(٢) النيازك ومصدر الحديد قديمًا
يختلف الحديد عن المعادن الأخرى التي استعملها الإنسان قديمًا. فلا يوجد الحديد في
الصخور الأرضية في صورته الحرة الطليقة، إلا في حالات نادرة جدًّا، كما هو معروف في
«جرين لاند». وتحتاج عملية اختزال خامات الحديد الأرضية لاستخلاص الفلز منها، تجهيزات
خاصة ودرجة حرارة عالية (١٦٥٣ درجة مئوية)، مما يصعب تصور أن الإنسان القديم حصل على
الحديد، من خلال استخلاصه من خاماته الأرضية، كما حصل على النحاس؛ ومن ثم لم تُعرف
عملية استخلاص الحديد من خاماته الأرضية، إلا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ومن هذه
الوجهة تحديدًا، يشكِّل مصدر الحديد الذي استخدمه الإنسان في العصور القديمة مشكلةً
بالنسبة للباحثين.
وأقدم مشغولات حديدية معروفة، قبل عام ٣٠٠٠ق.م. أربع هي: آلة حديدية ذات أربعة أوجه،
عُثر عليها في دفنة في سامرا، شمال العراق وتعود إلى حوالي ٥٠٠٠ عام ق.م. ثلاث كرات
حديدية عُثر عليها في شمال إيران، وتعود إلى حوالي ٤٦٠٠–٤١٠٠ق.م. وثماني خرزات صغيرة
وُجدت في دفنات ما قبل الأسرات في جرزة، مصر (٣٥٠٠–٣١٠٠ق.م.)؛ وخاتم من نفس الفترة
الزمنية، عُثر عليه في أرمنت بالقرب من الأقصر في جنوب مصر.
ومع التسليم بإمكانية وجود مصدر أرضي للحديد في تلك الفترات القديمة، يتمثل في قطع
الحديد التي تظهر بصورة عرضية، ضمن النواتج الثانوية التي تتكون من عمليات صهر خامات
النحاس الغنية بالحديد، يظل المصدر الأساسي للمشغولات الحديدية الأقدم هو الحديد
النيزكي. وتعتبر النيازك الحديدية هي التي وفرت للإنسان القديم الحديد،
٣ وعوضته عن النقص الطبيعي في الفلز، وقدمت له أسهل مصدر معروف لفلز من
الفلزات، حصل عليه بسهولة ودون عناء يذكر، سوى كيفية اقتطاعه من الأجسام النيزكية
الكبيرة ثم كيفية تشكيله؛ إذ تتكوَّن النيازك الحديدية من سبيكةٍ طبيعية من الحديد
والنيكل، بنسبٍ تتراوح في الغالب ما بين حوالي ٩٥٪ حديد وحوالي ٥٪ نيكل. وتمتاز هذه
السبيكة الطبيعية بأنها طيعة وسهلة التشكيل، مع عدم قابليتها السريعة للصدأ، مقارنة
بالحديد الخالص الذي يحصل عليه الإنسان من الخامات الأرضية. وبذلك تكون النيازك
الحديدية قد وفرت للإنسان هذه السبيكة الطبيعية التي استعملها في الأغراض المختلفة، في
وقت كان الحصول فيه على الحديد من خلال عمليات تحويل خاماته الأرضية عملية صعبة، إن لم
تكن مستحيلة.
وتختلف في الواقع نتائج الدراسات التي أجريت على المشغولات الحديدية القديمة؛ فبعض
الدراسات أشارت إلى أن المصدر الأساسي للحديد في الصناعات القديمة كان نيزكيًّا، وفي
المقابل تشير دراسات أخرى إلى أن مصدر الحديد أرضي. ودون المزيد من استعراض وتمحيص
الدراسات، التي لم تصل لنتيجة محددة بهذا الخصوص، ثمة مبررات منطقية للاعتقاد بالمصدر
السماوي للحديد. وربما يكون من أهمها استقراء ممارسات الإنسان تجاه النيازك الحديدية،
ومدى اهتمامه بها للحصول على الحديد. وتأمُّل مصدر الحديد الذي كان يستعمله «الإسكيمو»
في تشكيل حرابهم وشتى أدواتهم الحديدية؛ يقرب الصورة للأذهان؛ ﻓ «الإسكيمو» يعيشون عيشة
بدائية، تشبه إلى حد كبير عيشة الإنسان القديم؛ ومن ثم فإن ممارساتهم تعطي فكرةً عن
ممارسات الإنسان القديم. فمن أين كانوا يحصلون على الحديد؟ يوجد مصدران للحديد الخالص
في «جرين لاند»، موطن «الإسكيمو»؛ الأول: مصدر أرضي من راسب حديد فلزي تكون في ظروف
خاصة، لا يوجد لها كثير من الأمثلة على مستوى العالم؛ والثاني:
مصدر نيزكي. فالحديد الأرضي الفلزي يوجد على هيئة
حبيبات كبيرة يمكن أن تلاحظ من قبل الإنسان، في جزيرة «ديسكو» من الشاطئ الغربي ﻟ «جرين
لاند». ويمكن أن يستغل الإنسان حديد هذا الموقع، لكن لم يثبت بصورةٍ مؤكدةٍ أن
«الإسكيمو» استخرجوا هذا الحديد واستخدموه في مشغولاتهم الحديدية. وفي المقابل كانوا
يقتطعون قطعًا من الحديد، من ثلاث قطع حديدية نيزكية، سبق ذكرها؛ فاستخدام الحديد
الأرضي، حتى في حالة وجوده في صورة حرة، وهي حالة نادرة، يتطلَّب القيام بعملية
استخراجه وفصله عن الصخور الحاوية له والشوائب الموجودة معه. وهذا يشكل عبئًا إضافيًّا
على الإنسان؛ ومن ثم اتجهت أنظاره للمصدر السهل الذي توفره له النيازك.
ويبدو أن الإنسان القديم تعلم سباكة الحديد من
النيازك ذاتها.
٤ وقد يذهب المرء لأكثر من ذلك، فيرى أن النيازك الحديدية هي التي لفتت
انتباه الإنسان القديم للحديد وكيفية تشكيله، بل وكيفية استخلاصه من خاماته الأرضية.
ففي العصور الحديثة، أسهمت النيازك في المجال التقني، بشكل غير مباشر، في اختراع سبيكة
الحديد-نيكل، التي تدخل في الأغراض الصناعية المختلفة، كما يروي «إدواردز ب. هندرسون»
قصة ذلك الكشف في مقال عن النيازك نشر في عام ١٩٥١م، ضمن عدد من المقالات شملها كتاب
«العلم يزحف»، والتي أورد فيها أنه: ذات يوم كلَّف أحد البحاثة الأوائل ببحث موضوع
إيجاد استعمالات لفلز النيكل، الذي كان قد اكتشف من قبل، ولكن لم يكن يعرف بعد في أي
الأغراض يمكن الاستفادة منه. ولحسن الحظ، كان الباحث يزور المتحف القومي بواشنطن آنذاك،
واطَّلع على معروضاته من النيازك، وتوقف أمام النيازك الحديدية، التي تتكوَّن من سبيكةٍ
طبيعية من الحديد والنيكل. واسترعى انتباهه أنها لا تصدأ بسرعة، كما هو الحال في
السبائك الحديدية العادية؛ ومن ثم اختمرَتْ في ذهنه فكرة دمج النيكل مع الحديد، محاكاةً
للنيازك الحديدية، لإنتاج سبيكة تقاوم الصدأ. ومن هنا عرفت البشرية صناعة مهمة، وهي
سبيكة الحديد-نيكل.
٥ فلماذا لا يكون الإنسان القديم تعلم من النيازك، فعرف الحديد منها أولًا،
ثم بحث عليه في خاماته الأرضية؟ نعود للوراء في التاريخ، لنجد ظاهرةً فريدةً جديرةً
بالتأمُّل، وهي أن تسمية الحديد في مصر القديمة تغيَّرَت من زمنٍ لآخر، كما أشار الباحث
«ج. أ. وينريت». كان الحديد في مصر قبل القرن الرابع عشر قبل الميلاد، يطلق عليه اسم
«بيا»
bia، وتعني فلزًا أو معدنًا، ثم أشاروا له
باسم «بيا آن بيت»، والتي تعني حرفيًّا، وبدون لبس:
فلز أو معدن السماء.
٦،٧ ومن الطريف أن تظهر هذه التسمية — التي
تحدِّد أن الحديد معدن السماء — في الوقت الذي بدأ فيه الإنسان استخلاص الحديد من
خاماته الأرضية المعروفة، كالماجنيتيت والهيماتيت، والليمونيت والجوثيت، وغيرها.
وهذا من شأنه أن يثير السؤال: لماذا أصرَّ قدماء المصريين على نسب الحديد إلى السماء،
بعدما عرفوا وشاهدوا أنه يُستخلص من مواد أرضية؟! قد يكون ذلك ضربًا من الخلط واللبس
في
التسمية، لكنه قد يكون أيضًا مقصودًا! أي أن قدماء المصريين اعتقدوا أن خامات الحديد
الأرضية، التي تعالج بالنار ليستخلص منها الحديد، هي في الأصل سماوية.
٨ ويمكن لهم التوصُّل إلى ذلك عن طريق المشاهدات العملية؛ فالحديد الفلزي
الذي تقدمه النيازك الساقطة على الأرض سرعان ما يتأثَّر بالعوامل الأرضية، بعد فترةٍ
من
سقوطه على الأرض. ويكون من نتيجة ذلك، أن تظهر عليه قشرةٌ هشةٌ ذات ألوان بنية وحمراء
وصفراء، هي التي تُعرف الآن ﺑ: أكاسيد الحديد. وهذه المادة تُشبه الخامات التي يُستخلص
منها الحديد بعد المعالجة بالنار. ولربما دفعتهم هذه الملاحظة إلى تعميم فرضية، بهذا
الخصوص، يمكن تخيُّلها على النحو التالي:
-
الحديد فلز سماوي يسقط على الأرض في صورة نقية خالصة.
-
يتغير (يفسد) بالعوامل الأرضية، ويتحوَّل إلى مادة هشة بنية إلى صفراء.
-
هذه المادة تعالج بالنار، ليُستخلص منها الحديد على صورته الأصلية.
ومن هنا فربما يكونون قد خلصوا إلى أن خامات الحديد الأرضية، ما هي إلا صورٌ متغيرة
من صورة الحديد السماوي الأصلي.
ومن دلائل إسهام النيازك في تطوُّر علم الميتالورجي عبر التاريخ؛ ظاهرة خناجر اﻟ
«كيريس» الإندونيسية. واﻟ «كيريس» نوع من الخناجر القصيرة التي تنتج يدويًّا في بعض
المناطق في إندونيسيا، منذ أكثر من ٢٧٠٠ سنة تقريبًا، ثم انتشرت في مناطق عديدة من دول
جنوب شرق آسيا. وخنجر اﻟ «كيريس» رمزي وليس من الأدوات الحربية؛ إذ يوضع في الحزام، أو
يشد على الملابس في أي موضعٍ من الجسم، كمظهرٍ من مظاهر الوجاهة الاجتماعية. وما يعنينا
في هذا الخصوص مصدر الحديد الذي يُستخدم في هذه الصناعة؛ فالحديد المستعمل في صناعة هذه
الخناجر من الحديد النيزكي. ويظن أن سكان جاوة — الموطن الأصلي لهذه الصناعة — كانوا
يحصلون في الأزمنة القديمة على الحديد من نيزك كبير عرفوا طريقه بالمنطقة، ونقلوه لمعبد
من المعابد؛ حيث ظلوا يقتطعون منه الحديد اللازم لصناعة الخناجر. وحدثت نقلةٌ في تطور
هذه الصناعة اليدوية، عندما توقف الأهالي عن تشكيل الخناجر من حديد النيزك، وتوصلوا إلى
سبيكة جديدة أطلقوا عليها «السبيكة السحرية»، التي حصلوا عليها من خلط نسب محددة من
نيزك حديدي مع نسب محددة من نيزك حديدي-حجري.
لكن يجدر الإشارة إلى أن بعض الباحثين لا يقبلون هذه الأفكار، ويذهبون إلى الظن أن
الحديد الفلزي عُرف مصادفة، عندما سقطت قطعة من خام أرضي غني بالحديد في النار بطريق
الصدفة، فانصهرت ونتج عن ذلك الحديد الفلزي فلاحظها الإنسان القديم، فعرف بذلك الحديد
وكيفية استخلاصه من خاماته.
٩ وتُستغل النيازك الحديدية بصفتها سبيكة طبيعية — تتكوَّن من الحديد-نيكل،
وتمتاز بلونها الأبيض الفضي، لينة وطيعة وسهلة التشكيل، وتقاوم الصدأ — تُستغل في الوقت
الحاضر في عمل الكثير من المشغولات الفنية الدقيقة؛ إذ تشكل منها الأساور، والخواتم،
والقلائد، والساعات اليدوية، وغيرها من المشغولات التي تستهوي الناس، ويحرصون على
اقتنائها، لما تتمتع به من جمال المظهر، وجودة الخام الذي تشكل منه، وقيمتها العلمية
باعتبارها مادة غير أرضية.
ومهما اختلف الباحثون حول مصدر حديد الأدوات
الحديدية القديمة، التي يعثر عليها ضمن مخلفات العصور الأولى، فلن يغير ذلك من حقيقة
ما
ترسخ في أذهان الناس من أن أول مصدر للحديد كان من النيازك الحديدية التي تسقط على
الأرض. ويجد المرء ذلك جليًّا في فكر الإنسان عبر العصور؛ فتسمية الحديد في بعض اللغات
القديمة ترتبط — كما سبق الإشارة — بالسماء. وتنسب الملحمة الفنلندية «كالفيلس» مصدر
الحديد إلى السماء؛ إذ تذكر بهذا الخصوص: «تدفق لبن أحمر من صدور عذارى قوس قزح ليصبح
حديدًا، ذهب بدوره ليبحث عن أخته النار. وتحاول النار أن تلتهمه، لكنه يهرب بعيدًا إلى
المستنقعات، وهناك يأسره الحداد المبارك «إلمارينين»، ويصنع منه سيوفًا للمحاربين
الشجعان، وحلي للنساء.»
١٠ ولعل من يطالع رواية «النجم الحديدي»
١١ يقف على ما ترسخ في عقول الناس عبر العصور، عن الأصل النيزكي لحديد الأدوات
الحديدية القديمة؛ إذ تحكي القصة تطور الحضارة، من العصور الأولى حتى عصر «ستاندش ميلز»
صاحب السيف المشهور. وفيها يعثر رجلان على قطع حديد النجم الحديدي، الذي سقط على الأرض
في عصور قديمة جدًّا، ويحتفظان به ليسلماه للأجيال التالية جيلًا بعد جيل.
وتذكر الدراسات الخاصة بتاريخ استعمال حديد النيازك أن الهنود الحمر استعملوا الحديدَ
في تشكيل بعض الأدوات والأسلحة، قبل وصول الأوروبيين لبلادهم. وأنهم لم يكونوا على
دراية بكيفية استخلاص الحديد الفلزي من خاماته الأرضية؛ ومن ثم فلم يكن من مصدرٍ متاحٍ
لديهم للحصول على الحديد سوى النيازك الحديدية. ويبدو أن الإنسان لم يترك نيزكًا
حديديًّا كبيرًا إلا وحاول اقتطاع الحديد منه. فنيزك «نافاجو»
Navajo الحديدي تعرَّض لمحاولات شقه وانتزاع قطع منه. ويتكوَّن هذا
النيزك من قطعتَيْنِ كبيرتَيْن، إجمالي وزنهما حوالي ٢١٨٠كجم، ويُعرض حاليًّا في إحدى
صالات معارض النيازك بمتحف الحقل
Field Museum، والذي
عثر على القطعة الأولى والكبيرة منه مواطنان من سكان مدينة «نافاجو»، هما: «روبرت ك.
توماس»، و«كارل هيل»، في ١٠ يوليو عام ١٩٢١م، على بعد حوالي ١٣ ميلًا من مدينة «نافاجو»
في مقاطعة «أباتش» بولاية أريزونا. ويذكر «روبرت ك. توماس» أحد المكتشفين في الرسالة
التي أرسلها للمتحف بهذا الخصوص، بتاريخ الأول من يناير عام ١٩٢٢م، أن النيزك كان
معروفًا لسكان «نافاجو» من الهنود الحمر منذ قدومهم للمكان، أي منذ حوالي عام ١٦٠٠م.
ويضيف أن سكان المنطقة من الهنود الحمر كانوا يعتبرونه حجرًا مقدسًا؛ ومن ثم فقد كانوا
يغطونه بالأحجار؛ خشية أن يراه أحدٌ من السكان البيض، أو أحد من أفراد القبائل الأخرى
فيأخذه منهم. وذكر في رسالته أنهم كانوا يسمونه «بيش لوجِنّ أي جِنّ» بلغتهم، التي تعني
«الحديد الأسود». وأخبروه أن علامات الأزاميل التي توجد على سطح النيزك كانت موجودةً
من
قبل أن يكتشفوه، وإنها من عمل إنسان ما قبل التاريخ، الذي كان يصنع الأواني الفخارية
بالمنطقة. أي أن إنسان العصور القديمة هو الذي كان يقتطع من هذا النيزك قطعًا من الحديد
لاستعمالها في الأغراض الحياتية المختلفة. وتؤكد دراسة شكل الحز الموجود في جسم النيزك
أن الإزميل المستخدم كان ذا نصل أكبر سمكًا من سمك الأزاميل التي كان يستخدمها السكان
المحليُّون وقت اكتشاف النيزك في عام ١٩٢١م. مما يشير إلى وجود محاولة قد تمت منذ زمن
بعيد، وذلك لشقِّه من أجل الحصول منه على الحديد، لاستخدامه في الأغراض
المختلفة.
١٢
(٣) سيوف النيازك
تكشف ممارسات الإنسان المدوَّنة في السجلات التاريخية، تجاه حديد النيازك مدى
الاعتماد على هذا المصدر في تشكيل المشغولات الحديدية، خاصةً الأدوات الحربية، كالسيوف
والخناجر والسكاكين والدروع. وسبق الإشارة إلى النيزك الحديدي الذي سقط في فترة حكم ملك
روما «نوما بومبليوس» (٧٥٣–٧١٥ق.م.) الذي شكل منه الكهنة درعًا صغيرًا شاع عنه أنه يوفر
الحظ السعيد والحماية والسيادة.
وتدل قراءة بعض الأبيات الشعرية في التراث العربي على أن السيوف تُصنع من حديد
النيازك (الصاعقة). فيورد ابن قتيبة الدينوري (٢١٣–٢٧٦ /٨٢٨–٨٨٩) في «كتاب المعاني
الكبير في أبيات المعاني»:
١٣
يكفيك من قَلَع السماء مهند
فوق الذراع ودون بوع البائع
وينسب الشاعر في هذا البيت السيف إلى ما يقتطع من السماء، في إشارة صريحة وواضحة إلى
النيازك الحديدية. وكذلك يقول البحتري:
وصاعقة في كفِّه ينكفي بها
على أرؤس الأبطالِ خمس سحائبِ
يكاد النَّدَى منها يفيض على العِدا
مع السَّيف في ثِنيَيْ قنا وقواضبِ
ويعتبر البحتري السيف صاعقة، فيجوز أن يكون أراد
بذلك الحديد الذي يُصنع منه السيف، ويجوز أن يكون يشبه بذلك السيف بالصاعقة.
ويدلل المؤرخون العرب على ارتباط النيازك الحديدية، بتشكيل السيوف على وجه الخصوص؛
إذ
يذكر النويري في سياق وصفه للصواعق (النيازك):
١٤ «وربما عرض لها (الصاعقة) عند انطفائها في الأرض برد ويبس، فتكون منها
أجرام حجرية أو حديدية أو نحاسية. وربما طبعت الحديد سيوفًا لا يقوم لها شيء.» وكذلك
ينطوي وصف الجاحظ للصواعق على أهمية النيازك الحديدية في تشكيل السيوف؛ إذ يذكر في
السياق نفسه شيوع ارتباط النيازك الحديدية بتشكيل السيوف: «زعم كثير من الناس أن بعض
السيوف من خَبَث نيران الصواعق، وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء.» وتؤكد
الممارسات الفعلية للناس تجاه حوادث سقوط النيازك على ذلك؛ إذ يظهر جليًّا مدى الاحتشاد
والتجهيزات التي تتم على إثر سماع خبر سقوط نيزك من النيازك، وذلك لتحديد شيءٍ مهم، هو
إمكانية الحصول منها على الحديد. وقد يجد المرء، إيضاحًا لهذه الحقيقة، فيما رواه
ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، ضمن ما روى من أحداثٍ وظواهر وقعَتْ
في عام ١٥١١م:
١٥ «ومن الوقائعِ أن الأمير أركماس الذي كان نائب الشام، طلع إلى السلطان
بقطعة فولاذ هيئة الكرة، وزعم أنها صاعقةٌ نزلت ببعض الجبال، وأن أعرابيًّا أهداها
إليه، ففرح السلطان بذلك، وجمع السباكين فقالوا إنها صاعقة لا محالة، فنظر إليها بعض
الزردكاشية فأنكر ذلك، وقال: هذه حجر مرقشيتة، وهو حجر صلب، فلما سمع السلطان ذلك شق
عليه ونزل إلى الميدان، وجمع السباكين وحضر الأمير أركماس، ووضعوا ذلك الحجر الذي على
هيئة الفولاذ في النار، فمجرد ما وضعوه في النار صار مثل الحرنقش وتفتَّت، فخجل الأمير
أركماس من ذلك، وانتصف عليه ذلك الزردكاش، وهو الجمالي يوسف أخو مؤلفة، وعد ذلك من
النوادر.» فمن خلال هذه الرواية يتبين، أن الناس كانوا يهتمون اهتمامًا كبيرًا بالنيازك
الحديدية؛ ومن ثم فقد كان في عرفهم أن النيازك (الصواعق) ما هي إلا سبائك من الحديد.
وتكشف رواية ابن إياس، في نفس السياق أيضًا، والتي عرض فيها لحدث سقوط نيزك جوزجان سنة
٣٩٦ﻫ/١٠٠٤م، مدى اهتمام حاكم خراسان في ذلك الوقت، على تشكيل سيف من قطعة من النيزك
الذي ظنه من النيازك الحديدية؛ إذ يذكر: «فسمع بذلك السلطان محمود بن سبكتكين صاحب
خراسان، وهو أول من تلقَّب بالسلطان، فكتب إلى عامل جورجان بنقل هذه القطعة الحديد،
فتعذَّر عليهم نقلها، فحاولوا كسر قطعة منها فلم تعمل فيها الآلات، فعولج كسر قطعة منها
بعد جهدٍ كبيرٍ فحملت إليه، فرام أن يصنع منها سيفًا له فتعذر ذلك ولم يتم له ما أراد.»
وهذا يدل على أهمية النيازك الحديدية في صناعة السيوف على وجه الخصوص.
وهناك الكثير من الأمثلة على استخدام حديد النيازك في تشكيل السكاكين والخناجر
والسيوف؛ فنيزك برجي التركي، الذي سقط في عام ١٣٣٣م، شكل منه عدد من السيوف، لكنها غير
معروفة المصير في الوقت الراهن. وتشير بعض الروايات إلى أن الإمبراطور «نور الدين سليم
جهانكير»، أمر الصنَّاع بتشكيل خنجرٍ وسكينٍ وسيفٍ من نيزك «قندهار، بإقليم البنجاب
الهندي»، الذي سقط في عام ١٦٢١م، كما سبق الإشارة. ولا يزال الخنجر معروفًا حتى الآن،
وهو من التحف الفنية الرائعة.
١٦ وفي القرن الثاني عشر، سقط نيزك حديدي بالقرب من قرطبة، إسبانيا. واستغل
النيزك الساقط في تشكيل عددٍ من السيوف.
ومن السيوف ذات الأهمية التاريخية الكبيرة، سيف ضابط بريطاني شهير، يدعى «مايلز ستاندش»
Myles Standish، ولد في عام ١٥٨٤م بمدينة
«شورلي، لانكاشاير، بإنجلترا»، ومات في عام ١٦٥٦م في مدينة «بلايموث، ماستشوس»،
بالولايات المتحدة. وكان بحوزته عددٌ من السيوف، قدَّم أحدها للعرض في صالة «بليجرم»،
بمدينة «بلايموث»
Plymouth، «ماستشوس»، في عام ١٨٢٤م.
وتتضارب الروايات المسجلة عن الشخص الذي قدم هذا السيف لصالة المعرض، فيذكر بعضها: أن
أحد ورثته هو الذي أهداه، بينما تذكر الأخرى أن الذي أهداه هو «وليام ترومبول
وليامز»
William Trumbull
Williams، من لبنان. وتثبت الكتابات الخاصة بقصة إهداء السيف للعرض بصالة
«بليجرم» أن السيدة «عزرا ستاندش» قدمت شهادة على أن السيف من مقتنيات جدها الأكبر
«ميلز ستاندش»، فتذكر:
١٧
أشهد أنا: «عزرا ستاندش» من مقاطعةِ «نيو لندن»، كونيكتيكت؛ بناءً على
المعلومات الواضحة المتوفرة لدي واعتقادي الذاتي، أن السيف المقدم من قبل
«وليام ترومبول وليامز»، من لبنان — شفاهة — ﻟ «رابطة بليجرم»، في بلايموث،
«ماستشوس»، كان ضمن مقتنيات عائلة «ستاندش»، وأحضره جدي الأكبر «صموئيل ستاندش»
من «داكسبورو»، كما كنت أخبر بذلك دائمًا. وأن هذا السيف هو سيف جدي «الكابتن
مايلز ستاندش»، الذي يعد من بين المستوطنين الأوائل الذين قطنوا «مستوطنة
بلايموث». ولا يوجد لديَّ أدنى شك في هذه الحقيقة. ونظرًا لأن ذاكرتي منصبة على
العائلة، ولم أفكر قط في الابن الأكبر، فإن ابن عمي «لودويك ستاندش» Lodowick Standish باع السيف للمدعو
«وليامز». وعادة ما كان يطلق على هذا السيف: «السيف الأثري»، وكان يعتبر أثرًا
قيمًا. والمقبض الحالي ليس هو نفسه المقبض الذي كان في السيف الأصلي؛ فالمقبض
الأصلي كان أكبر حجمًا، وكان يطلق عليه «مقبض السلة». ويوجد رسم للشمس والقمر
والنجوم على النصل، ويوجد — على ما أذكر أيضًا — الرقم ١١٤٩ في دائرة. وتوجد
على النصل أيضًا حروف ورموز أخرى لا أعرف كنهها تمامًا.
عزرا ستاندش
«بوزرا»، السابع والعشرون من سبتمبر/أيلول، ١٨٢٤
ويذيل «وليام ترومبول وليامز» رسالة (شهادة) «عزرا ستاندش»، قائلًا:
عزرا ستاندش — آنفة الذكر — ظهرت شخصيًّا قبلي، وسجلت شهادتها على الحقائقِ
الآنفة الذكر.
صرحت به قبلي.
وليام تي. وليامز
وظل السيف معروضًا فترةً من الزمن في الصالة دون أن يُكتب شيء عن تاريخه المعقد،
سوى
أنه من مقتنيات «مايلز ستاندش». وتذكر نشرات الجمعية أن مواطنًا يهوديًّا من القدس
يُدعى «جيمس روزيدال»
James Rosedale زار
الرابطة،
١٨ وفحص النقوش والرموز التي توجد على نصل السيف، وكتب ملاحظات على تاريخ هذا
السيف، فيها الكثير من الخلط التاريخي والمعلومات المشوهة، كالتالي:
[نقوش وتاريخ سيف «مايلز ستاندش».]
ينتمي هذا السيف، بدون شك، إلى الصناعة الفارسية القديمة، التي يطلق عليها في الشرق
«ضربان»
Dharban، أي شهاب (؟)، وقد صُنع هذا السيف
من مادة صاعقة حديدية. ولا يوجد أدنى شك في أن هذا السيف سقط في أيدي المسلمين، وقت
هزيمة المحارب الفارسي «كوزوري»
Kozoroi (؟)، عندما
انتزع منه المسلمون القدس في عهد الخليفة عمر الأول (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) في
عام ٦٣٧م.
١٩ وتظهر النقوش والرموز الموجودة على النصل بجلاء حقيقة انتماء هذا السيف
للصناعة الفارسية القديمة. وبفحص نقوش الشمس والقمر الموجودة على النصل عن قرب، يتبين
أن وجوهًا مرسومة داخل صور الشمس والقمر. وبالفحص الدقيق للوجوه، يتبين أن الرسام لم
يقصد تمثيلها على أنها صور آدمية، بل على شكل وجوه أسود. ويخبرنا التاريخ أن قدماء
الفرس عبدوا الشمس والقمر والنجوم، كآلهة سماوية قوية، خاصة الشمس التي كانت عبادتها
شائعة، والأسد ممثلها الأرضي، الذي يصور بعرفه الأشعث، فتُشخِّص صورته تلك إله الشمس
الذي يمثله.
ويشتق المعطف الفارسي الحالي، من أساطير
الأسلاف، الذين كانوا يصورون الشمس تشع على ظهر أسد يُتوِّجها القمر، وتحيط بها دائرة
من النجوم. وكانت السيوف القديمة تُصنع من النيازك الحديدية، التي كان يعتقد الناس
قديمًا، ولا يزال الشرقيون المحدثون كذلك، أنها مادة لها تأثيرات سحرية توفر الحظ
السعيد والحماية والرعاية لمقتنيها. ويقول المؤرخون العرب أن النبي (محمدًا
ﷺ)
وأتباعه كانوا يتشحون بسيوف «الضربان»، التي عندما يلقى المحارب المؤمن عدو الدين، لا
يعمل المحارب شيئًا سوى أن يواجه العدو، ويقوم السيف بعمله حيث يمزق العدو. وكانوا
يعتقدون (يقصد المسلمين بالطبع) أن تأثير الفلز يشدُّ أزرهم ويقويهم، ويحول دون إجهاد
عضلاتهم، ويحفظهم من غزو أو غدر الأعداء. (لا يُعرف يقينًا من أين أتى الباحث بهذه
المعلومات عن المسلمين!)
وترى على النصل ثلاثة نقوش أخرى (واحد على الجانب الذي توجد عليه الشارات والنقوش
الفارسية، والآخران على الجانب الثاني)، أضيفت من قبل المحمديين (المسلمين)، بعد فترة
زمنية كبيرة من النقوش الفارسية. وتختلف هذه النقوش فيما بينها، كما هو واضحٌ من طريقة
عمل اليد التي نقشتها، وكذلك شكل النقوش. وكتب النقش الأول من الاثنين بالخط الكوفي.
وتفسيره «يحكم الله عباده بالسلام، ويلقي الرعب في روع الأشرار.» ويوجد على الجانب
المقابل من النصل نقشان، كما سبق ذكره من قبل، جزء من واحد منهما يمكن تفسيره؛ يقول:
«كلٌّ في الله قد …» ولا يفهم شيء محدد من السطر الأخير، الذي يبدو كما لو كان يشبه
الكتابة العددية الرومانية، لكنه ربما كان ذا دلالة لصاحبه الذي خطَّه بيده، لا لأي
أحدٍ آخر غيره. وينطبق نفس الشيء على السطر الثاني الذي يوجد في جانب الكتابة الكوفية.
لا يستطيع أحدٌ أن يفكه؛ إذ إنه يمثل مفتاح سحر السيف، ولو فسره أحد آخر إلى جانب صاحبه
الأصلي، فإنه يصير في الحال بلا قيمة، كما لو كان قصبة. وقبل أن نختم ملاحظاتنا هذه،
دَعْنا نتأمَّل أن هناك نقشَيْنِ منفصلَيْنِ — كما سبق ذكره — وأيضًا نجد هنا نقشًا
غائرًا يصور مرة أخرى دوائر تمثل النار، وحفرة مخروطية تمثِّل الفلز النيزكي الذي صُنع
منه هذا النصل.
وبعد ما قدم من معلومات عن السيف، يُضيف ملاحظة ختامية يقول فيها:
لا غرابة في أن يخفق الدارسون الأوروبيون والأمريكيون في حل طلاسم هذه النقوش
والرموز؛ إذ إن الدارس العربي المتوسط التعليم، والذي يعرف بدون شك لغة بلده
الدارجة أكثر من أي أجنبي، لا يمكنه قراءة الكتابة اليدوية بسهولة وبدون قضاء
وقت طويل ومجهود مضنٍ؛ فاللغة العربية (الكتابة العربية) مختلفة في ذاتها، على
خلاف أي لغة أخرى في العالم. ولا يقوى أي واحد على قراءة الكتابة اليدوية لشخص
آخر، وسوف يعرف كم كان صعبًا إن لم يكن مستحيلًا على أستاذ أو دارس أن يجيد
لغةً يحتاج إتقانها إلى عمر كامل. وبعد أن حاولت خدمة مالكي هذا الأثر القيم من
الماضي، بتقديم قراءة دقيقة وأمينة لهذه الرموز، سأظل، مع خالص احترامي، خادمهم
المطيع.
جيمس روزيدال
هذه ترجمةٌ لما ورد مدونًا في هامش الكتاب، عن قصة سيف «ستاندش». ولا يقدم السيد
«جيمس روزيدال»، الذي دوَّن الملاحظات عن السيف المذكور، تحليلاتٍ كيميائية للحديد الذي
صُنع منه السيف، تُثبت أنه من فلز الحديد السماوي، كما هو معروف في الدراسات العلمية.
ويعتمد السيد «جيمس روزيدال» على سياق عام: هو أن السيوف القديمة غالبًا ما كانت تُصنع
من حديد النيازك. ويتضح أنه يسوق الأساطير، التي يعجب بها العامة من الناس، بغية تحقيق
رواجٍ سياحي للمعرض. كما أنه في تفسيراته خلط تاريخي؛ إذ إن المسلمين حرَّروا القدس من
البيزنطيين، وليس من الفرس؛ حيث استعاد البيزنطيون المدينة من الفرس في عام ٦٢٩م، وسوف
يرى القارئ كثيرًا من الخلط والارتباك في كلامه.
ويعد هذا السيف من أهم معروضات الصالة المذكورة. ومما يذكر بهذا الخصوص أن سيدةً
زارت
الصالة، فقالت لابنها تحثُّه على الاهتمام بهذا السيف: «الجنرال جرانت»
General Grant (أوليسيس إس. جرانت، الرئيس
الثامن عشر للولايات المتحدة [١٨٦٩–١٨٧٧م]، والذي عُرف أنه وحد الجيوش الأمريكية)، زار
هذه الصالة في عام ١٨٨٠م، وشعر بسعادة غامرة عندما تقلد السيف، الذي ربما لم يعجب بشيء
أكثر منه في المعرض. وتشدد السيدة على أهمية تاريخ السيف، الذي تذكر أنه ربما يعود
لثلاثمائة أو مائتي عام قبل الميلاد. وتذكر أنه سيف دمشقي، عَرف تاريخَه المعقد عالمُ
اللغات البروفيسور «جيمس روزيدال» من القدس، الذي استطاع منذ خمس سنوات فقط أن يفسر
الرموز والشارات والكتابات التي توجد على النصل.
٢١ وبالفعل استفاد العاملون بالصالة من الأساطير التي رواها «جيمس روزيدال»،
في ترويج مبيعات صالة العرض؛ حيث قام المعرض بعمل نسخٍ من السيف للبيع، مع البيانات
التالية:
٢٢
سيف مايلز ستاندش
تكلم بفخر قلبه، مايلز ستاندش، قائد بلايموث.
هذا السيف الدمشقي، الذي قاتلت به في فلاندرس.
نجفيلو
يعد نصل كابتن بليجرم المهيب أحد أهم وأقيم الآثار التي توجد في صالة بليجرم.
واستلمه مايلز ستاندش من الصليبيين، وهو ذو تاريخ مهم، حتى في أيام مايلز. ونسخ
سيوفنا المقلَّدة تطابق بحذق السيف الأصلي، وتظهر حتى النقوش العربية العجيبة
التي توجد على نصل السيف الأصلي. وأسعار هذه النسخ بالبريد:
قواطع ورقية، مَقابض وأنصال: ١ دولار.
قواطع ورقية، مَقابض، أنصال فولاذية: ٠٫٧٥.
وشاح دبوس: ١.
وشاح دبوس صدئ: ٠٫٥٠.
Sword of Myles Standish
Spoke, in the pride of his heart,
Myles Standish, the Captain of
Plymouth.
This is the sword of Damascus I
fought with in Flanders.
Longfellow
The famous Damascus blade of the redoubtable Pilgrim
Captain is one of the most valuable relics to be seen in Pilgrim Hall.
It was handed down to Myles Standish from the Crusaders, and possessed
an interesting history even in his day. Our swords are perfectly copied
from the original, even in the engraving of the curious Arabic
inscription on the blade. Prices by mail:
Paper Cutters, sterling handles and blades:
$1.
Paper Cutters, sterling handles, steel blades:
0.75.
Scarf Pins, sterling: 1.
Scarf Pins, oxidized: 0.50.
ومن القصص الكاشفة عن أهمية سيوف النيازك، حتى في العصر الحديث، قصة إهداء تاجر
المعادن والرسام البريطاني «جيمس سويربي» (١٧٥٧–١٨٢٢م) لسيفٍ شكله من قطعة من نيزك رأس
الرجاء الصالح،
٢٣ للقيصر الروسي ألكسندر الأول (الملقب في روسيا في ذلك الوقت ﺑ «ألكسندر
المبارك» ١٧٧٧–١٨٢٥م)، أثناء زيارته لبريطانيا في عام ١٨١٤م. فبعد أن أجرى «سميثون
تينانت» تحليله على قطعةٍ من الحديد الفلزي الذي عثر عليه في جنوب أفريقيا، وظهر من
التحليل أن الحديد يحتوي على ١٠٪ نيكل، اعتبر «جيمس سويربي» أن نتيجة التحليل الكيميائي
تجعل هذا النوع من الحديد مادةً مثاليةً لتشكيل مشغولات نادرة، تكون أعجوبة في العالم.
وبالفعل اقتطع جزءًا من الكتلة التي بحوزته، والتي كانت أبعادها ٢٫٧٥ بوصة طولًا، ٢
بوصة عرضًا، ٠٫٧٥ بوصة سمكًا، وسخنها على لهبٍ أحمر، وطرقها ليشكل منها نصل سيف، طولُه
٢ قدم، وعرضه ١٫٥ بوصة، لحمه في مقبض من الصلب وأعده في صورته النهائية ليكون جاهزًا.
وقدَّمه في عام ١٨١٤م للإمبراطور الروسي ألكسندر الأول، كهديةٍ تذكارية بمناسبة زيارته
للبلاد، مع خطابٍ رقيق ذكر فيه للإمبراطور موضعَ العثور على الحديد الذي شكل منه السيف،
ونتائج التحليل الكيميائي، الذي يؤكد أن المادة التي شكل منها نصل السيف مادة فريدة من
نوعها، ورجاه في أدبٍ جم أن يقبل منه هذه الهدية:
لو تأذن جلالتكم
شكل نصل هذا السيف من قطعة من الحديد النيزكي، عثر عليها الكابتن «بارو» على
بعد حوالي ٢٠٠ ميل من رأس الرجاء الصالح. وفحص هذه القطعة الحديدية مواطني
المحترم «سميثون تينانت»، وأثبت أصلها النيزكي؛ حيث كشف عن وجود ١٠٪ نيكل بها.
ويعتبر هذا السيف الوحيد الذي صنع من هذا الفلز الرائع النادر. إن تفضل جلالتكم
بقبوله كرمًا وشرفًا، غاية ما يتمناه خادم جلالتكم المخلص المطيع.
جيمس سويربي، ٣ يوليو ١٨١٤
ويسجل «سويربي» عمله في إعداد نصل السيف، فيذكر أن النصل شكل بالطرق أثناء التسخين
على لهب أحمر، لقطعة الحديد النيزكي فقط ودون أي إضافات أخرى. وتم ليُّ حديد النصل
بالطَّرْق على البارد. وتم تطويل المقبض بلحامه بقطعةٍ من الفولاذ. واستغرق العمل حوالي
١٠ ساعات فقط، وكان عملًا سهلًا ميسورًا؛ نظرًا لطبيعة الفلز السماوي الطيع. واستغرق
الصقل والحفر يومَيْنِ تاليَيْن. ولا يعرف أن سيفًا شكل من مادةٍ خام كهذه، استغرق مثل
تلك المدة القصيرة من الوقت، كالتي استغرقها تشكيل هذا السيف.
٢٤
وربما ينطوي اهتمام الناس قديمًا بصناعة السيوف من النيازك؛ على معتقداتهم بأن
النيازك من المواد المقدسة التي تدعم المحاربين في حروبهم. أو تمثلًا لحالات سقوطها،
حيث تنقض بقوةٍ على الأرض. ومن الطريف أن يشكِّل الإنسان الأول أسلحته الحجرية (الأدوات
الصوانية) على هيئة أشكالٍ مخروطية، تُشبه أشكال النيازك. حتى إن بعض الناس كانوا
يطلقون على الفئوس الصوانية، المتخلفة عن حضارات العصور الحجرية، فئوس الصاعقة في إشارة
إلى النيازك، وذلك خلال العصور الوسطى.
(٥) الألماس
تقول الأسطورة الشعبية عن أصل الألماس الموجود في منطقة مناجم كمبرلي الشهيرة بجنوب
أفريقيا:
٢٧ «بعدما مرت أيام وليالٍ طويلة على الناس وهم في حزن وكدر، هبطت من السماء
الروح المعنية بتحقيق آمال الناس ورغباتهم على الأرض، وهي تحمل سلة ضخمة مليئة
بالألماس. وأخذت الروح تغرف بيدها الألماس الموجود في السلة، وتنثره على البقاع التي
تطير فوقها، بدءًا من وادي الفال، حيث مرت فوق ديلبورت هوب وبيركلي ويست وكليبدم.
وبينما كانت تلقي بحفنة وراء حفنة من الألماس على البقاع التي تمر فوقها برتابة
وانتظام؛ إذ تتعثر قدماها، وهي تحلق فوق منطقة كمبرلي، بأغصان أشجار الكاميلورن
العالية، فانسكب كل الألماس الموجود في السلة فوق المنطقة، وبذلك أصبحت منطقة كمبرلي
أغنى الأماكن بالألماس.» هكذا تعكس الأسطورة الشعبية رأي الناس في مصدر الألماس الموجود
على الأرض. ولم يخذل البحث العلمي الأسطورة، فعكس بعض الباحثين فحواها في شكل مقالات
وأبحاث علمية، ترى أن الألماس سماوي الأصل.
ويبقى السؤال: هل الألماس المعروف لنا من مصادر سماوية؟ قد يكون غريبًا هذا السؤالُ،
بعدما عرف الناس أن الألماس يوجد في صخور تأتي من أعماقٍ كبيرةٍ داخل باطن الأرض، لكن
السؤال لن يكون غريبًا عندما نعرف أن الألماس لم يتكوَّن مع تكوُّن هذه الصخور، بل
تشكَّل قبل تكوُّنها بملايين السنين؛ ومن ثم فإن هذه الصخور ما هي إلا وسيط ناقل
للألماس الكامن في باطن الأرض. فما هو مصدر هذا الألماس إذن؟! هناك تفسيران؛ الأول: هو
أن الألماس كان موجودًا في الأصل ضمن المواد الأولية التي تشكَّلت منها الأرض أثناء
مراحل تكونها الأولى، أي أنه سماوي الأصل؛ والثاني: هو أن الألماس يتكوَّن في باطن
الأرض من التِئَام ذرات عنصر الكربون مع بعضها البعض، تحت تأثير الضغوط العالية في باطن
الأرض. ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال ترجيح رأيٍ على الآخر فكلاهما له أسانيده العلمية.
ويهمنا هنا الرأي الذي يقول بسماوية الألماس، والذي يعتمد على وجود حبيبات دقيقة من
الألماس في النيازك بجميع أنواعها تقريبًا؛
٢٨ إذ عندما تتحلَّل أجسام هذه النيازك بالعوامل الأرضية، تتحرَّر حبيبات
الألماس وتختلط بالرواسب الأرضية، وتنضوي ضمن المكونات الأرضية. كما أن الدراسات
الفلكية أثبتت
٢٩ أن الألماس يتكوَّن في النجوم العملاقة، ثم يقذف في الفضاء، ليدخل بعد ذلك
في مكونات السحب الغازية التي تتكوَّن منها الأجرام السماوية، والتي من بينها كانت
الأرض، فهذا يفسر الأصل السماوي للألماس الموجود في باطن الأرض أيضًا، والذي يخرج ضمن
مكونات الصخور الناقلة له. وهناك أيضًا من يرى أن الألماس لا يوجد فقط في صورة حبيباتٍ
صغيرةٍ ضمن مكونات النيازك، بل يوجد على هيئة أجرام سماوية كبيرة!
فهل توجد نيازك ألماسية كما توجد نيازك حديدية؟! يسأل الأكاديمي الروسي «ل.
نيكولاييف» في كتابه الشيق «كيمياء الفضاء» هذا السؤال، وينفي إمكانية حدوث ذلك في
الطبيعة، ويعرج أثناء الإجابة على هذا السؤال، على رواية «النيزك الذهبي» للروائي
الفرنسي الشهير «جول جابرييل فيرن» (١٨٢٥–١٩٠٥م)؛ إذ يقول:
٣٠ «هل من الممكن أن تسقط من الفضاء على سطح الأرض أجسامٌ ألماسية ضخمة
كالجبال، تلمع وتتلألأ ببريقها الجذاب؟ من بين أعمال الروائي الفرنسي الشهير «جول فيرن»
رواية «النيزك الذهبي» التي يُذكر فيها مخترع استطاع أن يتوصَّل لوسيلة ما، يتحكم من
خلالها في حركة النيازك العملاقة، وهي في مداراتها خارج الأرض. ويستطيع هذا المخترعُ
التحكُّم في مسار نيزكٍ ذهبيٍّ عملاقٍ ويوجهه نحو الأرض، ولكن قبل إنزاله بدقيقة واحدة
بسلام على سطح الأرض، يتذكر الصراع الذي سوف ينشأ بين الشعوب على امتلاك هذا النيزك
الذهبي العملاق، ويُدرك أن هذا النيزك الذهبي سوف يكون سببًا في شقاء الناس وتعاستهم؛
ومن ثم يحرف مساره نحو المحيط.» ثم يكمل: «في الحقيقة لا توجد نيازك ذهبية ولا يُتوقَّع
وجودها، وكذلك لا توجد جبال نيزكية من الألماس، ولا يُتوقَّع كذلك وجودها في
الطبيعة.»
لكن — على عكس ما يرى الأكاديمي «ل. نيكولاييف» — يرى البعض أن النيازك الألماسية
الضخمة موجودةٌ في الفضاء، وأنها ربما تسقط على هيئة نيازك ألماسية براقة على سطح
الأرض. فصخر «هيباتيا» قد يكون قطعةً من بقايا نيزك ألماسي عملاق، سقط على الأرض في
الماضي البعيد وشكل ارتطامه بسطح الأرض ما يُعرف بالزجاج الليبي.
٣١
وللصدمات النيزكية إسهامٌ كبيرٌ في تكوُّن الألماس؛ إذ لو تصادف ووجد عنصر الكربون
(من الطبيعي أن تحتوي الصخور على الكربون في أي صورةٍ كانت، سواء كان على هيئة فحم أو
جرافيت أو ضمن المعادن والصخور الكربوناتية) ضمن الصخور التي تتعرض للصدمات النيزكية،
فإن الحرارة العالية والضغط العالي المتولدَيْن عن الصدمة، يقودان إلى تحوُّل الكربون
إلى ألماس. ومن أشهر المواقع التي يوجد فيها ألماس الصدمات النيزكية موقع «حوض
بوبيجاي»، بشرق سيبريا، روسيا، وموقع «حوض ريس» ألمانيا، ومنطقة «كارا»، بالأورال
القطبي.
٣٢ ويوجد الألماس في هذه المواضع ضمن الصخور الزجاجية الناشئة عن الصدمات
النيزكية، أو صخور البريشيا الناشئة عن التئام وتجمع شظايا وكسرات الصخور التي تهشمت
من
الصدمة. ويتحرَّر الألماس من هذه الصخور بعوامل التجوية؛ ومن ثم يوجد ضمن الصخور
المفككة على سطح الأرض، كما هو الحال في العينة التي عُثر عليها في منطقة زجاج السيلكا
مؤخرًا. وتتوقَّف كمية الألماس التي تتكوَّن عن الصدمات النيزكية على كمية الكربون
الموجودة ضمن الصخور التي تتعرَّض للصدمات، وعلى الحرارة والضغط الذي يتولد عن الصدمة،
وهو ما يحدده حجم النيزك وسرعته، وطبيعة الصخور في موقع الصدمة ذاتها. ولا يُشترط أن
يوجد الألماس في كل مواقع الصدمات النيزكية. وعادةً ما يكون الألماس الذي يتكوَّن عن
هذه العملية، دقيق الحجم، وملونًا (غالبًا أسود اللون) ومن ثم يصعب الحصول من الرواسب
التي تتكون عن طريق الصدمات النيزكية، على بلورات كبيرة الحجم من الألماس، تصلح في
صناعة الأحجار الكريمة، لكن الألماس المنتج من هذه المواقع يستغل في عددٍ كبير من
الأغراض الصناعية، منها أدوات الحفر العميقة في القشرة الأرضية. ويرى بعض الباحثين أن
الصدمات النيزكية لا تسهم في تكون ألماس الصدمة فحسب، بل تمتد لتسهم في تكون رواسب
ألماس الكمبرليت واللامبرويت المعروفة، ولكن بطريقة غير مباشرة. فمن وجهة النظر هذه،
تسهم الطاقة الهائلة المتولدة عن الصدمات النيزكية الضخمة على الأرض في إحداث الشروخ
العميقة التي تمتد من سطح الأرض لأعماق كبيرة داخلها، مما يسهم في فتح الطريق لاندفاع
ماجما الكمبرليت واللامبرويت، بسرعاتٍ كبيرةٍ من الأعماق البعيدة حتى سطح الأرض، حاملة
معها الألماس دون أن يتغير. كما يرى بعض الباحثين أن الصدمات النيزكية وراء كثيرٍ من
العمليات الجيولوجية الداخلية بما تولد من طاقة كبيرة، تسهم في نشاط ما يعرف ﺑ «البقع
الساخنة» داخل الأرض، والتي تسهم بدورها في العديد من العمليات الجيولوجية، بما في ذلك
عمليات انشطار القارات
٣٣ وانجرافها. وهي العملية التي تحدث ببطءٍ شديد خلال الزمن الجيولوجي.
(٧) التكتيت
يطلق على المواد الزجاجية التي تنشأ من جراء تأثيرات الصدمات النيزكية على صخور
القشرة الأرضية في المواضع التي تشهد حوادث الارتطام؛ مسميات مختلفة. ومن بين المسميات
التي تطلق على بعضها تسمية «تكتيت». وتعني تسمية تكتيت
tektites منصهرًا، وهي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتيتية «تكتوس»، في
إشارةٍ إلى أنها مواد زجاجية نشأَتْ من انصهار مكونات معدنية أرضية، تحت تأثيرات
الحرارة المتولدة من عملياتٍ أرضية مختلفة. وأطلقت تسمية «تكتيت» أول الأمر، في عام
١٩٠٠م، من قبل الجيولوجي الأسترالي «إف. إي. سويس»، في أعقاب دراستِه عينات من المواد
الزجاجية الطبيعية، التي تتوزَّع في بعض المناطق المتباعدة، مثل التشيك، وجاوا،
وأستراليا.
٣٤ وإن كان «سويس»، أول من درس هذه المواد الزجاجية بصورة تفصيلية، إلا أنه لم
يكن أول من اكتشف وجود هذه الأجسام الزجاجية الغريبة؛ إذ يبدو أن عددًا من الباحثين
لاحظ أو وصف هذه الأجسام الزجاجية، قبل ذلك بكثير.
ومن الثابت أن عالم الطبيعيات التشيكي «جوزيف ماير» — الذي أسس في عام ١٧٨٧م وأخاه
الطبيب «جان ماير» جمعيةَ العلوم التشيكية، التي تحوَّلت الآن لأكاديمية العلوم
التشيكية — أشار في عام ١٧٨٦م إلى وجود معدن الزبرجد في موقعٍ من مواقع وجود زجاج
المولدفيت، بجمهورية التشيك الحالية.
٣٥ وكانت إشارتُه تلك أولَ إشارةٍ علمية لموضع من مواضع المولدفيت، التي تشبه
الزبرجد في خصائصها الخارجية، خاصة اللون والشفافية. واعتبرها صخور بركانية، وكذلك
«لينداكر» في عام ١٧٩٢م، لكن ربما يكون الباحث الشهير «تشارلز داروين» في عام ١٨٤٤م؛
أولَ من لفت انتباه الأوساط العلمية لظاهرة انتشار الأجسام الزجاجية الطبيعية؛ إذ إنه
وصفَ أثناء رحلته الشهيرة حول العالم على ظهر السفينة «بيجل» الأجسامَ الزجاجية، التي
توجد على ساحل «تاسمانيا»، بالقرب من «موينت داروين». وهي الأجسام الزجاجية التي يُطلق
عليها «تسامانيت» أو «زجاج داروين»، حيث اعتبرها بمثابة مقذوفاتٍ بركانيةٍ أو زجاجٍ
بركانيٍّ «أوبسيديان».
٣٦
والتكتيت عبارة عن أجسام زجاجية، ذات أشكال مختلفة، بيضاوية، أو كروية، وأحجام صغيرة
نسبيًّا تقدر ببضعة سنتمترات. وتتباين ألوانها من الأخضر والبني والأسود. وتتوزع في
أماكن معينة من الكرة الأرضية؛ حيث توجد على هيئة تجمعات متناثرة على سطح الأرض، ولا
توجد علاقة واضحة بينها وبين الصخور أو التكاوين الجيولوجية التي توجد عليها. وهي من
هذه الوجهة تحديدًا تشبه الأحجار السماوية المتساقطة على الأرض، وهو ما دعا بعض
الباحثين الأوائل إلى اعتبارها نوعًا من النيازك الزجاجية، التي سقطَتْ على الأرض من
أزمنة بعيدة.
ويوجد عددٌ من المواقع الكبيرة والمشهورة لتجمعات التكتيت على مستوى العالم، من
أهمها: تكتيت نهر «مولدفيا» بإقليم «بوهيما»، بجمهورية التشيك، المعروفة باسم
«مولدفيت»، وتكتيت ساحل العاج وتكتيت أستراليا، المعروفة باسم «استراليت»، وهي أكبر حقل
معروف للتكتيت على مستوى العالم، وتكتيت منطقة الهند الصينية، المعروفة باسم
«إندو-تشينايت»، وتكتيت جزر الفلبين المعروفة باسم «فليبينيت»، وموقع تكتيت شمال
أمريكا، بالقرب من «بيدياس»، تكساس، الذي يطلق عليها «بيدياسيت». وفي جميع هذه الحالات،
يصاحب تجمعات التكتيت الكبيرة الحجم، تكتيت مجهرية، في مياه المحيطات المجاورة،
باستثناء «المولدفيت»، التي لم يثبت حتى الآن وجود تكتيت مجهرية بحرية مصاحبة لها.
وتشبه التكتيت صخور الأوبسيديان البركانية الأرضية، إلا أنها تختلف عنها من حيث النشأة؛
حيث لا توجد أي علاقة بين التكتيت والبراكين الأرضية.
وتتكوَّن التكتيت كيميائيًّا من السيلكا (ثاني أكسيد السيلكون)، التي تشكل ٦٠–٨٠٪
من
جملة المكونات الكيميائية للتكتايت، مع الألومنيا، بنسبة تقارب ١٠٪، بالإضافة إلى نسب
بسيطة من أكاسيد الكالسيوم، والماغنسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم. ومن هذه الوجهة فإن
التكتيت لا تشبه النيازك أو أي من الصخور البركانية الأرضية، لكن هذا المحتوى الكيميائي
يتشابه مع بعض الصخور الأرضية، كالحجر الرملي، واللويس (صخور رسوبية مفككة).
وقد اختلف الباحثون حول أصل التكتايت؛ فمنهم من رأى أنها نشأَت من عمليات البركنة
«أصل بركاني»؛ وذلك نظرًا للتشابه الكبير بينها وبين الصخور البركانية، مثل صخور
«الأوبسيديان»، على وجه الخصوص. ولما اعترض البعض على هذا الرأي، رأى آخرون أنها من أصل
بركاني، ولكن ليست من براكين أرضية، وإنما من البراكين القمرية، وهكذا نظر إليها على
أنها «نيازك قمرية»، لكن الأصل البركاني الأرضي، والبركاني القمري للتكتيت، واجها
اعتراضاتٍ منطقية؛ فهي لا تتشابَه من حيث المحتوى الكيميائي مع الصخور البركانية
الأرضية، كما أن غالبية توزيعات التكتيت المعروفة، لا توجد بجوار مواقع بركنة أرضية،
يمكن الربط بينهما. أما الأصل القمري للتكتيت (أو الخارجي بصفةٍ عامة)، فإنه يواجه
مشاكلَ منطقية كثيرة، لعل أبسطها وأهمها هي أنها لم تشاهد وهي ساقطة مثل النيازك، وعدم
انتشار الصخور الغنية بالسيلكا في قشرة القمر، التي يمكن أن تشتق منها هذه المادة التي
تتكوَّن أساسًا من السيلكا، وعلى العكس من ذلك فإن الصخور السائدة في القمر صخور
قاعدية. ناهيك عن الجدل الذي ثار بين الباحثين فترة طويلة من الزمن، عن صواب الرأي
القائل بوجود براكين نشطة حديثة على سطح القمر أو المصادر الخارجية الأخرى. ومن الآراء
الأخرى رأيٌ يزعم أن التكتيت، هي المواد التي تنصهر على أسطح النيازك أثناء مرورها في
جو الأرض، ثم تتجمَّع وتتصلَّب على هيئة مواد زجاجية. ويلقى نفس الانتقادات التي وجهت
إلى الرأي القائل بأنها من خارج الأرض.
والرأي الذي يلقى القبول هو الذي أعلنه «ل. ج. سبنسر»، في ثلاثينيات القرن
العشرين،
٣٧،٣٨ ويرى من خلاله أن التكتيت مواد زجاجية، تكونت من انصهار الصخور الأرضية،
بالحرارة الشديدة التي تنشأ عن ارتطام النيازك العملاقة بالأرض، ثم تصلدها على هذه
الهيئة. وما يراه الباحثون مناسبًا الآن هو أن التكتيت تمثل أبخرة الصخور التي تتطاير
في الجو من تأثير ارتطام النيازك الضخمة بالأرض؛ فالحرارة العالية التي تولدها الصدمات
النيزكية بالأرض تكون كافيةً لأن تصهر الصخور في نقطة الارتطام وتبخرها، لتندفع في الجو
حيث تتكاثف وتتصلب، ثم تسقط ثانية على سطح الأرض في مكان قريب أو بعيد (مئات
الكيلومترات) عن موقع الصدمة النيزكية التي كونتها أصلًا. وعلى سبيل المثال، يرى البعض
أن تكتيت «المولدفيت» الشهيرة، التي يبلغ عمر تكونها حوالي ١٤٫٨ مليون سنة، تكوَّنت في
الأراضي الألمانية، من الصدمة النيزكية التي أحدثت فوهة اﻟ «ربس»، التي يبلغ قطرها
حوالي ٢٤كم، وانتقلت في الجو حتى موقع تساقُطها، وهو الموقع الحالي الذي توجد به. ويرى
البعض أن تكتيت «الاستراليت» التي تنتشر في عدد من المواقع، نتجت من صدمة نيزكية حدثت
منذ قرابة ٧٠٠ ألف عام، من صدمة مذنب ضخم وقعت في مكان ما بالقرب من جنوب أستراليا.
ونظرًا لعدم وجود حفرة أو فوهة نيزكية ظاهرة، يتوقع البعض أن الفوهة ربما تكون موجودةً
أسفل المياه، في المنطقة الواقعة الآن بين أستراليا والقارة القطبية الجنوبية. ويرى بعض
الباحثين أن التكتيت المعروف باسم تكتيت بحر الأورال كانت مصاحبةً للحدث الذي نشأت عنه
صدمة فوهة «زاماتشبن»، التي يبلغ قطرها ١٠–١٥كم، والتكتيت المعروف باسم تكتيت «غانا»
(عمرها ١٫٣ مليون سنة)، كان تكوُّنُه مرتبطًا بالحدث النيزكي الذي أحدث فوهة «بوسمتاوي»
النيزكية، التي يبلغ قطرها ١٠كم، بينما لا يصاحب زجاج «تكساس» حدثًا نيزكيًّا أحدث فوهة
معروفة أو مكتشفة حتى الآن.
ونظرًا لأن التكتيت مواد زجاجية شفافة إلى نصف شفافة (خاصة في الشرائح الدقيقة السمك)
ذات ألوان مختلفة، فإنها تُستخدم كأحجارٍ كريمة؛ إذ تنشر بآلات القطع الدقيقة، وتشكل
على هيئة فصوص صغيرة، تصقل فتظهر عناصر جمالية مميزة، تجعلها تستغل في أغراض الزينة.
واستغلت مادة «المولدفيت» في هذه الأغراض، على مدى طويل من الزمن، وحتى الوقت الحاضر.
كما يبدو أن كثيرًا من المواد الزجاجية الموجودة ضمن المقتنيات الأثرية؛ يبدو أنها من
التكتيت، وإن كان يشار لها على أنها زجاج بركاني في التعريفات المبدئية للمواد
الأثرية.
(٨) زجاج السيلكا
من بين أهم أنواع المواد الزجاجية التي ارتبط تكونها بالصدمات النيزكية؛ زجاجُ
السيلكا المصري، الذي يُعرف في غالبية المراجع العلمية باسم «الزجاج الليبي». وزجاج
السيلكا عبارةٌ عن مادةٍ زجاجيةٍ طبيعيةٍ فريدةٍ من نوعها، لا يوجد لها نظيرٌ على مستوى
العالم، وإن بدَتْ لغير المتخصصين، كما لو كانت زبرجدًا حقيقيًّا؛ حيث غالبية كسراتها
تميل إلى اللون الأخضر الداكن أو الفاتح. وتوجد على هيئة كسرات مختلفة الأحجام، متناثرة
على سطح الأرض أو مدفونة جزئيًّا أو كلية في الرمال التي تغطِّي غالبية مكاشف صخور
المنطقة، ومختلطة بكسرات مشتقة من الصخور التي تتكوَّن منها المنطقة. وتوجد هذه المادة
الفريدة على طرف الجزء الجنوبي الغربي من بحر الرمال العظيم، بالصحراء الغربية المصرية،
وعلى بعد حوالي ٥٠كم من خط الحدود السياسية بين مصر وليبيا، في منطقةٍ من أشد بقاع
العالم جفافًا الآن. وتوصف المنطقة التي توجد بها كسرات زجاج السيلكا، على أنها عبارةٌ
عن سهلٍ منبسطٍ نسبيًّا من الحجر الرملي الذي ينتمي إلى عصر الطباشيري العلوي، ولا يوجد
بها الكثير من الظواهر الطبوغرافية المميزة، سوى تلٍّ مرتفع نسبيًّا (٩٦م)، عن مستوى
سطح المنطقة المحيطة يُعرف باسم «قارة الحنش»، وعدد قليل من التلال المتوسطة الارتفاع
المتناثرة بمنتصف المنطقة ومن حولها. وتغطي المنطقة جزئيًّا الرواسب المفككة من حصًى
ورمال، والكثبان الرملية الطولية، التي تمتد عشرات الكيلومترات من الشمال إلى الجنوب،
في شبه انتظام، وترتفع إلى حوالي ١٠٠ متر عن مستوى سطح الأرض، وتنفصل عن بعضها البعض
بمناطق صخرية، أو مغطاة جزئيًّا بالرمال والحصى وسائر الرواسب المفككة، الناشئة أصلًا
من فعل الرياح على الصخور المكونة للمنطقة. وأقرب الواحات المصرية إلى المنطقة واحة
الداخلة التي تقع على بعد حوالي ٣٠٠كم إلى الشرق من منطقة توزيع زجاج السيلكا، وواحة
الكفرة في ليبيا. ويمكن بصعوبةٍ الوصول إلى المنطقة عن طريق واحة سيوة من الشمال، بقطع
مسافة ٤٠٠كم، خلال بحر الرمال العظيم. كما يمكن الوصول إليها من الجنوب، عن طريق
الدوران والمرور إلى الغرب من هضبة الجلف الكبير.
وتوجد الغالبية العظمى من مادة زجاج السيلكا، على هيئة كسراتٍ صغيرة الأحجام، ولا
تزيد عن بضعة سنتمترات. وأكبر قطعة معروفة يبلغ وزنها حوالي ٢٦ كيلوجرامًا. وتوجد قطع
متوسطة الأحجام تصل أبعادها بضعة سنتمترات، وتصل أوزانها ٤ كيلوجرامات. وتتكوَّن مادة
زجاج السيلكا أساسًا من السيلكا (ثاني أكسيد السيليكون)، الذي تبلغ نسبتها بها حوالي
٩٨٪. كما تحتوي على أكاسيد عناصر أخرى بنسبٍ بسيطة، منها أكاسيد الحديد، والألومنيوم،
والكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، وهي بهذا التركيب تشبه إلى حد كبير الزجاج
الصناعي. ومادة زجاج السيلكا مادةٌ شفافة إلى نصف شفافة، تتباين ألوانها تباينًا
كبيرًا، فمنها الأبيض ومنها الأسود والرمادي الضارب إلى الزرقة. إلا أن اللون الغالب
هو
الأخضر الغامق أو الفاتح أو الأخضر المائل إلى الاصفرار. ومن هنا فإن زجاج السيلكا يبدو
كما لو كان زبرجدًا حقيقيًّا. وفي التصنيف الذي أعده الدكتور درويش الفار لمجموعة زجاج
السيلكا ضمن معروضات المتحف الجيولوجي، على حسب اللون، يظهر فيه قسم من زجاج السيلكا
شبيه بالزبرجد.
٣٩ وتبلغ صلابة زجاج السيلكا حوالي ٦ درجات على مقياس موه للصلابة. وبذلك
تقارب صلابة هذه المادة صلابة الزبرجد الحقيقي. وتحتوي بعض عينات زجاج السيلكا على
فقاعات هوائية حبيسة، ومكتنفات من معادن أخرى، تبدو على هيئة بقع بيضاء. وبينت الدراسات
المختلفة — التي أجريت لتحديد العمر الجيولوجي أو عمر تكوين زجاج السيلكا، بطرق عديدة،
منها طريقة النظائر المشعة، وطريقة تحليل مسارات الانشطار — أنه تكون من حوالي ٢٥ إلى
٣٣ مليون سنة، بمتوسط عمر يقارب ٢٨٫٥ مليون سنة.
٤٠
ويعتبر أصل زجاج السيلكا من أهم المشاكل الجيولوجية، في مصر والعالم؛ ومن ثم فقد ظل
السؤال عن كيفية تكون هذه المادة مطروحًا، بدون وجود إجابةٍ مقنعةٍ عشرات السنين. ولعل
السبب في ذلك اهتمام الدراسات التي أجريت بهذا الخصوص — إلى وقت قريب — على مادة زجاج
السيلكا ذاته، دون اهتمام يذكر بالمنطقة التي يُوجد بها، ودون الاهتمام بالظواهر
الجيولوجية، أو دراسات جادة على المكاشف الصخرية. ولا حيدة عن تسجيل أن الرحلات التي
كانت تنظم إلى منطقة زجاج السيلكا كانت تهدف في الأساس إلى جمع أكبر كميةٍ ممكنةٍ من
هذه المادة، ونقلها إلى الخارج بغية دراستها، أو توزيعها على المتاحف، لكن يجب الإشارة
إلى أن الدراسات التي أجريت على مادة زجاج السيلكا ذاتها أثرت المعارف الخاصة بالمواد
الزجاجية التي تنتشر في بقاعٍ عديدة من العالم. وأن هذه الدراسات كانت مفتاحًا مهمًّا
لإثبات فرضية الصدمة النيزكية، التي كونت زجاج السيلكا. وقد أدَّى ذلك إلى ظهور عددٍ
من
الفرضيات العلمية، عن كيفية نشأته ومكان تكونه. ويمكن إيجازها في ثلاثة فروض رئيسية؛
فرضية الأصل الأرضي الخالص، وفرضية الأصل السماوي الخالص، وفرضية الأصل الأرضي
السماوي.
يفترض بعض الباحثين أن زجاج السيلكا عبارةٌ عن مادة سماوية (أي أنها ضَرْب من النيازك
الغريبة)، مشتقة من مصادر سماوية غير معروفة. ويرى باحثون من أنصار هذه الفرضية أنها
مشتقة من صخور القمر، تحديدًا الزجاج البركاني القمري.
٤١ ولا يحظى هذا الرأي بقبولٍ واسع بين الأوساط العلمية. كما يواجه اعتراضات
منطقية، من قبيل أن مادة زجاج السيلكا تتكوَّن من نسبة عالية من ثاني أكسيد السيلكون،
لا تتناسب مع مكونات صخور قشرة القمر التي يغلب عليها الصخور البازلتية. فلو فرضنا أن
مادةً زجاجيةً اشتقَّتْ من صخور القمر، فإنها لا يمكن أن تحتوي على هذه النسبة العالية
من السيلكا، بل تحتوي على عناصر أخرى تجعلها تميل إلى الصخور القاعدية، لا إلى الصخور
الحمضية. كما أن هناك صعوبة في تفسير كيفية نزع كمية كبيرة من صخور القمر، ودفعها بقوة
كي تفلت من جاذبية القمر. صحيح أن هناك صخورًا من القشرة القمرية، تسقط على سطح الأرض
على هيئة نيازك، لكنها في الواقع صغيرة الحجم.
ويرى عددٌ قليل من الباحثين أن زجاج السيلكا مادة أرضية خالصة، تكونت تحت ظروف
جيولوجية عادية، شأنها شأن الصخور الرسوبية الأخرى كالكالسيدوني. ويرى أنصار هذا الفرض
أنها تكوَّنَتْ من ترسيبات محاليل في مياه البرك.
٤٢ ومنهم من يدَّعي أنها تكوَّنت من نواتج بركانية، أو من تأثيرات حرارة
أرضية، على صخور المنطقة، نشأَتْ من احتراق طبقةٍ من الفحم. ولا يحظى هذا الرأي أيضًا
بقبولٍ كبيرٍ بين الأوساط العلمية؛ فرواسب البرك التي يرى البعض أن زجاج السيلكا تكون
فيها أحدث في العمر الجيولوجي (هولوسين)، عن العمر المقدَّر لزجاج السيلكا. كما لا توجد
دلائل على وجود طبقة الفحم الضخمة التي احترقت وصهرت صخور الحجر الرملي وكونت زجاج
السيلكا، ولا توجد دلائل على وجود أي أنشطة بركانية في المنطقة.
وتلقى نظرية الصدمة النيزكية القبول من قبل العديد من الباحثين. ويرى أنصارها أن زجاج
السيلكا تكون من تأثير الحرارة المتولدة من ارتطام جرم سماوي على كثبان رملية أو حجر
رملي نقي؛ إذ الحرارة العالية صهرت الصخور، وتكوَّن عنها مصهور تصلَّد سريعًا مكونًا
هذه المادة الزجاجية، ولكن أين حدث ذلك؟ ظل هذا السؤال بدون إجابةٍ وافية فترةً كبيرةً
من الزمن. فعدم التعرف على وجود شواهد الصدمة بالمنطقة فتح الباب لظهور اجتهاداتٍ
عديدةٍ بين أنصار فرضية الصدمة، لا تقل غرابةً عن الفروض الأخرى؛ فالبعض يرى أنها
تكوَّنت في مكانٍ بعيدٍ عن موقعها الحالي، خارج الحدود المصرية، خاصة في ليبيا، نظرًا
لوجود تراكيب دائرية تبعد حوالي١٥٠كم إلى الغرب من موقع زجاج السيلكا، لكنه لا يقدم
تعليلًا وافيًا عن الكيفية التي انتقل بها من هذه الأماكن إلى موضعه، كفُوَّهات ليبيا
لم يثبت بالفعل تكونها بالصدمات النيزكية. وتوافرت دلائل قوية في الآونة الأخيرة، على
وجود شواهد الصدمة النيزكية في المنطقة ذاتها، دون الحاجة إلى البحث عن موقع الصدمة
خارج نطاق المنطقة، كما أشارت دراسات أخرى سابقة. وثبت أن زجاج السيلكا مرتبطٌ أصلًا
بصخور الحجر الرملي بالمنطقة، وليس برواسب البرك كما يدعي أنصار الفرض.
إذ تم الكشف عن وجود شروخ دقيقة (مجهرية) في بنية معدن الكوارتز، الذي يكون الحجر
الرملي بالمنطقة، وهذه الشروخ تتبع مستويات بلورية مميزة ولا تنشأ إلا من الصدمات
النيزكية. وتم تسجيل وجود صخر البريشيا، الذي يرتبط تكونه بالصدمة النيزكية التي وقعت
على المنطقة. وثبت وجود حبيبات من الحديد — كروم — نيكل ببعض عينات البريشيا من
المنطقة. وهذه تشبه مثيلاتها التي اكتشفت في فوهة «الريس»، بألمانيا، واعتبرَتْ من أقوى
الدلائل على وجود صدمةٍ نيزكية، خاصة بنيزك كربوني. إذن فوجود هذه الحبيبات الدقيقة لا
يدل على الصدمة وحسب، بل يحدِّد نوع النيزك الذي ضرب الأرض.
٤٣
ويرجع الاهتمام العلمي بزجاج السيلكا إلى ٢٩ ديسمبر عام ١٩٣٢م على إثر إعادة اكتشافه
من قبل المستر «باتريك كليتون»، من مصلحة المساحة المصرية، أثناء قيامه بأعمال مساحية
تتعلَّق بالظواهر الطبوغرافية، في الجزء الجنوبي الغربي من الأراضي المصرية. وأعاد هذا
الكشف إلى دائرة الضوء ما ذكره (فريسنل) في عام ١٨٥٠م من أن «الحاج حسين» الذي كان يقود
قافلة من الجمال في عام ١٨٤٦م، تحركت من واحة الكفرة (في ليبيا) قاصدة أبا منقار (واحة
الفرافرة في مصر) لاحظ وجود كميات كبيرة من كسرات الزجاج على سطح الأرض، على مسافة تقدر
بمسيرة يومين إلى ثلاثة أيام من الكفرة نحو أبي منقار.
٤٤
ولم يكن «باتريك كليتون» ولا الحاج حسين أول من عرفا زجاج السيلكا؛ إذ إن زجاج
السيلكا اكتشف أول الأمر من قبل إنسان العصور الحجرية، الذي كان يقطن المناطق الجنوبية
الغربية، من الأراضي المصرية، والمناطق المجاورة من الأراضي الليبية، خلال زمن ما قبل
التاريخ، وقت أن كان المناخ مواتيًا، وكانت المياه متوفرةً بتلك البقاع الجافة الآن.
واستغل إنسان العصور الحجرية زجاج السيلكا في صناعة الأدوات الحجرية، بل استحسن هذه
المادة، ونقلها إلى أماكن بعيدة عديدة، منها، على سبيل المثال، منطقة أبي بلاص، والجلف
الكبير، والعوينات، وبالقرب من واحة الكفرة، في ليبيا. وما زالت بقايا كسرات زجاج
السيلكا، المتخلفة عن أنشطة الإنسان القديم، تُوجد في بعض المواقع بالمنطقة ذاتها. وهي
التي يحلو للباحثين إطلاق تسمية «الورش» عليها، باعتبارها تمثِّل مراكز تشكيل الأدوات
الحجرية قديمًا. وتوجد قطعٌ من الزجاج ضمن مخلفات العصور الحجرية القديمة التي عثر
عليها في منطقة الخارجة، محافظة الوادي الجديد.
وعرف المصري القديم في وادي النيل زجاج السيلكا، واستغله كحجر كريم؛ إذ تم الكشف
مؤخرًا عن وجود فص صغير من مادة زجاج السيلكا، في قلادة ذهبية مطعمة بعددٍ كبيرٍ من
الأحجار الكريمة الأخرى، من مقتنيات «توت عنخ آمون» (١٣٣٦ق.م.) الموجودة بالمتحف
المصري. ولما كانت مادة زجاج السيلكا لا توجد إلا في مكانٍ واحدٍ على مستوى العالم، وهي
منطقة بحر الرمال العظيم بالصحراء الغربية المصرية، فإن ذلك يعني أن قدماء المصريين
وصلوا إلى هذا الموقع، وجلبوا هذه المادة الفريدة، أو اتصلوا بشكلٍ أو بآخر مع سكان
التخوم الجنوبية الغربية آنذاك. ويؤكِّد هذا الكشف اهتمامَ الإنسانِ عبر العصور بزجاج
السيلكا.
وظهرت في الفترة الأخيرة دراسةٌ
٤٥ تؤكد معرفة الرحالة العرب لهذه المادة الفريدة، قبل أن يكتشفها «باتريك
كليتون» في عام ١٩٣٢م، بألف سنة تقريبًا؛ إذ ذكر الجغرافي والرحالة المعروف الإصطخري،
الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، في كتابة المعنون «المسالك والممالك»
٤٦ وجود معدن الزبرجد في الجزء الجنوبي من مصر. وقد حدَّد الموقع الذي يوجد
فيه الزبرجد، على الجزء الجنوبي الغربي من نهر النيل، وإلى الغرب من الواحات، على
الخريطة التي رسمها لمصر، في هذا الكتاب، لكن عدم وجود معدن الزبرجد بالصحراء الغربية،
أو أي مادةٍ أخرى — غير زجاج السيلكا — يمكن أن تتشابه والزبرجد، يؤكد على أن الإصطخري
يعني بالزبرجد مادة زجاج السيلكا، التي تشبه إلى حد كبير الزبرجد. وهذا من شانه أن يؤكد
معرفة العرب بهذه المادة الفريدة، قبل إعادة اكتشافها من قبل باتريك كليتون في عام
١٩٣٢م.
(٩) زجاج الداخلة
من بين كنوز الصدمات النيزكية زجاجُ الداخلة، الذي اكتشف حديثًا بالأراضي المصرية.
وهو نوع غريب من المادة الزجاجية الطبيعية، التي توجد على هيئة كسرات لا يزيد قطر
أكبرها كثيرًا عن ٤سم، توجد ضمن رواسب البلستوسين التي تغطي عشرات الكيلومترات، في واحة
الداخلة بالصحراء الغربية المصرية. وتتباين ألوان هذا الزجاج تباينًا كبيرًا، من الأخضر
الداكن إلى الأسود. وبعض عينات زجاج الداخلة ذات لمعان أزرق باهت. ويشبه هذا الزجاج في
كثير من خصائصه زجاج الصدمات النيزكية. وفي حقيقة الأمر، فقد عرف هذا الزجاج من قبل
سكان المنطقة من أزمنة بعيدة، لكن كان يشار إليه في العادة على أنه مادة زجاجية، دون
الخوض في طبيعته، ولا في كيفية تكونه، لكن من فترةٍ وجيزة أشارت إحدى بعثات الآثار
الألمانية التي كانت تعمل في نطاق واحة الداخلة خلال المواسم الحقلية ٢٠٠٢، ٢٠٠٣، ٢٠٠٤،
إلى اكتشاف ما اعتبرَتْه حدثًا كارثيًّا خلال العصر الحجري المتوسط (١٠٠ ألف سنة إلى
٢٠٠ ألف سنة)، تمثل في سقوط جرمٍ سماويٍّ على واحة الداخلة، نتج عنه مواد زجاجية كثيفة،
تكثر بها الفجوات، والمكتنفات الغريبة. وتتوزع قطع زجاج الداخلة في مساحاتٍ شاسعة، ضمن
رواسب البحيرات العذبة التي تنتمي لعصر البليستوسين. ودرس الباحثون والمتخصصون في دراسة
زجاج الصدمات النيزكية؛ قطعًا من هذا الزجاج، وأعلنوا أنه ينتمي للزجاج الذي تكونه
ارتطامات النيازك الضخمة بالأرض. وأكَّد الباحثون على التشابُهِ الكبيرِ بينه وبين زجاج
الصدمات النيزكية. أي أن زجاج الداخلة نشأ من تأثير ارتطام جرمٍ سماويٍّ على المنطقة،
ممَّا أدَّى إلى صَهْر المكونات الأرضية وتبخُّرِها في الجو ثم تكاثفها وتصلُّدها لتسقط
ثانيةً على الأرض على هذه الشاكلة. ونظرًا لعدم اكتشاف فوهة نيزكية بالمنطقة — حتى الآن
— فإن البعض يرى إمكانية تكوُّن زجاج الداخلة من احتراق الجرم السماوي في الجو قبل
ارتطامه بالأرض، وانصهار مكوناته وتبخرها، ثم تكاثفها وتصلُّدها على هيئة جسيمات زجاجية
صغيرة، سقطت على الأرض على هذه الشاكلة التي يوجد عليها زجاج الداخلة.
٤٧،٤٨،٤٩
ويبدو أن زجاج الداخلة، هو الذي شغل الرحالة العرب القدامى، فأشاروا إلى وجوده في
الواحات الجنوبية المصرية، باعتباره حجرًا كريمًا يستخرج من موضعه ويحمل ليشكل ويباع
في
العاصمة؛ إذ ذكر بعض المؤرخين والرحالة العرب وجود مادةٍ أطلقوا عليها لازورد في نطاق
الواحات الخارجة في الصحراء الغربية. فعلى سبيل المثال، يسجل ابن عبد المنعم الحميري،
المتوفى في ٩٠٠ﻫ/١٤٩٥م، في كتابه «الروض المعطار في خبر الأقطار»، في معرض حديثه عن
الواحات التي توجد في الصحراء الغربية المصرية، وجود معدن اللازورد، حيث يذكر:
٥٠ «وفي أرض الواحات الخارجة جبل معترض فيها سامي الذروة، فيه معدن يستخرج منه
حجر اللازورد ويحمل إلى أرض مصر فيصرف.»
الواقع أن البيئات الجيولوجية المعروفة في نطاق
الواحات الداخلة والخارجة لا تشجع إمكانية تكوُّن معدن اللازورد الحقيقي. والمكان
الوحيد الذي يمكن أن يتكون فيه اللازورد هو منطقة «أبو بيان»، جنوب الواحات الخارجة،
حيث تتداخل صخور نارية حامضية مع الصخور الجيرية. في هذا الموضع يمكن أن يتكون اللازورد
الحقيقي. وربما يعني اللازورد المقصود في كتابات الرحالة العرب، معدنًا أزرق وحسب، وفي
هذه الحالة ربما يكون ذلك المعدن هو اﻟ «لازوليت»، وهو معدن من معادن الفوسفات، لونه
أزرق. وهذا يمكن أن يوجدَ على هيئة جيوب في صخور فوسفات هضبة «أبو طرطور»، التي تقع بين
الواحات الداخلة والخارجة. وربما ينطبق هذا الوصف أيضًا على زجاج الداخلة، الذي يوجد
بين واحتي الداخلة والخارجة؛ فالرحَّالة العرب لم يفرقوا كثيرًا بين الواحات الجنوبية.
وربما يعني تسمية الخارجة في كتاباتهم البعد عن نهر النيل؛ فالواحات الداخلة التي تبعد
أكثر عن الواحات الخارجة من نهر النيل، كانت هي بمثابة الواحات الخارجة. كما أن
اللازورد يُعرف أيضًا بمسمى «عوهق»، وهو معدن أو مادة سوداء لها لمعان أزرق. وهذه
المادة تشبه اﻟ «أوبسيديان». وهي قريبة جدًّا من زجاج الداخلة.
٥١
وربما يكون زجاج الداخلة مصدر المواد الزجاجية الطبيعية، التي استغلت من قبل قدماء
المصريين، والتي توجد في عدد من المقتنيات الأثرية؛ إذ يوجد في التماثيل المصرية
القديمة قطعٌ زجاجية طبيعية، تشكل عيون التماثيل الكبيرة على وجه الخصوص. وحير مصدر هذه
المواد الزجاجية الباحثين. فلم يكن يعرف مصدر محدد لها ضمن المواد الطبيعية المعروفة
في
مصر؛ ومن ثم فقد افترض أنها من صخور «الأوبسيديان» البركانية الزجاجية، التي توجد في
أثيوبيا، ولا توجد في مصر؛ ومن ثم فقد افترض الباحثون أن المصريين القدماء حصلوا على
هذه المواد الزجاجية من مصادر تقع خارج البلاد.