عندما طلب إليَّ الدكتور شبل الكومي كتابة مقدمة
لكتابه الجديد، جريًا على سُنَّة اسْتَنَّها لنفسه، شأن
المفكرين الذين يفضِّلون رؤية عملهم بأعين أخرى،
ومناقشته مع أصحاب أذهان قد تتفق وقد تختلف معهم، نظرت
إلى العنوان فوجدته طويلًا، ووَفْق ما اكتسبتُه من خبرة
في النشر، خصوصًا في هيئة الكتاب، أحببت اختصار
العنوان؛ فالكتب المناظرة الأجنبية تكتفي بعنوان عام
موجز، مهما تتعدد الزوايا التي يُتناول منها الموضوع أو
فروع الموضوع الرئيسي [والنسبة إلى الرئيس صحيحة حسبما
قرَّر مجمع اللغة العربية، وانظر العربية الصحيحة لأحمد مختار عمر، ١٩٩٧م]،
ومِن ثَم تصورتُ أن يكون العنوان الحداثة وما بعد الحداثة، لكنني بعد أن
قرأتُ الكتاب أدركتُ حكمة العنوان الطويل، وخصوصًا
الإشارة إلى عصر الحداثة لا إلى الحداثة
(modernity)، أو
الحداثية (modernism)
[المصدر الصناعي الذي أصبح بديلًا عن الاسم ما دام يشير
إلى المذهب الفني لا إلى العصر الحديث]؛ فالكتاب لا
يقتصر على النظر في المذهب الفني بل يتناول الفكر الذي
يغذو المذهب الفني ويتأثر به، والفكر هنا ينتمي إلى روح
عصر كامل يمتد، طبقًا لأحدث الدراسات، نحو أربعين سنة؛
أي منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر وحتى عشية
اندلاع الحرب العالمية الثانية (انظر كتاب الحداثية من تحرير مالكوم
برادبري وماكفارلين) (Bradbury &
Macfarlane). والمعروف أيضًا أن المذهب
الفني الذي وُلد في ذلك العصر لم ينقضِ بانقضائه. بمعنى
أن الحداثية لم تَمُت عندما نشبت الحرب ولا عندما
انتهت، بل استمرت في الأشكال الفنية التي كانت قد رسخت
جذورها، وإن بدت في هذه الأشكال نفسها دلائل قلق نابع
من عدم الرضا الكامل عنها، وكان هذا القلق نذيرًا بثورة
خفيضة النبرة، سرعان ما أدت في نظر كبار الدارسين اليوم
إلى نشأة ما يسمى بالنظرية الأدبية، أو النظرية فقط
(Theory)، وهي التي
تشير إلى عدة اتجاهات فكرية في المقام الأول، تستمد روحها من
تغير الواقع المحسوس الذي نشأ في أعقاب الحرب الثانية،
وتجلى في تيارات زادت قوتها حتى بلغت درجة إحلال نظرات
جديدة للعالم والفن والأدب محل النظرات السابقة،
استنادًا إلى فكر مفكرين جدد أتوا بمصطلحات جديدة، كما
بينت في المقدمة التي كتبتها لكتاب عنوانه المفكرون الأساسيون من النظرية النقدية إلى
ما بعد الماركسية (تحت الطبع)، كما حلت هذه
النظرات التي تبلورت محل التيار الذي جاء إلى الدنيا في
عصر الحداثة بالمذاهب الفكرية لحلقة فيينا ومدرسة
فرانكفورت والوجودية، وصولًا إلى البنيوية وما بعد
البنيوية، كما أوضح ريتشارد وولين في كتابه مقولات النقد الثقافي (وترجمته
تحت الطبع).
ومن هذا التغيير الفكري القائم على تغيير الواقع،
تحولت الحداثية من
داخلها إلى مذهب لا يزال تحديد ملامحه
عسيرًا، ونكتفي الآن بإطلاق اسم ما بعد الحداثية عليه،
وهو وصف لا يمس جوهره، ولكنه يحدد وحسب موقعه الزمني. وأتصور أن فهم ملامحه —
وهو ما حاولتُه في كتاب لي بالإنجليزية عن الشعراء
العرب الحداثيين وما بعد الحداثيين — لا يزال مجال
مناقشات مستفيضة؛ فليس من السهل على ناقد أيديولوجي
راسخ القدم أن يقبل التحول من الصور الحداثية التي ثبتت
في النصف الأول من القرن العشرين إلى صور يصعب وصفها
مهما يكن التزامها بواقع الدنيا المتغيرة، وليس من
اليسير على قارئ اعتاد جماليات الشعر الحداثي مثلًا أن
يقبل مبالغات أصحاب ما بعد الحداثية في نماذج معينة
للجماليات الجديدة التي قد تنحرف عن الجمال بأي معنًى.
ولكن ذلك لا يعني أن الحركة الجديدة قد قضت على الحداثة
والحداثية، فذلك أبعد ما يكون عن الواقع، والصحيح أن
الحداثية بالمعنى الذي سوف أحدِّده حية بل وتزداد
اكتساب حيوية، وإن تكن اتجاهات هذه الحيوية قد اختلفت
بعض الشيء، كما سوف أبيِّن من باب التمهيد لمعنى عنوان
كتاب شبل الكومي الجديد.
ما المعنى الأساسي للحداثية إذن في الفكر والفن؟ المعنى الأساسي
يمكن تلخيصه في معارضة المفهوم الأرسطي للفن باعتباره محاكاةً للطبيعة،
ومبدأ المحاكاة
(mimesis) ذو جذور
فلسفية تتعلق بنظرية المعرفة، ومصادر المعرفة في الذهن
أي الانطباعات الحسية، والقول بأن الصورة الذهنية للشيء
تصبح فكرة، وتكاثر الصور المفردة يؤدي إلى نشأة المفهوم
العام عن الشيء ونظائره؛ أي إن صور الأشجار المنوعة
مثلًا تؤدي إلى نشأة مفهوم أو نموذج للشجرة مستقًى من
الطبيعة، وقس على ذلك صورة الإنسان ومشاعره وطرائق
حياته وعلاقاته التي يمثِّلها — أي أن يحاكيها الفنان
بما يرمز لها
(imitationrepresentation)
— في الأدب والفن، استنادًا إلى ما قاله أرسطو، ومن ثم
كان صدق تصوير
الطبيعة مقياسًا لمدى تميز الفنان في كل حقبة كلاسيكية،
ومن المحاكاة وُلِدَت «القواعد» الكلاسيكية في الشعر
والمسرح وفي سائر الفنون كالرسم والنحت والموسيقى (انظر
درايدن والشعر
المسرحي، مجدي وهبة ومحمد عناني ١٩٦٣م،
١٩٩٤م).
من رحم المحاكاة، كما أقول، وُلِدَت القواعد وعلى
رأسها فكرة الوحدة،
أو ما يشار إليه باسم «العضوية» الذي يعني صفة الكائن
الحي (organicism) وهي
النسبة إلى organism؛
أي الكائن الحي، ومفهوم ما يسمى الشكل العضوي
(organic form) عند
كولريدج، وهو الذي أحياه النقد الجديد (انظر كتابي
المصطلحات الأدبية
الحديثة، ١٩٩٦م). وما كان أيسر أن تستمر بعد
ذلك فكرة الوحدة ما بين الرومانسيين والكلاسيكيين وإن
تعددت أشكالها؛ فوحدة العمل الفني كانت تفسَّر أحيانًا
بتكامل أجزائه؛ أي باقترابه من تكامل أعضاء الكائن
الحي، وأحيانًا أخرى يضمان سيادة حالة نفسية واحدة فيه
من أوله إلى آخره، وهو ما أتى في الحالة الأولى بوحدة
الانطباع (unity of
impression)؛ أي بالانطباع العام الذي
يتركه العمل الفني في النفس ولو كان متنوع الخيوط، وفي
الحالة الثانية بفكرة النقاء النوعي
(generic purity) بحيث
لا يختلط نوع الكوميديا بنوع التراجيديا مثلًا؛ لأن
الإنسان «الطبيعي» كما يقول درايدن لا يستطيع أن يضحك
ويبكي في وقت واحد.
ولكن المحاكاة أتت بمشكلات متعددة منذ القرن السابع
عشر؛ إذ ظهر على الأفق مع مولد العلم الطبيعي اهتمام
بالنفس أو الروح، وبدور العقل في العملية الإبداعية،
وما يشار إليه باسم الثنائية
الديكارتية (Cartesian
duality) وتعني فصل عمل العقل المستند
إلى الحواس عن عمل الروح وهو عمل لا يستطيع أحد إدراك
كنهه؛ ولذا فقد كان ديكارت يقول إن الإنسان يعرف الروح
مثلما يعرف الله حدسًا لا استنادًا إلى معطيات الحواس،
ومن ثم فما إن بدأ القرن الثامن عشر حتى اشتد ساعد
العلم الطبيعي، وأصبح النقاد والشعراء ينشدون أسسًا
طبيعية؛ أي أسسًا قائمة على المنطق الطبيعي أو النظرة
العاقلة المشتركة عند البشر (common
sense) وهي التي وجدوها في «أنقى»
صورها عند القدماء؛ فالقدماء كانوا «أقرب إلى العيش
الطبيعي»؛ أي الخالي من صور الزيف التي أتت بها الحياة
الاجتماعية الحديثة في المدن؛ ولذلك فأحيانًا ما يطلَق
على التيار الرئيسي للفكر والفن في القرن الثامن عشر
تيار «العصر الأوغسطي»؛ أي التيار الذي يحاول أصحابه
الالتزام بقواعد العصر القديم ما دام يمثل اقترابًا
أكبر من الطبيعة، وكان معنى ذلك ضرورة الدرس وإحكام
الصنعة لغويًّا وبنائيًّا في الأدب؛ إذ كانت محاكاة
القدماء محاكاةً لمن أجادوا محاكاة الطبيعة، وكان الدرس
الواعي لآثارهم سبيلًا مؤكدًا للإتقان وسهولة التأليف
ويمثل الشاعر ألكسندر بوب
(Pope) هذا الاتجاه خير
تمثيل؛ فهو يقول إن سهولة الكتابة؛ أي الإبداع تأتي
بالدرس والعلم (art) لا
المصادفة، مثل الرقص الذي يُجيده من تعلم الرقص:
True ease in writing comes
from art not chance,
As those move easiest who
have learnt to dance.
والدرس هنا ليس درسًا لأشياء بشرية قد تكون زائفة،
ولكنه درس للطبيعة؛ فالطبيعة تحكمها قواعد قائمة على ما
يسمَّى قانون الطبيعة (law of
nature) وهو الذي أماط نيوتن اللثام
عنه:
مقاومة المحاكاة إذن كانت نقطة انطلاق
الحداثية في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت كما هو
معروف مقصورةً على الفن التشكيلي، ولكن مطلع القرن
العشرين كان يحمل في طياته عوامل أخرى ذكرت أحدها في
كتابي أنواع من
السخرية بالإنجليزية (١٩٨٤م) ألَا وهو تعريف
أرنولد نفسه (ت ١٨٨٨م) للعقل الحديث بأنه العقل
المتسائل (the inquiring
mind)؛ أي العقل الذي لا يقبل الأمور
على علاتها، وهو ما يذكرنا إلى حد ما بمذهب الشك عند
ديكارت، ولكن ديكارت كان عالمًا في الرياضيات وكان
يستخدم الشك، كما يقول في مقاله عن المنهج العلمي: للوصول إلى
اليقين، واليقين عنده كان افتراضيًّا، فلك أن تفترض أن
س = ص٢ أو أن س = ع٢، وهكذا فنحن في الرياضيات نتعامل
برموز نتفق على فرضيتها، أما الذهن المتسائل عند أرنولد
فهو الذي أدى إلى نشأة الفلسفة اللغوية عند برتراند
راسل وفتجنشتاين من بعده (أو معه، إلى حد كبير) حيث
يعتمد «اليقين» على التحقق من صدق المقولات
(verification)؛ أي
يفترض قدرًا معينًا من الإحالة إلى واقع، مهما تكن درجة
افتراضنا له، ومن خلال التحليل اللغوي الذي يسمى
«الفلسفة اللغوية» (linguistic
philosophy) استطاع راسل أن يقدم صورةً
جديدة من المنطق؛ أي صورة تختلف عن منطق أرسطو، وهي
الصورة التي ثبت فيما بعدُ أنها كانت من وراء ابتكار
آلة السيجما (sigma)
الروسية التي تطوَّرت فأصبحت الحاسوب بعد نَيِّف وخمسة
عقود.
ولأضرب مثلًا يوضِّح ما أعنيه بهذا الجانب من التغيير
في المدخل الفكري. كان الشك عند ديكارت يقوم على افتراض
ثبات الرموز، بمعنى أن «س» لا يمكن أن تعني افتراضًا
غير شيء واحد، فإذا قلت «واحد»، فلا بد لجميع رموزك أن
تكون لها قيم افتراضية واحدة، وأما في الفلسفة اللغوية
فإذا قلت إنني أفترض أن ١ + ١ = ٢ كان عليك أن تفترض
أيضًا أن الوحدة الأولى تماثل الوحدة المضافة وإلا
استحال قولك إنهما اثنتان، فإذا كانت الوحدة تفاحةً وجب
أن تكون الأخرى تفاحةً حتى يكون لديك تفاحتان، أما إذا
كانت الوحدة المضافة برتقالة، فإن عليك أن تُعدِّل وصف
الوحدة بأن تقول إنها ثمرة، بحيث تصبح الأخرى ثمرةً حتى
يصبح لديك ثمرتان، فإذا توسعت في العمليات الرياضية
وأضفت علامة الناقص مثلًا كان عليك تعديل إطارك
الافتراضي، فإذا صح بالمنطق الرمزي أن تقول ١ − ١ =
صفر، استحال عليك بالمنطق الجديد ذلك، وإلا كان من
الممكن أن تقول «تفاحة مطروحًا منها برتقالة يساوي صفر»
فهذا لا يجوز، وهذا مجرد مثال بدائي أو مبدئي، لكن راسل
(وفتجنشتاين) أبدعا في تحليل الأقوال الصحيحة والأقوال
الفاسدة، فرسما بذلك منهجًا يمكن تطبيقه على الفكر بشتى
أنواعه، وعلى ضوئه نستطيع أن نفهم التلاعب المنطقي عند
سبينوزا حين يحاول في كتابه الأخلاق (ص٣) إثبات أن الله والوجود شيء
واحد؛ إذ يبدأ بطرح الفرضية التي تقول الوجود هو كل ما
هو موجود، وإذن فالوجود واحد، وما دام الله موجودًا فهو
جزء من الوجود؛ لأنه من المحال أن تتصور أن لدينا
«وجودين».
وسرعان ما أثار
«الذهن المتسائل» — وهي بالمناسبة عبارة استعارها
أرنولد من كولريدج — الشك في كثير من المسائل التي كان
العلم الطبيعي قد أرساها في أعقاب المكتشفات العلمية
الباهرة التي غيَّرت وجه الحياة في دنيانا إلى الأبد،
في الفيزياء (مثل اكتشاف أشعة
X عام ١٨٩٥م) والكيمياء
والطب وكل ما ندين به لتلك الفترة الخصبة، وليس بأهونها
اختراع المصباح الكهربائي والحاكي (الفونوغراف). وقد
جمعتُ سلسلةً من الدراسات الخاصة بمكتشفات فترة أواخر
القرن التاسع عشر ومطلع العشرين بعنوان يوريكا
(Eureka!)؛ أي
«وجدتُها!»، فذُهلت للمدى الذي وصل إليه النشاط العلمي
الإبداعي آنذاك، بل إن اكتشاف الذرة نفسه يعود إلى تلك
الحقبة، وكان الولوع بالصناعة وتطبيق المكتشفات على
مظاهر الحياة اليومية بارزًا، ولعلنا نذكر أن البارون
إمبان، منشئ «هليوبولويس» (مصر الجديدة) كان من هؤلاء
الصناعيين في بلجيكا، واستخدم إنشاء الحي الجديد
ميدانًا لتجربة بعض التطبيقات الصناعية في مصر، فبدأ
المشروع بإنشاء خط الترام واصطفى من المصريين من يجيدون
العلوم الهندسية، واشترى أكثر من خمسة آلاف فدان في
الصحراء من بوغوص نوبار باشا (الذي رأس الوزارة يومًا
ما)، ودُهش الخديوي عندما دفع رجل الصناعة أكثر من خمسة
آلاف جنيه ثمنًا للرمال (انظر هليوبولويس، مدينة الشمس تولد من جديد
٢٠٠٨م، ترجمة الكاتب).
كان التساؤل والتشكك — في نظري — من نتائج الرفاهية
التي جلبها الاستعمار فغيَّر أنماط الحياة في أوروبا.
ويذكرني ذلك بالنهضة العلمية العربية التي تلت الفتوحات
الكبرى في العصر العباسي الثاني؛ إذ وجد العلماء
والأدباء من يرعى أنشطتهم وينفق ببذخ عليهم، فتفرغوا
للبحث والإبداع، وكذلك كان آخر القرن التاسع عشر يمثل
ذروة الإمبريالية؛ أي بناء الإمبراطوريات الأوروبية،
وبغض النظر عن مظاهر التفاوت الاجتماعي الشديد في
بريطانيا، وإحاطتي بتاريخها أعمق من إحاطتي بتاريخ
غيرها، وجدنا من المفكرين والأدباء من مهَّدوا لإعادة
النظر في القيم الموروثة — ربما بلا استثناء — فالعلم
كان قد بلغ حدًّا يصفه البعض بدرجة التشبع التي أفرزت
التشكك في كل شيء، حتى في الأصول أو المبادئ التي كان
يستند إليها وهي معطيات الحواس، وأستدرك هنا فأقول إن
الرجل العادي حتى منتصف ذلك القرن لم يكن قد فقد إيمانه
المطلق بتلك المعطيات وأسلوب الاستقراء
(induction) والقياس
(analogy)، ولكن العلم
لم يكن يعيش في فراغ؛ فالآلات الحربية التي اخترعها
العلم لقهر الشعوب المستعمرة كانت توجد جنبًا إلى جنب
مع مكتشفات جديدة محيرة، مثل ما أتى به كتاب أصل الأنواع لداروين، الذي جعل
بعض الناس ترتاب في قصص الخلق التي يرويها الكتاب
المقدس، وكذلك صلاحية الاستقراء والقياس للتطبيق في
مباحث علمية جديدة، وهو ما أكَّده ظهور كتابين في تلك
الفترة، أحدهما في أولها وهو كتاب قواعد العلم لمؤلفه كارل بيرسون
Pearson, The
Grammar of science الذي
نُشر عام ١٨٩٢م، وفيه يقدم المؤلف نظرةً جديدة في
العلم، مبينًا ضرورة الاهتداء بالفرضيات النظرية غير
القائمة على معطيات الحواس، حتى في تفسير هذه المعطيات،
وعلى الرغم من أن الكتاب موجه للقارئ العادي فإن
المقتطفات التي قرأتها منه تدل على أن المؤلف ضليع في
الفلسفة؛ إذ يهتدي بحديث كانط في نقد العقل الخالص عن إمكان معرفة العالم من
خلال المقولات الفكرية وحدها من دون الاعتماد على
معطيات الحواس الخادعة، وسرعان ما وجد هذا الكتاب من
يؤيده خصوصًا في مطلع القرن العشرين؛ إذ بدأ الناس
يتشكَّكون في قيمة «الملاحظة» والمعطيات عندما عرضت لهم
خصوصًا عندما عرض لهم بيرسون مسألة انتقال «المادة
الأساسية للكون وهل تنتقل في صورة أمواج أم في صورة
جزيئات»، وهي ظاهرة من المحال أن يدركها البصر. وقد
أعرب بيرسون عن هذا للجمهور بقوله إن العلم لا «يشرح»
أسلوب عمل الكون، ولكنه «يصف» ما يحدث وحسب في ظروف
معينة. وأُضيف بالمناسبة أن وليم كروكس
(Crookes) اكتشف في عام
١٨٧٩م أن أشعة «الكاثود» (المهبط/القطب السالب) تتبع
مسارًا منحنيًا نتيجة وجود حقل مغناطيسي، وأما المناظرة
المشار إليها فقد حسمها هاينريش هيرتز
(Herz) في التجربة التي
أجراها عام ١٨٩٢م، واكتشاف ج. ج. طومسون للإلكترون في
١٨٩٧م (انظر دائرة المعارف
البريطانية، ط١٥، شيكاغو ١٩٩٢م، مجلد ١٤،
ص٣٤٥-٣٤٦).
ولأستدرك من
جديد فأقول إن تبين الحدود المعرفية للعلم، وأقصد
العلوم الطبيعية، لم يعق تقدم البحوث التي كانت جاريةً
في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ولكنه دعم
الحاجة إلى التفكير خارج الأطر المتوارثة، وهو ما أظن
أنه كان من وراء انشغال كارل بوبر
(Popper) ﺑ «الشطحات
الخلاقة» التي يمكن إثبات خطئها! والأهم من هذا، في
سياق حديثنا عن الحداثة إدراك أن «العلم» بناءٌ يبنيه
عقل الإنسان قبل أن يكون صورةً للعالم المادي، وأما
التشكك في هيمنة التفكير العلمي بصفة عامة، فإنه أقام
حجةً فلسفية تؤكد ضرورة اعتبار قيمه نسبية. ويذكِّرنا
هذا بما يقوله نيتشه في كتابه ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى (ترجمة
فالتر كاوفمان ([١٨٧٢] ١٩٦٧م)):
«لقد نجح بعض العظماء … بقدر لا يكاد يصدق من
الفكر، في الانتفاع بحواشي العلم نفسه وهوامشه، وفي
الإشارة إلى حدوده المعرفية بصفة عامة وطابعها
النسبي، وهكذا نجحوا في أن يُنكروا إنكارًا قاطعًا
الزعم بأن للعلم صحةً عالمية وأهدافًا عالمية.»
(ص١١٢)
وقد اقتطفت هذه العبارات لأشير إلى ما أعتبره مفارقةً
تاريخية؛ فالنسبية التي يشير إليها نيتشه في تلك الفترة
الحافلة بالقلقلة في القرن التاسع عشر سرعان ما أثبتها
العلم عندما وضع أينشتاين نظريته الخاصة عن النسبية، ثم
نظريته العامة، التي ينسب العلماء إليها صنع القنبلة
الذرية. لم تكن هذه من حواشي العلم وهوامشه، ولكن انظر
لِما أحدثته في نهاية فترة الحداثة المفترضة! والأهم من
ذلك أن مفكرًا لوذعيًّا هو آرثر إدينجتون
(Eddington) أصدر في
عام ١٩٢٨م كتابًا (الكتاب الثاني الذي أشرت إليه آنفًا)
بعنوان طبيعة العالم
المادي، يفتتحه بما يكاد يمثِّل الكفة
الأخرى للقول بالقصور المعرفي للعلم؛ فهو يقول ما يفهم
منه إن العالم الحديث لا بد أن يجمع بين أكثر من صورة
واحدة له في ذهن كل إنسان، وعالم الفيزياء لا يزال يعيش
في العالم النيوتوني الذي يشاركه فيه الناس العاديون،
على الرغم من أنه يدرك أوجه القصور في مفهومه، بل وربما
كان يعرف أنه شبه
وهمي! فذلك الباحث يجلس إلى منضدة يعرف أنها تتكون من
ذرات وجزئيات، وهو يذكر أن العالم الألماني رونتيجن قد
اكتشف وجود أشعة تخترق الحجب! [أشعة
X] والناس قد تعرف ذلك
أو لا تعرفه، ولكن الأدباء يشعرون به قبل غيرهم، وهو ما
يؤثر في رؤيتهم للعالم ولعقل الإنسان، أو قل للعالم
الإنساني الخاص، وهو ما نجد استرجاعًا له في تعريف
هايديجر للحداثة
(modernity) بأنها عصر
القول بأن للعالم صورة، إذ يقول:
لدينا تعبيران هما «صورة العالم في العصر الحديث»
و«صورة العالم الحديثة» وهما … يفترضان شيئًا كان
من المحال أن يُفترض من قبل، ألَا وهو صورة العالم
في العصور الوسطى وصورة العالم في العصور القديمة.
ولكن صورة العالم لا تتغير من صورة سابقة في العصور
الوسطى إلى صورة حديثة، ولكن الواقع يقول إن تحول
العالم في ذاته إلى صورة هو الذي يميِّز جوهر العصر
الحديث [من فصل عنوانه «عصر صورة العالم» في كتاب
مسألة التكنولوجيا ومقالات
أخرى، تحرير وترجمة وليام لافيت، ١٩٩٧م،
ص٢١٨].
كان الاتجاه إلى
ذهن الإنسان يمثل معاداة لمنجزات العلم والتكنولوجيا
التي استند إليها فنانو المذهب المستقبلي في تصوير
عالمهم الحديث والمتحول، ولكن إحياء المذهب الإنساني أو
الهومانيزم — تعريب لويس عوض — كان يختلف عن المفهوم
الذي برز به في عصر النهضة؛ إذ كان آنذاك بمثابة إنزال
الفلسفة من السماء إلى الأرض؛ أي التحول من «النقل» في
الفكر الاسكولائي [أي الكنسي المدرسي — تعريب لويس عوض]
إلى الإنسان باعتباره الباحث وموضوع البحث، وهو ما
أثَّر أكبر تأثير في آداب العصر وفنونه، حتى حين ينزع
الأدباء إلى الخيال والتحرر من معطيات الحواس المحدودة،
فنجد عند الرومانسيين أول إرهاص بالفكر الجديد وهو
«اندماج الذات والموضوع» (coalescence
of subject and object) وإن كان
كولريدج يقصره على إبداع الشاعر، ونجد عند وردزورث
إيضاحًا لفكرة صديقه (التي يقال إنه استقاها من
الألمان) عن هذا الاندماج، إذ يفضِّل القول فيها في
قصيدته المقدمة
(The
Prelude) وكيف يكون نمو
الذهن الخلاق مستندًا إلى اكتشاف وجود العالم في داخله،
فهو يرى العالم في ذهنه ويرى ذهنه في العالم، أو ما كان
يسميه الطبيعة، كأنما ليؤكد قول كولريدج الشهير:
O Lady we receive but what
we give
And in Our life alone does
nature live.
أي إننا في عصر
الحداثة نشهد ميلادًا جديدًا للمذهب الإنساني الذي كان
قائمًا على «ثبات الذات» (أو «الأنا» إذا استعرنا شيئًا
من مصطلح التحليل النفسي الحديث) فإذا به يغدو وهميًّا؛
فالمفكرون المحدثون وبعضهم من الماركسيين الجدد أو من
تجاوزوا الماركسية و«لا يزالون يدورون في فلكها»،
يُنكرون هذا الثبات، وهو ما أدَّى بدوره إلى رفض التصور
«القديم» للنفس أو الروح عند أصحاب ما بعد الحداثة،
وأنا أُلح على هذه المسألة لأن المفكر شبل الكومي
لا يتخلى في أية تأملات فلسفية
عن «الروح» والإيمان بها، كما يتجلى في
كتابه السابق الواقعية
الجديدة ويعني بها الواقعية الروحية التي
يناقشها في فصول الكتاب [ولتغيير العنوان الذي كان
الواقعية الروحية
أسباب لم يأنِ أوان عرضها].
لم تكن الحداثة ترفض وجود النفس، مثلما يفعل أصحاب ما
بعد الحداثة الذين يرَون أن النفس بناء متصوَّر أو
افتراضي لموقع تتلاقى فيه قوًى اجتماعية مادية وقوًى
وفكرية أو أيديولوجية مع القوى البيولوجية، ولمَّا كانت
هذه القوى دائمة التغير فإن تصور ثبات موقع تلاقيها
وتصارعها تصور غير دقيق، ومن ثم فالحديث عن وجود نفس
محددة لكل فرد من قبيل المجاز الذي يتوسل به العلماء
دون أن يكون له وجود حقيقي. وقد يعجب المرء من قول د.
ﻫ. لورنس عام ١٩١٤م في أحد خطاباته التي سبقت كتابته
روايتي قوس قزح
(١٩١٥م) ثم العاشقات
(١٩٢٠م)، إنه يرفض القول بالثبات القديم للنفس الذي كان
يقوم على المذهب الإنساني الأخلاقي؛ إذ يقول:
أنا لا أكترث إلا لماهية المرأة — أي ما المرأة — من غير الزاوية
الإنسانية
[inhumanly] بل
فسيولوجيًّا وماديًّا … فماهيتها مظهر أو ظاهرة
(تمثل إرادةً غير إنسانية أعظم)، ولست آبه لما تشعر
به وفق المفهوم الإنساني (مقتطف في كتاب الحداثة ٢٠١١م،
ص١٣).
ولكننا نعرف
طبعًا أنه صوَّر نفس المرأة، رغم إنكاره، أبدع تصوير،
ولم أجد تبريرًا لهذا الإنكار المبكر للنفس إلا عند
فريدريك جيمسون الذي يرى أن افتراض هذا الوجود من خلق
النظام الرأسمالي الذي يود تثبيت أحوال المجتمع،
مستغلًّا هذا المذهب الإنساني «القديم» في إقناع الناس
بأن لهم نفوسًا تريده ما يريد الرأسماليون، وقد كثر
اقتطاف حجة جيمسون، وأنا أرجع إليها في مقال كتبه
بعنوان «ما بعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي» في كتاب
من تحرير هال فوستر
(Foster) بعنوان
مناهضة المذهب الجمالي: ثقافة ما
بعد الحداثة (١٩٨٥م) ص١١١–١٢٥، وهو مقال
يرهص فيه جيمسون بأفكاره عما بعد الحداثة (في الكتاب
الذي يحمل هذا العنوان) وببعض أفكار تيري إيجلتون
وكريستوفر نوريس. والاتجاه العام إلى مهاجمة المجتمع
الحديث بسبب تشييئه للإنسان يتناقض في نظري مع إنكار
النفس الذي يعتبره الماديون فكرةً شبه مقدسة؛ فالواقع
أن الحداثة لم تنكر النفس قط بل شككت وحسب في مفهوم
الثبات القديم، فمفهوم الثبات في الأدب القديم يعني
إمكان رسم صور الشخصيات في أطر محددة ثابتة تعين القارئ
على أن يتوقع كلام الشخصية وسلوكها بمجرد ظهورها على
مسرح الأحداث، ومفهوم عدم الثبات يعني العكس، ونحن في
المسرح نفضِّل الثبات، بحيث نستطيع تقدير التطور في
الكلام والمسلك ما دام الإطار قائمًا، ولكننا في المسرح
نرى الشخص أمامنا ونستطيع أن نغير من تفاعلنا معه ما
دمنا نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا، فكأننا نعيش حياةً
شبه كاملة معه، وأما في الرواية والقصة القصيرة والشعر
فليس أمامنا سوى اللغة، واللغة وسيط
(medium) عسير التناول،
فقد نُنصت لراوية الأحداث ويقنعنا بالثقة فيه ويشار
إليه بمصطلح الموثوق به؛ أي
reliable، وقد نفقد
الثقة فيه إذا أراد المؤلف خلق مفارقة خاصة به، وقد
نرسم له في خيالنا صورةً نرضاها ولا يرضاها غيره من
الأشخاص، وينطبق هذا على الشعر، وأقصد الشعر بأصواته
الثلاثة التي حددها ت. س. إليوت (انظر كتب العلامة ماهر
شفيق فريد عن نقده وشعره)؛ فالصوت الأول نجده في الشعر
الغنائي أي الذي يتحدث فيه الشاعر إلينا بصوته المباشر،
حيث يلتقَّى المؤلف الحقيقي مع المؤلف الموحى به
(implied author) وفق
تعريف وين بوث (انظر الرفيق إلى
نظرية السرد، ٢٠٠٨م، والترجمة العربية في
المطبعة)، والصوت الثاني هو الشعر الذي يرتدي الشاعر
فيه قناع شخصية أخرى
(persona)، والصوت
الثالث هو الصوت الدرامي حيث يرتدي الشاعر أقنعة شخصيات
متعددة.
ونجد في الأدب الحداثي، كما يبين شبل الكومي في
تحليله لنجيب محفوظ وأمل دنقل، أن المؤلف يصطنع تركيبًا
من الموقفين المذكورين إزاء النفس البشرية، فكلاهما
يُبرز ثبات النفس وتغيرها، وكلاهما من ثمار تيار
الحداثة الذي امتد كما ذكرت آنفًا إلى ما بعد الحرب
العالمية الثانية، ومقارنة تحليل الباحث في هذا الكتاب
بتحليله لأعمال أخرى سابقة، خصوصًا عند نجيب محفوظ،
تؤكد ما أذهب إليه من ميله إلى قَبول فكرة التركيب؛
فنجيب محفوظ في الثلاثية يقترب من المنهج «القديم» في
القرن التاسع عشر، لا في الأدب الإنجليزي فقط بل في
الأدب الفرنسي، عند زولا مثلًا، أو الروسي، ولنقل عند
تولستوي. ولكن نجيب محفوظ في قصصه الأخيرة مثل
الكرنك أو يوم قتل الزعيم أو في قصته
الرائعة «زعبلاوي» يؤكد حداثته التي يركز عليها المؤلف هنا؛ فلديه
رواة يمارسون «السرد الوهمي»
(disnarration)؛ أي سرد
ما لم يحدث، و«عدم السرد» بأشكاله التي يتبحَّر فيها
المتخصصون، ويقترب كثيرًا من القصة الحداثية التي
أبدعها تولستوي وهي «سوناتا
كرويتزر» (وهي نوفيلا؛ أي «قصة قصيرة»
مطولة).
ومن العناصر الحداثية المهمة الولع بالتاريخ
والأسطورة، وهو ما يتناوله شبل الكومي من زاوية فلسفية
أيضًا باعتباره من نتاج الموقف الفكري الذي أصبح من
سمات العصر، وأعني به التباس المعاني
(equivocation) في
أحداث الماضي وربطها بالأساطير، ويتجلَّى هذا بأبهى
صورة في شعر أمل دنقل الذي يحلِّله الباحث ببراعة في
هذا الكتاب. فمثلما شُغل الشعراء والكتاب في أوروبا
بقضية المعنى، وهي قضية لا تقتصر على إشكالية التفسير
أو الهرمانيوطيقا التي تشغل المحدثين مثلما تشغل شبل
الكومي، بل تتعدى ذلك إلى إمكان
وجود المعنى لأي شيء أصلًا (وسوف أعود إلى
هذه المسألة). فلقد كان كتاب الغصن الذهبي الذي كتبه فريزر
(Frazer) وحصلتُ على
نسخته المختصرة منذ عامين، (بعد أن ضاعت نسختي القديمة)
من علامات الطريق في مسار الأدب الحديث، بسبب إلقائه
الضوء على جذور الرمزية التي نحيا بها، وضرورة اللجوء
إلى الرمز عمومًا بحثًا عن المعنى، والرمز قد يكون
اجتماعيًّا أو فكريًّا أو ما شئت، لكنه إنساني ومتعالٍ
في الوقت نفسه، ويشهد كما يقول محرر الغصن الذهبي في
مقدمته (وهو روبرت فريزر، طبعة ١٩٩٤م) بحتمية استعانة
الإنسان بالرمز من التاريخ والأسطورة في سبيل المعنى،
ولا حياة للإنسان في العصر الحديث دون الرمز الذي قد
يتخذ صورة الطقوس أو الشعائر، أو مجرد أقوال تمثِّل
صورًا تتعدَّد معانيها وتلتبس ولكن وجودها مهم. ولذلك
وجدنا في صور الشعراء العرب المحدثين مثل هذا الولوع،
ولطالما كنت أكره المعالجات الشعرية للقضايا السياسية التي تستخدم
رموز التاريخ والأساطير العربية من زرقاء اليمامة إلى
صلاح الدين الأيوبي؛ لأن هذه الرموز تُشوش النظر إلى
الواقع السياسي؛ فاستلهام صورة صلاح الدين الذي استرجع
بيت المقدس بقوة السلاح يصعب نقلها إلى العالم المعاصر
الذي أصبحت فيه الحرب قتالًا بالعلوم الحديثة لا
بالسواعد المفتولة والصوارم الماضية. وقس على ذلك
محاكاة الشعراء العرب للأجانب في الإحالات إلى أرباب
اليونان وأساطير قدماء لا علم لنا بهم، وقد يكون الدافع
كما يقول الدكتور محمد عبد الحي هو التعالم، فلم ننشأ
على أسطورة بروميثيوس، ولا يعني بعث العنقاء (فينيكس)
من رمادها في النار بعد خمسمائة عام شيئًا للقارئ
العربي وربما للشاعر نفسه. أما استخدام شوقي للجن في
مجنون ليلى فهو ما
نعنيه حين نقول استلهام الأساطير أو التراث (نحن بنو
جهنما/نغلي كما تغلي دمَا).
ويقول نورثروب
فراي في كتابه تشريح النقد (طبعة ١٩٩٠م) إن الرموز
الدينية لا تنفصل عن الرموز الإنسانية العامة، وهو يربط
ربطًا جميلًا بين المعاني في استخدام المحدثين لِما
يسميه المصطلحات الأساسية وهي الأسطورة والرمز والطقس
والنمط الفطري، ويدافع عن منهجه القائم على الإيمان
بالله وبالروح [فلقد كان كاهنًا في الكنيسة الكندية]
بمناهج نقدية تحليلية يصفها هارولد بلوم في تصديره لهذه
الطبيعة بأنها تنتمي إلى الأفلاطونية الجديدة، كما يربط
الدكتور إيان نيتون (Ian
Netton) بينها وبين مناهج رسائل
إخوان الصفاء وخلان
الوفاء؛ إذ يقيم علاقةً منهجية بين تحليل
رموز الكتاب المقدس عند فراي، ومناقشة هذه الرسائل
للرموز العربية التي دخلت الإسلام، وأقوال أفلوطين
(Plotinus) المصري
حاضرة هنا وهناك. أما الغاية فهي إقامة علاقة وثيقة بين
ما يسمى الرموز فوق التاريخية أو الروح المتجاوزة
للتاريخ
(superhistorical) وبين
هياكل الفكر الإنساني عند المحدثين من شعراء وروائيين
مثل وليم بطلر ييتس، وجيمز جويس، ود. ﻫ. لورنس وتوماس
مان فيما يقدمونه من رموز، سعيًا وراء معانٍ
ميتافيزيقية من المستوى الذي كان ت. س. إليوت يعمل
عليه، ولم يكن يُخفي توجهه الروحي وتحوله الكامل إلى
الدين في مراحل حياته اللاحقة، وقد انتقده بعض معاصريه
لاستخدام أسطورة «الكأس المقدسة» في قصيدة «الأرض
الخراب» في إطار الأسطورة الأكبر وهي الخصب؛ أي طلب
الإشباع الإنساني بالوجود والامتداد، مبينين أنه يظهر
اشمئزازه من الجنس في أماكن متفرقة من القصيدة، ورد
عليهم آخرون فبيَّنوا أن القصد من استعمال الأساطير
والرموز (حسبما يقول فراي مثلًا) كان تأكيد الامتداد
الزمني لا المكاني كما هو عند ييتس ومان ولورنس وجويس،
والمفتاح الزمني يفتح لنا باب التقاليد بالمعنى الذي
يقصده إليوت، يقول ليفنسون:
لم تكن التقاليد عند إليوت … قاعدة تُتَّبع بل
تراثًا كامنًا إلى حد كبير في اللاوعي، ويتعرض
باستمرار للتعديل داخل النفس. فلقد كان يشبه عزرا
باوند وغيره من المحدثين في التفكير العميق في
مفارقات التقاليد في علاقتها بالإبداع، قائلًا إن
أشد المواهب أصالةً ليست مقيدةً وحسب داخل أحد ضروب
التقاليد، بل من الأرجح أن تعيد تأكيد هذه التقاليد
ونجد في هذا الصدد أن مصطلح «التجديد» مصطلح غامض
غموضًا لا قاع له! ولقد استطاع بفضل هذا الإطار
الكبير المتجاوز للفردية والذي يسميه «ذهن أوروبا»
أن يجسد فعلًا رؤى خياله المبدع للأساطير
الحقة.
ولم يفُت شبل الكومي أن يقيم الصلة المذكورة بين
استعانة المحدثين بالأساطير وبين ما أسميته التقاليد
(tradition)، وهو ما
يوازي الباحث بينه وبين التراث
(inheritance) في
الفقرة المقتطفة أعلاه؛ إذ يشير إلى ما يفعله صلاح عبد
الصبور وأمل دنقل، وأود أن أُضيف هنا دلالةً خاصة
للعلاقة بالتقاليد عند المحدثين وهي التي تتجلَّى في
استخدام اللغة. وأقول واثقًا إن حالة اللغة العربية
حالة خاصة بسبب ارتباط اللغة العربية بالتاريخ ارتباطًا
لا نجده في أيٍّ من اللغات الأوروبية الحديثة،
والاعتزاز بالفصحى له عند العربي جذور قومية تتعلق
بهُويته ذاتها؛ أي إن الصراع الدائر حاليًّا بين اللهجة
المحلية المصرية في الإبداع الأدبي (وهو لا يزال
مقصورًا على الشعر والمسرح ولم يجرؤ على دخول الرواية)
وبين الفصحى المعاصرة، ليس صراعًا أدبيًّا صرفًا، بل
إنه لصراع وجود في التاريخ، وصراع انتماء إلى أمة كُتب
عليها أن تعاني ما عانته فظلت مستمسكةً بوجودها من خلال
لغتها، وظاهرة العربية الفصحى التي لا تتغيَّر روحها
مهما تغيَّرت ألفاظها ومبانيها ظاهرة فريدة بين لغات
الأرض.
أما النظرة الحديثة إلى اللغة فربما اتخذت نقطة
انطلاقها من كتاب سوسير عن علم
اللغة العام، والذي نُشر عام ١٩١٦م بعد
وفاته، فكان يمس عصبًا حساسًا لدى المعاصرين الذين كانت
تشغلهم قضية البناء والتركيب في غمار انشغالهم، كما
بينت آنفًا، بقضية المعنى؛ إذ بين للقراء مدى العلاقات
التعسفية القائمة بين العلامات اللغوية وبين ما تُحيلنا
إليه خارجها، وأن المعنى يُخْلق من خلال علاقات داخل
اللغة نفسها باعتبارها نظامًا محددًا. وكان ذلك مضادًّا
إلى أقصى حد مع الفكرة الموروثة عن إطلاق الإنسان
أسماءً على الأشياء السابقة الوجود، بل يقول إننا نحصل
على الأشياء؛ أي نوجدها من خلال ابتكار أسماء لها. ولم
يلبث فتجنشتاين في الرسالة
الفلسفية المنطقية (١٩٢١م) التي عادةً ما
نشير إليها باسم الرسالة وحسب (The
Tractatus) أن عبَّر عن
فكرة مماثلة قائلًا: «حدود لغتي حدود عالمي.» وكان هذا،
وفق الرأي السائد، لحظة التحول إلى اللغة، وقد أصبح
تعبير «التحول إلى» يعني أيضًا «بروز دور»، فقولك
The linguistic turn
يعني نهوض اللغة بدور رئيسي، وقد شاع هذا في الإشارة
إلى «التحول إلى الثقافة» في دراسات الترجمة بمعنى قيام
الثقافة بالدور المنوط بها في دراسات الترجمة، ولكن
معالجة الحداثيين للدور المنوط باللغة يمثل نقطة تحول
في تفسير هذا الدور؛ ففي وقت نشر الرسالة كان جيمز جويس ينشر روايته الكبرى
(زهاء ألف صفحة عن حياة البطل ليوبولد بلوم في أربع
وعشرين ساعة) في حلقات. والرواية تُعتبر ذروة المذهب
الحداثي لعدة أسباب شغلت النقاد على امتداد نصف القرن
التالي، ولقد عانيت بلا مبالغة في قراءة هذه الرواية
غير الممتعة عام ١٩٦٩م عندما كانت زوجتي نهاد صليحة
تدرسها في برنامج الماجستير بإشراف الناقد الشهير ديفيد
ديتشز، وأقول إنني عانيت لأنه كان عليَّ أن أطلع على
تجارب جويس اللغوية، قبل تسجيلي لدرجة الدكتوراه عام
١٩٧٠م، وكان المشرف يرى أن دراسة الأسلوب، وهو الموضوع
الذي اخترته في الشعر، لا بد أن تتضمَّن تجارب جويس.
وأقول بالمناسبة إن الدكتور طه محمود طه ظلم نفسه وظلم
الرواية بترجمتها إلى العربية؛ فهي رواية لا تُقْرأ قبل
أن تُفهم، وتفسير هذه المفارقة أن جويس يبني الرواية
على أساس ملحمة الأوديسية لهوميروس، وذلك بعد نقلها إلى
العصر الحاضر، وتغيير المكان بجعله مدينة دبلن، وتحويل
البطل يوليسيز إلى رجل يعمل بدفن الموتى — حنوطي
[حانوتي] — وجعله يهوديًّا في أيرلندا حيث لم يوجد يهود
قط. وجويس يستخدم الرواية حقلًا لتجاربه اللغوية؛ فيحاكي أساليب السلف [كيف
بالله نحاكيهم بأساليب عربية؟!] وفي الفصل الأخير نجد
زوجته مولي مستلقيةً في الفراش في انتظار عودته،
وتُحادث نفسها حديثًا طويلًا (٣٠ صفحة) دون علامات
ترقيم؛ أي دون فواصل من نقط أو سواها [فكيف نُبرز ذلك
إذا فهمنا ما تقوله بالعربية؟!] ويركِّز النقاد على فصل
عنوانه «ثيران في الشمس»، وهو فصل يستعرض فيه تطور
اللغة الإنجليزية موازيًا بين هذا التطور وتطور الجنين
في الرحم، بإيراد فقرات تمثل أطوار الأسلوب الأدبي
المنثور، بعضها ذو نغمة جادة وبعضها ساخر، والنقاد في
خلاف مستمر للفصل بين النغمتين الرئيسيتين وما بينهما
من درجات الجد والهزل؛ إذ يقول قائل إن التطور العضوي
للغة استعارة ساخرة، ما دام مرمى جويس هو استعراض
إحكامه للعلم بالتطور اللغوي وفق أحكام من سبقوا سوسير
من علماء اللغة، وهو استعراض لا يُعفي أحدًا من
السخرية، حتى إننا نُضطَر إلى الضحك من محاكاته لأسلوب
ديكنز نفسه الذي كان يزعم أنه لا يقبل المحاكاة. ولقد
كنت أظن وما زلت أن الرواية فيها من الحذلقة أكثر ممَّا
فيها من المتعة الأدبية التي تقوم على إثراء الوعي
وإرضاء الحاسة الجمالية.
ولنذكر أن تلك الفترة التي تمثِّل تفتُّح زهور
الحداثية الأدبية شهدت انشغالًا مماثلًا باللغة
باعتبارها الوسيط الرئيسي للثقافة بأبعادها التاريخية
والإبداعية واللاواعية، كما يشهد على ذلك إنتاج إليوت
وباوند ولورنس وبروست آنذاك، وتمخَّض هذا «التحول إلى
اللغة» عن تيارين أساسيين، وهما متضادان إلى حد ما؛
فالأول يجد أقوى تعبير فلسفي عنه، في رأي النقاد، عند
مارتن هايديجر في فصل بعنوان «طبيعة اللغة» في كتاب
بعنوان في الطريق إلى
اللغة (من ترجمة بيتر د. هيرتز، ١٩٧١م،
خصوصًا ص٩٨)، ويقول فيه بأسلوبه الغامض إن اشتباك البشر مع اللغة لا يقبل
التحليل التقني أو ما يسميه «الخارجي»، وهو لا ينكر أن
للتحليل اللغوي فوائد معينة، ولكنها لا تتضمن استخدام
الإنسان للغة، ويستشهد بالشاعر الألماني ريلكه، للتدليل
على استحالة تبيان تعبير الإنسان عن الوجود (شغله
الشاغل) لغويًّا، ومن الطريف أن مايكل بل
(Bell) الباحث المفتون
بفلسفة هايديجر وضع كتابًا عن د. ﻫ. لورنس نشره عام
١٩٩٢م بعنوان د. ﻫ. لورنس: اللغة
والوجود يبيِّن فيه، وفقًا لما قرأته عنه،
أن لورنس يحقق نظرة هايديجر في صعوبة التعبير عن الوجود
لغويًّا على الرغم مما تحفل به لغة لورنس من السمات
«الوجودية». وأما التيار الثاني فهو الاستناد إلى نظرات
سوسير في تقديم تحليل جذري للثقافة، وعرض للأيديولوجيا
من خلال اللغة. ويبدو أن هذا الاتجاه لم ينضج إلا في
مرحلة متأخرة، عند رولان بارت مثلًا، وما يسميه بول
ريكور «هرمانيوطيقا الارتياب».
والشعراء الحداثيون بوجه خاص يقفون موقفًا يتوسَّط
هذين التيارين، ولا أقول يجمع بينهما، فإن ت. س. إليوت
وعزرا باوند مثلًا يريان أن الحضارة تعتمد على الكلام،
وأن وظيفة الشاعر والناقد أن يحافظا على دقة التعبير
وصلابته. ومن ناحية أخرى كانا يريان — أو يعترفان —
بوجود بُعد خاص في اللاوعي للغة، على نحو ما ذكرت في
الفقرة المقتطفة عن نظرة إليوت إلى التقاليد/التراث؛
فهذا البعد المضمر لا يظهر على السطح ولكنه يستطيع —
على عكس ما يقول به هايديجر — تحقيق الصلة بالوجود.
وأما قولهما إنه ليس من الممكن ولا من المستحب أن
يُخْضِع المرءُ اللغة بكل أبعادها للوعي فيعبر عن موقف
يقرِّبهما من هايديجر، وقد راق لي تعبير مايكل بل — في
معرض الإشارة إلى هذين الشاعرين — عن كونهما قد بشَّرا
بقدرة اللغة على التعبير عن الأيديولوجيا، ولكنهما كانا
يريان أيضًا أن اللغة وجود … أو الوجود! وقد كُتب لهذا
الانشغال باللغة أن يتطور في أواخر القرن العشرين إلى
ما يسمى «التشيُّؤ» للُّغة؛ أي جعلها شيئًا له وجوده
بغض النظر عن كونه شفرةً أو نظامًا رمزيًّا يُستخدم في
التعبير والتواصل، ووجدنا عند أتباع ما بعد الحداثة ما
يدل على أن أصول هذا الانشغال وجذوره حداثية.
فإذا نظرنا إلى الساحة الأدبية العربية وجدنا محاولات
مماثلةً «للتوجه إلى اللغة»، وقد يبدو هذا غريبًا ما
دام التراث الأدبي العربي قد انشغل على مر تاريخه
الطويل باللغة انشغالًا لا مثيل له، ومن عدة جوانب،
ولكن الواقع أن الشعراء والروائيين العرب خصوصًا أَولوا
اللغة اهتمامًا من زوايا جديدة، منذ الحرب العالمية
الثانية، ربما بفضل اطِّلاعهم على النماذج الأدبية
العالمية، وربما بدافع العوامل الواقعية أو الاجتماعية
الجديدة مثل نشأة الصحافة وأجهزة الإعلام المسموعة
والمرئية، فوجدنا اتجاهات حداثيةً يمكن رصد أفكار
الفلاسفة العالميين فيها، ويمكن اعتبارها نباتًا
حداثيًّا غرسته تجاربهم الشخصية في الكتابة. ونستطيع
باختصار أن نلمح تيارين رئيسيين هنا أيضًا؛ الأول مولد
الفصحى المعاصرة وتطورها، والثاني الاتجاه بقوة إلى
استخدام العامية [العربية المصرية] في الإبداع الأدبي.
أما التيار الأول فيمثِّله توفيق الحكيم الذي يعتبر رأس
حربة الحداثية اللغوية، خصوصًا منذ أن كتب عودة الروح عام ١٩٢٨م، وكان
أحمد شوقي آنذاك يكتب مسرحياته الشعرية التي يستلهم
فيها المسرح الشعري الأوروبي، دون الإخلال بقواعد
العروض أو القافية، أو النحو بطبيعة الحال. فتحت رواية
توفيق الحكيم الطريق أمام الأدباء فوجدوا الشجاعة على
استعمال لغة الصحافة في قصصهم، وتفاوتت مستويات هذه
اللغة ما بين نجيب محفوظ الذي بدأ يكتب الفصحى المسرحية
باللغة التراثية، ثم ما لبث أن تطوَّر، كما بيَّنتُ في
دراسة لي بالإنجليزية عن لغته، وبين من كانوا يخاطبون
الجمهور الذي لم يلقَ حظًّا وافرًا من العلم بالعربية
الكلاسيكية، فمنهم من أبدع وتفوق مثل يوسف إدريس، ومنهم
من لم يتفوَّق مثل يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس.
وتدريجيًّا كشفت الحداثية اللغوية عن نفسها في الجيل
التالي من الروائيين.
ويركِّز شبل الكومي على أمل دنقل في دراسته الممتعة
عنه، وهو الذي يمثِّل امتدادًا لشعر الحداثية الذي بدأ
بالثورة على الشعر العمودي وأحل محله شعر التفعيلة، وفي
غضون ذلك نبغ شعراء يكتبون الشعر المنثور، أو شعر
التفعيلة؛ أي الشعر الذي لا يتميَّز بعلو نبرة النظم،
مهتدين بالمثل الأعلى «لدقة التعبير وصلابته»، مثل صلاح
عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، والدكتور الكومي
ينصف شاعره إنصافًا لم يلقَه من الكثيرين؛ فهو يركِّز
على طابعه الحداثي، ويقتطف من شعره ما يؤهله للانتماء
إلى ما بعد الحداثة (وسوف نعود إليها). وأما الاتجاه
إلى العامية في الأدب فنحن نقبله باعتباره ظاهرةً
أملتها ضرورات الكتابة الواقعية في المسرح، وانتقلت
تدريجيًّا دون مبرر حقيقي إلى الشعر، والخطر في هذا
الاتجاه أنه يجمع بين الشاعر وغير الشاعر، فاكتب ما
تريد (ولو كان نثرًا) وقل إنه شعر!
لم أذكر في عرضي لملامح المذهب الحداثي بعض العوامل
المهمة التي أدَّت إلى نشأته في الأدب من بعد ازدهاره
في الفنون التشكيلية، ومن بينها الحرب العالمية الأولى،
والصدمة النفسية والفكرية التي أحدثتها، ونشأة التحليل
النفسي خصوصًا على أيدي فرويد وأتباعه، وحركة تحرير
المرأة، ونشأة الماركسية واشتداد ساعدها ونشأة الاتحاد
السوفييتي، وما جرَّته من الحركات العمالية والإضرابات
ثم الكساد العظيم في آخر العشرينيات. لم أذكر إلا
داروين وفريزر، وأظن أن اهتمام الدكتور شبل الكومي
بالفلسفة في هذا الكتاب يحتِّم عليَّ أن أُلخِّص الموقف
الفكري الذي يبني عليه هذا المؤلف النابه تحليله في
الفصل الأخير من كتابه. وأظن ظنًّا أن الدكتور الكومي
يفترض في قارئه إلمامًا لا بأس به بالمهاد الفكري
للحداثية أو أنه، أي القارئ، قد سبق أن قرأ كتب المؤلف
السابقة، فإن لم يكن قرأها فسوف أحاول في العجالة
التالية أن أعوِّض القارئ بتقديم جانب جوهري من جوانب
الحداثة لم يُغفله المؤلف فيما سبق أن كتب، وأعني به ما
يمكن أن نُطلق عليه «انهيار المثالية».
ذكرت الدور الذي نهض به هايديجر في تشكيل النظرة
المنافسة إلى اللغة؛ أي التي تنافس النظرة السوسيرية،
ولكن تلك النظرة كانت جزءًا من الدور الذي قام به في
التحول الكبير في النظرة الفلسفية في العقود الأولى من
القرن العشرين، وكان هذا التحول يتمثَّل في القضاء
الفعلي على التقاليد المثالية التي ظلَّت سائدة، مع
تنويعاتٍ شتى، تقريبًا منذ أن أصدر عمانويل كانط كتابه
نقد العقل الخالص في
عام ١٧٨١م، فلقد كان ذلك الكتاب يُعتبر بحق النص
التأسيسي لفكر الحداثة؛ إذ قدَّم فيه الردَّ التفصيلي
المفحم على «مذهب الشك» عند ديفيد هيوم، وغيَّر
الثنائية التي أتى بها ديكارت تغييرًا جذريًّا؛ إذ إنه
يحل المقولات الفكرية الثابتة محلَّها مبينًا بأنها
يمكن أن تصبح وحدها وسيلة معرفة العالم (كما ألمحت إلى
ذلك)؛ بمعنى أن هيكل الفكر هو هيكل العالم، ويقول
باسمور في كتابه مائة عام من
الفلسفة (١٩٦٦م) إن هايديجر كان يستخدم صفة
التعالي
(transcendence) لا
للإحالة إلى عالمٍ ما وراء العالم المادي، بل للإشارة
إلى شروط إمكان الإحساس
به
(experiencing)؛ أي أن
«يَخْبَرَه» المرء وهو لفظ غير واضح، مضيفًا:
إذا كان هوسرل يرى أن «أعجوبة الأعاجيب كلها
«الأنا» المحضة والوعي»، فإن هايديجر يقول إن
العجيب حقًّا «كون الأشياء لها وجود.» أي إن
هايديجر لم يتخلَّ قط عن التأكيد الأرسطي
الإسكولائي على [فكرة/مفهوم] الوجود
(ص٤٧٦-٤٧٧).
والمقصود بتعبير «الإحساس به»، مثل الكثير من مصطلحات
هايديجر يحتمل التأويل ﺑ «الوعي» وهو الذي يربطه
بهوسيرل، وﺑ «المعرفة» التي تربطه بالمذهب التجريبي
البريطاني وبما يسمى الكانطية الجديدة؛ إذ يشترك
المذهبان في أن المشكلة الرئيسية للفلسفة هي «مشكلة
المعرفة» لا «مشكلة الوجود»، كما يشتركان في التمييز
بين قيمة «الخبرة» بالوجود وبين إدراك أهميتها (باسمور:
ص٤٧٧-٤٧٨). وباسمور يترجم
(Dasein) المصطلح الذي
ترجمته بالحضور في أحد كتبي، بتعبير الوجود البشري
ويدافع عن تلك الترجمة في حاشية مطولة، ولمَّا كان
هايديجر يشغل مكانًا بارزًا في فكر الدكتور الكومي،
وخصوصًا في التفسير الذي يقدمه في هذا الكتاب فسوف
ألخِّص الفصل الخاص بهايديجر في كتاب أحدث وهو
موجز تاريخ الفلسفة
الحديثة (١٩٩٥م) من تأليف روجر سكروتون
(Scruton) مشيرًا إلى
أن باسمور أوضح لي شيئًا طالما أزعجني وهو المقصود
بعبارة الزمان
الوجودي عند عبدالرحمن بدوي، التي يستخدمها
بدلًا من عنوان هايديجر الزمن
والوجود؛ إذ يقول باسمور: «إن الوجود البشري
عند هايديجر زمني برمته؛ فهو يعيش في انتظار شيء ما
وبخاصة وفاته [أي انتهاء الوجود البشري]» (ص٤٨٢).
فالوجود البشري عند هايديجر — حسب تفسير باسمور — وجود
يجمع بين الماضي والمستقبل في الحاضر؛ فهو يسترجع
الماضي في حاضره حتى يكون من مقومات العزيمة لتحقيق شيء
في المستقبل؛ إذ يُذكِّر المرء ما فعله العظماء ويسعى
إلى محاكاتهم، مناضلًا ضد الخوف والقلق اللذَين يصيبهما
به تذكر «الموقف الأخير» ذي الأهمية المطلقة وهو الموت.
وأما ترجمتي لمصطلح
Dasein بالحضور فهي
مبنية على اشتقاق الكلمة الألمانية، وكذلك — وفي الوقت نفسه — على هذا
المفهوم للزمن؛ فكلمة الحضور العربية تحمل الدلالتين؛
الدلالة الزمنية ودلالة الوجود المكاني (فالحاضر عكس
الماضي، والحاضر عكس الغائب). وأما الاشتقاق فواضح لأن
Sein تعني الوجود،
والبادئة Da تعني هنا
مثلما تعني هناك، والفقرات الكثيرة المقتطفة من هايديجر
تؤكد تفسير باسمور لمعنى «الزمن الوجودي» وتبرِّر ما
انتهيت إليه في الترجمة.
وأما سكروتون فيقول إن هايديجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) كان
تلميذًا لهوسيرل (١٨٥٩–١٩٣٨م) وقد تأثر تأثيرًا بالغًا
بسلسلة المحاضرات التي ألقاها هوسيرل ثم جُمعت في كتاب
بعنوان ظاهريات الوعي بالزمن
الداخلي التي يزعم فيها أنه أعاد اكتشاف
مشكلة الزمن الداخلي وهي مشكلة ميتافيزيقية، استنادًا
إلى دراسة الظواهر وتحليلها، ومن ثم استلهمها هايديجر
مثلما استلهم غيرها من كتابات هوسيرل في كتابة كتابه
الزمن والوجود عام
١٩٢٧م، وهو أعقد الكتب الكثيرة التي استلهمت — بصورة
مباشرة أو غير مباشرة — نظرية كانط عن الزمن باعتباره
«شكلًا للحس الداخلي». ويقول سكروتون:
«من المحال تلخيص عمل هايديجر، وهو الذي لم يزعم أحد
قط أنه فهمه فهمًا كاملًا، وسوف أورد في الفصل التالي
الأسباب التي تدعوني إلى الاعتقاد بأنه لا يُفهم
(unintelligible) بسبب
طبيعة المنهج الظاهراتي
(phenomenological)
الذي يستخدمه. فلغته، مثل لغة هوسيرل في مراحل حياته
الأخيرة، استعارية وذات تلافيف والتواءات شديدة تقترب
بها من استحالة الفهم
(incomprehensibility)،
ويشعر القارئ بأنه لم يصادف مثل هذا العدد الكبير من
الكلمات المخترعة والمعذبة في محاولة التعبير عمَّا
يتعذر التعبير عنه» (ص٢٥٦).
ويقول سكروتون: «إن هايديجر يزعم أن منهجه ظاهراتي،
وأن الفلسفة دراسة الظاهرات بالمعنى الأصلي للكلمة؛ أي
كل ما يُظهر ذاته. ولكن الظاهرات ليست المظاهر،
بل هي كل ما يظهر نفسه
للوعي. ومن ثم تتمتع الظاهراتية بالأولوية
على أي علم فيزيقي أو سيكلوجي. والظاهراتية أيضًا الشكل
الأساسي للأنطولوجيا؛ أي دراسة كل ما هو موجود. وعلى
الرغم من أن الظاهراتية عند هايديجر ذات بدايات
ديكارتية، فإنها تنفصل عن علم المعرفة وتنطلق بجرأة لم
تُعهد في أحد منذ هيجيل، مبحرةً في بحر من التأملات،
دون هادٍ غير سؤالٍ أوحد. وهذا السؤال هو «معنى
الوجود»، وهو سؤال يدعونا إلى أن نفترض أنه كان يمثل
جميع تلك الفلسفات العريقة، السقراطية وما قبل
السقراطية، ثُم أغرقه المنهج الديكارتي.»
ويضيف سكروتون: «لا بد من تمييز الوجود
(Sein) عن الحضور
(Dasein)، أما الحضور فيعني
نوع الوجود الذي يميز الوعي الذاتي الإنساني. إنه
«الشيء الذي يفهم الوجود». قد يكون مريحًا أن نمنح
مصطلح Dasein ترجمتها
الطبيعية وهي «الوجود». وللأسف فإن هايديجر الذي يمكننا
أن نقول واثقين إنه يضاعف المصطلحات إلى آخر حدود
الإمكان، سواء دعت الضرورة إلى ذلك أم لم تدعُ إليه،
يحول دون ذلك؛ فهو يقدم مصطلحًا ثالثًا هو
Existenz ويعني به «ذلك
النوع من الوجود الذي يستطيع الحضور التطابق معه بطريقة
ما، ودائمًا ما يسعى للتطابق معه». وأما الحضور فيختلف
في أن له «وجودًا من أجل
ذاته». والحضور هو ما وصفه سارتر فيما بعدُ
بأنه être
pour-soi؛ أي الوجود لذاته،
وكان هيجيل قد وصفه من قبلُ بأنه الوجود لنفسه
fürsichsein.»
ويقول سكروتون إن هايديجر وسارتر كانا يدينان لهيجيل
بأكثر من المصطلحات، فكل هذه ألفاظ «أو طرائق متحذلقة
للتمييز بين الأشياء والأشخاص. إذن ما الحجة التي
يقدمها كتاب الوجود
والزمن؟ وإن لم يقدم حجةً فما أطروحته؟ لست
واثقًا، ولكن ربما كان ما يلي يمثِّل جانبًا منها.
أولًا بينما يرفض هايديجر استعمال بعض المصطلحات مثل
الذات (subject)
والموضوع/الشيء
(object) مفضلًا
مصطلحات تقنية خاصة به، فهو منشغل بوضوح بمشكلة معرفة
النفس، وهي مشكلة حديثة. ما هي معرفة النفس، وما هدفها،
وماذا تثمره من نظرات ثاقبة في العالم المادي/الموضوعي؟
وهكذا من خلال ضمير المتكلم يقول «إن القول بأنني موجود
في كل حالة حضور قول واضح وجوديًّا»، ولكن الوضوح
الوجودي يختلف عن المضمون. وعلينا إذن أن نجد حلًّا
«لمشكلة الوجود». وتطرح هذه المشكلة نفسها بدايةً في
صورة السؤال «من (ما) أنا؟» وكما بيَّن كانط في عرضه
لأخطاء الاستدلال [الأربعة]،٢ من المحال أن ينجح أي قدر من الدراسة
للمعارف المباشرة التي يتميز بها المتكلم في إجابة هذا
السؤال. ويشير هايديجر إلى هذه النتيجة ويرحِّب بها،
لكنه لا يشعر، وكان أن ينبغي أن يشعر أنها تتهدَّده.
ونحن نعلم الآن من التحليل الظاهراتي أن جوهر الحضور
يكمن في وجوده: إن له وجودًا على
الأقل، وله وجود بصفة
جوهرية. وينبغي ألَّا نبالغ في أهمية الحجة
الأنطولوجية القائلة بوجود الأشياء، فحتى لو لم نعرف عن
الحضور إلا أنه موجود فلن نكون قد تقدمنا ولو إلى مرحلة
السؤال الديكارتي الأول.»
ويضيف سكروتون إن هايديجر يمهِّد «لنظريته عن الوجود
(التي هي في الحقيقة نظرية عن الوعي الذاتي) بوصف باهر
— وإن يكن تجريديًّا إلى حد يبعث على الجنون — لظواهر
العالم»، قائلًا إن وجود الأشياء يُقاس بنفعها أو عدم
نفعها للإنسان، ثم يقول إن العالم «يأتي إلى الوعي
أولًا في صورة علامة أو كلمة
(logos). وهذه هي التي
تحمل معنًى لنا»، وهذا ما يفسر انبهار «الحضور»
بالعالم. «وهكذا فإن الأشياء التي تبدو لنا مستقلةً
يمكن الاستيلاء عليها لاستعمالات «الحضور»، فتصبح
تعبيرات وتمنح معنًى ما. وهذا هو «إلغاء المسافة»
(Entfernen) بين الأشياء
وأنفسنا. وبذا نُحفز على أن نفهم أن إلغاء المسافة
يقدِّم أيضًا أول «ظاهرة» للمكان، وهو ما يؤدِّي إلى
إدراكي بأن لي وجودًا مكانيًّا في عالمي.»
ويواصل الباحث عرض فكر هايديجر قائلًا: «ولكن هذه
الوحدة السلمية بين «الحضور» وعالمه دائمًا ما تتحطَّم
بسبب ظهور الآخر» (أو
قل إن روح العصر the
zeitgeist قد ازداد إحساسها
بالخيلاء المرضي منذ أيام هيجيل بسبب تدخل الآخر (أو
«هُم» وحسب)). وهكذا ففي إطار العلاقة مع هذا الوجود
للآخرين، يصبح وجودي الخاص قيد الشك؛ إذ اكتسب الوعي
بما يسميه هايديجر «إلقائي»؛ أي بأننب قد أُلْقِيتُ أو
أُلْقِي بي
(thrown-ness)
(Geworfenheit) الذي يعني
عدم توافر أي سبب لوجودي في الدنيا؛ أي الحقيقة التي
نقول إنني موجود فيها وحسب. وهذه هي التي تبدو في ظاهرة
الخوف، والتي تصبح دافعًا على ذلك الانزواء العظيم من
الدنيا الذي يسميه الآخرون الاغتراب، ولكن هايديجر
يفضِّل أن يسميه «السقوط»؛ فالحضور «يسقط»، لكنه لا
يسقط في الخطيئة أو في الجحيم بل في حالة يُطلِق عليها
هايديجر «عدم الأصالة»
(inauthenticity)
[ويعني بها التفاهة وانبتات الجذور]. وهكذا فحين أُواجه
باللغز المطلق لوجودي ذاته أفر من نفسي، وأفقد نفسي في
القلق، وعندما أريد الفرار من القلق أحاول أن أكف عن أن
أصبح ذاتي، وبدلًا من ذلك أمسي واحدًا من «هُم». إنني
أغدو شيئًا؛ أي جزءًا من العالم الذي بدأ بتدمير رباطة
جأشي بأن بيَّن لي حقيقتي التعسفية [أي التي لا سبب
لها]، وهي التي تغريني الآن أن أنكر نفسي بأن أنصهر في
ضمير الجمع غير الشخصي الذي يشير إلى الدور، والشكل
و«لغو الحديث».
«ولكن عدم الأصالة المشار إليه يأتي معه بدلالة
عبثية؛ أي الإحساس بأن الأشياء لا معنى لها. كان لها
معنًى في نظر الحضور، ولكنها بلا معنًى في نظر الذي
يحدِّد ماهيته تحديدًا غير شخصي وحسب؛ أي باعتباره
جزءًا من «هُم». وتترجم هذه الدلالة العبثية إلى القلق،
وتتشكَّل في داخل القلق الإجابة الأولى عن سؤال الوجود.
«من أنا؟ الإجابة: نفسي»: مهما أكن سوى هذا فأنا ذلك.
فالقلق، كما يقول هايديجر، يفرض الطابع الفردي. فما دام
بلا هدف، ولأن طابع العمد عنده عام شامل، ذو صبغة
موحدة، ولا بؤرة تركيز له، فلا يمكن أن يفهم إلا
باعتباره خاصًّا بي. وفي خبرة القلق أنفصل عن «هُم»،
ويُلْقَي بي من جديد في فرديتي، في وجودي، باعتباره
الحقيقة النهائية.»
ويشرح سكروتون مفهوم هايديجر للفردية قائلًا إنها
تتجلَّى أساسًا في ممارسة طاقة نفسية عجيبة يطلق عليها
الفيلسوف اسم «الهَم» (Sorge)
مبينًا أن موقف النفس القلقة تجاه العالم موقف الهمِّ؛
أي الوجل والإشفاق على ذاتها وعلى الآخرين، ومحاولة فهم
العالم باعتباره هدفًا للمعرفة وللنشاط. والهم يأتي معه
بالانفصال بين الذات والموضوع، وفكرة الحقيقة
الموضوعية. ويقول هايديجر إن الهم «يعري العالم»، فيجد
أنه موضوعي بالقياس إلى ذاته. ويقول سكروتون إن هايديجر
يكتشف عندما يصل إلى هذه القضية أنه يمس المشكلة
الكانطية القديمة الخاصة بالافتراضات السابقة لمعرفة
النفس، ولكنه يرفض القول بأننا نحتاج إلى إثبات وجود
عالم موضوعي؛ فالمفترض سلفًا لا يحتاج، على ما يبدو،
إلى برهان بل إلى «التعرية» وحسب.
ويستطرد الباحث قائلًا: «النفس التي تحمل الهم تتمتع
بوجود من نوع جديد، ألَا وهو الطابع الكلي الذي يصفه
هايديجر أيضًا بأنه وجود نحو الموت؛ فالقلق يأتي معه
بالهلع من النطاق المحدود والضعف، وما الهم إلا إدراك
أن العالم مكان وجود محدود وضعيف. وأما في الوجود نحو
الموت فأنا أتبيَّن محنتي باعتباري مخلوقًا يخضع لأحكام
الزمن، وأرى أن الزمن
وحده كفيل بخلاصي، بحيث يتحول الهمُّ إلى
«نداء الضمير»؛ أي إن عليَّ أن أصبح مسئولًا عن أفعاله
وعن وجودي: هذه هي الإجابة الوحيدة عندي للقلق العام
الشامل، وهي أول لمحة أحظى بها للأصالة [أي تحقيق مغزى
المسعى وقيمته]. إنني أفوز باكتمال صدقي مع نفسي عندما
أُدرك نداء شيء هو جزء لا ينفصل عني، وإن كان يشير
أيضًا إلى ما يتجاوزني. لقد دُعيت إلى الخروج من ضياع
«هؤلاء» («هُم») ونودي عليَّ بأن أُعلن أنني صاحب عزم
وتصميم» (والشكل الأولي لهذا الأسلوب في التفكير يمكن
الرجوع إليه في كتاب المنطق الذي وضعه هيجيل في فقرة عنوانها
«الحاجز والواجب»).
ويبيِّن سكروتون بعد ذلك أن حديث هايديجر عن المستقبل
لا يعني أكثر من أن على الفرد أن يختار المسار الذي
يريده؛ فالمستقبل يحدِّده العزم والتصميم، في حين أن
الماضي مجال الإحساس بالذنب والمسئولية، قائلًا إن
«وجودي في الزمن» قادر على تحقيق المراد، في نظر
هايديجر، في حالة واحدة أو بشرط واحد، ألَا وهو «أن أرى
أن حريتي وانتمائي الزمني شيء واحد». وهذا هو «التحرر
من أجل الموت». فالإجابة النهائية لِلُغْز الوجود هي
كما يلي: «إنني كائن له امتداد زمني، ويكمن خلاصه في
الحرية التي لا يستطيع توفيرها إلا الزمن، حرية صوغ
حياتي على النحو الذي أريدها أن تكون عليه، ومن ثم
أُغيِّر حالة إلقائي في الدنيا [بلا سبب معروف] إلى
حالة العزم والتصميم. وفي هذا التغيير يكمن إدراك الموت
وقَبوله.»
وأختتم هذا التلخيص للفصل، بمقتطفاته المهمة، بترجمة
الفقرة الأخيرة الطويلة شيئًا ما حتى تكتمل صورة
هايديجر من حيث تأثير فلسفته في عصر الحداثة — موضوع
كتاب الدكتور شبل الكومي — متجاهلًا سائر جوانب حياة
ذلك الفيلسوف الحافلة، والخلافات الحادة حول مواقفه
السياسية والثقافية، والتي رصدها ريتشارد وولين في
كتابه مقولات النقد
الثقافي الذي أشرت إليه آنفًا، وأرجو أن
تخرج ترجمته العربية إلى الأسواق قريبًا (فهو لا يزال
تحت الطبع). يقول سكروتون:
«في رؤية هايديجر شعر من نوع معين، ولحظات من النظرات
الفلسفية العميقة. ولكن ما نصيب هذه الرؤية من الفلسفة
الحقة وما نصيبها من الوصف الزخرفي لرحلة روحية خاصة؟
وأمثال هذا السؤال يُدخلنا إلى قلب المنهج الفلسفي. أمر
واحد يظهر بوضوح وجلاء، ألَا وهو أن النتائج التي انتهى
إليها هايديجر، حيثما استطاع المرء أن يفهمها، يقصد بها
بوضوح أن تكون حقائق عامة عالمية، وغير مقصورة على حال
الإنسان، بل تشمل العالم بمعناه المفهوم. وأما مكانتها
فهي تركيبية
(synthetic) ومفترضة
سلفًا، ومن المحال إثبات صحتها أو خطئها بأي شكل من
أشكال العلم. ويصادف المرء الإغراء أحيانًا بتفسيرها
بمنهج علمي أو شبه علمي، باعتبارها خطوات في طريق
سيكلوجية الوعي الذاتي. ولكن هذا التفسير من المحال أن
يبرِّر طابع التجريد والتعميم في الأفكار المعروضة، إلى
جانب الإيحاء (وهو زائف بوضوح) بأن هذه النظريات يمكن
قياسها بأدلة تجريبية ودحضها أو تأكيد صحتها. ومن ناحية
أخرى، لا يقدِّم هايديجر أية حجج على أن ما يقوله حقيقي
وصادق؛ فمعظم ما في كتاب الوجود
والزمن توكيدات مركبة مرسلة، ولا تكاد ترى
بين جملها روابطَ عِلِّيَّة أو منطقية مثل «وهكذا»، أو
«ومن ثم»، أو «ربما»، أو «وقد يتبع ذلك أن»، حتى تشير
إلى العلاقات التي يُفترض قيامها فيما بينها. فالأطروحة
الجوهرية التي تقول إن المثالية لا تحتاج إلى دحض ما
دام خطؤها بديهي ومسلم به أصلًا، في إطار سعي «الحضور»
إلى معرفة ذاته، لا تؤيدها حجة ولكن يؤيدها الأصل
الاشتقاقي، بل والأصل الاشتقاقي لكلمة يونانية أيضًا
(هذه الكلمة اليونانية هي aletheia
التي تعني «التعرية» اشتقاقًا، ولكن معناها الحرفي هو
«الحقيقة»). وحتى لو كانت فلسفة هايديجر كلها ذات معنًى
[يعتد به] وحقيقية، فإننا لن نقبلها إلا إذا وجدنا
سببًا لذلك. والنظرة النقدية إليها تقول إن أفكار
هايديجر تبدو مثل رؤى الأشباح في عالم الفكر، تمتد ظلال
شاسعة غير ملموسة تلقيها اللغة. وأقول إنه من المحتمل —
لو لم يكن علم الصرف يميز بين كلمتي
Sein
وDasein؛ أي الوجود
والحضور، ولم يكن يسمح باشتقاق مصدر صناعي من نوع
Geworfenheit؛ أي
«الإلقائية» من الفعل ألْقَى يُلْقي فهو مُلقًى — أن
تتلاشى هذه الظلال فلا يحل محلها شيء: إن هذا النوع من
الفلسفة يبين، إذا استعرنا تعبير فتجنشتاين: «كيف يخضع
الذكاء لسحر الألفاظ» (ص٢٥٦–٢٦١).
كنت قبل هذا الاستطراد أحاول رصد عامل مهم من عوامل
الحداثة، كما يشرحه كتاب الدكتور الكومي، وهو انهيار المثالية، وذكرت فيما
ذكرت علاقة الذهن بالعالم عند هايديجر [وربما كان هذا
ما دفعني إلى الحديث عنه] وأعود الآن إلى تبيان كيف كان
هذا الانهيار من مظاهر الثورة على الرومانسية؛ ففي مطلع
كلامي عن علاقة الذهن بالعالم أشرتُ إلى قول وردزورث،
وهو من أهم رموز الرومانسية في الشعر الإنجليزي، كيف أن
الذهن مطابق للعالم وأن العالم موجود في الذهن ولا غنى
لأحدهما عن الآخر، ملمحًا إلى أن هذه الفكرة التي كان
كولريدج يعتز بها من وحي الفلاسفة الألمان، مثل فيخته
(Fichte) الذي ألقى
محاضرات عن كانط عام ١٧٩٠م وما بعده، يقول فيها إن
الكون جانب من جوانب الذهن ناسبًا ذلك إلى كانط، ورد
عليه شيلنج (Schelling)
كما نعرف قائلًا إن الذهن هو الذي يمثِّل جانبًا من
جوانب العالم! وعلى الرغم من نقد «عقلاء الإنجليز» لهذه
النظرات الذاتية التي تُضمر الإيمان بالتعالي
والمثالية، فقد استمر التيار المثالي في القرن التاسع
عشر، أو ما يسمى «الانشغال الميتافيزيق» بالطبيعة
التعالية للخبرة» (ليفنسون ص١٩). ولم يبدأ المفكرون إلا
في بداية القرن العشرين في إعادة النظر في مداخلهم
الفلسفية، والتخلي عن المثالية، يقول مايكل بلْ:
كتب ت. س.
إليوت رسالته للدكتوراه عن المثالي «الموضوعي» ف.
ﻫ. برادلي ومع ذلك زعم في أواخر حياته أنه لم يعد
يفهمها. ومهما يكن قَبولنا لملاحظة إليوت، فإن لها
قيمةً رمزية بسبب علاقتها بالتقاليد السابقة؛ فعلى
مستوًى معين كان العصر الحداثي — ممثلًا في نيتشه
وهايديجر وفتجنشتاين — لا يشكل انقلابًا على
المثالية فقط بل على الميتافيزيقا بمعناها المعروف
أيضًا. (ص١٩).
ويقول مايكل بل إن العالم في تلك الآونة لم يكن يقبل
أسئلة العصر السابق، ناهيك بإجاباته عنها، ومع ذلك،
فكما ذكر كثير من النقاد، نجد أن شعر إليوت حافل
بالقضايا التي شغلت فكر برادلي، بل ويبدو بعضها في
الصورة التي طرحها برادلي أيضًا، ومن ثم فلا بد من
التسليم بأن التحول لم يكن مفاجئًا ولا قاطعًا. وعلى
أية حال فنحن نشهد موت المثالية في المذهب البراجماتي
عند وليم جيمز، والمنطق الرياضي عند برتراند راسل،
وإصرار فتجنشتاين على أن يقتصر «المشروع الفلسفي» على
تحليل استخدام اللغة. كما نذكر أن الهجوم الجاد على
التقاليد الميتافيزيقية بدأ قبل بداية القرن العشرين،
وأن هايديجر كان أكثر مفسريه إنتاجًا، ويقول بل:
كان هايديجر يؤيد فضح نيتشه لمجمل التقاليد
الميتافيزيقية منذ أفلاطون باعتبارها أغاليط كبرى
وخداعًا سيكلوجيًّا، أو «كذبة كبرى» يختلف نوعها
اختلافًا تامًّا عما كان أفلاطون يقصده بهذا
التعبير في «الجمهورية». وكان نيتشه وهايديجر
يريان، بصفة خاصة، أن المكانة الرئيسية التي كانت
نظرية المعرفة تشغلها — أو قل مشكلة المعرفة — قد
تطورت من التشييئ غير المقصود للوعي والعالم،
فأصبحت تتمثل في كِيانين منفصلين هما الذاتي
والموضوعي. وكان نيتشه يقول إن قضية القيمة تسبق
قضية المعرفة في أهميتها، فنحن نعرف أو نبحث فيما
يُهمنا باعتبارنا بشرًا، والمثل الأعلى للموضوعية
في الدرس الأكاديمي ليس غير استثناء لهذه الحقيقة
العامة. وكان هايديجر يوافق على كل هذا ولكنه يضيف
أن نيتشه لم يكن نهاية الميتافيزيقا كما كان يزعم؛
لأن مسألة الوجود تتمتع بأولوية أكبر من قضية
القيمة. وقد دأب مترجمو هايديجر على كتابه كلمة
«الوجود» بحروف مميزة للإشارة إلى أنه لم يكن يشغله
وجود كِيانات فردية بل لغز الوجود المحض في ذاته؛
أي إن معاملاتنا اليومية النفعية مع الكِيانات
الفردية، بشريةً كانت أو غير بشرية، تجعلنا نفقد
الإحساس بالوجود، والأنشطة الفلسفية بالصورة
التقليدية لممارستها تدعم هذا الفقدان. وكان
هايديجر يرى أن هذا الفقدان، أو النسيان، ﻟ
«الوجود» قد بدأ منذ ما قبل سقراط. وكان كلٌّ من
لورنس وباوند، بصورة مستقلة، يؤمن بهذا الرأي نفسه،
وكان كلاهما يتطلع إلى الحساسية الواحدة التي كان
يُفترض وجودها، قبل «الحساسية الثنائية»، والتي
كانت وسيلتهما في تحديد علاقة الإنسان بالعالم من
خلال الأسطورة. (ص٢٠).
وأظن أن لنا أن نضيف ما نجده في شعر إليوت ونقده من
توكيد هذا الكلام؛ فحديثه عن انفصام الحساسية؛ أي
انفصال الفكر عن الشعور، الذي حل في القرن السابع عشر
يؤكد التوجه الفلسفي المذكور، واستعانته، وغيره من
المحدثين، بقوة الأسطورة يُبرزه باعتباره من تيارات
الحداثة. وهو ما يجده الدكتور الكومي، كما سبق أن ذكرت،
في تحليله لشعر صلاح عبد الصبور وأمل دنقل.
وإزاء طول هذه المقدمة أجدني مضطرًّا إلى الإيجاز
الذي قد يكون مخلًّا في تناولي لما بعد الحداثة. ولن
أُفيض إذن بل أقتصر على ما يسمى العناوين؛ أظن أن أفضل
عنوان لهذا التيار الجديد هو نقض الحداثية الذي جاء
نتيجة الانفلات في المعايير التي قامت عليها؛ فالحداثية
في الفن والأدب من ثمار الثورة الفكرية التي ألمحت إلى
بعض عواملها التي لم أوفها حقها من الدرس، مثل تجربة
الحرب التي كانت في نظر الكثيرين «بلا معنى»، ونتيجة
لمكتشفات علم النفس ومحاولة استعادة الإيمان بوجود
النفس (أو الروح)، خصوصًا بعد تغول الرأسمالية وشيوع
ثقافة الاستهلاك، والتوثين السلعي، وغلبة ثقافة الصورة
في أجهزة الإعلام. أضف إلى ذلك اشتداد قوة الحركة
النسوية، وزوال الاستعمار، والحاجة إلى إعادة النظر
فلسفيًّا وثقافيًّا فيما يسود العالم من «مغالطات»
فكرية على مستوى الدولة وعلى المستوى الدولي. هذا
«التهرؤ» الفكري قد يُعتبر نتيجةً للحرب العالمية
الثانية، وهي التي غيَّرت وجه العالم، وأفقدت الناس ما
كان قد بقي من إيمانهم بالإنسان، فإذا بنا نسمع عن مذهب
يشار إليه باسم المذهب «ما بعد الإنساني»
(posthumanism)؛ أي
المذهب الرافض للتقاليد التنويرية التي أتت بها جهود
النهضة الأوروبية، وعصر العلم، ثم نشأة عصر الهيمنة
الاستعمارية ودعاوى «عبء الرجل الأبيض» (انظر ترجمة
قصيدة كيبلنج التي تحمل هذا العنوان في مقدمة الترجمة
العربية لرواية كيم).
وكان انقضاء عصر الاستعمار أيضًا إيذانًا بحركة فكرية
جديدة يشار إليها باسم نقض المركزية الأوروبية
(decentralization of
Europe)، والمعنى الظاهر لهذه العبارة
هو الإيمان أو محاولة نشر الإيمان بالتعددية الثقافية،
والتعددية الفنية
والفكرية.
ويلخص الباحثون في تيار ما بعد الحداثة العوامل التي
عرضتها آنفًا بقولهم إن الحداثية قوضت ذاتها من الداخل؛
فالنظرية الماركسية التي كانت من وراء تحولات فكرية
واجتماعية عميقة، أصبحت غير مرحَّب بها، على الأقل في
الدول الغربية التي تحولت إلى اليمين المتطرف في
الثمانينيات تحديدًا وأدَّت إلى إنشاء استعمار اقتصادي
جديد يتمثل في إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتغيير
وظيفة البنك الدولي، وابتكار أساليب جديدة للسيطرة على
العالم من مركزية جديدة هي مركزية رأس المال، وإذكاء
النزعات القومية والدينية المحلية، والتطرف في هذا
وذاك. والكتب التي تناقش هذه المسائل أكثر من أن يحصيها
العد، وكلها يصب في وعاء واحد هو ما أسميته تقويض
الحداثية من داخلها، فأصبح ما كان حداثيًّا يومًا ما
يُنظر إليه بحنين يشبه الحنين إلى الماضي الجميل،
وأصبحت الأفكار الثورية تُعتبر أفكارًا تقليدية،
والمفكرون يجتهدون في سبيل إحياء بعض تلك الروح
المتفائلة، رغم ما تصوره من مظاهر السواد، وأصحاب ما
بعد الماركسية يُحاولون إحياء مبادئ غدت أقرب إلى
التاريخ منها إلى الفكر الحي.
هذه هي الروح التي يناقشها الدكتور الكومي فلسفيًّا
في الجزء الأخير من كتابه، وأحببت أن أورد بعض المظاهر
الخاصة بواقعنا التي دفعته إلى هذه التأملات الجميلة،
وما يقوله فلسفيًّا يمكن التدليل على صحته عمليًّا
باستعراض الكتابات الحديثة التي يشهد «تهرؤها الفكري»
بأنها وليدة التغيرات العامة التي رصدتها في عالم
اليوم؛ أي إن «ما بعد الحداثية» تيار ما زلنا نرقب
تطوُّره ونتابع ما يقدمه المفكرون فيه من تحليلات، وإذا
كان لي أن أميِّز بين الفكر الحداثي وفكر ما بعد
الحداثة قلت إن الأول كان واثقًا من وجود معنًى، وكان
يوجه جهوده للعثور عليه، وتحديد طبيعته، ويتميز بالحيرة
بين الوسائل المؤدية إليه، سواء كانت مثاليةً أو
ميتافيزيقية أو وضعية أم فنية، وأما الأخير فإنه يتشكك
في وجود ذلك المعنى، فيُقر أحيانًا بوجوده وإن لم يكن
واثقًا من طبيعته، وأحيانًا يُقر بغيابه
ويستريح!
إن كتاب الدكتور الكومي لبنة جديدة في صرح تناوله
الفلسفي للقضايا النقدية، وليت قارئه يرجع إلى كتبه
السابقة للاستزادة من هذا المدخل الجديد الجميل.
١
كان هذا الفصل مقدمةً لكتاب الأستاذ الدكتور شبل
الكومي عن الحداثة وما بعد الحداثة، القاهرة،
٢٠١٥م.
٢
الخطأ في الاستدلال
(paralogism) يعني
الخروج بنتائج غير منطقية، ويقول كانط في نقد العقد
الخالص إنها أربعة؛ الأولى محاولة إثبات (١) أن
النفس مادة، و(٢) أنها بسيطة ولا تتكون من مجموعة
من العناصر، و(٣) أنها ذات لا تتغير بل تظل كما هي
في أوقات مختلفة، و(٤) أنها واعية بوجودها الذاتي
فقط، وغير واعية بوجود الأشياء الأخرى إلا في الصور
التي تمثلها. فهذه الأخطاء الأربعة نماذج للاستدلال
العقلي الذي يتجاوز حدود الخبرة البشرية المتاحة،
وتنشأ (خصوصًا عند ديكارت والفلاسفة العقلانيين) من
إساءة تفسير المقصود بعبارة «إني أفكر». وقد سبق
اتهام ديكارت بهذا، ولكن كانط كان الفيلسوف الذي
أوفى المسألة حقها (معجم أوكسفورد للفلسفة، سايمون
بلاكبيرن، ٢٠٠٨م).