّها هِبَةٌ من الآلهة. وكان المِصريُّ يرمُز إلى اللُّغة بتعبير مِدونِتْر، ومعناها كلامُ الآلهة. وكانت القَناعة الرَّاسِخة هي أنَّ الإنسان لا عَلاقة له باللُّغة، ولم يخترِعْها، ولم تتطوَّر أو تتبلْوَر، ولكنها هبَطتْ من القوى الفَوقيَّة جاهِزةً للاستِعمال دُون تغييرٍ أو تبديل.
ومن المُؤكَّد أنَّ كَهَنة آمون وحاشِية فرعون ساعدوا على ترويج هذا الاعتقاد. وكان الهدَف هو تكريس الكهنوت المُسيطِر على عقول أبناء الشعب البُسَطاء وإجبارِهم على تبجيل اللُّغة؛ ومن ثَمَّ تَبجيل الطبَّقَة العُليا المُكوَّنة من الكَهَنة وحاشِية فِرعون، الذين يعرِفون أسرارَها دُون غيرهم، والخَوف منهم واعتِبارهم حَمَلَة المَعرِفة المُطلَقة والوَحيدة على وَجْه الأرض.
وفي سومر التي كانت تقَع في جنوب بلاد ما بين النَّهرين (العِراق حاليًّا)، والتي ظهَرَت فيها حضارةٌ شِبْه مُتزامِنة مع بداية الحضارة المِصريَّة، كان الشعب يؤمِن هو الآخر بأنَّ اللُّغة السُّومرية مُقدَّسة.
ويختلِف العُلماء إلى الآن حَول الحضارة التي ظهَرَت فيها الكِتابة أوَّلًا؛ أهي مِصر أم سُومر. لكن المؤكَّد أنَّ الحضارة المِصرية كانت أكثرَ تَطوُّرًا ونُضْجًا، وتركَتْ آثارًا لا زالتْ تُبهِر الإنسانية.
وأيًّا كان الأمر فإنَّ السُّومريِّين كانوا مُقتنِعين تمام الاقتِناع بأنَّ الآلهة قد منَّتْ عليهم بلُغةٍ يتحدَّثون ويكتُبون بها، وأنه لولا إحسانُ الآلهة عليهم لَما استطاعوا الكِتابة ولا التَّفاهُم فيما بينَهم.
وهناك حضارات أخرى قَديمة ظنَّت كلٌّ منها أنَّ لُغتها نزلَت من السَّماء وأنَّها ليسَتْ من وَضْع الإنسان الذي يَستخدِمها. فالذين رَوَّجوا لفِكرة قُدسيَّة اللُّغة العربية لم يأتوا بجديدٍ ولكنَّهم ساروا على نَهج العديد من الحضارات القديمة.
وكلُّ هذه الأفكار حول قُدسيَّة اللُّغة لا أصل لها في القُرآن ولا في السُّنَّة. فهل يُفهَم من أيِّ كلمةٍ في القرآن أو السُّنَّة أنَّ العرَب هُم أفضل الشُّعوب؟ وهل يُفهَم من أيِّ كلمةٍ في القرآن أو السُّنَّة أنَّ العربيَّة هي أفضل اللُّغات؟ وهل هناك أيَّةُ إشارةٍ إلى أنه يَتحتَّم على كافَّة النَّاس تَعلُّم اللَّغة العربيَّة؟
فالقرآن نزَل بالعربية حتَّى يفهمه أهل الجزيرة العربية التي هبَط الوحي على أشرَف أبنائها وهو سيدنا محمد ﷺ. واستخدم القرآن الكلمات والتراكيب المفهومة من أبناء هذا العصر وهذه البقعة من الأرض، والذين آلَت إليهم مسئولية نَشْر الرسالة، وهو ما فعلوه بأمانة بعد الرسول ﷺ في عصر الخُلَفاء الراشدين، ثم الأُمويِّين، ثُمَّ العبَّاسيِّين في عصرهم الأول. والقرآن نزل لكل أبناء البشر في كلِّ بُقعةٍ من بِقاع الأرض، لكنَّه هبط في مكان وزمان مُحدَّدَين، فكان لا بُدَّ من أن يفهَمه العرَب أولًا، يفهمونه باللغة التي يَعرفونها وبأمثِلة من البيئة التي يعيشون فيها.
فجاءت أمثلة القرآن بالبَقَرة والنَّاقة والصحراء وغير ذلك. وكان من المُمكِن أن يُعطي القرآن أمثلةً بالطائرة، والأقمار الصناعية، وناطِحات السحاب مثلًا، لكن أهل الجزيرة في ذلك العصر كانوا سيعجزون عن إدراك معنى هذه الأمثلة، فينتفي الغرض الأول من التَّنزيل، وهو استيعابهم لمعاني القرآن وإيمانهم به. ولو نزل القرآن باللُّغة الآرامية مثلًا لما فَهِم معانيه أهل مكَّة والجزيرة.
والقول بأن العربية لُغة «توقيفية» أي مُنزَّلة من السماء، وبالتالي فهي لُغة مُقدَّسة لا يجوز المساس بها، هو قول يُناقِض في رأيي صحيح الدِّين الإسلامي؛ فلو كانت العربية مُقدَّسةً وتسمو فوق كلِّ لُغات العالَم لكان العرَب قادِرين من خلال استِخدام هذه اللُّغة على البلوغ إلى ما بلغه القرآن من إعجاز. فالعرَب في عصر الدعوة كانوا مُتمكِّنين من العربية تَمكُّنًا مُدهشًا، وكان بينهم ملوك البلاغة والبَيان من فطاحِل الشُّعراء والرُّواة، وقد تحدَّاهم القرآن في أكثر من آيةٍ أن يأتوا بآيةٍ واحدةٍ مُشابِهة لكلام الله فعَجزوا عن ذلك.
فقال تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (البقرة: ٢٢).
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ (يونس: ٣٨).
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ (هود: ١٣).
ولو كانت العربية مُقدَّسة فما الذي أعجَزَهم؟ لو كانت اللُّغة مُقدَّسة وهابِطة من السماء لكان الإعجاز في ذاتها، ولكان العرَب قادِرين بالتالي على الإتيان بمِثل ما جاء بالقرآن، لكنَّهم فشِلوا فشَلًا ذريعًا؛ فالإعجاز إذًا في القرآن وليس في اللُّغة.
وقد وقعت مُعجِزات ذَكَرها القرآن من أهمِّها قصَّة عصا موسى، التي التَهَمَت ما جاء به سَحَرة فرعون. فهل يُمكِن أن نعتبِر عصا موسى مُقدَّسة، وأن كلَّ عصا في الدُّنيا تنسَحِب عليها صِفة القداسة؟ بالتأكيد لا، فعصا موسى كانت مُجرَّد أداة لمُعجِزة أرادَها الخالق، لكن المُعجِزة ليست في ذاتها، كذلك فقد كانت العربية أداةً لمُعجِزة القرآن.
وقد أدرك العرب منذ البداية أن القرآن، وإن كان بالعربية، إلَّا أنه ليس من لُغتهم. وكانوا يقولون: ليس بنَثْر وليس بشِعر. وقال أنيس الغفاري وهو شقيق أبو ذر: عرضتُ القرآن على السَّجع والشِّعر والنَّظم والنَّثر، فلم يُوافِق شيئًا من طرُق كلام العرَب.
هذا مع أنَّ القرآن استخدَم المُفردات المعروفة لأي عربي في البادية آنذاك، وكان مفهومًا تمامًا للجميع، لكنه جاء بشيءٍ غير موجود في اللُّغة ولم يستطِع أحد تقليده وقتَها أو بعد ذلك.
وكلُّ هذا يؤكِّد لنا أن الإعجاز ليس في اللُّغة العربية وإنما في القرآن وحده، فكيف نقول إن العربية لُغة مقدَّسة؟ ومُحاولة إحلال الإعجاز القرآني في اللغة التي نزل بها هو خلْط لا يُسانده المنطق ولا صحيح فَهم الدين. لقد نزل الدين الإسلامي لكلِّ البشر في كلِّ مكانٍ وزمان، وكان من المُمكن أن يتنزَّل بالتالي بلُغة غير العربية، وكان إعجازه عندئذٍ سينبُع من ذاته وليس من اللغة التي نزل بها.
ولو كانت العربية لُغةً مُقدَّسة لكان الدين الإسلامي للعرَب وحدَهم وللذين يُجيدون لُغة الضاد دون غيرهم من البشر. وهذا يُناقِض صُلب الدين الإسلامي الحنيف. ولو كانت العربية مُقدَّسة فإنَّ من لا يفهمها لا يكون مُسلِمًا كامل الإسلام والإيمان.
وهذه الفرضيَّة تُخرِج من زُمرة المسلمين الغالبية العُظمى من الشعوب الإسلامية، كما أنها إجحاف لمئات الملايين من المسلمين الذين لا يُجيدون العربية.
فقد دخل الإسلام، في حياة الرسول ﷺ، أناسٌ لا يعرفون العربية فتقبَّلَهم النبي دون أن يُثير مُشكلة اللغة وعجزِهم عن فهمها، بل إن الرسول ﷺ كان يَعتبِر هؤلاء مُسلمين على درجةٍ مُتساوية مع العرب الناطقين بالضاد. ويقول الحديث: «لا فضل لعربيٍّ على أعجمي إلَّا بالتقوى.» ولم يَقُل بالنَّسب أو العِرق أو بمعرفة اللغة. ولو كان الرسول ﷺ يرى في العربية لُغة مُقدَّسة مُنزَّلة من السماء لكان من المَنطقي أن يَعتبِر من يتحدَّث لُغةً أخرى كافِرًا وعاصِيًا لأوامر الله، ولكان العربي في هذه الحالة فوق كلِّ البَشَر لأنه يتحدَّث اللغة المُقدَّسة.
ولو كان صحيحًا ما يَقذِف به البعض في وجوهنا من قُدسيَّة اللُّغة العربية لرفَض رسول الله ﷺ، وهو أدرى بمشيئة الخالق، أن تُترجَم معاني القرآن إلى أيِّ لُغةٍ أخرى. وهناك رواية معروفة تُناقِض ذلك حول سؤال سلمان الفارسي عن أبناء جِنسه الذين لا يَفهمون العربية: هل يُترجِم لهم القرآن أم لا. وكان سلمان مُتحرِّجًا من ذلك فاستفتى الرسول ﷺ، وأجابه محمد ﷺ بأن عليه أن يُترجِم لهم معاني القرآن بلُغتهم حتى يفهموه.
ولو كانت العربية لغةً مقدَّسة لا بُدَّ لكلِّ مسلم من إجادتِها كشرطٍ مُسبَقٍ لدخوله الإسلام ولاكتمال إيمانه، لفرَضَها الرسول ﷺ على غير العرب، وهو ما لم يحدث. ولو فعل الرسول ﷺ ذلك لانحصرَت الدَّعوة في العرَب وحدَهم وانتفى بالتالي الغرض الأساسي منها. لكن الرسول ﷺ كان يُدرِك تمامًا أن اللُّغة ما هي إلَّا أداة لتوصيل الرسالة السماوية إلى بني البشر، وحرمان الفُرس أو غيرهم من فَهم معاني القرآن، يجعَل الإسلام دِين الخاصة، كما هو الحال بالنسبة للديانة اليهودية، فاليهود لا يَسعون إلى نشر دِينهم، بل يتحفَّظون على أيِّ شخصٍ راغبٍ في اعتناق اليهودية، وهذا يعكِس منطق الإسلام الذي كان الرسول ﷺ أمينًا عليه فسمَح لسلمان أن يُترجِم معاني الآيات إلى الفارسية.
•••
وبعد انتشار الدِّين الحَنيف بسَطَت الدولة الإسلامية نفوذها على أراضٍ شاسِعة تُغطِّي أجزاءً كبيرة من آسيا وإفريقيا وأوروبا. وقد تبنَّت بعض شعوب هذه البلدان اللغة العربية، كمِصر، والشام، والعراق، ودول المَغرِب العربي. لكن غالبية الشعوب التي دَخَلها الإسلام ظلَّت مُتمسِّكةً بلُغاتها الأصلية، وهذا الذي يُفسِّر أن غالبية المسلمين اليوم لا يُجيدون العربية. ولم تخطُر على بال الفاتِحين العرب فِكرة فرْض العربية على الشعوب التي خضعت لدولتهم. وهذا دليل على أنَّ فكرة قُدسية اللغة لم تكن مُسيطرة على الأذهان في العصور الأولى للدولة الإسلامية.
واليوم فإن غالِبيَّة المسلمين في الأرض لا يَعرفون العربية، ومع ذلك فإنه لا يُمكِن التشكيك في إسلامهم وفي صِحَّة إيمانهم، بل إن نِسبة المسلمين غير العرب أكبر كثيرًا من نِسبة العرب المُسلمين؛ فحسب آخر التقديرات هناك اليوم في العالم ١٫٢٥ مليار مسلم، في حين أنه لا يُوجَد أكثر من ٢٤٠ مليون عربي تُعَدُّ العربية لُغتهم الأم، من بينهم أكثر من عشرة ملايين من غير المُسلمين، أي أن نِسبة المُسلمين الذين تُعدُّ العربية لُغتهم الأم تمثل ١٩٫٢٪ من مجموع مسلمي العالم.
وبحِسبةٍ بسيطة فإن ٨١٪ من المسلمين لا يعرفون اللغة العربية التي نعتبِرها نحن العرب الرُّكن الأساسي للدين. لكنَّ هذه النِّسبة لا تُمثِّل الواقِع اللغوي العربي؛ فالإحصائيات تدلُّ على أنَّ نِسبة الأُمِّية في العالم العربي تصِل إلى نحو٥٠٪ ، ومعنى هذا أنَّ نِسبةَ المُسلمين الذين يُجيدون اللغة الفُصحى هي ٩٫٦٪ فقط لا غَير. أي أنَّ أكثرَ من٩٠٪ من المُسلمين يَجهلون اللغة العربية الفُصحى التي نَعتبِرُها نحن الرُّكن الأساسيَّ للدِّين كذلك فهناك فُقَهاء تعمَّقوا في الدين، وهم لا يُجيدون العربية إجادةً حقيقية، مثل أبي الأعلى المودودي، والخُميني، حتى وإن كُنَّا لا نتَّفِق معهما في نظرتِهما إلى الدين، وغيرهم كثيرون.
وبالتالي فإن الربط بين الدين واللغة له حدود ولا يُمكِن أن يكون ربطًا مُطلقًا. وهناك في إندونيسيا وماليزيا والهند وإفريقيا، وغيرها مئات الملايين من المُسلمين الذين لا يُمكِن التَّشكيك في تَقْواهُم وفي صِدق إيمانهم، لكنهم لا يَعرفِون من العربية سوى بِضع آيات قِصارٍ يَحفظونها عن ظهر قلْبٍ وكثيرًا ما لا يفهمون معناها بدِقَّة. وفي مُسابقات تلاوة القرآن الكريم يُفاجأ كبار الشيوخ من العرب بشبابٍ من بلادٍ إسلامية غير عربية يقرءون القرآن دون أقلِّ خطأ وبِنُطقٍ جميل، لكنهم عندما يتحدَّثون إليهم بالعربية لا يَفهَم هؤلاء الشباب شيئًا، ويلجئون إلى مُترجِم للتَّفاهُم مع الأساتذة المُمتحِنين.
وقد مررتُ بتجرِبةٍ شخصيَّة زادت اقتِناعي بذلك عندما أشرفتُ في باريس على عدد مجلَّة رسالة اليونسكو، والذي تمَّ تخصيصه بالكامِل للإسلام عام ١٩٨٠ بمُناسبة مرور ١٤٠٠ عام على الهجرة النبويَّة. وقد طلبتُ بهذه المناسبة من الأستاذ حميد الله، وهو هِندي الجنسية ومن كِبار المُتخصِّصين في الإسلام، كتابة مَقال لإدراجِه بالمجلَّة — ولهذا الرَّجُل ترجمة شهيرة لمعاني القرآن باللغة الفرنسية — ولم أكَد أُصدِّق أن هذا العالم الكبير في شئون الإسلام لا يستطيع فهم العربية. وسألته كيف تَرجَم القرآن فقال إنه يعرِف القواعد الأساسية للُّغة، واستعان بكلِّ التَّرجمات السابقة للقرآن بعدَّة لُغات. وفي العديد من البلاد الإسلامية يُوجَد حَفَظَة للقرآن الكريم قادِرون على ترتيله أو تِلاوته دون أدنى خطأ، لكن المُفارَقة أن الغالبيَّة الساحِقة لهؤلاء لا يفهمون معنى ما يقرءون. وقد سألت بعضَهم في هذا فقالوا إنهم يفهمون المعنى الإجمالي لِكلِّ آيةٍ نظرًا لأنها مُترجمة بلُغاتهم، لكنهم عاجِزون تمامًا عن فَهْم الكلِمات ولا المُفردات العربية التي تتشكَّل منها آيات الكِتاب الكريم.
فالقول بأنَّ كلَّ المسلمين يُجيدون العربية هو قول زائف يُروِّج له بعض الذين يُدافِعون عن نظريَّة قُدسيَّة اللغة العربية. ولم يبدأ منطق تقديس اللُّغة ورفعِها إلى مستوى المُحرَّمات التي لا يجوز المِساس بها في الظهور إلَّا بعد وفاة الرسول ﷺ بسنواتٍ طويلة. وكان الدافع وراء هذا المنطق البعيد عما جاء به محمد ﷺ، هو المُزايدة والغُلوُّ في كلِّ شيء.
ومن المُؤكَّد أن عرب الجزيرة كانوا مؤهَّلين نفسيًّا لتقبُّل فكرة قُدسية اللغة، فالهالة التي كانوا يُحيطون بها اللُّغة والبيان وأهميتها المِحورية لديهم في الجاهلية وعصور الإسلام الأولى لَعِبت دورًا كبيرًا في تثبيت فكرة قُدسيَّة اللغة. ويَدلُّ ما وَصل إلينا من الشِّعر الجاهلي على أنَّ أعلى الفضائل في سُلَّم أولوِيَّات العرَب آنذاك تنبُع من مَصدرين: الأول هو الشجاعة والفروسية والثاني هو الفصاحة.
وكانت صِفات الشَّجاعة والبطولة قاسِمًا مُشتركًا أعظم مع غالبيَّة، إن لم يكن كُل، المُجتمعات القديمة؛ حيث كانت القوَّة هي الوسيلة الأولى لبَسط السيطرة والحصول على المُكتسبات. وقد بَحَث عُلَماء الأنثروبولوجي والاجتماع كثيرًا ولا زالوا في أصل الحروب والعُنف عند بني البشر. وأيًّا كان الأمر، فإن العرب لا ينفرِدون بوضعِهم الشجاعة في أعلى سُلَّم أولويات مُفاخَراتِهم.
أما الصِّفة الثانية التي كانت لا تقلُّ أهميَّةً عن الأولى عند العرب وأقصد بها الفصاحة والبلاغة، فهي خاصيَّة نادِرة التَّواجُد في المجتمعات القديمة، ولا أعتقد أن هناك مُجتمعًا في التاريخ البشري اهتمَّ بالبلاغة مثل العرب. ولتأكيد هذا المعنى وَصَف الشيخ محمد عبده البلاغة بأنها «سيِّدة علوم العرب»، ولم يقُل سيِّدة آداب أو فنون العرب.
صحيح أن الحضارة اليونانية القديمة كانت تُولي هي الأخرى أهميَّةً مِحورية للبلاغة، ولكن بمفهوم مُختلف؛ فالبلاغة عندهم كانت تقوم على المعنى أكثر مما تقوم على التَّلاعُب باللُّغة. كانت تقوم على الإقناع المَنطقي أكثر مما تقوم على سِحر الكلِمات وتنميقها.
ومن المعروف أن السوفسطائيين كانوا يشتهرون بقُدرتهم على إقناع أي شخص بفكرةٍ مُعيَّنة، وعندما يُقرُّ باقتناعه بها يقوم نفس الذي أقنَعَه بالرأي الأول، من خلال حُججٍ مُختلفة، بإقناعه بعكسه. وكان بعضهم يتكسَّب من هذه الحِيَل البلاغية، لكنَّها بلاغة المضمون لا بلاغة الزُّخرُف.
وكان هناك في أذهان العرَب في العصر الجاهلي ارتِباط وثيقٌ بين البيان والسحر، وهناك الحديث المنسوب إلى الرسول ﷺ: «إن من البيان لسحرًا». فالعرب كانوا يَعتبِرون أن الشِّعر هو نوع من أنواع السِّحر وأن الشاعر تتملَّكه قوى خفيَّة تنفُث في نفسه الكلِمات والمعاني التي تخرُج من فمه شعرًا، وكانوا مؤمنين بأن الجِنَّ والشياطين تتدخَّل في عملية الخَلْق الشعري.
وهذا يُفسِّر أنه من شِدَّة انبِهارهم بالقرآن وما جاء به من إعجاز لم يجِد المشركون إلَّا أن يتَّهموا الرسول ﷺ بالسحر.
وكان الرسول ﷺ يُعلِّق على شِعر حسان بن ثابت ضدَّ المشركين قائلًا: «لَهذا أشدُّ عليهم من وَقْع النبل»؛ فالرسول ﷺ كان يُدرك ما للشِّعر من وطأةٍ نفسية جبارة على عقول أهل الجزيرة ونفوسهم.
والوقائع التي تدلُّ على حُبِّ الرسول ﷺ للشِّعر لا حصر لها، فقد كان عليه السلام يَطرَب لشِعر الخنساء ويُشجِّعها قائلًا: هيه يا خُناس.
وعندما دخل الرسول ﷺ مكَّة في العام التاسِع للهجرة أهدَر دمَ مجموعة من الكفَّار، وكان من بينهم الشاعر كَعْب بن زهير، ولم يجِد هذا الشاعر الماكر لنَيل عفو الرسول ﷺ سوى التَّسلُّل لمجلِسه وإلقاء قصيدة رائعة قال في مَطلعها:
فما كان من الرسول ﷺ إلَّا أن خَلَع عليه بُردَته كما جاء في كُتب السيرة، وهذا معناه عند عرب الجزيرة أن هذا الرجل أصبَح في حماية الرسول ﷺ، فلم يكتفِ النبيُّ بالعفو عنه فقط، وإنما أنعم عليه بِحمايته الشخصية. ومن المؤكد أن مَوقِف النبي نابع من رحمته وأخلاقه السامِية، لكن السبب المُباشر في العفو والحماية هو قصيدة شِعر رائعة مَسَّت الأوتار الحسَّاسة عند محمد ﷺ.
ويُروى عن مُعاوية بن أبي سُفيان (نحو ٦٠٣–٦٨٠م) مُؤسِّس الدولة الأُموية أنه كان يذكُر ليلة الهرير بصفَّين، وهي مَعركتُه الشهيرة على السُّلطة مع علي بن أبي طالب (نحو ٦٠٢–٦٦١م)، فيقول إنه قد همَّ بالفِرار لولا أن ذَكَر أبيات عمرو بن الإطنابة التي تقول:
فقاتل حتى انتَصَر في هذه المَعركة الفاصلة، أي أن مُعاوية يعترِف بأنَّ لهذه الأبيات فضلًا في إقامة صَرْح دولته التي امتدَّت إلى جبال البرانس.
وظلَّ عِشق اللُّغة ممتدًّا بعد استِتباب الإسلام وانتِشاره، فبَعد الرسول ﷺ بأربعة قرون، قال أبو العلاء المَعرِّي بَيتَه الشهير:
ولم يطلُب منه مُعاصِروه من العرَب أن يخترِع شيئًا جديدًا مُفيدًا أو أن يخرِق قاعدة من قواعد الطبيعة التي عجِز سابقوه عنها. لم يَطلبوا منه أن يَشفي المرضى أو أن يُغيِّر الحديد إلى ذَهَب. كلُّ الذي وجدوه لتعجيزِه كان أن يَجِد حرفًا جديدًا يُضاف إلى أبجديَّات العربية. ويُقال إن أحد أطفال مَعرَّة النُّعمان طلَب منه أن يأتي بالحَرْف التاسِع والعشرين الذي عجِز السَّلَف عن الإتيان به.
وتَدلُّ هذه القِصَّة إن صحَّت على مدى تأثُّر الناس وحتى الأطفال باللغة وبأنَّها أهمُّ شيءٍ في حياتِهم.
•••
وكان عِشق العرب الأول هو التَّلاعُب بالكلِمات والبحث عن الغريب في الشكل أكثر منه في الجوهر. وقد بلَغ استِظهارهم لمَهارتهم واستعراضهم لعضلاتهم اللُّغوية أن تبادَلوا رسائل تُقرأ فيها الجُمَل من اليمين أو اليَسار كما جاء في رسائل القاضي الفاضِل والعِماد الأصفهاني مثل: «سر فلا كَبا بِك الفَرَس» أو «سور حماه بربِّها مَحروس». وقد امتدَّ هذا الجُهد المَنزوف عبثًا إلى الشعر فيقول أحدهم:
ومن الواضح أن المعنى مُسطَّح ومُكرَّر، لكن هذا ليس مهمًّا، فالمهم هو التَّلاعب بالألفاظ والزُّخرف الذي لا طائل من ورائه.
وكان واصل بن عطاء أحد مُؤسِّسي فِكر المُعتَزلة يلثَغُ في حرف الراء، فكان يَتفاداه بقدر الإمكان في خُطبِه وكلامه، وله خُطبة كاملة في التَّحريض على بشَّار بن برد لا يرِد فيها حرف الراء على الإطلاق، وهي تُعدُّ في أدبيَّات العرب فتحًا كبيرًا، يفوق الاختراعات التي أحدَثَها كثير من المُسلمين في تاريخهم المجيد في مجال العلم والمعرفة. والأمثلة على المكانة المِحوريَّة التي لعِبتها اللُّغة في حياة العرَب لا تعدُّ ولا تُحصى.
•••
وبالتَّوازي مع اضمِحلال الازدهار الثقافي للدولة الإسلامي كان العرَب يُضيِّعون وقتًا أكبر في المُحسِّنات البديعية وتزويق اللغة، بدلًا من البحث في المعاني والأفكار الجديدة. وكان الاهتمام بظاهِر اللُّغة من مؤشِّرات تخلُّف الحضارة العربيَّة الإسلامية.
ونظرًا للأهميَّة القصوى التي كان يُوليها العرَب للبلاغة، فقد كان من المَنطقي أن تكون المُعجِزة الوحيدة الثابِتة التي أتى بها سيِّدُنا محمد ﷺ تأييدًا لدَعوته هي القرآن؛ فقد هبط كِتاب الله بلُغة لم يَعهدْها العرَب وفوجئوا بها تمامًا فسحرَت ألبابهم وعاوَنت الرسول ﷺ على كسْب المؤيدين والمُريدين، فلكلِّ أُمَّة وسيلة إقناع تنبُع من عاداتها وقناعاتِها وخيالِها الجماعي.
فالمُعجِزات التي أتى بها سيِّدُنا عيسى كانت تُناسِب سكَّان فلسطين الفُقراء الذين كانت تُرعِبهم فكرة الموت والفناء، فجاء المسيح بمُعجِزات تُلهِب مشاعر أهل زمانه ومكانه، فكان يُبرئ الأكمَه والأبرص ويُحيي الموتى، كما جعل مجموعةً ضخمة من مُريديه يأكلون ويَشبَعون بسمكةٍ واحدة وقِطعة خُبز واحدة، يكفِيان شخصًا واحدًا بالكاد.
أما عرَب الجزيرة وخاصَّةً أهل مكَّة فقد كان يَسحرُهم البيان وحُسن تنميق الكلِمات. وكان نجوم هذه المُجتمعات هم الشُّعراء والرُّواة الذين كانوا يتفنَّنون في اختِيار المُفردات والمعاني ليَخلبوا عقول سكان الجزيرة، وكانت اللغة هي أداتهم التي طوَّعوها للوصول إلى أغراضِهم فصارت ركنًا أصيلًا في حياة المُجتمع البدوي والحَضري في زمن الدَّعوة.
لذلك فعِندما تقرأ الإنجيل تستشعِر أن الناس في عهد المسيح كانوا يؤمنون بالدِّين الجديد الذي كان يُبشِّر به بفضل المُعجِزات التي كان يأتي بها عيسى، وكانت المُعجزات من أهمِّ أدوات نَشْر الدِّيانة المسيحية بعد وفاة المسيح. أما عند ظهور الإسلام فقد كانت تِلاوَة الآيات حسبَ ما نَعلَم من كُتُب السيرة هي التي تفتح للناس طاقة الإيمان وتشرَح قلوبهم للدِّين.
ومعروف قِصَّة دخول عمر بن الخطَّاب الإسلام، عندما هَجَم على بيت أُخته لردْعِها عن الدين الجديد فخارت قُواه وانهزَمَت عزيمته العُدوانيَّة أمام بلاغة الآيات التي استمَع إليها من سورة طه. وفي كلِّ الأفلام والتمثيليَّات الدينية نلحَظُ كم كان يتأثَّر الناس بتِلاوة الآيات الكريمة فتدمَع عيونهم وتعتريهم حالةٌ من الخُشوع والانسِياق النفسي لما يُتلى عليهم.
فاختِلاف الثقافة والطِّباع والعادات جعل لكلِّ مُجتمَع مفاتيح خاصة لتقبُّل الدين الجديد. وبالنِّسبة للعرَب فقد كانت البلاغة هي الباب الملَكي الذي فتح أمام الإسلام مُجتمعات مكَّة ثم المدينة ثم باقي الجزيرة العربية.
ومن غير شكٍّ أنَّ نَزعة إيثار الجِنس العربي عند بني أمية لعِبَت دَورًا كبيرًا في انتشار فكرة قُدسيَّة اللغة العربية؛ فقضية القضايا بعد انتقال الرسول الكريم ﷺ إلى الرفيق الأعلى كانت السُّلطة الدنيوية. وكان السؤال الذي يؤرق الجميع هو: من يحكُم أمَّة الإسلام؟ ومن أحقُّ بخِلافة سيِّدنا محمد ﷺ؟
وكان هذا السؤال وراء الفِتَن والحروب المُتعاقِبة التي عرَفَها العالم العربي الإسلامي دون انقِطاع منذ حُروب الرِّدَّة حتى تفسُّخ الدولة الإسلامية الذي انتهى إلى سُقوط بغداد في أيدي المَغول عام ١٢٥٨م.
وبعد أن نجَح مُعاوية بن أبي سُفيان في وَضع حدٍّ للفِتنة الكُبرى واستتبَّت له أمور الحُكم على أثر اغتِيال عليٍّ كرَّم الله وجهه عام ٦٦١م، عمل على تكريس ما كان معمولًا به منذ وفاة الرسول ﷺ: أن يكون الحاكِم من قُريش وحدَها دون غيرها. وكان من الطبيعي أن يَنتُج عن ذلك أفضليَّة وخيرية خاصَّة للجِنس العربي، وبالتالي للُّغة العربية.
واستغلَّ أنصار النَّزعة الجديدة من الأُمَويين نزول القرآن الكريم بالعربية لفَرْض فكرِهم على أعدائهم من كلِّ صنف ولون، ومنهم الخوارج والشيعة وأهل العِراق بصفةٍ عامَّة. وكان مُعظَم هؤلاء من أبناء الأمصار التي دخلَت الإسلام بعد الفتح، وكان مُعظمُهم من غير الجِنس العربي ومن خارِج الجزيرة العربية.
وقد كتَبَ الكثيرون عن مآثر اللُّغة العربية وتفوُّقها عن باقي لُغات العالم، وتعمَّدوا الرَّبط الاصطناعي بينها وبين الدِّين حتى يُكسِبوها مكانةً عُليا، تجعل الناس يَخشَعون للُّغة بدلًا من أن يَخشَعوا للمعاني التي نزل بها القرآن. وهناك مئاتٌ من أبيات الشِّعر في هذه المعاني، وسأُعطي نَموذجًا واحِدًا هو ما أورَدَه الطهطاوي في «تخليص الإبريز»:
من أحبَّ الله أحبَّ رسوله المُصطفى ﷺ، ومن أحبَّ النبيَّ العربيَّ أحبَّ العرَب، ومن أحبَّ العرَب أحبَّ اللُّغة العربية التي بها نزَل أفضل الكتب.» ثم يَسترسِل في مُقدِّمة كتابه قائلًا: «إنَّ مُحمدًا ﷺ خير الرُّسُل والإسلام خير المِلل، والعرَب خير الأمم، والعربية خيرُ اللُّغات والألسِنة، والإقبال على تَفهُّمِها من الدِّيانة، إذ هي أداة العِلم ومِفتاح التَّفَقُّه في الدين، وسبب إصلاح المَعاش والمَعاد، ثم هي لإحراز الفضائل إلخ …
وهذا الكلام يُلخِّص النظرية التي تربِط بين الدين واللغة والتي غذَّتْها العصبية القبلية ورَغبة العرب في أن يكون لدَيهم سلاح قوي يُواجِهون به تَدَهْور مكانتهم التي وَصلَتْ فيما بعد إلى حدِّ الاضطهاد من قِبَل الأجناس غير العربية.
ويُذَكِّر هذا بِمُحاولات البعض اليوم الرَّبْط بين الدِّين والسياسة وإخضاع السياسة لمَفاهيمهم الضيِّقة للدين، تحقيقًا لمَصالِحهم الخاصة.
وتَشعُر دائمًا أنَّ هناك جُهدًا يبذُله البعض لإقناع الناس بأنَّ العربيَّة خُلِقَت للدِّين الإسلامي، وأن الدين سبب وجودِها. لكن الحقيقة مُختلفة عن ذلك، فكلُّ الأبحاث العلميَّة تدلُّ على أنَّ اللُّغة العربية قد ظهرَت قبل هبوط الوحي على سيِّدنا مُحمَّد بمئات السنين.
وكان العرَب أنفسهم في حياة الرسول ﷺ مُقتنِعين بقِدَم لُغَتهم. وكانت هناك عِدَّة رُوايات عن أوَّل من نطَق بالعربية، منها أنَّ أول من تكلَّم بلُغة الضَّاد هو إسماعيل بن إبراهيم، وأنه نَسِيَ لُغة أبيه وهي السُّريانية. وهناك رواية تؤكِّد أنَّ أوَّل من نطَق باللِّسان العربي هو يَعرُب بن قَحطان، وهو أيضًا أول من نَزَل مع أولاده بأرض اليَمن ليتَّخذ منها مَوطنًا لأهله؛ ولذلك سُمِّي عرَب جنوب الجزيرة العربية بالقحطانيين.
وقد أكَّد حسَّان بن ثابت شاعِر الرسول ﷺ هذه الرواية الأخيرة بقولِه:
وقد طرأت على اللُّغة العربية البُدائية تطوُّرات كبيرة حتى تبلوَرَت وأصبحت هناك لغة أدَبيَّة مُهذَّبة عُرفت بلُغة قريش. والأرجح أن لغة قريش كانت هي السائدة قبل الدعوة، والدَّليل على ذلك أن كلَّ ما وَصَلَنا من شِعرٍ جاهلي بهذه اللغة. وقد يُجادِل البعض بأن هناك شُعراء كانوا يَكتُبون بلهجاتٍ مُختلِفة لكنَّها لم تُحفَظ بعد نزول القرآن واستِبعاد كلِّ اللَّهَجات المُغايرة للهجَةِ قريش. والردُّ على هذا الطَّرْح هو أن المُعلَّقات التي اعتبرَها العرَب في الجاهلية أفضلَ ما عِندَهم من شعر، جاءت كلُّها، دُون استثناء شُعراء، بلُغة قُريش التي نفهمُها اليوم. ونستخلِص من هذا أنه كان هناك شُعراء يضعون شِعرهم بلهَجات مُختلفة، لكن أفضل الأشعار وأرقاها كانت بلُغة قريش.
ولكن هل معنى هذا أنَّ العربية هي لُغة الدِّين وحده؟ وهل معناه أنَّ أيَّ مِساسٍ بها يعدُّ مِساسًا بالدين؟
الإجابة عن هذين السُّؤالين هي شرط مُسبَق أساسي للاتِّفاق على كيفيَّة ومدى التطوير اللازِم للعربية في بداية القرن الحادي والعشرين. والإجابة عن السؤالين عندي هي بالنَّفي القاطِع، فقد أصبَحَت العربية هي لُغة التَّعامُل اليومي لأبناء إحدى وعشرين دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وأصبحت العربية تحتوي على كلمات وتعبيرات لا علاقة لها بالدِّين من قريبٍ أو بعيد.
وإذا أردْنا الحِفاظ على اللغة العربية الفُصحى بحيث تَظلُّ الأجيال القادِمة قادِرةً على فَهمها، فالحلُّ الوحيد هو إخضاعها لمُتطلَّبات العصر كما حدَث لكلِّ لُغات العالم الحيَّة بدون استثناء، أو باستثناءٍ وحيد وهو اللغة العربية.
•••
وفِكرة قدسيَّة اللُّغة وارتقاء الناطِقين باللُّغة فوق مستوى باقي بني البشر، هي فكرة تتناقَض في رأيي مع جَوهَر الإسلام، والمَضمون العميق للرِّسالة المُحمدية. فرِسالة الإسلام تقوم على المُساواة الكاملة بين أبناء الإنسانية جمعاء. ولستُ في حاجةٍ لتِكرار الأدلَّة الناصِعة على ذلك سواء من آيات القرآن أو من السُّنَّة المُكرَّمة.
أما فِكرة اللُّغة المُقدَّسة التي أُنزِلت على شعبٍ مُختار، فهي فِكرة غريبة عن دِيننا وإن كانت موجودة في دياناتٍ أخرى. ومَنطِق أن العرَب هم الشعب المُفضَّل لله تعالى هو مَنطِق يُنافي أعظمَ تعاليم الإسلام حول مُساواة أبناء آدم عليه السلام.
وبلُغةِ عصرنا، فإن دَعاوى تفوُّق العرب على غيرهم من الأجناس واحتِقار اللُّغات الأخرى غير العربية، هي دعاوى عُنصريَّة تحمِل كلَّ أفكار نظريات التفوق الجِنسي التي يَنبِذُها العالَم الحديث وخاصَّةً منذُ انتهاء الحرب العالميَّة الثانية. والمَنطِق الكامِن وراء الفكر العُنصري هو أفضليَّة جِنس على باقي أجناس العالم بسبب الصِّفات المُتميِّزة اللاصِقة بأهلِه وانتِفاء هذه الصِّفات عن الأجناس الأخرى.
وتجِد في أدبيَّات الفكر العُنصري الغربي كلامًا يبدو مَنطقيًّا عن تفوُّق الإنسان الأبيض والجِنس الآري، لكن هذا المَنطِق مغلوط من أساسه، وقد رفضَه سيِّدنا محمد ﷺ دون لبْسٍ في خُطبتِه بحِجَّة الوَداع وفي كل أحاديثه النبوية، فكيف نتقبَّلُه اليوم بعد مرور أكثر من ١٤٠٠ عام من المُفترَض أنَّنا نضِجنا فيها عقليًّا ونفسيًّا وأصبحنا أكثر وَعيًا بحقائق العالم؟
صحيح أن المُدافِعين عن تلك الأفكار في العالم العربي اليوم يُلبِسونها أثوابًا برَّاقة جديدة كما يفعل دُعاة العُنصريَّة في الغرب، لكن المَعنى في النهاية واحد وهو تفوُّق العرَب واللُّغة العربية على باقي أبناء البَشر ولُغاتِهم جميعًا.
وإذا كانت مَعرفة اللُّغة العربية ليست مفروضةً على بني الإنسان، فكيف نعتبِرُها نحن لُغةً فَوق كلِّ لُغات العالَم، وبالتالي لا يُمكِن المِساس بها؟
وإذا أعمَلْنا العقل الذي مَنَحنا إياه الله تعالى لأدْرَكنا أنه لو كانت اللُّغة العربية مُقدَّسة وهابِطة من السماء، لكان من الطبيعي أن يتحدَّث بها كلُّ سكان الأرض. فكيف تكون العربية مُقدَّسة في حين أن ٩٨٪ من أبناء البشرية لا يعرفونها؟ وكيف تكون مُقدَّسة في حين أن أكثر من ٩٠٪ من المُسلمين أنفسهم لا يفهمونها؟