أسطورة «أطلانطس» والنيازك
قطعتان عملاقتان من ذلك الجرم هوتا في البحر، لتشكلا خندق «بورتريكو»، وأصابت قطعٌ أخرى منه مواضعَ مختلفةً من الأرض، منها ما أصاب قشرة الأرض في مواضع حساسة … وهزَّت «أطلانطس» الزلازلُ المدمرة، ووقعت الجزيرة بأسرها في شركٍ من نار، وغاصَتْ في قاع المحيط. ولم يُترك شيءٌ في الموضع سوى قمم البراكين التسع التي تغطيها الحمم البركانية، والتي تشكل اليوم جزر «الأزور» …
***
(١) أطلانطس كما رواها «أفلاطون»
ويحكي «كريتياس» في محاورة «تيماوس» كيف أن الكهنة المصريين أبلغوا «صولون» أنه طبقًا للسجلات القديمة التي لديهم، كانت هناك إمبراطورية أثينية عظيمة منذ ٩٠٠٠ سنة (أي حوالي ٩٦٠٠ق.م.) وكانت تُعاصرها في نفس الوقت إمبراطورية عظيمة أخرى تسمى «أطلانطس» تقع في جزيرة كبيرة بحجم قارة، وراء أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق حاليًّا). كانت هذه القارة أكبر من شمال أفريقيا وآسيا الصغرى مجتمعتين، وإلى الوراء تمتد سلسلة من الجزر عبر المحيط تصل إلى قارة ضخمة أخرى.
(٢) وصف «أطلانطس» كما يراها «أفلاطون»
يتابع «أفلاطون» إكمال قصة «أطلانطس» في المحاورة الثانية «كريتياس»، فيظهر وصف تفصيلي للجزيرة القارة، منذ نشأة الحضارة على الأرض، حين قُسمت الأرض بين الآلهة واختص «بوسيدون» إله البحر والزلازل بجزيرة «أطلانطس»، لكنه يحب فتاة من أبناء البشر تُدعى «كليتو» كانت تعيش فوق تل في «أطلانطس»، ولكي يمنع أحدًا من الاقتراب منها يقوم «بوسيدون» بتطويق التل الذي تعيش فوق قمته، بحلقاتٍ متتالية من الأرض والماء «حلقتين من الأرض وثلاث حلقات من الماء.» ويمد التل بما يكفيه من الماء والغذاء «فيجعل نبعين من الماء ينبثقان من باطن الأرض؛ أحدهما ساخن والآخر بارد، ويجعل الغذاء يخرج بوفرةٍ من تلك الأرض.» وقد أنجب «بوسيدون» من «كليتو» خمسة أزواج توائم من الذكور، قسم عليهم البلاد، فكانوا يحكمونها حكمًا مشتركًا يرأسه الابن الأول من التوأم الأكبر ويُدعى «أطلس» (والذي سُميت الجزيرة باسمه). وقد أنجب هؤلاء الملوك أبناء كثيرين، واستمرَّت ذريتهم تحكم البلاد أجيالًا متعاقبة من بعدهم. وتطورت «أطلانطس»، وأقيمت فيها منشآت هندسية وزراعية هائلة، تشمل القصور والمعابد، والموانئ والأرصفة، وازدهرت فيها الزراعة والتعدين. وكانت مدينةُ «أطلانطس» التي امتدت حول تل «كليتو» بحلقاته المتتالية، تقع على الشاطئ الجنوبي لجزيرة «أطلانطس»، عبارة عن مدينة مستديرة، أشبه بقلعةٍ محيطها ثلاثة أميال. وقد أقام الملوك جسورًا تربط بين الحلقات البرية المحيطة بتل «كليتو» (الذي يتوسط المدينة)، وأنفاقٍ تمر عبرها السفن من حلقة مائية إلى أخرى. كما أقاموا أسوارًا صخريةً ضخمة، مطعَّمة بالمعادن الثمينة حول الحلقات البرية. أما المدينة كلها فيحيط بها سور ضخم. كما كانت حلقة الماء الخارجية تُستخدم كميناء ترسو فيه سفن المدينة الكثيرة.
(٣) نهاية «أطلانطس» كما صوَّرها «أفلاطون»
ظل سكان «أطلانطس» يحكمون جزيرتهم المركزية بالإضافة إلى عدة جزر أخرى، وأيضًا أجزاء من القارة الكبيرة على الجانب الآخر للمحيط، لكنهم لم يكتفوا بما لديهم من أراضٍ وخيرات، فقرَّروا ذات يومٍ أن يتوسَّعُوا خارج حدودهم التي ظلُّوا يعيشون فيها جيلًا بعد جيل، كما يذكر أفلاطون على لسان الكهنة المصريين، الذين أخبروا خبر هذه المدينة؛ إذ قالوا: «تجمعت هذه القوة الهائلة كلها وعزمت أمرها على أن تخضع بضربةٍ واحدةٍ بلادنا وبلادكم وكل المنطقة التي تلي المضيق.» فتقدَّمت جيوشهم شرقًا إلى منطقة البحر المتوسط فاستولَتْ على شمال أفريقيا حتى حدود مصر، وجنوب أوروبا حتى اليونان، ولكن أثينا التي كانت تقف وحدها تمكَّنَت من هزيمة الأطلنطيين، ولكن دمَّرت العوامل الطبيعية كلا الجانبين؛ إذ حدثت بعد ذلك زلازل وفيضانات عنيفة، وخلال يومٍ واحدٍ وليلة من الدمار دفن محاربوكم تحت الأرض. وكذلك جزيرة أطلانطس اختفَتْ بنفس الطريقة في أعماق البحر؛ ولهذا السبب فإن البحر في تلك الأجزاء غير قابل للملاحة والعبور لأن هناك طينًا ضحلًا كثيرًا في الطريق نتيجة لوجود الجزيرة تحت سطحه. ويبتهج سقراط لقصة «كريتياس» التي يصفها بأن لها «صفات كثيرة تجعل منها حقيقة لا مجرد خيال.» ومع ذلك فإن بقية محاوره «تيماوس» تدور فيما بعد حول العلم، ويظل خبر «أطلانطس» مبتورًا عند هذه النقطة. وبالرغم من أن «أفلاطون» يؤكد أن قصة الحضارة المفقودة مأخوذة من السجلات المصرية القديمة، إلا أنه لم يُعثر بشكلٍ مباشر على هذه القصة في السجلات التي تم الكشف عنها في الآثار المصرية، أو غيرها من مخلفات أي شعب كان يعيش قبل زمن أفلاطون. وهكذا ظلَّت قصة «أفلاطون» هي المرجع الأول والوحيد لأسطورة «أطلانطس»، وكل ما كُتب عنها فيما بعد من كتب ومقالاتٍ إنما يعتمد على رواية «أفلاطون» وحدها سواء بالإضافة أو التفسير.
وقصة «أطلانطس» صارَت جزءًا من التراث الإنساني الفلكلوري. ففي الوقت الذي لا يمكن أن يعترف بوجودها علم الآثار التقليدي، لا يمكن أيضًا أن يتخلَّى عنها المعتقد الشعبوي؛ فليس كل ما لا يثبته العلم غير قائم. فحتى الأساطير تنطوي على بذور من الحقائق. وفي الوقت الذي لا يعترف فيه باحثون كبار بهذه القصة، يؤيِّدها على الجانب الآخر باحثون كبار أيضًا. ولا ينتهي الجدل والبحث عن مكان «أطلانطس» أبدًا. ومنذ وفاة أفلاطون، قام الكثيرون بالمغامرات من أجل البحث عن المدينة المفقودة، التي تتمتع بجمال طبيعي وثروة كبيرة. واختلف الباحثون في الفترة الزمنية التي كانت فيها «أطلانطس» موجودة، ما بين ١٢٠٠٠ إلى ٣٥٠٠ قبل الميلاد. واختلفوا أيضًا في مكانها، فاقترحت أماكن متباينة لموقع جزيرة أو مدينة أو قارة «أطلانطس»؛ فالبعض يرى وجودها في جنوب أفريقيا أو جزيرة كريت أو في جزر الباهاما، أو في «سري لانكا»، أو في إسبانيا. وربطت إحدى النظريات الحديثة بين «أطلانطس» وإحدى المناطق الواقعة في مضيق جبل طارق، كانت قد غرقت في البحر منذ ١١ ألف عام … إلخ. ومن حين لآخر، تصدر مقالةٌ أو بحث أو كتاب عن قصة «أطلانطس»، فارتفع عدد المقالات والأبحاث والكتب التي تتحدَّث عن هذا اللغز لأكثر من ١٠ آلاف. وتترصَّد وسائل الإعلام الأبحاث والدراسات التي تتناول أي إشارة إلى «أطلانطس». وفي هذا الخصوص، نقلت منذ سنوات قليلة اﻟ «بي بي سي» عن الدكتور «راينر كويهن» من جامعة «أوبرتال» الألمانية أنه ربما يكون قد اكتشف بقايا مدينة «أطلانطس» المفقودة؛ حيث كشفت صور الأقمار الصناعية، التي تم التقاطها لجنوب إسبانيا، أن الأرض هناك تُطابق الوصف الذي كتبه أفلاطون عن «أطلانطس»؛ إذ يعتقد أن «جزيرة أطلانطس» تُشير إلى جزء من الساحل في جنوب إسبانيا تعرض للدمار نتيجة للفيضانات بين عامي ٨٠٠ و٥٠٠ قبل الميلاد. وتبين الصور للمنطقة الملحية المعروفة باسم «ماريزما دو هينوخس» بالقرب من مدينة «كاديز»؛ بناءَيْن مستطيلين في الطين، وأجزاءً من حلقات ربما كانت تحيط بهما في السابق. وقال دكتور «راينر»: «كتب أفلاطون عن جزيرة تحيط بها أبنية دائرية، بعضها من الطين والبعض الآخر من الماء. وما تُظهره الصور هو نفس ما وصفه أفلاطون.» ويعتقد دكتور «راينر» أن الأبنية المستطيلة ربما تكون بقايا المعبد «الفضي» المخصص لإله البحر «بوسيدون» والمعبد «الذهبي» المخصص ﻟ «بوسيدون» و«كليتو» كما جاء في كتاب «أفلاطون» ويُضيف: «ذكر «أفلاطون» أن أطلانطس كانت مشيدةً من النحاس. ويوجد نحاس في المناجم التي تقع في جبال سييرا مورينا.»
(٤) دمار «أطلانطس» بالنيازك
يرى «موك» أن نهاية «أطلانطس» كانت، كما يرى «أفلاطون» نفسه، في انحراف النجوم عن مسارها، ودمار كل شيء على الأرض بالنار؛ فالنجم الذي أشار إليه «أفلاطون» كان عبارة عن كويكب يبلغ قطره حوالي ١٠كم، وينتمي لما يعرف بكويكبات مجموعة «أدونيس»، التي تدور حول الشمس في مدارات غير متمركزة، واندفع نحو الأرض من الجانب الشمالي للسماء. ويُسهب في وصف أعمدة اللهب التي اشتعلَتْ في السماء، من جراء دخول الكويكب جو الأرض. ويضيف أن: قطعتان عملاقتان من ذلك الجرم هوتا في البحر، لتشكلا خندق «بورتريكو»، وأصابت قطعٌ أخرى منه مواضعَ مختلفة من الأرض، منها ما أصاب قشرة الأرض في مواضع حساسة، وهي سلسلة الجبال الأطلنطية، فثارت البراكين، التي غطى رمادها جو الأرض، وحجب السماء بغلالات من الأتربة والدخان. وهزَّت «أطلانطس» الزلازلُ المدمرة، ووقعت الجزيرة بأسرها في شرك من نار، وغاصت في قاع المحيط. ولم يُترك شيء في الموضع سوى قمم البراكين التسع التي تغطيها الحمم البركانية، والتي تشكل اليوم جزر «الأزور». ولم يكن تأثيرُ انفجار الكويكب قاصرًا على «أطلانطس» وحدها، بل امتدَّ ليؤثِّر على كل الأرض. فغاص — على سبيل المثال — الجانب الشمالي الشرقي من أمريكا الشمالية في الأطلسي، بينما نهض الجانب الشمالي الغربي فوق المحيط الهادي، رافعًا معه الهياكل والمدن من مستوى سطح البحر إلى مرتفعات جبال «الأنديز» الحالية. ويقدم «موك» دليلًا ماديًّا على هذه الكارثة، ما حل بفيلة «الماموث» من انقراض فجائي. ويرى «موك» أن الاصطدام جعل الأرض تتذبذب في دورانها، فمال القطب الشمالي إلى الحد الذي جعل المناخ يتغير تغيرًا كبيرًا، فتحولت سيبريا — على سبيل — المثال إلى ثلاجة كبيرة قضت برودتها الشديدة على حيوان «الماموث». ويعتقد «موك» أن هذا السيناريو هو الأقرب لتفسير العصر الجليدي الذي حل بالأرض، خلال الألف العاشرة قبل الميلاد. كما يرى «موك» أن الحدث كان وراء الفيضانات الكبيرة، التي اجتاحَتْ عموم الأرض من جراء تأثيرات الأتربة العالقة في الجو، مشكلًا الطوفان الذي ورد في الكتاب المقدس. ويستشهد بالشواهد الأثرية التي تؤكد على حدوث الطوفان، من نتائج البعثات التي قامت بالحفر في منطقة «أور» بالعراق.
ومن الطريف أن السيناريو الذي قدمه «موك» حول تفسير اختفاء «أطلانطس» يمكن أن يكون منطقيًّا، في ظل الدراسات التي تُعنى بتأثيرات الصدمات النيزكية للأرض، والكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية. بل إن «موك» يعتبر بحقٍّ رائدًا في بعض الأفكار الخاصة بعلاقة الصدمات النيزكية وثورات البراكين. وقد ظهرت دراسات لاحقة تتبنَّى فكرة أن الصدمات النيزكية، كانت وراء نشاط البقاع الساخنة في الأرض، والتي تؤدي إلى انفجارات بركانية، بل تسهم في انشطار القارات.