تصدير

منذ أن كتبت المصطلحات الأدبية الحديثة عام ١٩٩٦م والنقاد لا يكفون عن ابتكار كل جديد وغريب من المصطلحات الأدبية التي لم تعد مقصورةً على ما درجنا على اعتباره نقدًا أدبيًّا أو متصلًا بالنقد الأدبي بفنونه المعروفة؛ إذ توسعت المصادر، وتنوعت الدلالات، بعد أنْ دخل إلى ميدان الدراسة الأدبية ما لم نكن نتوقعه (قبل ظهور النظرية الأدبية) من فروع العلوم الإنسانية الحديثة التي كان كل منها يتمتع بملامحه شبه المستقلة، ومناهجه التي كنا نتصور أنها مقصورة عليه.
والواقع أن النظرية الحديثة نفسها تمثل خير تمثيل أساليب ارتباط الأدب بما أسميته «فروع» العلوم الإنسانية، وهي أساليب يزداد تخصصها ويزداد استحداث المصطلحات المتخصصة اللازمة لها، ولنضرب مثلًا من علم النفس؛ فارتباطه بالأدب قديم، ولكن النظريات التي استُحدثت في القرن العشرين أتاحت لدارسي الأدب مداخل جديدة أصبحت لها أسماؤها الخاصة ومصطلحاتها المتخصصة التي يصعب على غير الباحثين في هذه المداخل فهمها، وقد واكبنا هذا التطور في وطننا العربي، فأصبح لدينا رُواد جهابذة أتوا بالكثير من المصطلحات العربية التي يسَّرت على الدارسين فهم تطورات العلاقة بين الأدب وعلم النفس الحديث، منذ مصطفى سويف وحتى شاكر عبد الحميد، وقد تابعت التطور المذكور في المداخل النقدية لمسرحيات شيكسبير، شاعر الإنجليزية الأكبر، على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، ورصدت في مقدماتي للترجمة العربية لبعض هذه المسرحيات تطور النقد النفسي أو السيكلوجي لأدب شيكسبير، من البساطة والتعميم، إلى التعقيد والتخصيص، وكيف استفاد النقد النسوي — وهو فرع نقدي حديث يجمع بين عناصر من علم الاجتماع وعناصر فلسفية وأيديولوجية — من علم النفس الحديث، وإن كان كثير من النقاد يُطلقون عليه اسمًا غير دقيق هو «التحليل النفسي»، ذلك الفرع الخاص الذي ابتكره فرويد وطوَّره الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan).

ولنضرب مثلًا آخر من علم اللغة (اللغويات) الذي تفرَّع وتعمق طامحًا إلى الدقة العلمية التي عادةً ما نقصرها على العلوم الطبيعية؛ أي المادية، فإذا بنا نجد فيه فروعًا ترتبط بالمجتمع، وبالطب النفسي، وبالفلسفة، وإذا به يؤثر مباشرةً في الدراسة النقدية للأدب، بحيث نشأت لدينا مناهج لغوية تتجاوز المناهج النحوية الصرفة وعلم الدلالة من خلال المزج العلمي بين معطيات هذه العلوم في تحليل النصوص، فنشأت لدينا مصطلحات جديدة مثل «الخطاب»، وأصبح الدارسون يميزون بينه وبين «النص»، بل إن مفهوم النص نفسه قد اختلف، وهكذا أمسى لدينا العديد من المداخل «اللغوية» للأدب، خصوصًا ما يرتبط منها بالثقافة.

وإذا شئنا تلخيص الاتجاه الرئيسي الذي سارت فيه النظرية الأدبية الجديدة قلنا إنه اتجاه نحو الثقافة بمعناها الذي أرساه ت. س. إليوت بصفة عامة؛ أي باعتبارها أسلوب حياة، وبمعناها أو معانيها الحديثة الخاصة التي تضم المذاهب الفكرية التي يشملها ما نسميه «النقد الثقافي» (حلقة فيينا، مدرسة فرانكفورت، الوجودية، ما بعد البنيوية) وما نسميه «النظرية النقدية» التي نشأت في ألمانيا أصلًا في صورة اتجاه فكري يعارض الروح التجارية (مادية المكسب والخسارة) في الغرب، وكانت في منشئها صورةً مشذبة من صور الماركسية ثم تطوَّرت فأصبحت تضم مدارس فكرية منوعة أدَّت إلى ما يسمَّى «ما بعد الماركسية»، بل ويمكن أن تشير مجازًا إلى الماركسيين الجدد.
وكان من الطبيعي أن تجد من النقاد من يطبِّق منهجه الفكري في تناول الأدب، ويستخدم المصطلحات الخاصة بهذا المنهج، وربما خرج بنتائج لا تختلف كثيرًا عمَّا يخرج به غيره ممن استخدم مناهج مختلفة، ولكن التناول نفسه يكشف لنا عن جوانب في العمل الأدبي لم نكن نراها بالوضوح نفسه قبل تطبيق ذلك المنهج، والمثال الواضح في ذهني هو الناقدة جانيت أديلمان التي طوَّرت منهج «التحليل النفسي» في تناول شيكسبير لدور الأم في مسرحيات شيكسبير، وهو الذي ابتدأه إرنست جونز عندما استند إلى عقدة أوديب (أي التعلق المَرَضِي للولد بأمه) في تفسير ما يحدث في هاملت، فبيَّنت في كتابها أمهات خانقات كيف أن علاقة الأم بالطفل تُلقي بظلالها على مستقبل حياته ما دامت تتحكَّم في تطوره النفسي في المراحل الأولى الحاسمة من حياته، ومنهجها — مثل الكثير من مناهج النقد النسوي — يجمع بين عناصر سيكلوجية واجتماعية وفلسفية.

و«التاريخية الجديدة» التي تُعتبر صورةً أمريكية لِمَا يسمى «المادية الثقافية» في بريطانيا تختلف عن المنهج التاريخي القديم في تناول الأدب؛ أي باعتباره «وثائق تاريخية» وحسب، في أن المدرسة الجديدة لا تنظر إلى الأدب باعتباره مرآةً لعصره [فالمرآة سلبية: تعكس الصورة وحسب] بل تنظر إليه باعتباره قوةً فاعلة في التاريخ؛ فروايات ديكنز وجاسكيل لا تقدِّم صورًا للمجتمع الإنجليزي في القرن التاسع عشر وحسب؛ أي إنها لا تقف عند حدود التصوير السلبي بل هي تُدخل تعديلاتٍ على الصورة بحيث تجعلها دعوةً إلى التغيير، وهي لا ترتبط بالتاريخ إذن ارتباطًا يجعلها مقصورةً عليه، بل تتخذ من التاريخ مُنطَلقًا لمفاهيم ومبادئ إنسانية تتجاوز اللحظة التاريخية، ومن ثم فهي ذات دلالة يرى فيها أبناء عصور لاحقة صورًا لواقعهم الراهن، فما دام الإنسان هو الإنسان، لابد أن يرى أبناءُ اليوم دلالةً حاضرة فيما كان بالأمس. ومن هنا كان النقاد البريطانيون يرَون في دراسة أدب الماضي ما يصب في الحياة الحاضرة، ويمكن أن يكون له مغزاه، ومن ثم أطلقوا على هذا الاتجاه «المادية الثقافية».

واتخاذ القارئ مرجعيةً للحكم على العمل من ثمار هذا الاتجاه «الفكري» الجديد، وهكذا نشأت المدرسة النقدية القائمة على استجابة القارئ، «النقد الخاص باستجابة القراء» في ألمانيا وأمريكا، وسرعان ما توسَّعت قاعدتها، فتنوَّعت البحوث في دور القارئ لا في تلقي العمل الأدبي فقط بل في تشكيله. ونرى هنا أيضًا دور الثقافة؛ فالكاتب لا يكتب لنفسه إلا إن كان يكتب يوميات يُحب أن يرجع إليها وحده ولا يعتزم نشرها، ويُشار إليه بمصطلح يُفيد بأنه غير واعٍ بذاته، أمَّا سائر الكُتاب الذين ينشرون ما يكتبون فقد ابتُدع لوصفهم مصطلح «الوعي الذاتي»، ونشْرُ ما يُكتَب يعني مخاطبة قارئ ما، فقد يخاطِب الكاتب قارئًا يعتبره «مثاليًّا» ويخصه بما لا يكتبه لغيره، وقد نرى هذا في عنوان الكتاب نفسه، مثل عنوان ديوان لويس عوض الذي يقول بلوتولاند وقصائد أخرى من شعر الخاصة، وقد نجده في قصائد معينة دون غيرها مثل لزوميات أبي العلاء المعري، وقد يكتب الكاتب وفي ذهنه عدد معين من متذوقي الأدب، يتميَّز كلٌّ منهم بالقدرة على فهم رموز الكاتب وإشاراته، وهذا يسمَّى القارئ «المضمر» أو «الموحى به»، وقد تكون هذه الرموز والإشارات أدبيةً أو فكرية سامية، وقد تكون على العكس من ذلك، خاصةً بتقاليد وأعراف اجتماعية تثير السخرية منها والضحك أو التسرية بها.
وعندما ترجمتُ كتاب المفكرون الأساسيون من النظرية النقدية إلى ما بعد الماركسية، وأتبعته بكتاب مقولات النقد الثقافي، بعد ترجمة عدة كتب عن الترجمة والثقافة، تصدَّيت لكتاب ضخم عنوانه الرفيق إلى النظرية السردية، وجدت أن المصطلحات قد تكاثرت إلى الحد الذي يقتضي كتابة تصدير أو تمهيد عن التعريب والترجمة: أمَّا التعريب فهو كتابة الكلمة الأجنبية بلفظها بحروف عربية، وهو ما فعله أساتذتنا بالعديد من المصطلحات مثل الميتافيزيقا والأيديولوجيا والأنطولوجيا وغيرها (بدلًا من كتابة «ما وراء الطبيعة»، و«العقائدية»، و«علم الوجود» على الترتيب) خصوصًا لأن هذا ييسِّر استخدامها صفاتٍ أو أحوالًا — أو في موقع التمييز — وقِس على ذلك كلمات جديدة دخلت العربية مثل سيكولوجي وسوسيولوجي … إلخ، وللسبب نفسه، فمن شأن ذلك أن يوفر عليك جهد الالتفاف حول الكلمة، فقولك «هذه حقيقة جغرافية لا سوسيولوجية» توفِّر عليك أن تستبدل بالكلمة المعربة تعبيرًا مثل «من زاوية علم الاجتماع» [ولو أنني في الترجمة من أتباع الالتفاف المذكور]. فلدينا كلمات أصبحت مفهومةً للجميع بعد أن استمر استخدامها قرنًا كاملًا من الزمان مثل «الديمقراطية»، فلا مناص هنا من استخدام المصطلح بلفظه، وأمَّا لفظة democratization فعادةً ما نُترجمها بتعبير مثل «إضفاء الديمقراطية» أو «تطبيق …»، وأمَّا محاولات البعض تعريبها فلم تلقَ القَبول المأمول [دمقرطة؟ والفعل يُدَقْرِطُ؟ أو يُمَقْرِطُ؟] فإن «المقرطة» (على وزن المخرطة) توحي بأن الميم زائدة وأن الفعل الأصلي «قَرَطَ»، أو حتى «دَقْرَطَ»، ولم تستسغ الأذن العربية أيًّا من هذه الكلمات حتى الآن. وأنا أُناقش هذه القضية في الجزء الأول من الفصل الأول.
أمَّا عن ترجمة المصطلحات فالباحثون العرب لا يزالون مختلفين، خصوصًا عندما ينزع الكاتب الأجنبي إلى توليد فعل من اسم ترجمناه إلى العربية واسترحنا لترجمته. والمثال الحاضر كلمة مثل streamlined وstreamlining فقد ترجمنا الأولى — باعتبارها صفة — بالانسيابية، واسترحنا لهذه الترجمة، ولكن كيف نترجم الفعل الذي اشتُقت منه هذه الكلمة to streamline؟ إنه فعل متعدٍّ، والفعل المقابل له بالعربية لازم «ينساب»، فهو من أفعال المطاوعة الذي يُعتبر متعديًا لذاته فقط (an ergative verb)، ومن ثم فإذا أردت ترجمة الفعل أتيت بفعل آخر وقرنته بالاسم، وهو في الواقع مصدر صناعي: «يحقق الانسيابية»، أو «يتسم بالانسيابية» وقس على ذلك عدة مصطلحات سأضرب لها أمثلةً منوعة: من أشهر المصطلحات في العلوم الإنسانية مصطلح concept وهو الذي ترجمناه بكلمة «مفهوم»، واسترحنا له ولكن ما لبثت الصفة أن ظهرت وهي conceptual فإذا بأحد المترجمين يُصِر على اشتقاق صفة من مفهوم، ولمَّا كانت النسبة إلى مفهوم ثقيلةً على اللسان [مفهومي؟] فقد قُرِّر أن تكون الصفة «مفاهيمي»، ولكن هذه الكلمة لا تنقُل في الواقع دلالة الصفة المذكورة؛ فهي لا تعني الإشارة إلى المفاهيم بل إلى المدارك الذهنية، في مقابل المدارك الحسية percepts وهي الكلمة الخاصة التي شاعت، بدلًا من perceptions لأن الأخيرة تفيد المدارك البصرية أيضًا أو الرؤى والمدارك، وأمَّا precepts التي تُشبهها، وتؤدِّي إلى الخلط غير المقصود بها، فتعني المبادئ أو القواعد، وخصوصًا ما يتعلَّق منها بالسلوك. وهكذا فالمقصود بالصفة conceptual ما يتعلق بالإدراك الذهني، ويمكن أن تكون الصفة منها «الذهني» [في مقابل الحسِّي] والواقع في سياق آلاف الكلمات التي ترجمتها في السياقات الفكرية الحديثة في السنوات الأخيرة أن كُتَّاب الإنجليزية يستخدمونها استخدامًا شبه مرادف لصفة «النظرية» بمعنى عدم الإحالة إلى الواقع المادي الذي تُدركه الحواس، بل الإحالة إلى الفكر التجريدي، وقس على ذلك الفعل conceptualize؛ أي ينظر إلى ظاهرة مادية نظرةً «تجريدية» تسمح بنقل الظاهرة إلى مجال الفكر النظري، وهاك المثال التالي:
Fashion shows and similar exposition of the female body are conceptualized in feminist theory as the reification of the human body and the degradation of women.
  • (١)

    تتخذ عروض الأزياء وما لَفَّ لَفَّها من أنواع استعراض جسد المرأة، وَفْق ما تقول به النظرية النسوية، صورة تشيؤ الجسد البشري والحط من قيمة المرأة.

    أو:

  • (٢)
    تقول النظرية النسوية إن عروض الأزياء وما يشبهها من استعراضات لجسد المرأة تعتبر، من الزاوية النظرية، تشييئًا للجسد البشري، وانحطاطًا للمرأة.
وقس على ذلك كلمات أخرى مثل ritual فهي صفة من rite بمعنى الشعيرة أو الطقس [كقولك ritual dance أي الرقص الطقسي]، وهي اسم يفيد مجموع الطقوس الدينية، فإذا انتقلنا إلى الفعل بدت لنا صعوبة اشتقاق فعل من «شعيرة» أو من «طقس»؛ أي عندما تقول ritualize فأنت تعني ما يفيد إضفاء الطابع الطقسي على أمر ما، وهاك المثال الذي يوضحه:
He consistently had breakfast, before going to work, at the corner coffee shop: he actually ritualized the practice.

كان يتناول طعام الإفطار بانتظام في المقهى القائم على ناصية الشارع، والواقع أنه أضفى على ذلك طابعًا طقسيًّا.

وإليك نموذجًا من كلمة حديثة بُنيت صرفيًّا على كلمة problematic التي اكتسبت معنى الاسم من نظيرتها الفرنسية، فلم تعد الصفة المعروفة، واستخدم العرب في ترجمتها مصدرًا صناعيًّا من (أشكل يُشكل فهو مُشْكل) وهو إشكالية. ولكن الكُتَّابَ أحيانًا لا يقصدون معنى الإشكالية الفرنسي أحيانًا؛ أي المسألة التي تبدو مشكلةً وهي في الواقع منطقية، بل كثيرًا ما يستخدمونها من باب التأنق في التعبير بمعنى «لخلافي» أو ما يثير الخلاف وحسب. وهاك المثال:
Gennette has problematized the hypertext by using it not as a computer reconstituted text but as a framework text within which you may have more than one hypotext.

أدى استعمال جينيت لكلمة النص الحاسوبي إلى جعل المصطلح خلافيًّا، فلم يعد يفيد النص الذي يعيد المرء تكوينه من شذرات في الحاسوب بل أصبح يعني لديه النص الإطاري الذي قد يتضمن نصوصًا صغرى كثيرة.

والصيغة الصرفية بالإنجليزية القائمة على اشتقاق فعل من صفة أو من اسم قد تكون مضللة، مثل الصفة visual أي «البصري» [المختص بحاسة البصر] التي أدت إلى وضع الفعل visualize وما أيسر أن يخطئ المترجم فيتوهم أن الفعل يعني «يتصور»، وهو فعل قد يفيد التخيل أو التوهم، وأما المقصود بالفعل الإنجليزي فهو تكوين صورة في الذهن لموقف أو لفكرة. وقد يكون الفرق دقيقًا أو يستعصي على المبتدئ، ولكن انظر إلى العبارات التالية:

(١) إذا نظرتُ إليك شَزْرًا فلا تتصور أني أكرهك.

(1) If I look askance at you, don’t think I hate you.

(٢) من كان يتصوَّر أن هذا الشخص نصف المتعلم سوف يصبح روائيًّا مرموقًا؟!

(2) Who would have thought that such a half-educated person would become a remarkable novelist!

(٣) من كان يتخيل أن ذلك الاختلاف الطفيف في الرأي سوف يؤدي إلى هذا الهَرْجِ والمَرْجِ الذي بلغ الذروة!

(3) Who would have imagined that such a slight difference of opinion would lead to such commotion–of the highest order!
وأما الدلالة المحددة للفعل visualize فتجدها في الأمثلة التالية:
(1) I know what you say is true, but cannot visualize them kissing one another in an Egyptian marketplace!

(١) أعرف أنك تقول الصدق، لكنني لا أستطيع أن أراهما بعين خيالي يتبادلان قبلةً في إحدى الأسواق المصرية!

(2) You will not be able to produce an effective painting until you visualize the man hitting the ground with his axe–digging, digging.

(٢) لن تستطيع رسم لوحة ناجحة [مؤثرة] إلا إذا استطعت أن ترى بعين خيالك ذلك الرجل وهو يضرب الأرض بفأسه ويحفرها دأبًا.

(3) “Unphilosophic minds cannot understand what they cannot visualize” (Spinoza).

(٣) «لا تستطيع العقول غير الفلسفية أن تفهم ما لا تستطيع أن تراه مجسدًا بعيون خيالها» (سبينوزا).

وليست هذه على أية حال، إلا نماذج محدودة من الأفعال التي تُشتق في الإنجليزية من الصفات بل ومن أسماء الأعلام، فكيف بالله عليك نترجم فعلًا من اسم علم مثل نيتشه؟

(1) In his Practical Criticism, I. A. Richards was Nietzschizing the Foucauldian concept of power, avant la letter, when he claimed that a common idea, having acquired the status of Barthes doxa, controls the way a student reads a given poem.
(١) كان أ. أ. ريتشاردز، في كتابه النقد العملي يصبغ مفهوم السلطة عند فوكوه، قبل أن يولد هذا المفهوم، بطابع الفيلسوف نيتشه، عندما وصف الفكرة السائدة في قصيدة ما، إذا اكتسبت موقع الثقافة الباطنة التي قال بها بارت، بأنها تتحكم في أسلوب فهم الطالب للقصيدة.
وأنا أقول إن هذه الأساليب الإنجليزية تفترض في القارئ معرفةً بالتراث الأوروبي، الفكري والأدبي، إلى حد من المحال أن يتوافر للقارئ العربي. ولكن ترانا نستطيع أن نفعل الشيء نفسه باللغة العربية فنفترض في القارئ العربي معرفةً بتراثه الفكري والأدبي، وهو غزير وحافل وعمره يزيد مئات السنين عن التراث الغربي؟ كم عدد القراء العرب الذين قرءوا شعر أبي العلاء المعري أو المتنبي (وأنا من المتعصبين له) ولا أقول فهمه وتذوقه؟ لقد خدم الإنجليز تاريخهم الفكري والأدبي فقدَّموه في ألف صورة وصورة، فهل فعلنا ذلك بتاريخنا الفكري والأدبي؟ كم منَّا من يعرف ابن رشد الذي يُجِلُّه الغربيون، ولدي كتاب إنجليزي عن قراءة ابن رشد لأرسطو؟ كم منَّا من قرأ رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء التي توفَّر على دراستها باحث إنجليزي يُدعى إيان نيتون عشر سنوات ووضع كتابًا عنوانه الأفلاطونيون الجدد المسلمون عام ١٩٨٤م، وأذهلني بما اكتشفه في الرسائل من علم وفلسفة عميقة؟ كم منَّا من قرأ حي بن يقظان لابن طُفيل التي عرضها العلامة عبد الرشيد الصادق المحمودي في الأهرام الغراء؟ لقد بذلتُ جهدًا جبارًا في نشر مقتطفات من تراثنا وتراث العالم في مكتبة الأسرة، وكانت باهرةً مُرضية لي، على الأقل، إذا حكمنا على الإقبال الجماهيري بعدد النسخ المَبيعة. ولن أنسى اليوم الذي كنت أنتظر فيه شهادة مخالفات السيارة في مكتب تجديد الترخيص، ورأيت فيه شابًّا منهمكًا في قراءة بعض ما اخترته من شعر الهجاء في العصر الأموي من كتاب الأغاني، أو اليوم الذي رأيت بعض الطلاب في الجامعة يقرءون ما اخترته من شعر إيليا أبي ماضي. ويكفي هذا الاستطراد، وإن كنت مضطرًّا إلى أن أقول إن سبب حيرتنا في تناول المصطلحات تعريبًا وترجمة هو أننا تنكَّرنا لأنفسنا، ونسينا عروبتنا، وغيرنا يتفاخر بهُويته ولغته! وكلما شرعت في ترجمة نص لشيكسبير أتيت بطبعاته المختلفة، وهي عادةً لا تقل عن سبع طبعات، يكتب لها المقدمات والشروح أساتذة مختصون مختلفون، وأُقارن بين شروحهم حتى أهتدي إلى الفهم الذي أراه صحيحًا قبل الشروع في الترجمة. كم طبعةً لدينا لديوان المتنبي؟ لدي أربع طبعات (محيي الدين عبد الحميد) و(العكبري) و(معجز أحمد) لأبي العلاء المعري، وطبعة لبنانية بدون أسماء تسيء إلى المتنبي أكثر ممَّا تخدمه، وقد بذلت جهدًا في انتقاء أشهر قصائد ذلك العبقري ونشرتها في مكتبة الأسرة؛ فطباعة المنتخبات ليست بدعة، وقراءة البعض قد تدفع القراء إلى قراءة الكل، ولكن. ويكفي هذا الحرف.

أعود إلى المصطلح ومشكلاته. إن النهضة الحالية في الترجمة على امتداد الوطن العربي أمر يُثلج الصدر، ولكن ترجمة المصطلح شيء آخر، لا يجب أن يُترك للمبتدئين، وأنا أفعل ما في وسعي ولكن الصوت الواحد يجب أن تصاحبه أصوات أخرى، ويؤسفني أن الناشرين لا يزالون يضعون الربح والمبيعات الكثيرة نصب أعينهم، وليتهم يفعلون ما تفعله دُور النشر الكبرى في العالم، تلك التي توازن بين كتب الربح وبين كتب العلم، حتى ولو خُصصت للأخيرة نسبة ضئيلة ممَّا تنشره.

وفي الجزء الثاني من الفصل الأول أُورد قائمة المصطلحات التي وضعها جيمز فيلان وبيتر رابينوفيتز لِمَا استُجد من مفاهيم في علم السرد، غير أنني استكملت القائمة بعدد كبير من المصطلحات التي لم يوردها المحرِّران استنادًا إلى شيوعها في الدراسات الغربية، وإن لم تكن قد شاعت لدينا؛ إذ لم تُعرَّب أو تُترجم ترجمةً مقنعة، أو لم يُترجَم الكثير منها أصلًا، كما أضفت إلى شروحهما شروحًا من عندي وأمثلةً عربية ابتغاء الإيضاح، وإن لم أتوسع في هذا ثقةً مني في فطنة القارئ الخبير، وهكذا فأنا أتوقَّع أن يُدرك القارئ الفَطِنُ الفرق بين النص الغائر (palimpsest) والنص الباطن (subtext) [أو الدفين]؛ فالغائر اسم فاعل من غار يغور إذا اختفى في أعماق الشيء، مثل الماء الذي يغور في التربة، والغور إذن هو العمق، وللفعل العربي استخدامات أخرى أهمها قولك «غار فلان في الأمر»؛ أي دقَّق النظر فيه، وهذا أقرب ما يكون إلى المعنى الأجنبي [بالإنجليزية والفرنسية]؛ إذ يعني اللفظ تحديدًا وجود نص آخر شبه مطموس تحت النص الظاهر، وتستطيع العين إذا دقَّقت النظر أن تراه، كقول الشاعر:
أتَى مَلَاكُ الشِّعْرِ في غَفْلَةٍ
بِمَوْكِبٍ مِنْ صَحْبِهِ الأَوْفِيَاءْ
أَرْوَاحُهُمْ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابْ
ونُورُهُمْ يَفُوقُ كُلَّ ضِيَاءْ

فالنص الغائر هنا هو مشهد يوم الحشر؛ إذ يقول تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِوَتَرَى الْجِبَالَوَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ (النمل: ٧٧–٧٨)، والعرب تُطلق على هذا مصطلح «التضمين»، ولكننا نُدرك من خلال هذا التضمين نصًّا غائرًا يقول إن هذا يوم الحشر؛ أي إننا نراه قائمًا في أعماق النص الظاهر ودليله الألفاظ المقتبسة من الآية، على عكس النص الباطن [أو الدفين]؛ إذ إنه لا يرتبط لفظًا بالنص الظاهر بل يُحيل إليه القارئ وحسب كقول أستاذ لطلابه «السبت القادم يوافق رأس السنة الهجرية»، فهذا قول يُحيلنا إلى نص باطن هو «لن آتي إلى الجامعة لأنه يوم عطلة رسمية». واستخدام النصوص الباطنة يَشيع أكثر ما يشيع في الدراما، فالحوار عادةً ما يتضمَّن نصوصًا باطنة، فإذا وردت عبارة من هذا النوع في حوار درامي استطعنا الاستدلال على النص الباطن من السياق مثلًا:

العامل : يوم السبت القادم يوافق رأس السنة الهجرية.
رئيسه : سأدفع لك أجرًا مضاعفًا إن أتيتَ فيه للعمل.
فالنص الباطن هنا يُفهم من سياق الحوار وفطنة المترجم لوجود أمثال هذه النصوص الباطنة تنهض بدور أساسي في إدراك المعنى المراد وترجمته، وهاك مثالًا من شيكسبير: يقول الراوي في مطلع الفصل الثاني من مسرحية هنري الخامس:
Now all the youth of England are on fire,
And silken dalliance in the wardrobe lies;
Now thrive the armorers,
(II. Prologue, 1–3)

فالنص الباطن هنا أن الشبان استبدلوا الحُلل المدرعة [لخوض الحرب] بالحُلل الحريرية التي كانوا يلبسونها بقصد اللهو، والترجمة إذن:

الآن تلتهب الحَمية في جميع شباب أهل إنجلترا،
خلعوا هنا حُلل الحرير اللاهيات وأودعوها في الخزائن،
وتداولوا الحُلل المدرَّعة التي ازدهرت صناعتها لدى الحدَّاد.
وعدم إدراك هذا النص الباطن يؤدي في حالات كثيرة إلى إساءة فهم النص؛ فكلمة armour تعني الحُلة المدرعة لا السلاح (arms)، ويرجع خطأ المترجم في فهم معناها — إلى حد كبير — إلى عدم إدراكه المقابلة بين المعنى الباطن والمعنى الظاهر إذ يقول (في الترجمة المنشورة):
أصبح شباب إنجلترا اليوم نارًا تشتعل،
قد انصرف عن اللهو وأودع أثوابه الحريرية الخزائن،
الآن تروج بضاعة صانعي السلاح.
وقد نبَّهتني الدكتورة هبة عارف إلى أن النص الباطن ينتمي إلى مبحث التداولية (pragmatics) أحد مباحث علم اللغة.

ولكن شرح كل مصطلح وإيضاحه بأمثلة قد يتطلب كتابًا أكبر مما يسمح به مثل هذا العمل، ومن ثم اكتفيت بالأمثلة المحدودة التي أسوقها من الأدب العربي قديمِه وحديثه. وقد ذيَّلت هذا الفصل بمسرد لجميع المصطلحات التي وردت في جزئَيه، ولو كان الأمر بيدي لأرفقت به كشافًا يدل على رقم الصفحة التي ترد فيها كل كلمة أو مصطلح، ولكن طبيعة الدراسة نفسها أبت تحقيق ذلك؛ إذ لا أقصد إلا إلى عرض الصعوبات التي تكتنف تعريب المصطلح وترجمته، واقتراح بعض الحلول وإلقاء الضوء على الخيارات المتاحة للمترجم وللباحث.

والفصل الثاني يتكوَّن من جزئين أيضًا؛ الأول هو الخطاب الرئيسي الذي ألقيته في آخر عام ٢٠١٣م في المؤتمر الدولي الذي اشترك في تنظيمه قسما اللغة العربية واللغة الإنجليزية، بعنوان نحو عالمية اللغة العربية، وكان الخطاب مكتوبًا بالإنجليزية أصلًا، ثم اكتشفت أنه ينبغي أن يُكتب بالعربية، فأعدت كتابته بالعربية، ولكن تغيير اللغة أدى إلى «تعديل» ما يسمَّى اصطلاحًا ﺑ «الرسالة». وما أقصد أن أقوله فيه إننا نفترض في مناهجنا التربوية إلمام القارئ العربي باللغة العربية، فندرِّس له نصوصًا أدبية، قديمة وحديثة، لا يستطيع أن يرتقي من خلالها بلغته الفصحى، فهو أسير اللغة العامية وما اعتاده في حياته اليومية من التعابير الفضفاضة، وهو ما يترك آثاره السلبية على كتابته بالعربية بل وبالإنجليزية. وموجز حجتي أن نتجه في تعليم العربية إلى تدريب الطلاب على التعبير الدقيق عمَّا يريدون قوله، حتى يتخلَّصوا من أسوأ آثار العامية، ألَا وهو عدم الدقة في التعبير.
والجزء الثاني من هذا الفصل مقدمة كنت كتبتها لكتاب لويس عوض مفكرًا الذي كتبه الدكتور محسن عبد الخالق، وألمحت فيها إلى علاقتي القديمة بالدكتور لويس، كما طرحت فيها موجز نظرتي إلى منهجه النقدي وكيف تأثر برأي أرنولد عن الثقافة ودور الناقد في المجتمع، وكيف تأثر أيضًا بالناقد الإنجليزي ف. ر. ليفيز من زاوية إصدار الأحكام العامة على الأعمال الأدبية والأدباء، مؤكدًا أن هجوم لويس عوض على الشعر العربي الكلاسيكي لم يكن يتضمن حكمًا على روائع هذا الشعر، بل مجرد اعتراض على الشكل «العمودي»، ويمثِّل دعوةً إلى التجديد بدليل نشره قصيدة «عمودية» في مجلة أبولو عام ١٩٣٤م وهو بعدُ طالب في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، وكيف أدخل في هذه القصيدة تجديدات تكسر قالبها العمودي، مثل كتابتها في رباعيات ذوات قوافٍ متنوعة، ولكل رباعية قرار، ولكنني لم أتوسع في الحديث عن مذهبه الأدبي ومنهجه النقدي واتجاهه الفكري لأن كتاب الدكتور محسن يتناول كل هذه الأمور بصورة كافية ومُقْنعة.
وأمَّا الفصل الثالث فهو مقدمة أو تصدير كتبته لكتاب الدكتور شبل الكومي عن الحداثية وما بعد الحداثية، متخذًا كعادته في سلسلة كتبه القيمة مدخلًا فلسفيًّا للأدب والنقد. ويختلف هذا عن سائر هذه الكتب في أنه يمثِّل استكمالًا (لم يُعلِن المؤلف عنه) لمشروعه الذي بدأه في كتابه العاشر، وعنوانه الواقعية الجديدة، وهو ما يسميه مذهب الواقعية الروحية. والواقع أن هذا المذهب أي «الواقعية الروحية» هو العنوان الذي كان المؤلف قد وضعه للكتاب العاشر المشار إليه، ولكن ضغوطًا معينة أرغمتني على اقتراح تغيير العنوان في فترة معينة من تاريخ مصر (٢٠١٢-٢٠١٣م) ورغم ذلك فقد حرصت على عدم تغيير أي شيء مما يتضمنه الكتاب، ولو خُيرت اليوم لاخترت عنوان المؤلف الأصلي فهو أشد تصريحًا بمضمون الكتاب وأقرب إلى فكر صاحبه الذي تحوَّل من ناقد أدبي يهوى الفلسفة إلى مفكر فلسفي أصيل يمارس النقد الأدبي وهو ما يشهد عليه كتابه الجديد.
وأمَّا مشروع المفكر شبل الكومي فيستند إلى إعادة تعريف الميتافيزيقا، وهي المذهب الذي يمثل نبذُه أو رفضُه التيارَ الرئيسي لمفكري هذا العصر، وأنا أكرِّر عبارة التيار الرئيسي وأؤكدها؛ إذ لا نزال نشهد في هذا العصر من يجعل رفضه مشروطًا بشروط تجعله يقترب من القَبول المشروط أيضًا، وأقول ذلك بعد أن شُغِلْتُ في العامين المنصرمين (٢٠١٢ و٢٠١٣م) بقراءة مذاهب الفلاسفة والمفكرين المحدثين في الغرب، وتأكد لي ما توصلتُ إليه في هذا العام أثناء انشغالي بقضايا النقد الثقافي، وتَرجَمتُ في هذا الباب وذاك أكثر من كتاب، واطلعتُ على محاوراتٍ بالغة الأهمية، كان أهم ما فيها أنْ كَشَفتْ لي عن صِلَة هذا التيار الرئيسي بالمذاهب الأدبية والفنية التي تستلهم هذا التيار الفكري، وعلى رأسها، بطبيعة الحال، ما بعد الحداثة، ويكفي أن أشير إلى نتيجة واحدة للاستلهام المذكور، وهو إنكار وجود «النفس» — بأي معنًى من معاني الكلمة، باستثناء التعريف الذي يقصر دلالتها على الروح بمعنى الظاهرة البيولوجية — وقس على ذلك إنكار ما يتجاوز الحواس، وأعني به كل ما ينتمي إلى مفهومنا للنفس والروح وكل ما وراء الطبيعة، واستبدال «الذات» (subject) بها حتى في تحليل الخطاب.
هل معنى ذلك أن المفكر شبل الكومي يسبح ضد التيار؟ إنه، من زاوية معينة، يسبح فعلًا ضد تيار فكر الحداثة وما بعد الحداثة جميعًا، وإن كان من زاوية أخرى يقدِّم إلينا بديلًا مقنعًا يتمثَّل في الجمع بين ما يتناثر في مذاهب فلاسفة العصر الحديث، منذ هيجيل، من أقوال تشي بإحساسهم بوجود النفس أو الروح، لكنه لا يرتكن عليها، بل هو يجمع شتاتها بأسلوب المفكر الانتقائي الذي يكرر السؤال الرئيسي الذي اشتهر كانط بطرحه وهو كيف نعيش؟ إن مفكرنا العربي واسع الاطلاع، يتنقل بسرعة لاهثة بين الأفكار، يهديه نجم ساطع هو إيمانه بالروح، وهو ما يعني إيمانه بالله، وبأن الإنسان ليس مجموعة حواسَّ تحدِّد مسار فكره، أو بأن «النفس» موقع تلتقي فيه خبراته الدنيوية، ولا بأيٍّ من أمثال هذه الطرائق التي تتردَّد بإلحاح في كتابات مفكري عصرنا العجيب.
ومن هنا ينبثق تعريف شبل الكومي — الجديد القديم — للميتافيزيقا: إنها كل ما يتجاوز المادة، وهذا تعريف يؤيده اشتقاق اللفظة نفسها، وهو يعني التحرر من استعلاء المحدثين الذين يرون في الإيمان بأي شيء وراء المادة كسرًا لقواعد العلم الطبيعي الذي وصل إلى مرحلة النضج الحالية في القرن التاسع عشر متجاوزًا بذلك قول ديكارت مثلًا إننا نعرف الله والنفس حدْسًا لا بالعلم التجريبي، وهو تيار العلم الذي نشأ في القرن السابع عشر؛ فالعلم الطبيعي الذي توغَّل في حياة البشر وتوحَّش — وفق ما يقوله الفيلسوف وعالم الرياضيات هوكنج — لم يعد يقبل مناقشة وجود يفتقر إلى الدليل العقلاني (الرياضي عنده) على صحته. ولكن كما يقول س. أ. م. جود (Joad) كيف ينكر اليوم العلم الطبيعي وجود القيم؟ والقيم مجردات لا تنبع مباشرةً من المادة، بل تعتمد على تفسير الذهن، وهو ما يثبت بالمناسبة وجود الذهن، ووجود التفسير أو المنهج التفسيري الذي يمثِّل حجر زاوية في فكر مؤلفنا الأصيل.
وانطلاقًا من هذه الرؤية للميتافيزيقا، يجد المفكر شبل الكومي آثارًا لها في كل ما نتصوَّر أنها خلت منه، وهو في هذا الكتاب لا يبدأ بطرح الفكرة، ولكن بأحاديث ذوات بساطة خادعة عن النقد الأدبي ومدارسه، من دون أن يَنْقَضَّ كما يَنْقَضُّ جون إليس (Ellis) على دريدا في كتابه تهافت التفكيكية (١٩٩٣م) ولا انقضاض رورتي (Rorty) عام ١٩٧٩م على أعداء البراجماطية، ولا يهاجم في الواقع مفكرًا بعينه، لكنه كما قلت يقدِّم المقدمات المقْنِعَة قبل أن يبني في حديثه المسهب الجميل إلى الدكتور مجدي العفيفي في مجلة أخبار الأدب حجةً متماسكة يمكن رصد جذور بعض جوانبها في فكر المحدثين، وبعضها الآخر في الفلسفة الأولى، ونحن نعرفها باسم First Philosophy وهو يسميها Philosophy Prima وأعني بها ما يسمِّيه دارسو الفلسفة اليوم فلسفة التأسيس، أو التأسيسية (Foundational Philosophy)، والمقصود التراث اليوناني برمته … صدِّق أو لا تصدِّق! فالفيلسوف الأمريكي رورتي يتفاخر بأنه مناهض للفلسفة التأسيسية ولا يقبل أقوال أرسطو «المدرسية» ولا «تهويمات» أفلاطون «الخيالية»، قاصدًا بطبيعة الحال نفي افتراض وجود أي شيء وراء هذا العالم المحسوس.

ولكن شبل الكومي لا يرد على نيتشه ولا غيره، مكتفيًا بإشارات ساخرة متناثرة خفيضة النبرة إليه، ولا يهاجم رورتي الهجوم الذي لقيه من تشارلز تيلور ثم من توماس ماكارثي، بل ولا يذكر بعض أعلام التيار الرئيسي «لمناهضة التأسيس» عند جون ديوي، وهايديجر وفتجنشتاين، بل إنه لا يقتطف من هايديجر إلا ما يؤيد فكرته الرئيسية، وبذلك لا يجعل من كتابه سجلًّا لمعارك فلسفية، بل عرضًا جميلًا من جانب ذهن جميل، مُشرق الروح، متفائل النظرة إلى الإنسان الذي أحالته الفلسفة الحديثة مسخًا لا يَفضُل الحيوان في الكثير. على أننا لا نصل إلى هذه النظرة العميقة والمركَّبة إلا بعد تجاوز نصف الكتاب والاستمتاع بآراء شبل الكومي في الأدب والفلسفة في حديثه الصحفي المشار إليه.

ولا يسعني في ختام هذا التصدير إلا أن أتوجه بالشكر والعرفان إلى كل من آزرني في جهودي المتواضعة لدراسة أشكال التلاقي بين اللغتين، وعلى رأسهم الأستاذة الدكتور لبنى يوسف، رئيسة قسم اللغة الإنجليزية، والمثقفة المهمومة بالأنشطة الأكاديمية في الأدب واللغة، فإليها يرجع الفضل بعد المولى سبحانه وتعالى في أن ألقيت ما ألقيته من دراسات في المؤتمرين الدوليين المشار إليهما، ولا يفوتني أن أعرب عن امتناني العميق للدكتورة هبة عارف، الأستاذة المساعدة في قسم اللغة الإنجليزية، لِمَا قدَّمته لي من معونة ثمينة بقراءة نصوص ما أكتب والتعليق عليها تعليقات أخذت بها، كما أشكر الدكتورة سمر طُلبة، المدرس في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة بني سويف على جهودها في تصحيح نصوصي وإبداء ما ترى من آراء مفيدة فيها.

وبعدُ فقد كتبت ما كتبته راجيًا التوفيق، والله سبحانه وتعالى هو الموفق.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠١٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤