المُتنبِّي يَخاف من الإعراب
لا أظنُّ أنَّ هناك شعبًا في العالَم يَعشَق لُغتَه مثل العرَب. وهناك أسباب عديدة تجعَل للُّغة مكانةً خاصَّة في الوجدان العربي؛ فهي أولًا التي نزَل بها القرآن الكريم، كما أنَّها اللُّغة التي خَلَّف لنا بها السَّلَف تُراثًا أدبيًّا وفنيًّا يهزُّ أدقَّ أوتار النَّفْس البشرية. ولُغتنا جميلة بالفِعل وتتميَّز بمُوسيقيَّةٍ تلقائية تطرَب لها الآذان، حتى لِمَن لا يفهَم المعاني بدقَّة، كما أنها لُغة اشتقاقيَّة على عكس غالبيَّة لُغات العالَم القديمة والحديثة، وكلها لُغات تركيبية. وميزة اللُّغة الاشتقاقيَّة المُرونة والسُّهولة في استِخراج الكلِمات والتَّراكيب الجديدة. وصدَق حافِظ إبراهيم حين قال على لِسان العربية:
وكل هذه المُقدِّمات لا بُدَّ أن تؤدِّي إلى نتيجةٍ منطقية واحدة: هي تمسُّك العرب بالتَّعامُل بهذه اللُّغة الفصحى التي يَعشقونها، ورفضِهم لأيِّ وسيلةٍ أخرى للتَّعبير عن أنفسِهم. لكن الواقع كما نعلَم عَكْس ذلك تمامًا.
وهناك سؤال بَسيط لا نَطرَحُه على أنفسنا لأنَّ ثقافَتنا تُملي علينا عدَم الاقتراب من مناطِق نَعتبِرها مَحظورة بل مُحرَّمة على التفكير. والسؤال ببساطة هو: كيف هجَر العرَب هذه اللُّغة طَوعًا على الرَّغْم من عِشقِهم لها وتمسُّكهم بها؟ لماذا لا يَتكلَّم الناس في مصر أو في العالم العربي باللِّسان الفصيح؟ لماذا أصبَحت الفُصحى وكأنها لُغة إجباريَّة تُستخدَم في تحصيل العلوم والكِتابة الرسميَّة فقط؟
فنحن نستخدِم في تعامُلاتنا اليومية على كلِّ المُستويات اللهجة الدارِجة سواء في مصر أو في أيِّ بلدٍ عربي آخر. وحتى في مكَّة المُكرَّمة مَهد الرَّسول وينبوع اللُّغة العربية الأصيل يتحدَّث الناس لهجةً دارِجة تبعُد عن العربية بقدْر ما تبعُد عنها اللَّهَجات المِصريَّة والسورية. وإذا كانت العربية لُغةً مُقدَّسة كما يَدَّعي البعض فكيف نبَذَها مُسلِمون مُؤمنون بدِينِهم ويُقيمون فرائضه ولا يدَّخِرون وسعًا في إرضاء ربِّهم؟
وقد وصل الأمر إلى أن العربيَّ كان يُفضِّل فناء الدُّنيا قبل فناء لُغَته، كما جاء على لِسان الشاعر المَهجري:
ومع كلِّ ذلك، فلا يُوجَد عربي واحِد في الشرق أو الغرب يتعامَل بالفُصحى بتلقائيَّة ولمُمارَسة حياته اليومية؛ فمن يتحدَّث الفُصحى يتكلَّف ما هو ليس في طبيعته، ويبذُل مجهودًا للتعبير عن نفسه بها، وعادةً ما يُخطئ في كلِّ جُملةٍ ينطِق بها.
كيف نُفسِّر هذا التَّناقُض الواضِح بين المُقدِّمات والنَّتيجة الواقِعيَّة التي نعرِفُها جميعًا؟
ستَجِد بالتأكيد بعض العقول المُلتويَة التي ستقدِّم تبريراتٍ غير مَنطقيَّة تفرِضُها على الجميع بأسلُوب الإرهاب الفِكري.
لكن الإجابة المنطقيَّة الوحيدة هي أنَّ العربية من الصعوبة والتَّعقيد بحيث جعلَت العرَب يُعرِضون عنها بالفِطرة للإعراب عمَّا في أنفسهم ومن أجل التَّفاهُم فيما بينَهم.
الإجابة المَنطقيَّة الوحيدة، مهما كانت قاسِيةً على النفس، هي أنَّ الفُصحى لا تُلائم مُقتضيات التَّفاهُم ونقل المعلومات وتفسير حقائق العالَم الذي يَعيش فيه العرب، سواء في مصر أو السعودية أو سوريا أو الجزائر أو في أيِّ بلدٍ عربيٍّ آخر. وظهرت اللَّهَجات كبديلٍ تلقائي على لِسان الشُّعوب العربية لصعوبة استِخدام العربية في حَيِّز التَّعامُل اليومي.
ليس عِندي أدنى شكٍّ في أن سكان كلِّ البُلدان العربية لم يتخلَّوا عن العربية ببساطةٍ أو عن طِيب خاطر، وهم لم يُعرِضوا عن لُغةِ الضَّاد مُنذ قديم الزَّمان، ولم يلجئوا إلى لَهَجاتٍ بديلة عن طريق الصُّدفة، فلا بُدَّ أنهم شَعروا بالعَجْز الحقيقي عن التَّعبير عن أنفُسهم باللُّغة التي يُحبُّونها ويَشعُرون تِجاهها بالتَّبجيل والاحترام؛ لأنها اللغة التي نزَل بها كِتابُهم المُقدَّس.
وقد ترجَم أمير الشُّعراء وَلَع العربي بلُغتِه في قصيدةٍ ألقاها عند سَفح الأهرام ترحيبًا بالكاتِب اللبناني أمين الريحاني حيث قال:
ومع تعاقُب الأجيال تمَّ تخليق اللُّغات العاميَّة في مصر والشام والعِراق وشمال إفريقيا، من العربية الفُصحى من ناحِية، واللهجات التي كانوا يَستخدِمونها قبل تَعريب بلادِهم من ناحيةٍ أخرى.
وللأَسَف أنَّنا لا نعرِف بطريقةٍ علمية كيفَ كان يتحدَّث الناس خلال الحِقَب المُختلِفة في التاريخ العربي؛ لأن المَوروث المُدوَّن يقتصِر على الفُصحى إلَّا باستثناءاتٍ نادِرة. قد يُفتي البعض بأنَّنا على يَقينٍ من كيفيَّة كلام العرَب في الماضي البعيد، لكن مثل هذا التأكيد أقرَب إلى «الفهلَوة» منه إلى المَعرفة العِلمية.
الشيء المُؤكَّد هو أن العرَب في كلِّ مكانٍ هجَروا الفُصحى ولجئوا إلى أساليب أُخرى للتَّفاهُم فيما بينهم. ومن هذا المُنطلَق علينا أن نبحث في أسباب البُعد عن لُغةٍ يعشَقُها العرب وأنتجَت أجمل المعاني الشعرية والأدبية التي يدرُسونها في المدارس والجامعات.
فاللغة التي يَختارها الناس للتعامُل هي الأقرب إلى العقل وإلى النفس، وليست اللغة التي يتكلَّف الإنسان جُهدًا بالِغًا للتعبير عن نفسه بواسِطتِها.
والدَّارِسون لتطوُّر الحضارات أدرَكوا أن اللُّغة مُعاكِسة التَّوازي مع التقدَّم الحضاري. فكلَّما وَصلَت إحدى الحضارات إلى دَرجةٍ من التعقيد والتطوُّر الراقي، كلَّما شعرَت بالاحتياج الفِطري إلى لُغةٍ سهلة تُعبِّر عنها. وهذا هو سِرُّ الجهود المُستمِرَّة في تبسيط اللُّغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لُغات الدول المُتقدِّمة. وكلما ازداد التقدُّم كلَّما ازدادَت الحاجة إلى تبسيط اللُّغة.
وبعيدًا عن النِّفاق، فإنَّ عَلينا أن نطرَح على أنفُسِنا مجموعةً من الأسئلة التي نرفُض عادةً حتى التفكير فيها، ناهيك عن طرحِها ومُناقشتها على الملأ. وأول هذه الأسئلة هو عدَد العرَب القادِرين على فَهْم التُّراث الشِّعري العربي، حيث إن الشِّعر هو أهمُّ ما ترَكه العرب من آثارٍ فنيَّةٍ وثقافية. وبمعنًى آخر: من يَستطيع أن يقرأ قصيدةً للمُتنبِّي أو ابن الرُّومي ويفهَم معانِيها فَهمًا معقولًا؟ كم شخصًا قادِرًا اليوم على القراءة يَستطيع أن يُمسِك بِدِيوان البُحتري أو أبي تمَّام ويتذوَّق ما به من أشعار؟
وإجابتي عن هذا السؤال هي أن النِّسبة القادِرة على هذا لن تزيد بحالٍ من الأحوال عن واحدٍ في المائة من أبناء الشعوب العربية في أحسن التقديرات. ومن يعترِض على هذه النِّسبة ويرفَع شعارات حماسيَّةً عليه أن يقوم بتجرِبةٍ عمليَّة على من حوله من الأشخاص العاديِّين، أي غير المُتخصِّصين في الأدب أو اللغة العربية، وحتى لو شملت هذه التَّجربة خريجي أفضلِ الجامِعات في الطبِّ أو الهندسة أو التِّجارة أو حتى كليَّات الآداب، باستثناء قِسم اللغة العربية، فإن النتيجة لن تزيد عن نِسبةٍ هَزيلة للغاية، أؤكد وأنا مُطمئنٌّ أنها ستقِلُّ عن ١٠ في المائة.
وإذا أخَذْنا في الاعتِبار نِسبة الأميَّة المُرتفِعة في العالَم العربي، والتي تزيد اليوم عن ٥٠٪، سنجِد أن افتِراض ١٪ الذي ذكرتُه قد يكون أعلى كثيرًا من الواقِع؛ فأغلَب الظنِّ أنَّ نِسبة من يَفهمون الشِّعر العربي، وهو العمود الفقري لتراثِنا الثقافي، لن تزيد عن نِصفٍ في المائة أو أقلَّ من ذلك. ربما ارتفَعَت قليلًا في دُول تعداد سُكانها ضئيل، وحصل أبناؤها على قِسط من التَّعليم أكثرَ من غيرهم، لكن هذه النِّسبة لن تزيد بحالٍ من الأحوال عن ٢ أو ٣٪ على أكثر تقدير، وفي عدد ضئيل جدًّا من الدُّول، إنما المُتوسِّط العام لن يزيد عن نِصفٍ في المائة.
•••
ولا يقتصِر الأمر على الشِّعر وحده، فلو عرَضْنا كِتاب «الأغاني» على المُتعلِّمين من غير المُتخصِّصين فستكون نِسبة الذين يفْهَمُون الكِتاب بصورةٍ مُرضِيَة والقادِرين على إدراك مَعانِيه وتذَوُّق ما أبدَعه الأصفهاني نِسبةً ضئيلةً للغاية.
والغريب أنَّني عندما طرحتُ هذا السؤال على البعض أبدى غضَبَه من الطَّرح ذاته. وقد تهرَّب من الإجابة غالبيَّة من طرَحتُ عليهم السُّؤال ورفَضوا أن يُقرُّوا بحقيقةٍ لا تقبَل أيَّ شك، وهي أن الغالبيَّة العُظمى من المِصريِّين والعرَب غير قادِرِين على استِيعاب الشِّعر القديم والأدَب الكلاسيكي دُون شرحٍ مُستفيض.
ولا أفهم لماذا نتهرَّب من الحقيقة ونكرَه أن نرى الواقِع كما هو. وكما حاولتُ أن أُبرِز في كِتاب «الداء العربي»، فإن من أخطَر عيوب العقل العربي الإصرار على رَفْض مُواجهةِ الواقِع، والمَيل إلى الاستِسلام الإرادي للأوهام. فمن أكثر ما يُزعِجُنا أن يخرُج علينا من يكشِف المَستور الذي يعرِفه الجميع، لكن الكُلَّ يتكتَّمُه ويرفُض أن يَجهَر به.
والغالبيَّة العُظمى من القادِرين على فَهْم أو تذوُّق الشِّعر العربي القديم ينتمون على الأرجح للجامِعات ومراكز البحث الأكاديمي والأساتذة وغيرهم ممن وَهبوا حياتَهم للُّغة والأدب. أما الباقُون ففَهْمُهم للشِّعر تقريبيٌّ ويُدرِكون المعنى العام للبَيْت لكنَّهم بالتأكيد لا يُدرِكون مَعانيه الحقيقية والعميقة.
ولا أعتقِد أنه يُوجَد شخصٌ واحِد في العالَم العربي يستطيع أن يدَّعي أنه قادِر على فَهم كلِّ المُفردات ولا تفوتُه كلِمة واحدة في الشعر العربي القديم. فهل يُعقَل أن يَستوعِب عقل واحد ما يُقارِب ٢ مليون كلِمة مهما أُوتي من ذاكِرة حديدية؟ مثل هذا الكمِّ الهائل في حاجةٍ إلى كمبيوتر للحِفظ والتخزين. وقد وُجدَت القوامِيس في كلِّ اللُّغات لهذا السَّبب بالذات، وهو استِحالة أن يَستوعِب عقل واحد مَعاني كلِّ الكلِمات في أيٍّ من لُغات العالم. والمُشكِلة كما قلتُ هي أن القواميس اللُّغوية غير مُتوفِّرة في العربية بالسهولة وبالأسلوب العَمَلي الذي نجِده في اللُّغتين الإنجليزية والفرنسية بِصفةٍ خاصَّة.
وتلاميذ المدارس يَكتفون بحِفظ الشِّعر دون فَهْمه لمُجرَّد النجاح بالامتحان، وهم يسرعون بنسيان ما حفظوه بمجرد الخروج من قاعة الامتحانات، وكأنه «هم وانزاح» من على كاهِلِهم.
وأعترِف أنَّني كنتُ من هؤلاء؛ فقد كنتُ أحفَظ شعرًا كثيرًا نسبيًّا من أيام المدرسة، لكنَّني لم أكن أفهمه. وعندما استرجعتُ هذا الشِّعر بعد بلُوغ سنِّ النُّضج الذِّهني، أدركتُ المعاني التي كانت خافِيةً عنِّي تمامًا في السابق. والغريب أنَّني كُنتُ قد نَسيتُ هذا الشعر ولم أكن أتخيَّل أنه لازال كامِنًا في أعماق ذاكرتي، لكنه كان بالفِعل مخزونًا في العَقل الباطِن حتى تم استحضاره عندما أعدتُ قِراءته وأنا كبير.
والأرجح أن الغالبية العُظمى من المِصريِّين والعرب لا يُتاح لهم أن يَستعيدوا من أعماق الذَّاكرة أبيات الشعر التي حفِظوها في مرحلة الدراسة. ولولا والدي رَحِمه الله الأستاذ محمد مُفيد الشوباشي، ولولا احتِرافي الكِتابة لظلَّ الشِّعر الذي حَفِظتُه مَدفونًا في مَجاهِل اللاوعي بِذاكرتي، ولم يظهر أبدًا إلى السَّطح.
وأستخلِص من هذا أنَّ الذين يُجيدون العربية إجادةً تسمَح لهم بفَهم التراث، هم الذين أفنَوا حياتَهم في تعلُّم اللغة والدين، وهؤلاء مَطلوبون في مُجتمعاتِنا، لكنَّه لو فعل الجميع مِثلهم فلَن تكون لدَينا هياكِل البِنية الأساسية للدَّولة؛ لأن هؤلاء غير قادِرين على استِيعاب العُلوم الدنيويَّة.
وأعلَم أنَّ مثل هذا كلام وتلك الاستِفسارات ستُثير قلقَ وحفيظة الكثيرين، وسيجِد هؤلاء تَبريراتٍ وتفسيرات غير مَنطقية، لكنَّها تُرضي قناعَتَهم العمياء بالارتِباط العُضوي بين الشُّعوب العربية ولُغة الضَّاد. وبالتأكيد أنَّ هذه العلاقة العضوية مَوجودة بالفعل، لكنَّها ليسَتْ كما يدَّعيه حُرَّاس العربية وحُماة تُراث السَّلَف.
•••
وصعوبة اللُّغة العربية ليست ظاهِرة جديدةً يُعاني منها الإنسان العربي في هذا الجيل وحده، فهي سِمة قديمة لها جُذور في أبعَد عصور التاريخ العربي.
ومن يُجادِل في ذلك عليه أن يتأمَّل بيتًا للمُتنبِّي والظروف التي كتَب فيها هذا البيت، يقول فارس العربية:
ويروي لنا محمود محمد شاكر مُلابَسات هذا البيت في كِتابه «المُتنبِّي» فيقول: إنَّ الشاعِر الكبير كان قد اضطُرَّ للهروب من «حِمى جرش» خوفًا من بَطشِ شخصٍ يُدعى ابن كروس وَصَفه بالأعوَر. وقد اقتحم الشَّاعر كما يقول الكِتابُ ظُلماتِ البادِيَة مُتوجِّهًا إلى أنطاكية، ونظَم قصيدةً لدى وُصولِه إلى برِّ الأمان يَمدَح بها أبا عبد الله الخصيبي الذي كان ينوب عن أبيه في مجلس القضاء بأنطاكية، كما يقول محمود شاكر.
لكن المُهمَّ بالنسبة لنا هنا هو المعنى الموجود في هذا البيت الوارِد بالقصيدة.
فالمُتنبِّي يقول إنه خاف خلال هُروبه أن ينطِق بلغةٍ عربيَّة سليمة خَوفًا من أن يكتشِف الناس هُويَّته. وكلِمة اللَّحن هي الخطأ في إعراب الكلِمة، وبالتالي في نُطقِها وتَشكيلها، أي أنَّ النُّطق بلغةٍ سليمة يدلُّ على أن المُتكلِّم شخصٌ غير عادي وخارِق للعادة، فالنُّطق الخطأ إذًا هو القاعدة، ومن لا يُخطئ هو الاستثناء، فإذا نَطَق المُتنبِّي دُون خطأ فمِن المُمكِن أن يُكشَف ويُعرَف أنه شخصٌ ينتمي إلى الصَّفوَة.
وإذا صدَقَت نظريَّة عَلويَّة المُتنبِّي، فإن خَوفَه من افتِضاح أمره كان هاجِسًا يُؤرِّقه على الدَّوام، لكن المُهمَّ عندنا هنا هو أن المُتنبِّي يُقِرُّ بأن من كان يتحدَّث العربية في هذا العصر بلا أخطاء كان يُعدُّ شخصًا غير عادي.
فكيف نلوم النَّاس اليوم على عدَم إلمامِهم باللُّغة وجهلِهم بقواعِدها؟ فمن الواضِح أن عدَم معرِفة اللُّغة كان سِمةً دائمة في العالَم العربي. ونحن نتخيَّل فيما يبدو أن الناس في الماضي وخاصةً في عصر الرسول والخُلفاء الراشدين ثُمَّ في العَصرَين الأُموي والعباسي، كانوا كلُّهم سيبويه أو المُتنبِّي أو أبا تمام. وهذا غير صحيح على الإطلاق، فصُعوبة اللُّغة جعلَت إجادَتها التامَّة دائمًا صِفةً من صِفات الخاصَّة التي كانت تحفَظ القُرآن وتقرأ كُتُب التُّراث.
أما العامَّة أي غالِبية الشَّعب العربي أو الخاضِع لسُلطان الأمة الإسلامية، فقد كانت مَعرفَتُهم باللُّغة مَعرِفةً مَحدودة تَسمَح لهم بالتَّفاهُم وربما القراءة والكِتابة، لكنَّها ليست على أية حالٍ مَعرفةً رصينة وسليمة لقواعد اللُّغة.
وإذا كان الشباب يتكبَّد أعتى المَشاقِّ في بداية القَرن الواحد والعشرين لتعلُّم قواعد اللُّغة العربية، فعلينا أن نلتَمِس لهم العُذر، خاصةً إذا علِمنا بما أفصح عنه أحد ألمَع بُلَغاء العرَب في العصر الحديث وهو الإمام محمد عبده. ففي المَجموعة الكاملة التي جمَعها الأستاذ محمد عِمارة يقول محمد عبده حَرفيًّا في كِتاب شرح النَّحو عن تَعلُّمه لقواعد اللغة: «فحمَلَني عدَم الفَهْم على الهرَب من طلَب العِلم لتَمكُّن اليأس من نفسي.» فإذا كان محمد عبده شخصيًّا قد تعذَّب منذ نحو مائةٍ وخمسين عامًا بسبب قواعِد العربية، فماذا عن شبابنا اليوم؟
وقد أدرك رِفاعة الطهطاوي صعوبة اللُّغة العربية عندما بدأ يتعلَّم الفرنسية خلال بِعثتِه لباريس التي دامت من ١٨٢٦م إلى ١٨٣١م، وخلال هذه السنوات الخمس استطاع الطهطاوي الإلمام بالفرنسية وقواعِدها إلى درجةٍ مُبهرة جعلتْه قادرًا على الكِتابة بها دون أخطاء في قواعد اللغة أو الإملاء. وقد وقعتُ على خِطابٍ محفوظ بأحد المَتاحِف الفرنسية في باريس بخطِّ يدِ الطهطاوي، وبصراحة فقد ذُهلتُ لأن الخِطاب ليس به خطأ واحِد في اللُّغة. وأعتقد أن هذا لا يدلُّ فقط على عبقريَّة الطهطاوي، لكنَّه يدلُّ كذلك على السُّهولة النِّسبيَّة لتعلُّم الفرنسية خاصةً بالنسبة لشخصٍ غريبٍ عن الثقافة الأوروبية، فتعلُّم الفرنسية قد يكون سهلًا على شخصٍ إيطالي أو إسباني نظرًا لتقارُبِها مع لُغته الأم، لكنَّه صعب جدًّا بالنسبة لعربي تربَّى على لُغة ساميَّة.
ويقول رفاعة في «تخليص الإبريز» عن الفرنسية: «كان لِسانُهم من أشيَع الألسُن وأوسعِها بالنسبة لكثرة الكلِمات غير المُترادِفة، لا بتلاعُب العِبارات والتصرُّف فيها ولا بالمُحسِّنات البديعية اللفظية؛ فإنه خالٍ منها.» ومن الواضح أنه يُقارِن الفرنسية بالعربية العامِرة بالمُترادِفات والتلاعُب بالعبارات والمُحسِّنات البديعية.
المُشكلة هي أنَّ من يرفضون بِشدَّة أيَّ تطويرٍ ملموس في اللُّغة هم أنفسهم الذين يرفضون بضراوة أي تجديدٍ في كلِّ مظاهر الحياة، وهم الذين يقِفون في مُواجَهة كلِّ محاولةٍ جادَّة للخروج من مأزق التمسُّك بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، وهم أنفسهم الذين يفرضِون مرجعيَّات سلفيَّة لكلِّ قضايا المجتمع ومشكلاته المُستعصية. وهؤلاء يُقحِمون الدين الحنيف في كلِّ شيء، ليس في السياسة فقط لكن في التَّعامُلات اليوميَّة والعلاقات الاجتماعية والقوانين وقواعد السلوك العام. وهم يَعمَدون إلى ترويع الناس معنويًّا من أجل الحفاظ على القديم الذي يُناسِب مصالحهم.
وقد نجَح هؤلاء في إسكات كلِّ صوتٍ يُنادي بالتطوير، بتوجِيه أشنَع الاتِّهامات إليه، وأوَّلُها بأنه مُعادٍ للدين وكافر بالله. وقد أصبحت هذه الاتِّهامات المُخيفة جاهزة على ألسِنة حرَّاس الماضي. وليسوا في حاجةٍ إلى سَنَدٍ من المَنطق للإطاحة بمن يفتح فمَه للاعترِاض، وأصبح الإنسان مُتَّهمًا عندَهم بالكُفر حتى يُثبِت إيمانه.
وفي كِتاب «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام ١٩٣٧م ينبِّه الدكتور طه حسين إلى خطورة تحجُّر اللغة العربية، ويدعو إلى إصلاح اللُّغة بصورةٍ عاجلة. وفي الفصل الذي يحمِل رقم ٣٧ بطبعة دار المعارف الصادرة عام ١٩٩٦م وتحت عنوان: «ما اللغة العربية التي تتولَّى الدولة تعليمها»، يقول طه حسين «إنَّ إصلاح اللغة أصبَح ضرورة من ضرورات الحياة بل من ضرورات الدين نفسه.»
لكن المُفارَقة هي أن عميد الأدب العربي لا يبدأ بنفسه، فهو يكتُب بلغةٍ بلاغيَّة رائعة الجمال، لكنها لُغة ليست في مُتناوَل القارئ العادي سواء في عصره أو في بداية القرن الحادي والعشرين. واللغة التي استخدَمَها طه حسين في هذا الكِتاب وفي كلِّ ما كَتَب بعيدةٌ كلَّ البُعد عما نادى به من ضرورة تَيسير اللُّغة وتقريبها إلى العاميَّة. ومع الاعتراف بجمالها الكلاسيكي فإن لُغة طه حسين أقرب كثيرًا إلى لُغة الجاحِظ منها إلى اللُّغة التي يُنادي باستِخدامها. وقد حاوَل في أحد كُتبه تطبيق رأيه في كِتابةِ اللغة كما تُنطَق لكنَّها كانت تجربةً فاشِلة، ولا يعرِف هذا الكتاب إلا المتخصِّصون دون غيرهم.
•••
ومن أبرز الأمثلة على التحجُّر الذِّهني الذي يعكِسه بجلاءٍ تحجُّر لغوي في الألفاظ والمعاني، ما ظلَّ يصنعُه الشُّعراء العرَب لقرون طويلة؛ فقد كان تقليد القديم شرطًا حديديًّا للإبداع الشِّعري، وكلُّ ما خرج عن السَّلَف كان يُعتبَر محاولاتٍ شيطانيةً غير مقبولة، فكان الشعراء حتى العصر العباسي كثيرًا ما يُضطرُّون إلى البُكاء على الأطلال والتَّغنِّي بالنَّاقة وبالبيداء وبالرُّمح في عصورٍ اختفَت فيها كلُّ هذه العناصر من حياتهم. فالبدو الرُّحَّل كانوا يذرِفون الدُّموع على الأطلال التي ترَكَها قوم حبيبتِهم بسبب التَّرحال من مكانٍ إلى آخَر بحثًا عن الماء وظروف معيشية أكثر ملاءمة. أما شعراء العصر الأموي والعباسي الأول فكانوا في مُعظمهم يعيشون في المُدن أو القرى التي لا يحتاجون فيها إلى التَّرحال، وكانت حبيباتُهم تسكُن مكانًا ثابِتًا ولا يحتاج أهلهنَّ إلى التنقُّل.
ومع ذلك فقد كان الشعراء في ذلك العصر يُذعِنون لإرادة التيَّار المُحافظ الغالِب، مع أنَّهم لا هُم يعيشون في الصحراء ولا يركبون الجِمال ولا يستخدمون الرماح، لكنهم ظلُّوا مُضطرِّين لمُحاكاة القُدماء بنفس المعاني ونفس الكلِمات، فجاء شِعرهم مُضحِكًا ومُحزنًا في الوقت ذاته.
وكان الشعراء المُتمرِّدون على القديم يَلقَون ألوانًا من العنَت تصِل إلى حدِّ الضرب والطَّرْد والحبْس والاتهام بالزَّندقة. كلُّ هذا بفِعل من يدَّعون حِماية الدين وحماية اللغة من عُدوان «المارِقين». لكنه إذا كانت العربية قد نالت شيئًا كبيرًا من التَّطوير فذلك بفضل هؤلاء «المارِقين» الذين اجترءوا على المُحرَّمات، وشعروا بضرورة كَسر القوالب الجامِدة المفروضة من قِبَل حرَّاس الماضي في كلِّ زمان.
وبرغم الإرهاب الفِكري لبعض حُماة القديم آنذاك، استطاع الشعراء الفِكاك في كثيرٍ من الأحيان من إسار الماضي وبدءوا يُعبِّرون شيئًا فشيئًا عن بيئتهم وعصرهم.
ويُذكِّرني ما لاقاه هؤلاء الشعراء من عنَتٍ ومُعاناة على يد التيَّارات المُحافِظة على القديم، بالذين يعيشون بيننا اليوم ويُريدون فرْض أفكارٍ لم يعُد لها ما يُبرِّرها في عالَم القرن الحادي والعِشرين، كما يُصِرُّون على عدم المِساس باللغة التي ورِثْناها من السَّلَف، وآن الأوان أن نُطوِّرها حتى نُجاري عصرنا الحالي.
فلا تُوجَد دولة كبيرة واحدة كما قلتُ لا تبذُل الجهود المُستمرَّة من أجل تطوير لغة التعبير التي يستخدمها أبناؤها، بهدف مُواكبة التَّطوُّر الطبيعي الذي يفرِض نفسه على المجتمعات.
أما نحن العرب فنُعاند سنَّة التطور ونُصادِر المُستقبل لمصلحة الماضي. والنتيجة أن غالبيَّة العرب يُخطئون في لُغتهم الأم ولا يُلمُّون بقواعدها الأساسية.
وما أستخلِصه مما سبق ليس أن الشعوب العربية شعوب جاهِلة وعاجِزة عن استيعاب لُغتها الأم، لكن ما أستخلِصه هو أن اللغة العربية لم تتطوَّر كما ينبغي لتُلائم العصر الذي نعيش فيه، وأنه آن الأوان لتحديثها. ومن العبَث فعلًا التمسُّك برفض التَّغيير على أساس دَعاوى واهيَة تلعَب دورًا رئيسيًّا في تخلُّف العقل العربي.