الفصل الثاني

في اللغة والنقد الأدبي

(١) نحو عالمية اللغة العربية١

أُرحِّب بكم كل الترحيب في مناسبة أراها فريدةً من جانبٍ تعرفونه، ومن جانب آخر لا أظن أن الكثير يعرفونه، على أهميته لي؛ إذ كان يمكن أن تكون هذه المناسبةُ أولَ مرة ألقى فيها خطابًا رئيسيًّا في مؤتمر علمي يُعقد في دارِنا، كلية الآداب، جامعة القاهرة، على كثرة ما عُقِد فيها من المؤتمرات العلمية. فعندما كُلِّفتُ بكتابة هذا الخطاب، توقَّعت أن أكون المتحدث باسم قسم اللغة الإنجليزية، فكتبت خطابي باللغة التي تخصَّصتُ فيها، لكنني فوجئت عشية انعقاد المؤتمر بأن اللغة الرسمية الوحيدة هي اللغة العربية. وكان هذا يعني أحد أمرين: إما أن أُترجم خطابي أو أن أكتب خطابًا بديلًا. ونظرتُ فيما كتبت فوجدت أنه لا يصلح للترجمة؛ فالذهن الذي تصدر منه الأفكار يشبه «الجهاز» الدقيق الذي يضبطه صاحبه بصورة معينة بحيث تخرج منه الألفاظ التي تمثِّل هذه الأفكار بلغة ذات خصوصية تحول دون تحويلها إلى لغة أخرى إلا إذا تغيَّر ضبط ذلك «الجهاز»؛ ولذلك كثيرًا ما يُحجم العديد من المؤلفين عن ترجمة كتاباتهم بأنفسهم؛ لأن تغيير ضبط «الجهاز» عادةً ما يؤدي إلى تغيير أشياء كثيرة في العمل، ومن بينها ما نسميه في علم اللغة النطاق الدلالي (register)؛ أي نطاق الدلالات التي يوحي بها الكاتب ويتوقَّعها القارئ أو السامع في إطار ثقافة معينة (وفقًا لتعريف هاليداي). فمهما يحاول المترجم أن يحافظ على ما في النص الأصلي من معانٍ (أي في النص المصدر)، فلا بد أن يختلف النطاق الدلالي لدى القارئ أو السامع بسبب اختلاف الثقافة، والتعادل الكامل وهمٌ من أوهام المبتدئين (ولا أقول العامة) مثل افتراض الترادف الكامل في اللغة الواحدة.

ولذلك فسوف أحاول في هذا الخطاب البديل بسط أفكاري الأساسية التي عرضتُها في ذلك الخطاب، مانحًا قلمي حرية الانطلاق بالعربية أنى يشاء، دون أن أتقيد بما قلته في خطابي الأصلي، وإن كنت سوف أحاول قدر الطاقة إيضاح ما قد لا يتضح إلا بأمثلة أظنكم تعرفونها خير المعرفة.

أقول أولًا إن قضية عالمية اللغة العربية قضية محسومة، فلقد أصبحت من لغات العالم الرسمية الست منذ عام ١٩٧٣م؛ أي منذ أن اعترفت الأمم المتحدة بها لغةً رسمية من لغاتها وهي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والصينية. ومعنى هذا أن وفود الدول في هذه المنظمة العالمية أصبح من حقها استخدام أية لغة من هذه اللغات وتقديم الوثائق بها، واعتبار هذه الوثائق مستندات أصليةً يمكن أن تُترجم إلى اللغات الرسمية الأخرى. فإذا حدث خلاف بين الترجمة والأصل؛ أي إذا فسر قارئ بلغة غير العربية ما تقوله الوثيقة العربية بطريقة تدل إما على عدم دقة المترجم أو عدم دقة المفسر، كان للهيئة الدولية أن تستدعي أحد الخبراء في اللغة العربية للبت في المعنى المقصود، وقد يكون كاتب الوثيقة نفسه. ومعنى هذا أن اللغة العربية أصبحت مطالبةً بتوخِّي الدقة المتناهية في التعبير بحيث تتفق مصطلحاتها مع المصطلحات العالمية في الدلالة الأساسية أو المقصودة على الأقل، وأن يتفق من يكتبون العربية على عدة مصطلحات (تُعَد اليوم بالمئات) تشترك في المعنى بين اللغات الست، بحيث لا يؤدي استخدام مصطلح عربي إلى إثارة معانٍ غير مطلوبة في أذهان قارئ الترجمة؛ أي أن يلتزم المترجمون بظواهر الألفاظ بعد أن تحدد معناها في سياق المنظمة الدولية.

ولقد عاصرت ما مرت به العربية في هذا المجال منذ السبعينيات، مثل تغيير ترجمة كلمة conscience الواردة في ميثاق الأمم المتحدة في سياق حرية الفكر والكلام والضمير؛ إذ كان أساتذتنا من أوائل المترجمين العرب قد ترجموها ﺑ «الوِجدان»، فتغيَّرت إلى «الضمير»، وعاصرتُ النقاش والجدل الطويل الذي صاحب هذا التغيير؛ لأن بعض هؤلاء الأساتذة كانوا في قيد الحياة وساءهم تغيير ما كتبوه، واحتجوا بأن كلمة الوجدان، بمعناها الجديد في لغة علم النفس الناشئة، أقدر على نقل معنى الضمير، وخصوصًا في الحديث عن حرية الوجدان، ولكننا رجعنا إلى لسان العرب، وأثبتنا المعاني الأخرى للوجدان؛ فأولها الوجود، وثانيها الغنى، وثالثها الحب، ورابعها الغضب، وهذه لا يذكرها الوسيط الذي كنا نتصور أنه سوف يغنينا عن اللسان، ومن ثم لم يكترث المسئولون في القسم العربي باحتجاج من احتج بما كتبه علي الجارم في مطلع القرن العشرين عن علم النفس بالعربية.
كما عاصرت نموذجًا آخر يدل على الدرب الذي كُتِب على العربية أن تسلكه بعد أن أصبحت لغةً عالمية، وهو ترجمة كلمة difficult؛ فالدبلوماسيون يستخدمون هذه الصفة التي اقترنت في أذهاننا بكلمة «صعب» للإشارة إلى الرفض، فإذا طُلب من أحدهم شيءٌ وأراد الاعتذار عن عدم تلبيته قال «هذا صعب». وهذا مذهب معروف في الرد الدبلوماسي، ولكنني عندما أردت أن أستبدل بها كلمة «متعذر» أو «يتعذر» فوجئت بزوبعة في القسم العربي؛ إذ استقر الأمر على الترجمة المألوفة للكلمة الإنجليزية؛ لأن العبرة كما شرح لي أحد الزملاء ليست بالمعنى المقصود بل باللفظ نفسه؛ لأن قارئ اللفظ سوف يحيله إلى «الأصل» الإنجليزي، وهكذا يفعل المترجمون إلى لغات الأمم المتحدة الأخرى. وكلما أنعمت النظر في وثائق الأمم المتحدة وقارنتها بالأصول ازددت يقينًا بأننا نواجه لغةً ذات معانٍ محددة تحاكي اللغات الأوربية في الضغط لفظًا ومعنًى، وأذكر أن الأمم المتحدة عندما عقدت في القاهرة مؤتمرها عن السكان في أوائل التسعينيات وقرأ المصريون عبارة «الصحة الإنجابية» ترجمةً لعبارة reproductive health لم يستسيغوها، وربما كانوا يفضِّلون ما هو أوضح وأقرب التعبير العربي الأصيل؛ أي «صحة المرأة في الحمل والولادة».
ولكن ما فقدته العربية مما يشار إليه باسم الحلاوة والطلاوة بسبب الترجمات التي قيل دفاعًا عنها إنها مثل لغة القانون التي تتسم بالصلابة وانعدام (أو شبه انعدام) ظلال المعاني، يسيرٌ إذا قورن بما اكتسبته من الدقة ونِشدان الوضوح. ولَكَم حاولت إقناع زملائي في المنظمة الدولية، حيث عملت فترات طويلة، بأننا نستطيع أن نكتب عربيةً دقيقة واضحة من دون التضحية بالحلاوة والطلاوة، ولكن مذهب الالتزام بالألفاظ ظل المذهب الأقوى عالميًّا لأن مترجمي الأمم المتحدة لا يخاطبون الجمهور، بل «يخاطبون» النص الأصلي، إن صح هذا التعبير؛ أي إنهم يوجِّهون ترجماتهم لا إلى أذهان القراء بل إلى ألفاظ النص الأصلي الذي يتصوَّرون أن قُراءهم من السياسيين والدبلوماسيين يريدون ما يُحيل إليه لا ما يقف على قدميه باعتباره نصًّا عربيًّا مستقلًّا، وأذكر ذات يوم أن رأيت ترجمةً لعبارة تقول on land and at sea والنص العربي يقول: «على الأرض وفي البحر»، وعندما سألت المترجم لمَ لمْ تقل «في البر والبحر»، قال إنه يريد الالتزام بالنص الأجنبي. وعندما مرَّت بنا عبارة تستخدم حرفين بينهما شرطة (slash) وهي and/or ورأيت المترجم يكتبها كما هي، قلت له إن السنهوري وجد لها حلًّا، فإذا كانت العبارة تقول بالإنجليزية incarceration and/or a fine لك أن تقول «بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين» بدلًا من «بالحبس و/أو الغرامة»، ولكن رده كان أن الالتزام بالنص في الأمم المتحدة يقضي بمحاكاة الصياغة الإنجليزية.
يُفهم من حديثي حتى الآن أننا نتكلم عن اللغة العربية المعيارية أو الموحدة الحديثة، وهي التي نسميها Modern Standard Arabic ونشير إليها باختصار باسم الفصحى المعاصرة، وهي التي عادةً ما نعنيها عندما نتكلم عن اللغة العربية ومستقبلها؛ فنحن قطعًا لا نعني اللغة التراثية، ولا نعني العامية بمستوياتها الثلاثة التي حدَّدها السعيد بدوي، ولكننا قد نجد من يرفع لواء العامية قائلًا إنها وحدها العربية الحية، مضيفًا أن اسمها العلمي هو العربية المصرية، وعلى غرار ذلك فلدينا عربية سورية وعراقية وليبية وسودانية ناهيك بالعربيات المغربية. لا شك أن لدينا لغةً عامية نستخدمها في التخاطب وفي الحياة اليومية بل وفي التدريس إلا في قسم اللغة العربية، ولكن هذه لا تزيد في نظري عن لهجة محلية (vernacular)، وإن كانت تمتاز بثراء في التعبير نابع من مصطلح الحرفة مثل العامية الأخرى بالإنجليزية (slang) واستلهام التراث الشعبي الحافل، والأمثال التي صاغتها الخبرة اليومية على مر القرون، وآثارها قائمة في أعمال أدبية عالمية مثل ألف ليلة وليلة، ومثل بدائع الزهور في وقائع الدهور، لابن إياس، كما نجد بذورها مبثوثةً في غيره من الكتب التي وصلت إلينا من القرن السادس عشر، مثل كتاب وقعة السلطان الغوري مع السلطان سليم الذي كتبه الشيخ أحمد بن زنبل الشهير بالرَّمَّال، وظل مخطوطًا حتى نُشر عام ١٩٦١م بعنوان آخرة المماليك، بل إننا نجد آثار العامية المصرية في الجبرتي نفسه، ولن أطيل في وصف مزايا هذه اللغة وخصائصها فقد قتلها الدارسون بحثًا في إطار علم اللغة في أقسام اللغة الإنجليزية في الجامعات المصرية، كما كتبتُ بها عددًا من مسرحياتي، بسبب طاقاتها التعبيرية الهائلة التي يستعصي نقلها بالفصحى كما قلت وأقول دائمًا.
ولكن هذه العامية تعتمد على الفصحى اعتمادًا كاملًا في المجردات، والمجردات محور الفكر والعلم حديثًا وقديمًا، حتى إنك إن حاولت أن تكتب حديثًا علميًّا بالعامية وجدت أنك مضطر إلى استخدام الفصحى ولو في سياق العامية، والمحك في نظري هو الكتابة العلمية التي تشبه من زاوية معينة ترجمة الأعمال غير الأدبية من اللغات الأوروبية، بل والأعمال الأدبية أحيانًا، ومن يكتبون عبارات عامية في الصحف في سياق الفصحى يقصدون إلى إحداث تأثير قد لا يستطيعون إحداثه بالفصحى، لا لعجز الفصحى أو لعجز لغتهم الفصحى، ولكن لأنهم يريدون استجابةً معينة من القارئ لا تتحقق إلا بالعامية. كيف تقول مثلًا «إن الرأسمالية المتوحشة رأسمالية طفيلية، وهي تجارية لا صناعية، واستهلاكية لا إنتاجية» بالعامية؟ ربما كان عليك أن تستخدم الكلمات نفسها بعد تسكين أواخرها واستبدال «موش» بأداة النفي «لا». إننا حين نفعل ذلك نستخدم فصحى مقنَّعة، لا عاميةً حقيقية، وربما إذا نشدت الصورة العامية للفكرة استطعت التعبير عنها بأمثلة مادية واقعية كثيرة وكلام كثير قبل أن تصل إلى غايتك. ولكن للعامية الأصيلة طرائق تعبير بالغة التأثير ويستعصي، كما قلت، نقلها إلى الفصحى. خذ مثلًا هذه العبارات من مسرحية حديثة: «نعم؟ حتعملهم عليَّ؟ ناوي تلعب لي في الأزرق؟ أنا أخلِّي وشك شوارع!» وأما الخلط الذي نقع فيه أحيانًا فهو أن نتصور أن الفصحى واللغة العامية المستمدة منها لغة واحدة، فجميع الكلمات في المثال الأخير «عربية» أو قل إنها عربية معدلة، ولكن تراكيبها مختلفة ومعانيها قطعًا مختلفة. حَلِّل كلمة «حتعملهم» تَجِد أنها تتكون من «الحاء» (التي تحوَّلت إليها أداة المستقبل رايح راح ح) و«تعمل» كلمة عربية اختلف نطقها، والضمير المتصل «هم» يقابل ضمير الحال بالإنجليزية it ولا يشير إلى شيء معين، إلا إذا أردت أن تجعله يشير إلى «الحيل والخُدع». ومن العبث أن نحاول «إصلاح» العامية وصولًا إلى الفصحى (انظر كتاب تحريفات العامية للفصحى)، أو أن نحاول أن نجعل الناس تتكلم بفصحى مبسطة أو بلغة ثالثة كما يقول توفيق الحكيم؛ فالواقع يقول إن الفصحى هي العربية التي نستخدمها في العلم وفي الكتابة العلمية، وفي بعض أنواع الأدب، وإن العامية هي العربية التي نستخدمها في الحديث اليومي وفي أنواع أخرى من الأدب، خصوصًا في المسرح والشعر، والأقرب إلى الواقعية إذن أن نتعلم الفصحى منذ نعومة أظفارنا حتى تصبح لغةً سليمة قادرة على نقل أفكارنا المجردة مهما يبلغ تعقيدها عندما نصل إلى مرحلة النضج العلمي، حتى ونحن نتحدث بالعامية.
كنت قد أشرتُ إلى الفصحى المعاصرة بأنها العربية المعيارية أو الموحدة الحديثة. أما الصفة الأولى؛ أي المعيارية، فهي مثار خلاف كبير: هل يكون المعيار الصحة النحوية والصرفية فقط أم إن هناك معايير أخرى قد نعرفها أو لا نعرفها؟ إن كان الأمر يقتصر على النحو والصرف ما نشأت لدينا مشاكل؛ فالعربية لغة منطقية، وما أيسر أن نتعلم نحوها صغارًا. وأما الصرف، فنحن «نتصرف» فيه ونَسُك صِيغًا صرفية لم تكن معهودةً عند القدماء، وإن كانت في الواقع قياسية، مثل «الخصخصة» وغيرها، وعندما اعترض أحد المدافعين عن العربية على كلمة «التنمية المستدامة» (sustainable development) قائلًا إن العرب تقول مستديم لا مستدام، رددت عليه قائلًا: ولكن الكلمة قياسية ومعناها يختلف؛ إذ تتضمن «طلب الدوام»، ولدينا النموذج في قوله تعالى وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. ولكن هذا النصر المتواضع لم يتكرر عندما وجدت أهل الغرب العربي الإفريقي يقولون «الخوصصة»، ظنًّا منهم بأن الصفة «خاص» تضم حرفًا أصليًّا، لا مزيدًا، هو الألف. وعبثًا حاولت إقناعهم بالخصخصة. كانت الحادثة الأولى في جنيف، والثانية في باريس (اليونسكو)، ولكنَّ من يسميهم إبراهيم السامرائي رحمه الله «أهل التصحيح» غزَوا ديارنا! وآخر بِدعهم أن كلمة «رئيسي» خطأ لأنها لم ترد في المعاجم أي عند القدماء، وقد كافح أحمد مختار عمر لإثبات صحتها، قياسيًّا، وذكر العلامة مصطفى جواد أنها موجودة في صبح الأعشى للقلقشندي، وهو مطبوع لدينا وله فهارس جميلة، وعلى أية حال فأنا أدهش ممن يختزلون الصحة اللغوية في كلمة، والكثير مما يقولونه لم يأتِ به القدماء ولا هو في المعاجم، وقد يسأل سائل وهل وصل إلينا كل ما قاله القدماء؟ وأُضيف من عندي أن لنا أن ننسب إلى أي شيء ما دام النعت بالنسبة مسموحًا به:
وَانْعَتْ بِمُشْتَقٍّ كَصَعْبٍ وَذَرِبْ
أَوْ شِبْهَهَا وَذَا وَذِي وَالْمُنْتَسِبْ

إنك تسمع اليوم أن كل بند من بنود الدستور بند «رئيس»، فالرئاسة يوزعها هؤلاء على الجميع، حتى بعد أن أجاز مجمع اللغة العربية في القاهرة هذه النسبة.

ولكن الأمر لا يقتصر كما قلت على النحو والصرف، بل هو يتعلق بمعيار أهم، وهو ما أشرت إليه باسم التوحيد. إننا في الأقطار العربية نستخدم الفصحى المعاصرة في الصحف والكتب وكنا نستخدمها في الإذاعة والتليفزيون عندما كان لدينا مذيعون متعلمون حقًّا. ولكنْ تُرانا حقًّا نستخدم الفصحى باعتبارها لغةً واحدة أم باعتبارها لغةً مشتركة نلجأ إليها للتفاهم إذا اختلفت أقطارنا العربية؟ إنها كثيرًا ما تكون أقرب إلى الصفة الأخيرة كأنها ما يسمى lingua franca؛ أي لغة أجنبية مشتركة، وتلك مشهورة في بلدان تتعدَّد لغاتها المحلية مثل شبه القارة الهندية، حيث تمثل الإنجليزية هذه اللغة المشتركة التي تلجأ إليها مجتمعات كثيرة تتكلم لغات كثيرة، يحصرها بعض الدارسين في ست لغات رئيسية تمثل مئات اللهجات المحلية التي قد تتصل بها وقد لا تتصل، وما دامت لهجاتنا المحلية في الوطن العربي بالغة التعدد فإننا نلجأ إلى الفصحى راجين أن تكون لغةً واحدة؛ ففي المغرب يسمون البامية «ملوخية»، وفي تونس يسمون الغرفة بيتًا، والشقة دارًا، والزراعة فِلاحة، ولديهم وزراء و«كتاب الدولة»، ويسمون التدريب «تكوينًا» والمتدربون هم المتربصون لديهم.
والاطلاع على الصحف في دول شمال أفريقيا العربية يبيِّن لنا أن التوحيد غير كامل، وقد يكون عارضًا مثل الاختلافات بين الإنجليزية البريطانية والأمريكية، وقد يكون أساسيًّا بسبب استناد البعض إلى مصادر عربية مجهولة لدينا في «التعريب»؛ أي في مرحلة الانتقال من الفرنسية التي فرضها المستعمر إلى العربية، وقد كُتب عليَّ أن أتذوق بعضًا من هذه الفصحى في كتاب مترجم عن الفرنسية، وكان عندي لحسن الحظ ترجمة إنجليزية له فاستعنت بها في مراجعة الترجمة، وكم اجتهدت لإعادة صياغة العبارات في كل صفحة تقريبًا حتى أجعلها مفهومةً لنا نحن قراء العربية في مصر. وكان عندي طالب جزائري أشرف على رسالته للدكتوراه في الترجمة، وكنت أشعر في مناقشاتنا أنه يستقي مصطلح اللغة العربية من عصر بني أمية، واكتشفت مدى غرامه بكتاب نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، وهو عندي، كأنما كان قرب بلاده من الأندلس القديمة من وراء هذا الولوع.

لا، ليست الفصحى المعاصرة لغةً تامة التوحيد؛ إذ نستطيع أن نميِّز على الأقل الفصحى الشرقية عن الفصحى الغربية، والتحليل يبيِّن أن مصادرها تتفاوت بين المناطق الجغرافية، فبعضها مترجم عن اللغات الأوروبية الحديثة ترجمات لا تتفق مع مصطلحنا اللغوي، وبعضها مصادر مُغرقة في التراث القديم، وهذه المصادر تتأثر في جميع الأحوال باللهجات المحلية، وقد نحتاج إلى أن نترجم بعضها إلى لغتنا الفصحى المعاصرة أيضًا! فعندما وصف ناقد مغربي أسلوب نجيب محفوظ بالسذاجة لم أجد صعوبةً في إدراك مقصده وهو البساطة؛ أي الخلو من التعقيد، كما كان بعض القدماء يصفون أسلوب أبي الفرج الأصفهاني بالسذاجة. وعندما قال أحدهم إنه يؤيد حل أزمة الشرق الأوسط بالحسنى، أدركت أنه يعني التسوية السلمية، وعندما قال إن إسرائيل تكبدت خسائر «معتبرة»، أدركت أنه يعني خسائر كبيرة … وهلم جرًّا، وأما عن المصطلحات العلمية في فروع المباحث المتخصصة فحدِّث ولا حرج كما يقولون؛ فالدول العربية تبذل جهودًا كبيرة لتوحيد مصطلحات العلوم أو للتقريب ما بينها، أساسًا من طريق الأمم المتحدة، فنجحت في بعض المجالات ولم تنجح حتى الآن في مجالات أخرى، واقترح بعض العلماء تكليف الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية بالنهوض بجهد ما في هذا الصدد، ولكن ذلك يظل أملًا، فأما معجم المصطلحات الطبية الموحد الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية، التابعة للأمم المتحدة، فنحن نسميه المعجم العشري لأنه اكتمل في عشر سنوات، وأُنفق عليه ما يقرب من عشرة ملايين دولار.

وإذا نظرنا في المجالات التي نجحت فيها الأمم المتحدة فيما يتعلق بتعريب مصطلحات بعض العلوم، وجدنا أن أهم مجالين هما العلوم الزراعية والعلوم القانونية، وكان ذلك أحد عاملين مهَّدا الطريق للاعتراف بعالمية اللغة العربية، وأما العامل الثاني فهو نصر أكتوبر العظيم الذي جعل العالم يتحدث عن العرب باعتبارهم القوة السادسة في العالم، خصوصًا بعد ارتفاع أسعار البترول الذي يُعتبر شريان الحياة الصناعية في العالم الحديث، وكان لمصر في العاملين معًا فضل الريادة؛ إذ كنا على امتداد القرن العشرين قد وضعنا المصطلحات القانونية، وكان عبدالحميد بدوي من قضاة محكمة العدل الدولية في لاهاي، بهولندا، وكان أساتذة العلوم الزراعية في جامعتَي القاهرة والإسكندرية قد وضعوا أُسس المصطلحات في جميع التخصصات التي يدرسها طلاب كليات الزراعة بالعربية. وإذا ذكرت رفاعة الطهطاوي فلا بد أن أذكر علي مبارك الذي أشاع تعليم العلوم الرياضية والهندسية في مدارسنا منذ القرن التاسع عشر، وإلى جانبه كان أحمد فارس الشدياق الذي أنشأ صحيفة الجوائب التي عرَّبت الكثير من مصطلحات الحياة الحديثة في العالم، ولولاه ما عرفنا مصطلح المستشفى، ولا الجامعة ولا الاشتراكية. وقد تناولتُ جهود الشدياق وحيرته في تقريب مفهوم الاشتراكية في هذه الصحيفة في إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في دراسة مستقلة بالإنجليزية، ويهمني الآن أن أبيِّن أن عالمية اللغة العربية مرتبطة بأمرين أناقشهما فيما يلي. أما الأول فهو اعتبار اللغة المكتوبة والمنطوقة قوةً من قوى الفكر، لا مجرد تعبير عنه؛ أي إن اللغة تؤثر في الفكر مثلما تجسِّده وتتأثر به، والمفكر الأصيل يكتب كتابةً تتسم بصلابة التعبير كما كان أستاذي شكري عياد يقول، فالصلابة تعني الدقة والوضوح معًا. والثاني هو الفصل الحاسم بين لغة العلم ولغة الأدب، وكنت في مرحلة من مراحل دراستي قد كفرت بهذا الفصل وسخرت ممن يؤمنون به، حتى شُغِلتُ بالدراسات اللغوية، وبالنظرية الأدبية الحديثة فتبيَّن لي صدق هذه المقولة.
أبدأ بالقسم الأول وهو اعتبار اللغة قوةً من قوى الفكر، فأقول إن اللغة والفكر لا ينفصلان، وهذا أمر لا يحتاج إلى أدلة من أمثال فرضية سابير وهورف (Sapir-Whorf hypothesis)؛ فدارسو علم اللغة المعرفي يُجمعون على أن العلاقة وثيقة بين قدرة الإنسان اللغوية وبين قدرته على التفكير، وعدم الإلمام باللغة (أية لغة) إلمامًا كافيًا يؤدِّي إلى نقاط ضعف أو فجوات في تفكيره، ولأضرب مثلًا من استخدام صيغة المصدر الصناعي التي عرفتها العربية التراثية وإن لم تتوسع في استخدامها؛ فهذه الصيغة صيغة تجريدية تدل على قدرة الذهن على تجريد الصفة من موصوفها، مثل كلمة الحرية، ونحن نلجأ إليها في العربية الحديثة المعيارية للتعبير عن المجردات، ونُوَلِّد كل يوم مصادر صناعيةً جديدة، قياسًا على ما وَلَّده آباؤنا وأساتذتنا، وبعضها لا يختلف عن الاسم الذي اشتُق منه في المعنى ولكنه يفيد في الاستعمال، فكلمة «كمية» لا تعني أكثر من «كم»، ولكنها تتيح جمعها على «كميات» بمعنى مقادير، وأما «كيفية» فهي مجردة من «كيف»، ونجمعها أيضًا دون حرج، وسوف تتضح أهمية المصدر الصناعي إذا ضربت مثالًا بالتعبير الذي ذكرته من قبل، وهو «الصحة الإنجابية» وقلت في شرحه إن المقصود به صحة الأم في الحمل والولادة، نعم! هذا هو المقصود، ولكن الصيغة تحمل دلالات أخرى إذ تشير إلى كل ما يتعلق بالإنجاب، فقد تعني: صحة الإنجاب [أي تفادي أي خطأ في الإنجاب]، وقد تعني صحة الوالد والوالدة اللذين يشتركان في الإنجاب، وقد تعني اعتبار الإنجاب نفسه صحيحًا أو غير صحيح!

صحيح أن هذه المعاني لا تتوارد إلى الذهن ما دام السياق يقصر المعنى على صحة الأم في الحمل والولادة، ولكن المصدر الصناعي يمثِّل اتجاهًا في التفكير لا يقدر عليه غير المثقف، وكلما تعمَّق المرء في الدرس زادت حاجته إلى التجريد ومن ثم إلى استخدام المصادر الصناعية التي تزخر بها الكتابات الحديثة باللغات الأوروبية. فغير المتعلم يصعب عليه أن يفهم «ذَم التواكلية»؛ فهذا المصدر الصناعي مشتق من «التواكل» وهو مفهوم لا يرد إلى أذهان الأميين، وإذا سمعه أحدهم فربما لم يستطع التمييز بينه وبين «التوكل»، فما بالك بالمصدر الصناعي؟ إن التعبير عن الأفكار الجديدة يُرغم المفكر على استعمال صيغ جديدة تعتمد على التجريد، وقد شق أساتذتنا لنا الطريق في القرن العشرين فوضعوا لنا مصطلحات كثيرةً تصلح للقياس عليها في بناء مصطلحاتنا التي نُضطر اضطرارًا إلى سَكِّها أو توليدها، ومن ثم فلا بد أن نُشجع النشء على التفكير المجرد منذ البداية، وهو ما يسمَّى التفكير النظري الذي يوصي فريدريك جيمسون بتدريسه في المراحل الأولى للتعليم. والعربية قادرة على ذلك، بدليل قدرة كبار مفكرينا على نقل أعوص الأفكار بعربية دقيقة وجميلة، وإذا كان لي أن أضرب أمثلةً من أصحاب «اللغة التلغرافية» بتعبير سلامة موسى ذكرت لويس عوض ومحمد مندور من بين أساتذتنا، وأما من أبناء جيلي فأذكر المفكر العزوف عن الشهرة وصاحب الروابط بين الأدب والفلسفة وهو شبل الكومي، ومعه مراد وهبة، وعبد الفتاح إمام، وكل من يتصدَّى للكتابة في هذه الموضوعات العميقة.

فالواقع أن اللغة التي يكتبها هؤلاء وأضرابهم لغة صنعها الفكر أو هي فكر متحقِّق في ألفاظ، فعندما يقول فوكوه مثلًا إن الترجمة تمثل المنفى الذي ينتقل إليه النص عند خروجه من لغته الأصلية، فإنه لا يقدم إلينا صورة بلاغية بمعنى أنها جمالية وحسب تقصد إمتاع ذائقة القارئ، بل يقدم إلينا فكرةً عميقة تقول إن ترجمة نص ما، ولنقل إنه نص هاملت لشيكسبير، إلى الفرنسية مثلًا، تحرِّره من ارتباطه بوطنه وهو لغة شيكسبير، وتجعله يعيش في المنفى اللغوي والفكري الجديد، متخذًا صورًا متعددة وفق كل ترجمة فرنسية تصدر له، وهكذا فالمنفى لديه تحرير، ولكنه تحرير مقيد لأنه يرتبط أيضًا برؤية المترجمين الذين نقلوا النص من وطنه. وكلمة المنفى إذن تعبير صلب عن رؤيته الخاصة، وقس على هذا معظم المصطلحات النقدية الفلسفية التي أُصادفها كل يوم، واللغة العربية قادرة على استيعاب هذه المصطلحات ونقلها إلى العربية سواء كان ذلك ﺑ «اللغة التلغرافية» أم من خلال البسط والشرح والإيضاح كما يفعل زكي نجيب محمود.

والبسط والشرح والإيضاح من خصائص العربية «الكلاسيكية»، وأنا أعني بها الفصحى المعاصرة التي تحاكي العربية التراثية في بطء إيقاعاتها وإصرارها على الوصول إلى القارئ ذهنًا ونفسًا، وهو ما ينقُلني إلى الأمر الثاني وهو التمييز بين لغة العلم ولغة الأدب. لقد نشأتُ في بيئة تراثية، وقَرَّ في نفسي أن العربية الحقة لغة متئدة الخُطى، تتميز بدقة التعبير وجماله، وإن كان الجمال يسبق الدقة، وكنتُ كلما حاولت أن أكتب القصة وجدت أنني لم أمتلك بعد ناصية تلك اللغة الكلاسيكية، فكان أن كثر اصطدامي بها، ومحاولتي أن أُمسك بزمامها، وهي محاولة لم تنجح قط.

وأذكر حادثةً تمثِّل أول صدام حقيقي لي مع اللغة الأدبية؛ أي اللغة الشعرية التي استوعبناها صغارًا فتحكَّمت في تفكيرنا كبارًا بل وفي كِياننا نفسه. وكان أساتذة العربية يمثلون لي القمم التي عليَّ أن أطمح إلى تسلُّقها، وكانوا يشجعونني على الكتابة المنمَّقة الأنيقة. وأما الصدام المذكور فكان في العام الدراسي ١٩٥٠-١٩٥١م، وكنت في السنة الأولى من الدراسة الثانوية القديمة ذات السنوات الخمس. وكان معلم العربية، عباس القاضي، درعميًّا نابهًا، وكنتُ أحاول أن أكون عند حُسن ظنه فأستشهد بالشعر، وكنتُ أحفظ الكثير منه، كما كان يوصينا، وأُكثر من التشبيهات التي لا أعرف مصدرها، وكنت أسأله فيجيب، ولا أذكر أن صدره ضاق يومًا بأسئلتي، حتى كان درس البلاغة، وكنا ندرس أبياتًا للشبلي (ولا أعرف إلى الآن من هذا الشبلي الذي أورد علي الجارم أبياته في كتاب البلاغة الواضحة، واتهمه زكي مبارك بعدها بأنه نسبها إلى نفسه أو أوحى بذلك، ثم رد محمد الغزالي حرب مُدافعًا عن الجارم) وهي التي تبدأ بالبيت التالي:
رُبَّ وَرْقَاءَ هَتوفٍ في الضُّحَى
ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ فِي فَنَنِ

فرفعتُ يدي لأعترض على استخدام حرف الجر «في» بدلًا من «على» في الشطر الثاني، وابتسم عباس القاضي ضاحكًا من جهلي وقال كلامًا كثيرًا أذكر منه أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وأن الفراء مثله الأعلى، ولكنني أصررت على انتقادي للبيت محتجًّا هذه المرة على الوقت الذي اختاره الشاعر، وقت الضحى، وقلت ما كان أحراه أن يجعل هديل الحمامة ليلًا، وضربت المثل بقصيدة شوقي عن أم كلثوم، وكنت أحفظها كلماتٍ ولحنًا، وهي التي يقول فيها:

مَدَّتْ إِلَى اللَّيْلِ جِيدًا نَافِرًا وَرَمَتْ
إِلَيْهِ أُذْنًا وَحَارَتْ فِيهِ عَيْنَاهَا

وهنا انطلق عباس القاضي فشرح لنا، ونحن في ذهول، براعة المفارقة بين الضحى وقت الصحو والعمل، وبين صوت الحمامة الذي جعل الشاعر يشعر أن هديلها نواح بعد أن استعصى عليه الرقاد أثناء الاستماع إليها في الليلة السابقة، كما يقول هو في بيت لاحق:

فَبُكَائِي رُبَّمَا أَرَّقَهَا
وَبُكَاهَا رُبَّمَا أَرَّقَنِي
وما زلت أذكر تحليله الذي أحياه في نفسي، بعد ذلك بسنوات، كتاب محمد مندور في الميزان الجديد، واختتم المعلم شرحه والطلاب لا يزالون ذاهلين، بأن قال: الشعر لا يتطلَّب التحليل المنطقي بل الاستجابة للإيقاع أولًا حتى تنساب الدلالات التي يأخذ بعضها برقاب بعض فتثير فيك المشاعر التي جاشت بها نفس الشاعر.
وعندما انتقلنا إلى القاهرة كانت اللغة العربية شغلنا الشاغل، وكان أستاذ اللغة العربية في مدرسة الأورمان النموذجية القديمة عبد الرءوف مخلوف قد أعد رسالته للماجستير عن كتاب العمدة لابن رشيق، وطلب من بعض التلاميذ مراجعة التجارب الطباعية معه، فأحس نفر من تلاميذ السنة الخامسة (التوجهية) بالأهمية البالغة لإجادة اللغة العربية، والتف هؤلاء وكنت منهم حول هذا الأستاذ الدمث الأخلاق، وكانوا عمومًا يُظهرون إعجابهم بما أكتبه في دروس الإنشاء، باستثناء طالب نابه أصبح صديق عمري بعد ذلك وهو أحمد السودة (الذي عمل بالنيابة الإدارية فيما بعد)؛ إذ كان يبيِّن لي وللأستاذ دائمًا أنني أرجِّح الألفاظ على المعاني، وكان دائمًا ما يدعونا إلى أن نضع المعنى نصب أعيننا مستشهدًا بالعقاد وسلامة موسى، وقد وجدت تحقيق مطلبه مُيسَّرًا في اللغة الإنجليزية، فكان أستاذنا جرجس الرشيدي الذي حصل على الدكتوراه فيما بعد يشجِّعني على دقة التعبير، وينشر لي بعض ما أكتب في مجلة المدرسة بالإنجليزية، وكان أن نصحني بالالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، ولم تنقطع صِلتي بالأستاذ مخلوف الذي حصل على الدكتوراه فيما بعد في تحقيق كتاب الباقلاني إعجاز القرآن.
في تلك المرحلة الدراسية كان يُخيَّل لي أن العربية بطبيعتها لغة أدبية تنفر من دقة المعاني والقصد في التعبير على عكس الإنجليزية، ولكنني تبيَّنت فيما بعدُ خطل هذا الرأي؛ إذ إنني عندما سافرت إلى إنجلترا لمواصلة دراستي العليا وجدت ظاهرة الإسهاب والبعد عن الدقة قائمةً في الإنجليزية مثلما نعرفها في العربية، وأدركت أن الكاتب العربي يستطيع إذا شاء أن يلتزم بالدقة والإيجاز، فهذان من سمات اللغة العلمية عمومًا، عربيةً كانت أو إنجليزية، وكان ذلك من الموضوعات التي ناقشتُها باستفاضة مع أستاذي شكري عياد عندما زار لندن، فقضيت في صحبته ساعاتٍ حافلة بالنقاش حول اللغتين، وعندما عدت إلى مصر وعدت إلى مشاركتي السابقة في الحياة الأدبية، وجدت من ينتقد أسلوبي العربي ويصفه بغياب الماء والرونق؛ إذ كنت أومن بالمثل الإنجليزي «الإيجاز روح الذكاء واللماحية» (Brevity is the soul of wit)، وبعد سنوات من الحيرة وجدت عندي رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء فكأنني اكتشفت كنزًا ثمينًا! لقد وجدت اللغة العربية العلمية أخيرًا! وعندما زرت إنجلترا عام ١٩٨٤م قابلت إيان نيتون (Ian Netton) الذي أعد رسالته للدكتوراه في الفلسفة بالإنجليزية عن اتجاه الرسائل المذكورة إلى التأثر بالأفلاطونية الجديدة، وعندما عدت إلى مصر كان اقتناعي قد اكتمل بالفوارق بين لغة العلم ولغة الأدب.
ويكفي للتدليل على المثل العليا للغة الأدب في العربية أن ننظر في كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، المتوفى عام ٣٩٥ هجرية:

الكلام أيدك الله يحسن بسلاسته وسهولته، ونصاعته، وتخيُّر لفظ وإصابة معناه، وجودة مطالعه ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشبه أعجازه بهواديه، وموافقة مآخيره لمباديه، مع قلة ضروراته. فنجد المنظوم مثل المنثور، في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه.

(المختار من الصناعتين، القاهرة، ١٩٥٩م، ص٣١)
هذه الأوصاف الشكلية، على عموميتها وغموضها، لا توحي بمطلب دقة التعبير، وأما عبارة «إصابة معناه» فيقصد بها الناقد أن الكلام يشير إلى حقائق لا إلى أكاذيب أو مستحيلات، كما يشرح أبو هلال العسكري في فصول الكتاب الأخرى، وأما عند إخوان الصفا فأنت تجد الكلام العلمي القائم على دقة التعبير، وبأسلوب عربي سليم واضح، وهو ما شجعني على مراجعة معظم ما درسته من العلوم الطبيعية بالعربية في المدرسة الثانوية، بل تعمقت في دراسات هؤلاء بالعربية عن الموسيقى والرياضيات، وبهرت بما أسهموا به في العلوم البحتة، وانفتحَت أمام عيني صورة رائعة للنهضة العلمية العربية، فقرأت عنها بالإنجليزية، مع الأسف؛ لأنني لم أجد بالعربية ما يوازي ما كتبه برونوفسكي (Bronowsky) عن ابن الهيثم، وما كتبه غيره عن ابن النفيس، وسواهما من علماء العرب الذين اقتبست أوروبا من أعمالهم الكثير: كان المفتاح في نظري ولا تزال دقة التعبير العلمي؛ أي اللغة العلمية العربية، وهي التي كانت تسير جنبًا إلى جنب مع لغة الأدب التي لا تحدها حدود الدقة والإيجاز.
المشكلة إذن أننا نتعلم العربية الأدبية منذ الصغر، ونُصر على احتذاء النماذج الأدبية في كتاباتنا، وأكرِّر أن المشكلة ليست مشكلة نحو وصرف؛ فكتاب النحو الواضح يُغني عن النحو الوافي بل وعن مغني اللبيب، وإن كنت من مريدي ابن عقيل، وإذا كنا نريد للعربية أن تعود إلى عهدها لغة علم دقيقة الدلالات فعلينا أن نفرِّق بين اللغة الأدبية التي درسناها في يفوعنا في المدارس، وبين العربية العلمية التي لا حاجة لها بتشبه الأعجاز بالهوادي وموافقة المآخير للمبادي، ولا التمييز بين اللفظ الشريف واللفظ غير الشريف، ولست أُبالغ إن قلت إن نسبةً كبيرة من أبناء جيلنا والجيل الذي يليه لا يذكر من العربية إلا معلقة امرئ القيس وخصوصًا وصفه لجواده:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا
كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

ويتفكَّهون بقول الأعشى:

وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى الْحَانُوتِ يَتْبَعُنِي
شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ
ويستعملون بعض عبارات المتنبي التي دخلت اللغة وأصبحت من مصطلحها الشائع، وأما كتابات الجاحظ وأضرابه فلا مكان لها في مناهجنا الدراسية، ولشد ما يحزنني غياب كتاب المنتخب من أدب العرب بأجزائه الأربعة، ومختارات النصوص الطريفة من شعر محمد الأسمر، ومحمود غنيم، ومحمود عماد، والمازني، والعقاد وحفني ناصف، وهي النصوص التي حفظها لسهولتها وطرافتها أبناء جيلنا، وكان الكثير منها من بحور خفيفة على اللسان مثل الرجز والكامل والمتقارب. وأما النصوص القديمة التي تتطلب شروحًا وتثقل على اللسان فليتنا نتركها للمتخصص.

لقد أصبحت العربية لغةً عالمية على المستوى الرسمي أو السياسي، ولكنها لم تُصبح بعدُ لغةً عالمية على المستوى العلمي بالمعنى الواسع للعلم؛ أي الذي يضم العلوم الطبيعية والنظرية (الإنسانية) جميعًا. فبعض الأفكار الأصيلة التي أقرؤها عند مفكرينا جديرة بالترجمة إلى اللغات الأجنبية، ولكنها عادةً ما تكون متفرقةً ومبثوثة في ثنايا كتابات أخرى مطولة تُرهق القارئ بمقدمات واستطرادات لا تصب في الموضوع مباشرة. والكثير من مفكرينا يخشَون الإيجاز والكتابة العلمية (وهم قادرون عليها قطعًا) كي لا يُعرِض القارئ عنهم، فيُسهبون ويُطنبون، ولكن العقاد لم يخشَ قُرَّاءه، ولا خشيهم سلامة موسى، ولم يكن يخشاهم فؤاد زكريا في بداية كتابته ثم أرغمته الظروف، والصحافة بصفة خاصة، على إبطاء الانتقال من فكرة إلى فكرة، ودفعه طلب إرضاء الجمهور إلى الإسهاب والإفاضة، وأذكر أن أحد المعاهد الأجنبية كان يريد ترجمةً لبعض أقوال زكي نجيب محمود، فدفع بأحد كتبه إلى لويس عوض، ثم اتصل بي لويس عوض وقال إنه حدد الفقرات التي عليَّ أن أُتَرجمها، مضيفًا: و«سوف تُدهش حين تجد أن هذه الفقرات إذا ربطت بينها بأدوات ربط بسيطة تمثل الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب!» وبعد أن انتهيت من الترجمة قرأت باقي الكتاب فلم أجد فيه أفكارًا يمكن اعتبارها «جديدة»؛ أي لم ترد في الفصول الثلاثة الأولى!

وختامًا أقول إنني لو قُدر لي أن أوجِّه توجيهًا إلى «موجهي» اللغة العربية، أو إلى المسئولين عن مناهج تدريسها في المدارس، لقلت لهم أن يُعلِّموا التلاميذ كيف يكتبون اللغة المعاصرة بصورة صحيحة، وأن يغتنموا الفرصة ليشرحوا لهم بعض المجردات الشائعة حتى يدرِّبوهم على التفكير النظري؛ فالتجريد لغة العلم ولا مندوحة عنه، فإذا استطاع التلميذ أن يتعلم الدقة في التعبير بالحديث عن شيء محدد يعرفه، فالخطوة التالية اكتساب العلم بالمجردات، وعندها نكون قد وضعنا الأساس لتصبح العربية فعلًا لغةً عالمية.

(٢) لويس عوض مفكرًا٢

كان هذا الكتاب أصلًا رسالةً علمية نال بها الباحث محسن عبد الخالق درجة الدكتوراه في الآداب من أكاديمية الفنون بالقاهرة، وأذكر أنني كنت أحد أعضاء لجنة المناقشة، ورأيت آنئذٍ أن الرسالة تحتوي على معلومات قيمة عن الدكتور لويس عوض، أستاذي وأستاذ جيل كامل من شباب الستينيات الذين نهلوا من معارفه الموسوعية وانتفعوا بدراساته المتخصصة، في كتبه الكثيرة، التي تمثِّل ما أراه المهمة الكبرى للمثقف «الجديد»، وفق المُثُل التي أرساها أساتذة لويس عوض في النصف الأول من القرن العشرين؛ وهم طه حسين، وسلامة موسى، وعباس محمود العقاد. ولذلك رأيت أن الرسالة يجب أن تُطبع، حتى يَطَّلع الجيل التالي على عمل هذا المفكر العظيم، ويدرك طبيعة مهمة المثقف في عصر التحولات الفكرية التي شهدتها مصر في النصف الثاني من القرن العشرين؛ إذ لا يفسرها إلا عمل مفكري النصف الأول من القرن، وعلى رأسهم عدد من رفاق لويس عوض وأساتذته.

وفي عام ١٩٩١م كنت مشرفًا على النشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب فدفعت بهذا الكتاب إلى المطبعة، وكان توقيعي يقول إن الأمر «عاجل ومهم» ولكن — لأسباب لا أدرك كُنهها حتى اليوم — لم يأخذ الكتاب طريقه إلى المطبعة، وظل شهورًا فوق أحد الرفوف في مكتب أحد الموظفين أو إحدى الموظفات، ويبدو أن حرب الخليج الأولى كانت قد شغلت الناس آنذاك فلم يلتفت أحد إليه، ويبدو أيضًا أن الباحث، الدكتور محسن عبد الخالق، ساءه ذلك وكره أن يلح على الموظفين فسحب الكتاب من الهيئة، ونسي الناس الأمر أو تناسَوه، حتى آن أوان الذكرى المئوية لمولد هذا المفكر، فقرَّرت اللجنة المشرفة على إحياء الذكرى طبع الكتاب في المجلس الأعلى للثقافة، وتحمست أنا للفكرة وأقنعت المؤلف بها ووعدته بكتابة تصدير موجز.

وكان المفترض عند تحويل الرسالة الأكاديمية إلى كتاب «عام»؛ أي إلى كتاب يقرؤه عموم القراء أن يختلف الشكل بعض الشيء، بما في ذلك ترحيل الهوامش إلى ذيل الكتاب مثلًا، أو حذف بعض التفاصيل المتخصصة (كالحديث عن العروض والفرق بين العلل والزحافات) أو إضافة ملاحظات «عامة» أو شروح تُيسِّر للقارئ غير المتخصص هضم المادة العلمية التي تتسم بالتخصص في كثير من الأحيان، ولكن ضيق الوقت لم يسمح بهذا؛ فقد تلقيت الرسالة في الأسبوع الثاني من نوفمبر ٢٠١٤م، ودفعت بها إلى مكتب الحاسوب لإعدادها فورًا ما دمنا نتوقع أن يصدر الكتاب في يناير ٢٠١٥م؛ ولذا أستعيض عن ذلك بملاحظاتي في هذا التصدير الموجز.

عرفت لويس عوض في عام ١٩٥٧م، وكنت طالبًا في قسم اللغة الإنجليزية، وكان الذي قدمني إليه هو الدكتور مجدي وهبة، العلامة ومؤلف معجم مصطلحات الأدب (١٩٧٣م) ومعجم النفيس (الذي صدر بعد وفاته بعدة سنوات)؛ إذ كنت قد ترجمت مجموعةً من قصائد الشعراء الإنجليز، وأوصاني الدكتور مجدي وهبة بعرضها على لويس عوض، ففعلت، وكان أن حدَّد لي مساء يوم الأحد من كل أسبوع لمراجعتها معه، تمهيدًا لنشرها في دار نشر كان ينتوي إنشاءها واختار لها اسم «لوتس». وسرعان ما تحولت جلسات القراءة إلى جلسات علمية، يناقشني فيها فيما أقرأ، ويحدد لي كتبًا معينة أدرسها ثم أتدارسها معه، ثم عرف بعض المثقفين بجلساتنا فكانوا يشاركونني الجلسة، وفي عام ١٩٥٨م أصبحت أرى في جلسة الأحد منهلًا ثقافيًّا يمثِّل الإطار الذي تسير فيه قراءاتي في الأدب الإنجليزي أساسًا، وكتابتي للشعر الذي كنت أعرضه على أستاذي الدكتور شكري عياد، وفنون الترجمة التي افتتنت بها.

كان لويس عوض آنذاك قد ترك منصبه الجامعي في حركة «التطهير» الناصرية، التي تخلص النظام فيها ممن كانوا ينتمون لمذاهب يسارية، عام ١٩٥٤م، إلى جانب انقضاضه المشهور على جمعية الإخوان المسلمين في أعقاب محاولة اغتيال الزعيم في صيف ذلك العام، ومن ثم اتجه «اليساريون» إلى العمل بالصحافة، وكان أحد رجال «الأمن» في ذلك النظام يقول إنهم بذلك «مأمونون»؛ إذ يستطيع سدنة النظام متابعة ما يكتبون ودرء أي خطر يمثِّلونه قبل استفحاله.

وعلى امتداد عامَي ١٩٥٧م و١٩٥٨م كان لويس عوض يكتب صفحةً كاملة في صحيفة الشعب التي كانت تصدرها دار صحفية قائمة في شارع قصر العيني، وكانت تنشر كتبًا تمثِّل الثقافة العامة للقارئ العادي بأسعار زهيدة، وكان لويس عوض يعرض كل أسبوع عملًا أدبيًّا أجنبيًّا يشغل الصفحة كلها، وهو ممَّا زاد من توزيع العدد الأسبوعي، وفي صيف ١٩٥٨م نشر مقالًا يلخِّص فيه مذهب الشاعر والناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد (١٨٢٢–١٨٨٨م) وهو الذي عرضه في أهم كتاب له بعنوان الثقافة والفوضى (١٨٦٩م) وسوف أتوقف عند هذا المقال الذي أعتبره تلخيصًا ممتازًا لموقف لويس عوض النقدي والثقافي بصفة عامة.
اشتهر عن أرنولد قوله إن الثقافة تعني اكتساب المرء السلوك المهذب [أو الحضاري بالمصطلح المعاصر] الذي يراعي الآخرين، ويعبِّر عن قهر المرء لنوازعه الشخصية في سبيل الجماعة، إلى جانب اكتساب العلم الذي ينمِّي ملَكَة التفكير أو ما كان يسمِّيه «العقل النقدي»؛ أي الذهن الذي لا يسلِّم بحقيقة شيء إلا بعد تمحيصه منطقيًّا أو علميًّا، وأقرب نموذج له ما يذكره ابن خلدون في حديثه عن قَبول أو رفض «الروايات» التاريخية [أي ما يرويه الرواة من أحداث التاريخ] وما يسمِّيه العقاد «النقد العلمي» في كتابه اللغة الشاعرة. وقد جمع أرنولد بين هاتين الخصيصتين في عبارة استعارها من الروائي الإنجليزي جوناثان سويفت وهي «الحلاوة والنور»؛ فالحلاوة تشير إلى السلوك والنور يشير إلى نور العقل، وأصل العبارة شطرة من قصيدة للشاعر جون دَن يمتدح فيها النحل لأنه يمنحنا «الحلاوة» [الشهد] والنور [أي الشمع الذي نستخدمه في الإضاءة]. وقد شاعت هذه العبارة في الإنجليزية المعاصرة وغدت تستخدم في غير ما قصد بها مثل الكثير من العبارات التي غدت «تراثية». وكان أرنولد يرى أن الدين بمعناه الواسع قادر على إكساب المرء الخصيصتين؛ فالسلوك المهذَّب ينبع من إدراك المرء لجوهره الروحي الذي يربطه بغيره من البشر ويمنعه من الانغماس في الحياة المادية التي سادت في تلك الفترة، كما أن الدين يجعل العقل دائمًا على وعي بما يقع خارج الحواس، ولا مندوحة عن هذا الوعي في التفكير الصحيح الذي يضم المجرد والمجسد، ويعترف بوجود القيم والمعاني وما إليها، على عكس الاتجاه المادي المحض للعلم الطبيعي في القرن التاسع عشر. ومن ثم فإن الإيمان بالمادة وحدها يؤدِّي في نظر أرنولد إلى «الفوضى»؛ لأنه يخضع الناس لأهوائهم المادية وهي بطبيعتها مشتتة، ويمنعهم من الإحساس «بالغاية»؛ أي ما يرمي إليه الانكباب على المادة مهما يكن شكله. وكان نُقاد عصره يرَون أن مذهبه «عقلاني» إلى حد التطرف ومن ثم انتقدوه وعارضوه.
ولكن أهم ما يفيدنا في تحديد تأثر لويس عوض بآراء أرنولد تركيز الناقد العربي على ما كان أرنولد يرى أنه الوظيفة الأولى للناقد؛ إذ يعتقد أرنولد أن للناقد وظيفتين: الثانية — والأقل مكانة — قياس مدى امتياز عمل فني معين بمعيار الامتياز الذي حقَّقه السلف، فشعر القدماء فيه نماذج معيارية يمكن استخدامها في قياس امتياز الأعمال الحديثة، وأما الوظيفة الأولى فهي «خلق تيار من الأفكار الصحيحة القشيبة» حتى تُهيِّئ للشاعر من المعارف ما يهب شعره ثراءً وخصبًا وعمقًا بحيث لا يصبح تحقيقه للقيم الجمالية في الشعر شكلًا «معماريًّا» أجوف. وقد توسَّع أرنولد في الكتاب الذي جمع عدة مقالات وصدر عام ١٨٦٥م بعنوان مقالات في النقد في عرض هذه القضية، كما أضاف فيه تفصيلات مهمةً إلى آرائه التي بثها أولًا في مقال له بعنوان عن ترجمة هوميروس (١٨٦١م)، وأهم ما فيها بالنسبة للويس عوض هو ما أصبح يُشار إليه بعبارة شهيرة هي أن على الناقد أن «ينظر إلى العمل الفني كما هو في حقيقته» لا من زاوية ما «يتضمنه» من إحالات إلى وقائع أو مذاهب «غريبة» عنه، وهو ما أصبحنا نشير إليه بمصطلح «الموضوعية» الحديث، وكان أرنولد يشير إليه بتعبير «التجرد» من الهوى والتعصب.
والذي ينظر مليًّا في عرض لويس عوض لآراء أرنولد في مقال صحيفة الشعب يكتشف أن لويس كان منحازًا إلى رؤية الناقد الإنجليزي لوظيفة الناقد، وأنه قد ضم في عرضه ما قاله أرنولد عن الثقافة إلى ما قاله عن النقد الأدبي، خصوصًا الكتاب الثاني من كتب مقالات أرنولد الذي نُشر بعد وفاته مباشرةً عام ١٨٨٨م، العام الذي وُلد فيه ت. س. إليوت. ولنبدأ بمفهوم لويس عوض للمهمة الثانية للناقد الذي أشرتُ إليها آنفًا، وهي الخاصة بمعايير النقد الأدبي. ونلمح في هذه المهمة جمع ناقدنا العربي بين أمرين: الأول وجود نماذج راقية للامتياز الأدبي، والثاني أن هذه النماذج موجودة في تراث الأسلاف، ولنا أن نعتبرها المحك الذي نقيس به امتياز المُحدَثين. فأما الأمر الأول فيثبته أرنولد مستشهدًا بالأعمال الأدبية التي صمدت للزمن وأصبح الخَلَف يقدِّرونها مثلما كان السلف يُعلون من شأنها، وإن اختلفت أسباب التقدير وإعلاء الشأن وفق «روح العصر»، المصطلح الذي ابتكره الناقد الإنجليزي وليم هازلت في مطلع القرن التاسع عشر. ويضرب أرنولد أمثلةً لهذه النماذج الراقية، ولكن لويس عوض يكتفي بالإلماح إليها، والقول بأن المعايير الكلاسيكية «صحيحة» وجديرة بالاتباع، وهو الذي يعرضه لويس عوض بإسهاب في ترجمته لكتاب فن الشعر لهوراس، وهو كتاب بالغ القِصر، ولكن الهدف من ترجمته كان في نظري كتابة المقدمة والحواشي المسهبة التي يعرض فيها ناقدنا العظيم الآراء الكلاسيكية عن «شكل» العمل الفني.
ويبدو لي أن نزعة لويس عوض الكلاسيكية في النقد ظلت تُميِّز نقده حتى النهاية، وأهم ما في هذه النزعة هو «الشكل» الخاص بالعمل الفني المركب مثل المسرحية والرواية، وذلك يستثني الشعر الغنائي بطبيعة الحال، أما المقصود بالشعر الغنائي فهو الشعر المكتوب بلسان الشاعر، أو ما يسميه ت. س. إليوت «الصوت الأول» للشعر، ويقابله «الصوت الثاني» الذي يتحدَّث فيه الشاعر بلسان شخصية ابتكرها، و«الصوت الثالث»، وهو الشعر المسرحي الذي يتحدث فيه الشاعر بألسنة شخصيات متعددة. ومن الطبيعي أن ينجذب لويس عوض بحكم دراسته الأجنبية إلى الصوتين الثاني والثالث، وأما الصوت الأول فإنه كان يرى أنه يعاني من الجمود الشكلي في الأدب العربي بسبب الإصرار على القافية الموحدة في الشعر العمودي بل والاستمساك بالشكل العمودي نفسه، وكان يود التغيير في هذا المجال لأن الدنيا تغيَّرت، واللغة في تغيُّر دائم، وليس من طبيعة الحياة استمرار شكل معين دون تغيير مئات السنين؛ فدراسته للآداب الأوروبية تؤكِّد له أن مسار التغيير هو الذي حافظ — وهذه مفارقة — على القيم الكلاسيكية العامة العالمية. وأما تبيان هذه المفارقة فنجده في نقده لبعض الأعمال الحديثة في المسرح الإنجليزي على وجه الخصوص، ولأضرب مثالًا واحدًا من عرضه في صحيفة الأهرام لمسرحية البهلوانات لتوم ستوبارد إذ أقام الحجة على أن الشكل الجديد الذي أبدعه المؤلف يلتزم في الحقيقة بالقواعد الكلاسيكية، وأن ذلك لا بد أن يتضح لمن يدرك أن المسرحية تعرض فلسفة الفيلسوف الإنجليزي جورج مور (١٨٧٣–١٩٥٨م) الذي اشتهر بما يسمَّى «مفارقة مور» التي تعني أن قولك شيئًا وإنكاره لا يمثِّل تناقضًا بالضرورة ما دام ذلك الشيء، مهما يكن، يمكن أن يتخذ صورًا متعددة، ولكن لويس عوض يركز في عرضه النقدي على فلسفة الأخلاق عند مور [وكتابه مبادئ الأخلاق أشهر كتبه] ويربط بينها وبين المفارقة الدرامية، وبذلك يقدم صورةً لبناء المسرحية لا تكسر القواعد الكلاسيكية ما دامت هذه القواعد قائمةً في بناء فكري رئيسي تجسِّده أحداث وشخصيات وحبكة مسرحية؛ أي إن التغيير في المادة لم يغير الشكل الفني. ويتجلَّى في أمثال هذا التحليل حرص ناقدنا العظيم على تأكيد صحة القواعد والأبنية الكلاسيكية، وأظن أنني كنت من بين القلائل الذين شاهدوا المسرحية واقتنعوا بتحليل الدكتور لويس.
وأما الموقف من الشعر العربي الذي يمثل مشكلةً للكثير من النقاد، بل والشعراء هذه الأيام، فهو أبسط مما يتصور هؤلاء. وأبدأ بأن أقول إن لويس عوض كان يؤمن، مثلما أومن، بأن الشعر لا بد له من موسيقى من نوع ما، ذاك وإلا أصبح نثرًا، وذلك أمر يتفق عليه العالم اليوم وعلى مر الأزمان، أما إن أصبح النثر «شعريًّا» — وكثيرًا ما يصبح كذلك — فذلك لا يجعله شعرًا، والقضية ليست قضيةً خاصة بتراث معين بل قضية مصطلح، ولقد اصطلح الناس على أن الشعر يُكتب نظمًا، والنثر يُكتب نثرًا، وإن خلطنا النوعين كان لنا أن نقول إن النثر يُكتب نظمًا، وذلك ما لا يقبله المنطق السليم. وكان أحد الشعراء الفرنسيين يسخر من الشعراء المعادين للقافية قائلًا إنهم «لا يملكونها حتى يدافعوا عنها.» كان لويس عوض عندما قال إن الشعر العمودي مات يرمي إلى استفزاز القارئ، على الرغم من إعجابه الشديد بالعقاد، وأما ما كان يرمي إليه موضوعيًّا فهو التغيير في الأوزان والقوافي وهو الذي وجده عند صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي.

وأظن أن المثال الناطق لِمَا كان لويس عوض يتصوره من التغيير تمثله قصيدة نشرها وهو بعدُ طالب في قسم اللغة الإنجليزية في مجلة أبوللو في ديسمبر عام ١٩٣٤م، وها هي ذي:

السحر

في وُلوجِ الكون أبوابَ السحر
تنثني الهاماتُ: جنٌّ وبَشر
خاشعاتٍ في سُويعات العُمُر
يستحمُّ الكلُّ في نور القمر
ويلفه الحيَّ والميْتَ السُّهوم

•••

يستحيل الصوتُ موتًا في حياة:
إذْ تلاشى الصوتُ كالحلمِ الغريرْ
يتداوى الماءُ كالرعدِ الرجيمْ

•••

وتَبدَّى في السموات السحابْ
غَضِبُ المحيا كثيفٌ ضاربُ
ذابت الأضواءُ في ظلِّ الحجابْ
ومضى الصوتُ الرهيبُ الصاخبُ
وتنحَّى الغيمُ في وادي الغيومْ

•••

وقف الباري شهيدًا مِن عَلاءْ
وتنحى كلُّ هامٍ والقدرْ
خشعتْ حتى نُجيماتُ السماءْ
وصحتْ حتى أمانيُّ الشجرْ
وقفتْ جزعى بوادٍ، لا تريمْ

•••

سكنت ريحُ الشمال العانيةْ
وتقضت غمغماتٌ للخريرْ
سكنتْ أثباجُ موجٍ وانيةْ
وتلاشى اللفحُ مغلولَ الصريرْ
وتراخت زفزفاتٌ للنسيمْ

•••

رعشت في اليأسِ أطيافُ السماءْ
وتندَّتْ طلعةٌ للقمرِ
وتهاوتْ في تضاعيف الفضاءْ
لمعاتٌ فنيتْ كالعمرِ
وتشاكى الليل واليمُّ الحزينْ

•••

واشرأبَّتْ فيه أعناقُ الحببْ
خَلَّفَتْهنَّ ارتخاءاتُ الفتورْ
مسَحتْها لامعاتٌ مِن شُهبْ
بدت الدنيا كما منذ الدهورْ:
هي غرقى العمرِ، ما فيها قطينْ

•••

بليتْ في الجوِّ أكفانُ السحابْ
هرأتها مرسلاتٌ لا تَلينْ
وتهادى البدرُ مهزومَ الشبابْ
يترامى نورُه الساجي الحنونْ
كعذارى في الظلامِ المستكينْ

•••

جاءَ ربُّ الشِّعرِ مهرولَ البناءْ
في رواقِ الليل غنَّى آيةً
نزلت للموتِ مِن كهف السماءْ
أيُّ وادٍ؟ قِيلَ: وادٍ للأنين
فاضَ بالدَّمعِ ولذَّاتِ الحنينْ!
ولا أظن أن بي حاجة إلى أن أدلِّل على تأثر الشاعر بشعراء الرومانسية الإنجليز، أو على الأقل بالنماذج التي قرأها في الجامعة المصرية في كتاب الكنز الذهبي التي جمعها بولجريف، وأثَّرت تأثيرًا كبيرًا في شعر العقاد وصاحبيه شكري والمازني؛ فالصور المرسومة لا تجمعها رؤية موحدة، وهي مرسومة لذواتها، واصطناع الحزن والأشجان يوصف بأنه «مصطنع» رومانسي، وهو غير مستبعد من قلم مراهق لم يبلغ العشرين من عمره، والبحر هو الرَّمَل، البحر الذي كان مفضَّلًا للرومانسين آنذاك، وأظن أن القصيدة المنشورة قد سقط منها سطران في الخماسية الثانية، وأن خطأً مطبعيًّا جعل البيت العاشر مكسورًا؛ فلويس عوض كان يعرف العروض خير معرفة، ولكن المهم من وجهة النظر النقدية هنا أن الشاعر كان منذ البداية يريد التجديد، وهو ما حقَّقه في ديوانه الوحيد بلوتولاند، وأنه كان يعي أنه لا يكتب مثل غيره؛ ولذلك يصف قصائده في هذا الديوان بأنها من شعر الخاصة.
كيف إذن نوفق بين روح التجديد التي تتبدى في أعماله الإبداعية، ومن بينها رواية العنقاء ومسرحية الراهب، وبين اتجاهه الكلاسيكي في النقد الأدبي؟ التوفيق يسيرٌ إذا ذكرنا أن ذهن لويس عوض قد تشكل على ضوء إيمانه بالعلم والتعليم، وخصوصًا العلم الذي تلقَّاه في مرحلة التكوين على أيدي الأساتذة الإنجليز في الجامعة المصرية، ثم في كيمبريدج في إنجلترا، وكان مسار هذا التعليم كلاسيكيًّا بمعنى الدعوة إلى الالتزام بمعايير محددة، والانضباط في التعبير؛ أي الدقة والوضوح، وهذا ما تعلَّمته أنا نفسي في إنجلترا، ويعني هذا، كما كان يقول لي دائمًا، إن للفنان أن يجدِّد ما شاء الله له أن يجدِّد، بشرط التزامه في التجديد بمعايير معينة، وهو ما يعني أن للأنواع الأدبية أنماطًا نخرج عنها بحساب ووعي، حتى لا يُصبح القالب الفني نمطيًّا خالصًا، مستشهدًا بقول بودلير: «قليل من التحرُّر وحسب، هذا هو الفن!» وكان يخشى إذا فُتح باب التجديد على مصراعَيه ألَّا نجد في العمل الأدبي ما يبرِّر انتماءه إلى جنس الأدب أصلًا، وإلى هذا أضيف ما طرأ على فكر لويس عوض من تحولات أملاها عمله بالصحافة، فما دام في نقده يخاطب الجماهير العريضة لا طلاب الجامعة، فلا بد أن يستند كلامه دائمًا إلى معايير محددة، وإلا وقعنا في هُوة الفوضى فاختلط الفن باللافن.

ولكن التطور الأكبر الذي شهده مسار لويس عوض النقدي، بعد خروجه من السجن عام ١٩٦٠م، هو إيمانه الشديد بدور الناقد الذي رسمه ماثيو أرنولد؛ أي نشر المعرفة على نطاق واسع حتى يجد الفنان مصادر إلهام قائمةً على علم صادق بالحياة، وكان هذا العلم يتضمن كل شيء، من العلم باللغة — مادة أدب الأديب — إلى العلم بالنظريات الفكرية، خصوصًا التاريخية والسياسية منها، وقد كان من حسن حظه أن أعلن عبد الناصر أن الاشتراكية أصبحت المذهب الرسمي للدولة، فلم يعد يخشى محاسبة أحد له على ما يقول، وإن كنت أذكر محادثةً مهمة جرت بيننا أثناء إحدى زياراته لقسم اللغة الإنجليزية — بإلحاح مني؛ إذ كان يُصر على ألَّا يعود إلى الجامعة إلا بصفته السابقة — إذ قال إن عبد الناصر أخطأ بفرض الاشتراكية بديلًا عن الدين؛ إذ كان فرضها «فوقيًّا»، ويصعب إرغام الجميع على اعتناق نظام وضعي بُولغ في تصوير محاسنه ومزاياه حتى «الأخلاقية» منها، فكان الصحفيون يستخدمون الكلمة في كل شيء للدلالة على السمو الأخلاقي ومراعاة الآخرين (بمعنى الثقافة الحقة عند أرنولد)، وشاع استعمال الكلمة حتى تكاثرت تكاثرًا مرَضيًّا، وكنت آنذاك أكتب تمثيليات إذاعية، فإذا أعجبت المخرجين تمثيلية قالوا إنها اشتراكية، وكنت تقرأ في الصحف إعلانات من قبيل «جهاز عروسة اشتراكي» … وما إلى ذلك بسبيل.

الطريف أن لويس عوض كان يؤمن بالاشتراكية في أعماقه، ولكنه لم يكن يرى فيما يحدث أمامه مصداقًا لما يؤمن به، وحين احتدم النقاش ذات يوم ونحن خارجان من مكتبه في صحيفة الأهرام قال لي: إن ما نحتاجه اليوم هو العلم! وفهمت ونحن سائران إلى سيارته أنه قرَّر أن يركِّز كتاباته منذ تلك اللحظة على نشر المعرفة، دون ذكر هذا صراحة، لكنه قال لي: وعليك أيضًا أن تنهض بدور المعلم خارج الجامعة.
وعلى امتداد الازدهار الثقافي الذي شهدته الستينيات الأولى؛ أي حتى غادرتُ مصر عام ١٩٦٥م، كان لويس المعلم الأول وصاحب الرؤية الثقافية التي كان هذا الازدهار يبشِّر بها. وفي هذه السنوات كشف لويس عن طموحات المثقف الذي يريد لمشروعه «الجماهيري» النجاح، فاتفق مع الدكتور ثروت عكاشة على إصدار ترجمة كاملة لدائرة المعارف البريطانية، واتفق على تمويل شامل قدره مليون جنيه، وكان ذلك مبلغًا كبيرًا في تلك الأيام، وكلف بعض العاملين في وزارة الثقافة بالإشراف على ترجمة مواد معينة، وكان من بينهم أمين الشريف الذي كان منتدبًا لتدريس الترجمة لدينا، واختار أمين الشريف عددًا من الصغار — كنت من بينهم — للعمل في ترجمة الأعلام؛ فهذه لا خلاف عليها، وقضينا صيف عام ١٩٦٢م في هذا العمل، ثم استبدل عبدالناصر الدكتور عبد القادر حاتم بثروت عكاشة، فتوقف المشروع، ولم تفلح جهود الدكتور لويس في إقناع الوزير الجديد بفكرة الموسوعة؛ إذ كان قد أُنشئ التليفزيون، وكان حاتم يرى «تغذية» الشاشة الصغيرة بمسرحيات تُقدَّم على المسرح وتصور، فأنشأ خمس فرق تمثيلية، إلى جانب عدة مجلات، وكان الشائع أنه ذو فكر «يميني»؛ فاستبعد من لجنة اختيار النصوص المسرحية لويس عوض وغيره، وجعل رئاسة اللجنة للمخرج الإذاعي السيد بدير، وكان من أعضائها رشاد رشدي، والدكتور صقر خفاجة (أستاذ الآداب الكلاسيكية) ومحمد عبد الحليم عبد الله (الروائي) وغيرهم.
ولكن موقع لويس عوض في الأهرام كفل له مكانة الناقد الرئيسي، وبدا هنا تأثير ناقد إنجليزي آخر لم يكن يحظى في مصر باهتمام كبير هو ف. ر. ليفيز. كان ليفيز من دعاة التحليل النصي، الذي نجده عند محمد مندور في كتابه في الميزان الجديد، وإطلاق الأحكام النقدية القاطعة، كالقول بأن فلانًا أعظم كاتب للقصة القصيرة، أو إن هذه الرواية أعظم رواية سيكلوجية … وهلم جرًّا. وهكذا أصبح العدد الأسبوعي الذي يكتب فيه لويس عوض في الأهرام عددًا ينتظره الناس ليرَوا ما نجح وما لم ينجح من النصوص المسرحية أو دواوين الشعر أو الروايات، ولم يكن لويس يتفق دائمًا مع نقاد مجلة المسرح الجديدة التي كان رشاد رشدي رئيسًا لتحريرها، ولكن مقالاته كانت تمثل الكفة الأخرى، والكفة الراجحة في معظم الأحيان. وقد تجلى تأثير ليفيز في منهج لويس عوض النقدي في الدراسات التي توالى إصدارها في صورة كتب تتكون من مقالات متفرقة تدور حول تحليل النصوص وإطلاق الأحكام العامة عليها في الوقت نفسه حتى وقعت الواقعة بهزيمة يونيو ١٩٦٧م.
كان لويس عوض في هذه السنوات قد تحوَّل من باحث أو ناقد أدبي إلى ما يمكننا أن نعتبره مفكرًا محوريًّا للثورة المصرية، لم يكن إيمانه بالاشتراكية قد تغيَّر، ولكن العبث الجاري بمقادير الشعب باسم الاشتراكية كان يمثِّل له همًّا كبيرًا، ولكنه لم يواجهه مواجهةً سياسية بل بالكتابة العلمية عن القضايا الإنسانية التي لا مناص من مواجهتها في الأدب، وكان آنذاك يشبه الشاعر الذي يتجاوز النتائج والظواهر لينظر في الأسباب والعلل، فأسهب في الكتابة عن تاريخ أوروبا في الفترات التي تشبه الفترة العصيبة التي يمر بها الوطن، ولم يتوقف بطبيعة الحال عن نقد الشعر والمسرح؛ فعرض مسرحيات عبد الصبور التي كتبها في عام واحد في ازدهار مفاجئ للعبقرية في أعقاب نكسة ١٩٦٧م، وأفرغ في مقالاته تلك كل حنقه على الدكتاتورية والطغيان، وحالما استرد أنفاسه — إن صح هذا التعبير — حتى جاءه حلم مشروع ثقافي آخر هو إعداد معجم عربي مترجم عن قاموس أوكسفورد الكبير (٢٢ جزءًا من القطع الكبير)، وسانده ثروت عكاشة الذي كان قد عاد إلى وزارة الثقافة، وبدأ العمل في المشروع، ولكنه اكتشف أن المهمة أكبر من أن يتصدَّى لها فريق الترجمة الذي جمع أعضاءه من أساتذة اللغة الإنجليزية العاملين آنذاك بالجامعات المصرية، فاقتصر المشروع على ترجمة قاموس أوكسفورد الوسيط، الذي يبلغ عدد صفحاته ٢٢٢٥ صفحة، وتولى بنفسه مراجعة بعض المداخل عام ١٩٦٩م، وكانت الترجمات التي لم تراجع محفوظةً في بطاقات كثيرة [ولا تزال] في محفوظات الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكان في الوقت نفسه يحلم بمشروع ترجمة جميع نصوص النقد الأدبي [والمسرحي خصوصًا] من أقدم العصور حتى الآن، فأصدر الجزء الأول عن نصوص النقد الأدبي اليوناني، ثم تغيرت الأحوال وتُوفي جمال عبد الناصر.

كان لويس عوض في غضون هذه التقلبات السياسية والثقافية يشبه شاعره المفضل شلي في استمساكه بحلم السعادة التي تكفلها الحرية للإنسان، وكان جوهر الحرية في نظره يكمن في العلم بأوسع معانيه، وخصوصًا المعنى الذي يُتيح للمرء النظر إلى كل قضية من عدة زوايا، وهو ما كان يُحيِّر قُرَّاءه في بعض الأحيان؛ فهو كثيرًا ما ينظر إلى مصر الحديثة نظرةً أوروبية خالصة مثل طه حسين، باعتبارها من بلدان البحر المتوسط، وكثيرًا ما يرى في مصر القديمة أصول العبقرية الخلاقة للشعب المصري، وكان أعداؤه يصفون هذه النظرة ﺑ «الرؤية الفرعونية» ويتخذونها وسيلةً للهجوم عليه خصوصًا إبَّان ما يمكن وصفه ﺑ «حمَّى» القومية العربية، ولكن لويس عوض لم يكن ينكر قوة التاريخ، وكان يؤكِّد أن وحدة مصر وسوريا ذات جذور تاريخية يمكن رصدها في أقدم عصور المنطقة، ولكنه كان يرى أن المؤرخين تجاهلوا مناطق بالغة الثراء من تاريخ مصر، مثل الفترة التي كانت فيها جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، على امتداد قرون طويلة سابقة للفتح العربي، بل كثيرًا ما كان يقول لي إنه يتمنَّى أن يبرز من بين علمائنا من يقيم الروابط التي لم تنقطع في الثقافة المصرية، دينيًّا وثقافيًّا، في القرون التي انقضت أولًا منذ بناء الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية وحتى سقوط الحكم البطلمي عام ٣١ق.م. على أيدي أوكتافيان، الذي يسميه شيكسبير أوكتافيوس قيصر، وهو الذي فرض النظم الأوروبية على أقطار إمبراطوريته وفرض ما يسمى ﺑ «السلام الروماني»، وثانيًا منذ ذلك التاريخ حتى الفتح العربي في القرن السابع الميلادي، ومن ثم كان اهتمامه بالروابط بين أوروبا ومصر، وهو ما دفعه إلى ابتداء مشروع تاريخي فكري طَموح عن مصر في القرن التاسع عشر، كتب الجزء الأول منه، وأعلى فيه من مكانة إسماعيل باشا إعلاءً شديدًا؛ إذ جرفه حبه له إلى المبالغة وتبرئته من التسبب في كارثة الديون، ملقيًا التبعة على سعيد باشا. وأذكر في هذا الكتاب كيف ربط بين واقعنا في أواخر القرن العشرين وبين واقعنا آنذاك قائلًا إن الدول الغربية الاستعمارية لن تقبل أن تنهض مصر النهضة الجديرة بأهلها، فإذا قُيِّض لها حاكم وقائد عسكري موهوب مثل إبراهيم باشا، شكَّل الاستعماريون حلفًا لمناهضته وكسر شوكته، وإذا قيَّض الله لها قائدًا ملهمًا مثل جمال عبد الناصر، دبَّروا له ما دبَّروا لسلفه، وهكذا كان حماس لويس عوض لمصر كثيرًا ما يدفعه إلى رؤًى قد تكون صائبةً وإن لم يفطن لها المؤرخون، أو تجاهلوها عمدًا.

وأختتم هذا المقال الموجز بأن أُلخِّص الدور الثقافي المهم الذي نهض به لويس عوض في النصف الثاني من القرن العشرين: لقد كان مفكرًا مصريًّا صميمًا يعتز بجذوره في صعيد مصر، وبانتمائه إلى مصر القديمة والحديثة معًا، وكان الذي يهديه في هذه المسيرة الصاخبة في أرض وعرة إيمانه بضرورة التعليم في الجامعة وخارجها؛ فللتنوير رسالة متصلة تحملها الآداب والفنون التي ترفع من الذائقة العامة، وكان أثناء عمله بالجامعة قد كوَّن ما يُسمَّى «نادي الجراموفون»، حيث يأتي بأسطوانات الموسيقى العالمية ويُسمعها لمن يريد من الطلاب، وكان يشجِّع ثروت عكاشة على تقديم الفنون التشكيلية بالعربية، بل وكان يمده بالمراجع والكتب الضخمة التي تمثِّل عصور فن الرسم والنحت والعمارة، حتى يترجم منها ما يشاء، وكان في «حلم الشاعر» الذي لم يفارقه حتى النهاية يريد إنجاز مشروعات ثقافية طَموح، ولكن العمل العام كان دائمًا ما يحمل خطر الاصطدام بالسلطة، والسلطة قد تكون سياسيةً وقد تكون بيروقراطية، وأذكر عندما رأى سمير سرحان إحياء مشروع القاموس الذي كان ولا يزال يُسمَّى «قاموس لويس عوض»، أن استدعاه، ورحَّب الدكتور لويس، وساعدته في جمع عدد ممن تبقى من أساتذة اللغة الإنجليزية [عام ١٩٨٥م]، وبدأنا العمل الذي كان يتكوَّن أساسًا من المراجعة، ووضع له الدكتور لويس ميزانيةً تبلغ ٥٠٠٠٠ جنيه، وكانت في نظري معقولة، إن لم تكن متواضعة، ووافق سمير سرحان ولكن سرعان ما جاء رفض وزارة المالية، على الرغم من المحاولات التي بذلها عبد الحميد رضوان وزير الثقافة آنذاك — وكانت محاولات جادةً وصادقة — للحصول على المبلغ.

لم يتخلَّ لويس عوض عن أي حلم من أحلامه، وظل على إيمانه الشديد بالليبرالية فكريًّا وسياسيًّا يحلم بما نسميه اليوم «العدالة الاجتماعية»، وإذا حدث اشتباك حول الاشتراكية والديمقراطية كان يُسرع بتبيان أن ما كان يسمَّى اشتراكية عندنا يومًا ما كان خليطًا من نُظم «لقيطة»، وكان يضرب المثل بلجنة «تصفية الإقطاع» منكرًا أن بلادنا عرفت الإقطاع بالمعنى الأوروبي، وكان في السياسة يؤمن بالتعددية وكثيرًا ما كانت تمتد سهراتنا في منزل سمير سرحان أو في منزلنا، وكان على حبه لمنهج ليفيز واسع الصدر ولا يرفض الفكاهة.

لقد نجح لويس عوض في أداء مهمة الناقد كما حدَّدها أرنولد: نقد النصوص وفق المعايير التي تحفظ للأدب امتيازه ورِفعته شكلًا ومعنًى، وخلق تيار من الأفكار الصحيحة القشيبة التي يستطيع الأديب فيها أن يبدع إبداعًا جديرًا بلفظ الإبداع.

كما نجح الدكتور محسن عبد الخالق في إلقاء الضوء في هذا العمل الرائد على إسهامات لويس عوض في الحركة الفكرية منذ أواسط الأربعينيات وحتى عام ١٩٩٠م؛ إذ خاض لويس عوض معارك فكريةً وكافح كفاح الأبطال في سبيل مهمته التنويرية، ويدين له جيلنا بالربط بين الحياة الجامعية والحياة العامة، إحياءً لسنة أسلافه، مثلما تدين له الأجيال الصاعدة بالنظرات الثقافية الثاقبة التي أتاحها للدارسين وللقراء العاديين بصفة عامة. إنني أشكر الباحث على جهده وأتمنَّى أن يستمتع القراء بثمار هذا الجهد.

١  كان هذا الفصل الخطاب الرئيسي الأول الذي ألقاه الكاتب في المؤتمر الدولي حول عالمية الموضوع في ٣٠ ديسمبر ٢٠١٣م.
٢  كان هذا الفصل تصديرًا لكتاب الدكتور محسن عبد الخالق لويس عوض مفكرًا، المنشور عام ٢٠١٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤