النفس والبذور والشوفينية ٢٥٠٠ قبل الميلاد–٤٠٠ ميلاديًّا
البدايات
يمكننا أن نكون على يقينٍ إلى حدٍّ كبير من أنَّ أسلافنا من نوع «الإنسان العاقل» الذين ظهَروا في أفريقيا منذ نحو ٢٠٠ ألف عام، أدرَكوا أنَّ الذُّرية تُشبه الآباء. فلا بدَّ أنَّ فكرة أنَّ الآباء يُنجبون صغارًا يتمتَّعون بالخصائص الجسدية والسلوكية لنوعِهم كانت واضحةً لهذا السلَفِ البشري الذكي الجديد. يمكننا أيضًا أن نفترِض بثقةٍ أن أسلافنا من الصيَّادين وجامعي الثمار قد لاحَظوا استمراريةَ السِّمات المميِّزة عبر أجيال عائلاتٍ بعينِها. فبسبب نظامهم الغذائيِّ الجيد نسبيًّا وانخفاض عِبء المرض، كان أفرادُ جماعات الصيد وجمع الثمار يعيشون على الأغلب أعمارًا طويلةً بما يكفي لملاحظة تَكرار ظهور بعض السمات في بعض الذريات، مثل طول القامة وقِصَرها، أو الأنف المعقوف، أو الذقن البارز، أو ارتفاع عظام الوجنتَين. غير أننا لا نملك دليلًا فِعليًّا مكتوبًا على تأمُّل الناس لطبيعة الجنس والوراثة قبل العصر البرونزي في بلادِ ما بين النهرَين قبل نحو خمسة آلاف عام. فبدءًا من أول المجتمعات التي مارسَت القراءة والكتابة وانتهاءً بالعصور القديمة المتأخِّرة، يَنظر هذا الفصل في محاولات الفلاسفة والمعالجين لِفَهم تكوُّن الحياة الجديدة، إضافةً إلى كيفية تطبيقِهم لمفاهيم الوراثة لشرح الاختلافات الحقيقية والمتخيَّلة بين الرجال والنساء وبين مختلِف المجموعات الاجتماعية والعرقية في العالم القديم.
مفاهيمُ إعجازية
من الجليِّ أنَّ تسجيل ما اعتقده القدماءُ عن الوراثة قد اعتمد على ظهورِ نُخَب فكرية يتمتَّعون بالقدرة على تدوينِ تفسيراتهم للعالم من حولهم. وقد استلزم هذا التطورُ أن تتخلَّى بعضُ الجماعات عن الصيد وجمعِ الثمار، وأن يؤسِّسوا مجتمَعاتٍ مستقرَّةً كما حدَث بعد الألفية العاشرة قبل الميلاد عندما بدأَت الشعوب التي تسكن سُهول الهلال الخصيب الرسوبية بالشرق الأوسط في زراعة القمح وتربية الماعز. إضافةً إلى ذلك، قامت حضاراتُ وسط أمريكا وجنوبها، وغرب أفريقيا، وشرق الصين، بالتحوُّل ذاتِه إلى الزراعة، كلٌّ على حدة. لقد استطاعت المجتمعات الزراعية المبكِّرة أن تُنتج فائضًا من الحبوب والفاكهة واللحم، مما حرَّر أقليةً متزايدة من الأفراد من العمل المضني اليومي، وسمح بظهور البلدات والمدن التي سكَنها التجَّار والحِرفيُّون، والنخب الملَكية والمحاربة، والكهَنة، والفلاسفة، والشعراء، والمعالجون. وعندما بدأت هذه المجتمعات الزراعية المبكرة في الانخراط في أمور التِّجارة والحرب والاستعمار، كان عليها أن تجد سُبلًا للتواصُل عبر مسافاتٍ طويلة ولحفظ سجلَّات المعاملات والاتفاقيات. كان هذا هو ما ألهمهم في النهاية اختراع الكتابة. وقد أتاح ما تَحقَّق في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد في الهلال الخصيب من استخدامٍ للرموز المجردة لإيصال المعنى، تسجيلَ نظرياتٍ عن العالم الطبيعي وتبادُلَها.
إنَّ مَن كتبوا عن تكوُّن الحياة الجديدة في الحقبة التي امتدَّت من العصر البرونزي في بلاد الرافدَين إلى زوال الإمبراطورية الرومانية الغربية في أواخر القرنِ الخامس الميلادي قد اعتقَدوا في الغالب أنَّ الأمر يعتمِدُ على نوعٍ من أنواع التدخُّل الإلهي. وقد ساعَدَت نُظم الاعتقاد الماورائية في تفسير الخبرات الحياتية التي لم يكن من الممكن التنبُّؤ بها في معظم الأحيان، والظواهر التي لم يكن من الممكن تفسيرها مُطلقًا بدون هذه النظم. تعود أقدمُ هذه الأمثلة على إشارة البشر لطبيعة التكاثر إلى الشعوب السومرية بجنوب بلاد الرافدَين، وهم رُوَّاد الكتابة الذين نقَشوا رموزًا مِسمارية الشكل في الصَّلصال الرطب.
يتحدث أحدُ هذه الألواح «المسمارية»، الذي يعود تاريخه إلى نحوِ عام ٢٤٥٠ قبل الميلاد، عن أنَّ الملوك يولَدون من بذرة الآلهة. وبعد ذلك بألفَي عامٍ تقريبًا، رأى جامِعو العهد القديم المجهولون بالمثل أنَّ ظهور الحياة الجديدة حدثٌ إعجازيٌّ؛ فنجد على سبيل المثال في قصة أيوب البارِّ التي كُتِبَت في وقتٍ ما بعد القرن السابع قبل الميلاد، أنَّ الإلهَ جلَبه من «مادة غير مُشكَّلة»، وكساه «جلدًا ولحمًا»، ونسجَه «بعظام وعصَب».
ازدهَر هذا المنظورُ المجاوز للطبيعة في المجتمعات اليونانية والرومانية. ففي القرن الرابع قبل الميلاد، رجَّح الفيلسوف الأثينيُّ أفلاطون أن الذريةَ صنيعةُ نفوسٍ خالدة ترتبط بمادةِ الدماغ والنخاع ذات الطبيعة الخاصة. وافترض الرواقيون، وهم أعضاءُ مدرسةٍ فلسفية تأسَّسَت في أثينا في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، وجودَ مبدأ إلهيٍّ يسود الكون، ويبثُّ الروح في المادة، ويمنح للكائنات الحية وغير الحية بِنْيتَها. والرومان أيضًا وجَّهوا نظرَهم إلى السماء. وكان من المفترض بالمتزوجين حديثًا من أثريائهم أن يُمارسوا الجماع في أَسِرَّةٍ مُعدَّة خصوصًا كي يتسنَّى جذبُ قوة الحياة غير المادية إلى بذرة الزوج. وحتى الكُتَّاب المسيحيون في العصر الروماني ظلُّوا يحتفون بالقدرة التوليدية لإلههم على الرغم من معارضتهم لمثل هذه الطقوس الجنسية الفاحشة. فقد اعتبر أوغسطين الهيبوني، وهو أسقف من شمال أفريقيا تُوفِّي عام ٤٣٠ ميلاديًّا، عمليةَ إنجاب الأطفال برُمتها أمرًا جسَديًّا كريهًا، لدرجة أنه علَّق عليها بعبارته المشهورة: «نحن نُولَد من بين البراز والبول». لكن ما يَشفع لعملية التكاثر على الأقل أن كلَّ طفل «هو خليقة الإله الأسمى كليًّا».
البذور والأخلاط والهواء
بحلول القرن الخامس قبل الميلاد، كانت نُخبةٌ صغيرة من الفلاسفة والأطباء، التي عاشت في دول المدن بإقليم البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة، تُنتِج تفسيراتٍ للتكاثُر رفَضَت كلَّ هذا الحديث عن الآلهة والأرواح. فقد دعم الأطباء الأبقراطيون الذين ازدهَروا في جزيرة كوس اليونانية خلال أواخرِ القرن الخامس، والنصفِ الأول من القرن الرابع قبل الميلاد، فكرةَ «شمولية التخلُّق».
وَفقًا لهذه النظرية، يتكوَّن النسلُ من الاتحاد الماديِّ للمادة من جسمِ كِلا الوالدَين. فقد قال الأبقراطيون إن أنشطةً مثل الجنس تُهيج الأوعية والسوائل في الجسم، مما يؤدِّي إلى تكوين سائلٍ رغوي غنيٍّ يحتوي على جميع المواد اللازمة لتكوين جسمٍ جديد. بعد الجماع، يمتزجُ هذا «المَنيُّ» في الرَّحِم ويتَّخذ تدريجيًّا شكلَ كائنٍ جديد. كانت فرضية الأبقراطيين بشأن الكيفية الفعلية التي يتطوَّر بها الجنينُ من بذور الوالدين مبهمةً بطبيعة الحال. غير أنهم كانوا على يقينٍ تمامًا من أن الآلهة لا تتدخَّل في الأمر تدخلًا مباشرًا.
قدمَت فكرةُ شمولية التخلُّق أساسًا مَفاهيميًّا راسخًا للحديث عن الوراثة. فقد زعم الأبقراطيون بأننا نُشبه والدَينا لأننا نتكوَّن من «البذور» التي تتشكَّل من «جميع أجزاء» جسدَيهما. وأضافوا أن النسل عادةً ما يتمتَّع بمزيجٍ من سِمات الأم والأب؛ نظرًا إلى وجود منافسة دائمة بين بُذور كِلا الوالدين. وبناءً على هذا، إذا كان أحدُ الوالدين لا يُنتج سوى كميةٍ صغيرة من البذور الضعيفة، فإن خصائص زوجِه هي التي ستظهر بوفرةٍ في نسلهما. أوضح الأبقراطيون أيضًا أن الوالدَين يُورِّثان نزعاتهما للإصابة بالأمراض. نبعَ هذا الاعتقاد من القاعدة الأوَّلية التي وضَعوها والتي تفيد بأن الصحة محكومةٌ بالنِّسَب بين أربعة سوائلَ أو أخلاط تُوجَد داخل الجسم، وهي الدمُ والبلغم والعُصارة الصفراء والعُصارة السوداء، وأن الأمراض المختلفة تنشأ نتيجةَ زيادةِ هذه السوائل أو نُقصانِها. ولما كانوا يعتقدون أنَّ البذور تتشكَّل من الأخلاط، ولو جُزئيًّا على الأقل، فمن المرجَّح أن يرث الأطفال النزعةَ لإصابتهم بأنواعٍ مُعيَّنة من عدم التوازن الخلطي.
نتج عن فكرة شمولية التخلُّق أيضًا نمطٌ من التفكير بشأن الوراثة، شديدُ الاختلاف في نواحٍ أساسية عن نمطِ تفكيرنا اليوم فيها. فلم يكن لدى الأبقراطيون أيُّ وسيلة لمعرفة أن مادة الوراثة تحظى بحمايةٍ جيدة من القُوى الخارجية؛ إذ تُوجَد في الأعضاء الجنسية. وعِوضًا عن ذلك، فبِناءً على افتراضهم بأن البذور تُستخلَص من البِنَى الجسدية الفعلية والسوائل الموجودة لدى الوالدين، وهو افتراضٌ قائم على قدرٍ كبير من العقلانية؛ كان من المنطقيِّ بالنسبة إليهم أن يعتقدوا أنَّها تَنقل إلى النسل الخصائصَ المكتسَبة من الأمهات والآباء. ثَمة نصٌّ أبقراطي كلاسيكي يورِدُ مثالًا من إحدى المجموعات العرقية، وهم الماكروسيفالي (أو ضِخام الرأس)، الذين يُذكر أن أطفالهم كانوا يولَدون بجَماجمَ مُطوَّلة. عَزا الكاتبُ هذه السِّمة إلى كونها نتيجةً لربط أجيالٍ من الماكروسيفالي لرءوس أبنائهم؛ لاعتقادهم أن الجِباه العالية من علامات الجمال. وعلى الرغم من توقفهم عن هذه الممارسة وقتًا طويلًا، فمن الواضح أنَّ نسلهم ظلَّ يحمل هذا الإرث الوراثي بشكلٍ ظاهر. وبهذا، أصبحَت وراثة الخصائص المكتسَبة حقيقةً بديهية لدى علماء اليونان والرومان. ففي القرن الأول الميلادي، وضع بلينيوس الأكبرُ، الذي كان دارسًا للتاريخ الطبيعي وقائدًا للقوَّات البحرية والفيالق، قائمةً طويلةً ﺑ «العلامات، والشامات، والعيوب، والندوب» التي انتقلَت فيما يبدو من الآباء إلى نسلِهم.
رغم أنَّ فكرة شمولية التخلُّق قد حظِيَت بانتشارٍ كبير على مدار الحقبة الكلاسيكية القديمة، فقد ظهرت فيها جوانب ضعف فادحة. فعلى سبيل المثال، لو كان المَنيُّ يُنتَج من أجسام الوالدين، فلماذا لا يولَد الأطفال بخصائصَ جنسيةٍ ثانوية كاللِّحى، والثديَين، وشعر العانة؟ الحقُّ أنَّ مثل هذه المشكلات قد أقنعَت أرسطو، وهو الذي ألف عشَرات الأعمال التي تتمتع بقدر مدهش من الأفكار الثاقبة في المنطق، والبلاغة، والسياسة، وعلم الكونيات، والتاريخ الطبيعي، بحتميةِ خطأ فكرة شمولية التخلُّق. وفي كتابه «تولُّد الحيوانات» عام ٣٥٠ قبل الميلاد، قدَّم أرسطو بديلًا مبتكَرًا للغاية بناه على فكرةٍ قديمة تقول بأن الذكر يوفِّر البذْرة وأن الأنثى لا توفِّر سوى المادة. اعتمدَت نظريته أيضًا على مفهومٍ قديم آخَر، وهو الحرارة الفطرية. فنظرًا إلى أن الأجسام الدافئة حية وأن الجُثث باردة، بدا من المنطقيِّ افتراضُ أنَّ نوعًا معينًا من الحرارة هو نفسُه أساس الحياة. وكان الفلاسفة القدماء قد افترَضوا خطأً بالفعل أن النساء أضعفُ بطبيعتهنَّ وأقلُّ عقلانيةً من الرجال؛ لأن أجسادهن أكثرُ برودة. بعبارة أخرى، ظنَّ هؤلاء الفلاسفةُ أن مخزون النساء من الحرارة الفطرية أقل؛ ومِن ثَم فما يُطِقْنه من نشاطٍ بدني وعقلي أقلُّ حيويةً مما يُطيقه الرجال. وقد طُبِّقَت هذه الفكرة بسهولة على مسألة التولُّد. فقد ذكَر أرسطو أنَّ الفائض في الطعام والشراب لدى كلٍّ من الرجال والنساء يتحول إلى دمٍ يمرُّ بعضٌ منه بمرحلةِ هضم إضافية. وفي أجسام النساء الأكثر برودة، يُنتج هذا دم الحيض وحليب الثدي. أما في أجسام الذكور الأكثرِ سخونةً، فإنَّ الدماء الفائضة تُنقَّى إلى أعلى مستوًى على الإطلاق، ومن ثَم تُكوِّن سائلًا رغويًّا ساخنًا، أو المَنيَّ.
غير أنَّ المَنيَّ الذكري الساخن ودمَ الحيض الأكثرَ فتورًا لم يَكونا من وجهةِ نظر أرسطو هما العواملَ الخلَّاقة في عملية التولُّد. وإنما رأى أنَّ دِفْء مَنيِّ الرجل يجعل منه أداةً مثالية لنقل الأساس الحقيقي للتولُّد، وهو «الروح». وصف أرسطو هذا المفهومَ بطريقةٍ مبهَمة باعتباره «معادلًا لعنصر النجوم». وأوضح أن الروح، تسري في المَنيِّ على نحوٍ مُشابهٍ لسريان الفقاعات في الحليب، وتلتقي بكتلةٍ من دم الحيض في الرحم. وبعد ذلك، تُضفي هذه الروحُ شكلًا على مادة الأنثى بأن تنقل إليها سلسلةً من الحركات، مثلما أنَّ حركات أذرُع النجار وأدواته تُمكِّنه من تشكيل بيتٍ من الخشب أو الحجارة. تابع أرسطو فرضيَّتَه بأن الحركات الكامنةَ في رُوح الذكر التي تستحثُّ نموَّ الجنين تُستبدَل بها فيما بعدُ حركاتٌ كانت خاملةً من قبل تردُ في تسلسلٍ مُحكَم مشكِّلةً أعضاءً، وأنسجةً، وبِنًى جديدة. غير أن هذه العملية لا تتوقَّف عند مرحلة الولادة. فقد رجَّح أرسطو أن الروح تُواصل عملها طَوال حياة الكائن الحي، مما يسمح بتغيُّر الجسم بمرور الوقت.
وعلى الرغم من أن أرسطو أحبَّ بساطةَ النموذج الذي نسَب أدوارًا مختلفة لكلٍّ من الذكور والإناث، يبدو أنه قد شعر أن الدليل المتمثِّل في مشاركة الأطفال لسِمات أمَّهاتهم أقوى من أن يستطيع أحدٌ إنكاره. ولهذا أقرَّ بأن كتلةَ دم الحيض لدى المرأة تحتوي على صورةٍ «ضعيفة» من الروح. قبِل أرسطو أيضًا الفكرةَ القائلة بإمكانية وراثة الخصائص المكتسَبة؛ فقد روى عن رجلٍ من بلدةٍ قريبة من مَصبِّ البوسفور انتقلَت سِمتُه المميزة إلى ابنه في مكانها نفسِه.
إنَّ هذه النظريات اليونانية عن الجنس قد ألهمَت بعض الكتَّاب اقتراح مخطَّطات لتحسين النسل؛ بهدف تحسينِ جودة الصفات الوراثية لدى المواطنين. ففي كتاب «الجمهورية»، الذي ألَّفه أفلاطون نحوَ عام ٣٨٠ قبل الميلاد، ترِدُ خُطةٌ للحفاظ على وجود حكَّام رَفيعي المستوى من خلال ضمانِ تكاثرِ «أفضل الرجال» مع «أفضل النساء في أكبرِ عددٍ ممكن من الحالات»، إضافةً إلى التخلِّي عن النسل صاحبِ الصفات «الأسوأ» وعدم تربيته على الإطلاق. أرسطو أيضًا طالبَ بأن يكون من مسئولية المشرِّعين تحديدُ المواطنين «المناسبين للزواج». وأوصى أيضًا بالإسراع في إعدام الرُّضَّع المولودين بتشوُّهاتٍ خِلْقية.
كلوديوس جالينوس: موهبة رائعة في التوليف بين الأفكار
خلال القرن الثاني الميلادي، جُمِعَت الأفكار القديمة والملاحظات الحديثة معًا على يدِ أحد أكثر كُتَّاب العصر إبداعًا في مجال الطب، وأغزَرِهم إنتاجًا. عمل كلوديوس جالينوس، الذي وُلِد في مدينة بيرجامون اليونانية في ١٢٩ ميلاديًّا، طبيبًا لِمُصارعي رئيس الكهَنة في آسيا، ثم أصبح فيما بعدُ الطبيبَ الشخصيَّ لكلٍّ من الإمبراطور ماركوس أوريليوس والإمبراطور سيبتيموس سيفيروس. إضافةً إلى ذلك، وضع جالينوس نموذجَ الأخلاط الأربعة لأبقراط في إطارٍ تفسيريٍّ متين للغاية، حتى إنه ساد في مجال الطب الأكاديمي لأكثرَ من ١٥٠٠ عام.
اعتمد جالينوس في تفسيره لكيفية ظهور الحياة الجديدة نموذجًا يُسمى ﺑ «البذرة المزدوجة»، ربط فيه بين أفكار الأبقراطيين وأرسطو. وفقًا لجالنيوس، فإنَّ كِلا الوالدين يُنتج المادةَ التي يتشكَّل منها الأطفال. ولما لم يستطع تجاهُلَ حقيقةِ أنَّ الأبقراطيين عجزوا عن توضيح كيفية تشكُّل مَنيِّ الوالدين عديم الشكل، اتبع جالينوس أرسطو في زعمِه بأن البذرة تحتوي على قوةٍ ما، تُسمَّى «النطفة» وتتحكم في تطورِ الجنين مرحلةً تِلْو الأخرى. وأضاف أن «النطفة» الأنثوية هي بالتأكيد أضعفُ النطفتَين، لكنها تؤدي القدرَ الكبير من عملها دون أن يُعيقها المَنيُّ الذكري الأكثرُ سخونة.
قدَّم جالينوس أيضًا نظريةً فسيولوجية عن الكيفية المحتملة لتوارث الصفات العقلية. لم يكن النظر إلى الصفات النفسية والجسدية على أنها صفاتٌ قابلة للوراثة بالشيء الجديد؛ فقد أشار الكاتب المسرحي يوربيديس في القرن الخامس قبل الميلاد أنَّ «الرجل الصالح لا يمكن أن ينحدرَ من نسلِ أبٍ فاسد»، و«الأشرار ينحدرون في العادة من الأشرار». لكن جالينوس قدَّم نموذجًا أكثرَ تفصيلًا بشأن كيفية انتقال السِّمات الشخصية من الآباء إلى الأبناء. لقد تعلم أنَّ أخلاط أبقراط هي الركائز البيولوجية لأربعة أنواعٍ أساسيةٍ من الطبائع؛ فأوردةُ النشِطين المتفائلين تتدفَّق بها دماءٌ غزيرة، وسريعو الغضب لديهم وفرةٌ في الصفراء، والمكتئبون يُعانون من فائضٍ في المِرَّة السوداء، والهادئون الفاترون يَشغل البلغمُ حيزًا كبيرًا في أجسامهم. تابع جالينوس طرْحَه بأنه عندما تنتج البذرة فإنها تأخذ من أخلاط كِلا الوالدين. ومن ثَم تُصبح شخصيةُ الطفل أقربَ إلى شخصية الوالد الذي قدَّم البذرة الأقوى.
الجنس والنوع الاجتماعي وعلم الأحياء
للفكرة القائلة بأنَّ المرأة هي الشريكُ الأقلُّ تأثيرًا في عملية التكاثر تاريخٌ يمتدُّ إلى ما قبل أرسطو بكثير. فقد تضمَّنَت الأشعار الجنسية السومرية والبابلية التي يعود تاريخها إلى عام ألفين قبل الميلاد تقريبًا؛ دعواتٍ من الإناث، مثل: «أيها المزارع، احرث الحقل [حقلي]!» وتلبيةً صريحةً من الذكور، على غرار: «دعيني أحرث الحقل». وكِلا الموقفين ينطويان على الاعتقاد بأنَّ المرأة لا تُقدم سوى بيئةٍ خِصبة تنمو فيها بذرةُ الذكر. وفي القرن الخامس قبل الميلاد، عبَّر الكاتب المسرحي التراجيدي اليوناني إسخيلوس عن هذه الفكرة على نحوٍ أكثرَ صراحة. فكتب أنَّ الأم «تُغذي البذرة التي زُرِعَت فيها» فحسب، فهي لا تختلف كثيرًا عن مجرد «غريب» «يحرس نَبْتَ غيره».
بالنسبة إلى أرسطو، كان لفكرة أنَّ جسم المرأة أبردُ من جسم الرجل آثارٌ عَملية في تحديد الأوقات التي يجب فيها على المواطنين الزواجُ والتكاثر. ذلك أنه رأى أنَّ الأفراد تُنتج أفضلَ البذور جودةً عندما تكون أجسامُهم ساخنة. تَمثل التطبيق العمَلي لهذا في اعتقاده بأنَّ التوقيت الأمثلَ لزواج الفتيات هو «في سنِّ الثامنة عشرة» بينما التوقيتُ الأمثل لبحث الرجل عن عَروس هو عندما يكون «في السابعة والثلاثين أو قبلَ ذلك بقليل». رأى أرسطو أيضًا أنَّ الزواج في العمر المناسب يَزيد فُرص الفرد في إنجاب الذكور، وهو ما كان اعتبارًا مهمًّا لدى أرسطو الذي كان يرى أنَّ الذكر «بطبيعته أسمى، بينما الأنثى أدنى». وقد فسَّر هذا الاعتقادَ بأنَّ «إنجاب الإناث يَكثر لدى الشباب ومَن يقتربون من التقدُّم في العمر بدرجةٍ أكبر مما هي عليه لدى مَن هم في رَيْعان العمر»؛ إذ لا تكون «الحرارة الحيوية قد اكتملَت بعدُ في الفئة الأولى، وهي تتناقص في الفئة الثانية». إضافةً إلى ذلك، رأى أرسطو أنَّ الرجال ذَوي القضيب الطويل عُرضةٌ لإنجاب الفتيات لأن مَنيَّهم يكون قد برد بعض الشيء بحلول الوقت الذي يصل فيه إلى الرحم، بينما منيُّ الرجال ذَوي الأعضاء الأقصر يبرد بدرجة أقل.
يمكن تفسير الرغبة في التقليل من شأن إسهام الأنثى في عملية التكاثر بنظرة المجتمعات الزراعية القديمة للعالم وتبعيَّة المرأة فيها. فالأشخاص الذين كانت حياتهم تعتمد على المحاصيل التي تُنتجها التربة قد تأمَّلوا ولا بدَّ حقولَ القمح وبساتينَ الزيتون، بينما كانوا يُفكرون في عملية التكاثر. ولمَّا لم يكن الدَّورُ الذي تلعبه كلٌّ من الأعضاء التناسلية للذكر والأنثى في تكوين بذور النبات مفهومًا حتى القرنِ الثامنَ عشر الميلادي؛ فليس من المستغرَب أن تستنتج الشعوبُ القديمة أن أحد الوالدين يوفر البذرة بينما لا يوفر الآخَر سوى ما يُعادل التربة الغنيَّة. لا شك أيضًا في أنَّ التحقير الأيديولوجي من شأن النساء كان يعكس الهيكل الأبَوي للمجتمعات التي كانت تخضع فيها النساءُ للذكور اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. (وحتى رفْع أرسطو من قيمة القضيب الصغير قد لاقى رَواجًا ثقافيًّا واسعًا، فنجد في مسرحيات أريستوفان أن «العضو الصغير» كان مصطلحًا للتعبير عن الحبِّ في الفن والدراما اليونانيَّين، بينما كانت الأعضاء التناسلية الكبيرة مَدْعاةً للسخرية.)
عِلاوةً على ذلك، فحتى النتائج التجريبية الأوضحُ دلالةً لم تستطع إثباتَ أنَّ المرأة تُسهِم بصورةٍ متساوية في تشكيل الجيل القادم. ففي أواخر القرن الرابع قبل الميلاد بالإسكندرية، ذكَر عالمُ التشريح اليوناني هيروفيلوس أنه عثر في بطون النساء على بِنًى مكافئة للخصيتَين الذكريتَين. وبالرغم من أننا نعرف الآن أنه اكتشف المبيضَين، كان من السهل حينها إيجادُ تفسيرٍ آخَر لمثل هذه الملاحظات. وفي هذه الحالة، استطاع الأرسطيون الراغبون في الحدِّ من دور الأم في تكوين الجنين أن يتَجاهلوا اكتشاف هيروفيلوس بالنظر إلى المبايض، باعتبارها خُصًى ضامرةً لا تتعدى في أهميتها أهميةَ الحلَمات في صدور الرجال.
التَّخَيُّل والتشابه
مال الكُتَّاب القدماء بالفعل إلى الاتفاق على آليةٍ مختلفة تمامًا تُفسر الكيفية التي يتشكَّل بها النسل، وهي تطبيع الجنين بالانطباعات الذهنية لكِلا الوالدين في أثناء الجماع، وعن طريق الأمِّ أيضًا خلال الحمل. في سِفْر التكوين بالكتاب المقدَّس، جعَل يعقوب نِعاجَه تلدُ حُمْلانًا مخطَّطة ومرقَّطة بجعلها تُحدق في شرائح اللِّحاء أثناء حملها.
أورد أرسطو الفكرةَ نفسَها وتبع جالينوس خُطاه، حيث سرد قصةً قديمة لملكٍ قبرصي مشوَّه جعل زوجته تُحدق في التماثيل الجميلة أثناء الجماع كي يتمكَّن خيالُها من أن يمحوَ القُبح الذي تحمله بذرتُه.
كان للاعتقاد نفسِه في قوة الخيال دورٌ مركزي في الرواية الرومانسية اليونانية الشهيرة «القصة الإثيوبية»، التي كُتبَت في القرن الثالث الميلادي أو الرابع، والتي تحكي عن ملكةٍ إثيوبية أنجبَت ابنةً بيضاء على الرغم من لونِ بشَرة زوجها الداكنة. وخوفًا من اتهامها بالفاحشة، تُرسل المولودةَ الجديدة لتُربَّى بعيدًا في مصر. تنكشف «الحقيقة» في الخاتمة الدرامية، وهي أن لون بشَرة الابنة يرجع في الواقع إلى أن والدتها حدَّقَت خلال حملها بها في صورةٍ لأندروميدا ذاتِ البشرة الفاتحة تُوجَد في حجرة نومها. وتلك إشارةٌ إلى التناغم الحميم بين الآباء والأبناء.
البرابرة والعامة
كثيرًا ما استخدم اليونانُ والرومان مفاهيمَ الاختلافات المتوارَثة لتعليل التدرجات الهرمية الاجتماعية والعِرقية وتبريرها، تمامًا مثلما استخدَموها لإضفاء الشرعية على تبعية النساء.
قدَّمَت نظرية «الخلط الجغرافي»، التي وضَعَها علماءُ اليونان والرومان، أساسًا فكريًّا رسميًّا لتعبير كراهية الأجانب. فوَفقًا للنموذج الخلطي، يرتبط كلُّ سائل من سوائل الجسم الرئيسية بزوجَين من الصفات الأساسية؛ فالصفراء ترتبط بالسخونةِ والجفاف، والمِرَّة السوداء بالبرودة والجفاف، والبلغمُ بالرطوبة والبرودة، والدمُ بالسخونة والرطوبة. وقد قيل إنَّ مستوياتٍ مُعيَّنةً من السخونة والرطوبة في الهواء تؤدِّي إلى إنتاج الجسم لقدرٍ أكبر من الخليط المناظر؛ ومثلما عَلِمنا، كان التوازن بين الأخلاط يُعَدُّ من العوامل التي تُشكل تطوُّرَ كلٍّ من السمات الجسدية والنفسية. ونظرًا إلى الاختلاف الكبير في المناخ من منطقةٍ إلى أخرى، فإن ذلك يستتبع ظهورَ صفات عقلية مميزة لدى سكان المناطق المختلفة. استخدم الإغريق هذا التبرير المنطقي للقول بأن حرارةَ آسيا القاسيةَ أدَّت إلى جعلِ الفُرس حكماء، لكنها جعَلَتهم أيضًا خانعين للغاية، بينما استعان به الرومانُ للقدح في شعوب بلاد الغال بوصفهم شُجعانًا نظرًا إلى برودة المناخ في الشمال لكنهم همَجيون. وأضاف كلوديوس بطليموس، مُنجِّم وعالمُ فلَك روماني من القرن الثاني الميلادي، إلى النظرية زعمًا آخر يتمثَّل في أنَّ قُوى الكواكب تتسبَّب هي أيضًا في اختلافات بين الأعراق؛ لأن النجوم والكواكب التي تسطعُ على المناطق المختلفة تؤثِّر في الأخلاط التي يُنتجها الجسم.
من حيث المبدأ، يختلف الخلطُ الجغرافي عن العنصرية البيولوجية نظرًا إلى عدم تأكيده على أن الاختلافات العرقية ثابتةٌ بالوراثة. وبناءً على هذا، تحدَّث المؤرخ الرومانيُّ ليفي عن قنصل كان على وشك خوضِ معركةٍ في آسيا الصغرى ضد جيشٍ يحتوي على فرقةٍ من قوات الغال، فهدَّأ من رَوع فَيالِقه بأنْ أخبرهم أنَّ هؤلاء المحاربين الذين كانوا شرسين من قبلُ قد لانوا بسبب مناخ الشرق اللطيف. بالرغم من ذلك، كان العلماء القدماء يَعْزون للأجانب الصفاتِ التي كانت خارجةً عن قُدرتهم على السيطرة أو المقاومة. وفقًا لهذا، فما دام البرابرة في أوطانهم الأصلية، كان يمكن أن يُنظَر إليهم على أنَّ لديهم جوهرًا ثابتًا أدنى. ولم يتَّفِق الجميع أيضًا على إمكانية التخلُّص من آثار الحرارة والرطوبة بسهولة. كانت نظريةُ شمولية التخلُّق متَّسقةً مع الادعاء بأن الصفات الناتجة عن المناخ سوف تُصبح وراثيةً مع مرور الوقت ومُقاوِمةً للتغيُّرات اللاحقة. عبَّر ليفي نفسُه عن هذا الاحتمال في مقطعٍ سرَد فيه أن مجموعةً من المستعمِرين اليونانيين قد طُمْئِنوا بألَّا داعيَ للخوف من الانحطاط بسبب العيش في مكانٍ يسكنه البرابرة؛ لأن «الانتقال إلى أرض أخرى لا يغير من أصل الفرد أو عاداته».
إنَّ التضارب بين قصتي ليفي يوضح الفجوة بين المفاهيم القديمة للوراثة وتلك التي قدَّمَها العلمُ الحديث. فقد افترض القدماء أنَّ البذور والأجنَّة تكون في حالةٍ من التفاعل الديناميكي مع العالم الخارجي، ومن ثمَّ تتشكَّل الكائنات الجديدة من خلال مزيجٍ من التأثيرات الخالدة والعابرة. وظلَّ هذا الاعتقاد قائمًا أكثرَ من ألفيَّةٍ ونصف بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب.