الوراثة في أوائل العالم الحديث ١٤٥٠–١٧٠٠
ثَمة عواملُ عديدة منحَت مفهومَ التوارث أهميةً جديدة خلال بداية العصر الحديث. أول هذه العوامل هو تجدُّد الحماس تجاه التراث الفكري للحقبة الكلاسيكية القديمة إضافةً إلى اختراع الطباعة، مما أتاح لمزيدٍ من الناس التعرفَ على الأفكار القديمة بشأن الجنس والوراثة. وثانيها أنَّ ظهور الشكوك لاحقًا بشأن صحة النظريات الكلاسيكية، قد دفع بعضَ العلماء إلى تطوير طرقٍ جديدة جريئة لتفسير التشابهِ بين الآباء والأبناء. أما ثالثُ هذه العوامل فهو أنَّ الزيادة الهائلة في توسُّع التجارة الدولية، والاستعمار، والتنقُّل القسري لكلٍّ من البشر والحيوانات، قد جعل من الأسئلة المتعلقة بقُدرة الظروف على التأثير في عملية التكاثر الجنسي حاجةً عملية مُلحَّة.
إحياء ليوناردو
عاد للمَراجع القديمة رونقُها خلال القرنَين الرابع عشر والخامس عشر؛ إذ راح المفكِّرون، تحت رعاية الأمراء والأرستقراطيين، يجوبون مكتبات أوروبا؛ أملًا في العثور على أعمالٍ بارزة مهمَلة لكُتَّابٍ مثل أرسطو وجالينوس وأفلاطون، تخلو من إضافات علماء المسلمين وأخطاءِ النسخ التي قام بها الرُّهبانُ النُّسَّاخ. ونتيجةً لهذا؛ كفل اختراعُ آلة الطباعة في عام ١٤٤٠ تقريبًا تعلُّمَ عددٍ غيرِ مسبوق من الناس للنظريات البيولوجية التي وضَعها القدماءُ في صورة ترجماتٍ جديدة للكلاسيكيات اليونانية والرومانية؛ فقد أصدرَت عواصمُ النشر كالبندقية، وبازل، وباريس خلال القرن السادس عشر ٥٩٠ طبعةً من أطروحات جالينوس وحده.
يمكننا إدراكُ مدى الانتشار الذي أصبحَت عليه الأفكار الكلاسيكية بحلول أوائل القرن السادس عشر من محاولة بارتولوميو دا فينشي لاستنساخ أخيه غير الشقيق المتوفَّى. وُلِد ليوناردو دا فينشي لواحدٍ من أبناء طبقة النبلاء في فلورنسا وفتاةٍ من الفلاحين هي أدنى من أن يُذكر اسمُها في سجلِّ المواليد. ولما كان بارتولوميو يعتقد أنه يضمُّ في صُلْبِه ما يُمكِّنه من تكوين ليوناردو جديد، عزَم على أن يجد لنفسه امرأةً من القرية نفسِها. لا بد أنه بدا غريبَ الأطوار في تَجواله عبر فينشي بحثًا عن فتاة فقيرة جديرة ببذرته. على أي حال، تعرَّف على امرأةٍ شابة من أصول ريفيَّة، وجد أنها ملائمة، وتزوَّجَها. وفي عام ١٥٢٩ أنجبَت له ابنه بييرينو، الذي نشأ وسط الكروم والأسطح الفخارية نفسِها التي نشأ فيها ليوناردو. سارت التجرِبة في البداية بسلاسة؛ إذ أصبح بييرينو في سن السابعة عشرة فنانًا مبتدئًا موهوبًا. غير أنه مات بعد ذلك بالحمَّى.
كانت جهود بارتولوميو متماشية تمامًا مع المعتقدات التقليدية عن التكاثر. فقد كان الأمل في أن تحمل بذرتُه جوهرَ البراعة الفنية متوافقًا مع المسلَّمة البيولوجية القائلةِ بأنَّ التشابه بين الذرية والآباء هو القاعدةُ العامة في الطبيعة؛ فالرجل الذي لا يُشبه أسلافَه هو، كما كتب الشاعر الإيطالي توركواتو تاسو في القرن السادس عشر، «وحش مشوَّه الخِلقة». غير أنَّ التوقُّع المعتاد بأنَّ الذرية يجب أن تُشبه الآباء كان يعني أيضًا إثارةَ الفضائح إذا كان الطفل لا يُشبه مَن تزوَّجَته الأم.
ولاقتناع الطبيب والمؤلف الأندلسي الشهير خوان هورتي بقوة الوراثة، حاججَ في كتابه عام ١٥٧٥ أنَّ الحكومات يجب عليها أن تُنظم قرارات الزواج، فتُزوج النساءَ ذَوات «الذكاء المنخفض» و«الشعر الأشقر الخفيف»، الجميلات برجال «أذكياء» «كثيفي الشعر» «قبحاء». وعلى غرار أسلافهم من العصور الوسطى، حذَّر الأطباءُ مثل هورتي من مخاطر تلويث الأجيال القادمة ببذورٍ أفسدها المرض.
عكسَت تجرِبة بارتولوميو إحدى الركائز الأساسية الأخرى في معتقدات بدايات العصر الحديث بشأن التكاثر، وهي أن كِلا الوالدين ينقلان خصائصَ الأجداد إلى نسلِهما. ففي الكتاب صاحبِ التأثير الواسع «علم وظائف الأعضاء» الذي ألَّفه طبيبُ البلاط الفرنسيُّ جان فرنيل عام ١٥٤٢، لا نجد أيَّ تعبيرٍ عن الشك في أن المرأة تُنتج بذورًا، حتى وإن كانت أقلَّ فاعلية من تلك التي يقذفها الذكر. وقد تجسَّد هذا النموذج الثنائي البذرة في كتاب ويليام هارفي «عن تولُّد الحيوانات» الصادر عام ١٦٥١. كان هارفي يفخر بالتزامه بمفاهيم أرسطو؛ إذ كان اكتشافه للدورة الدموية مُستوحًى بعض الشيء من اعتقادٍ أرسطي يقول بكمال الحركة الدائرية. غير أنه عندما بدأ في تشريح الطيور والأيائل السمراء لاستكشاف أسرار التكاثر، خلصَ هارفي إلى أن حياة جميع الحيوانات تأتي من انبثاقٍ روحي من مَنيِّ الذكر إضافةً إلى بويضة الأنثى التي تنقل سِمات الأم إلى نسلها. ظل كثيرٌ من الكُتَّاب يرون أنَّ بذرة الأنثى أضعفُ من بذرة الذكر، لكن قلة منهم قد أنكَرَت وجودها على الإطلاق.
أيَّد بارتولوميو أيضًا الرأي التقليدي القائلَ بوجود مجموعة واسعة من العوامل البيئية التي يمكن أن تؤثر في البذور والأجنَّة. وصلَت هذه الطريقة في التفكير إلى جمهور عريض للغاية حين أصدَرَت المطابع منشورات إرشادية عن التكاثر لتُباع للآباء والأمهات الحريصين على تحسين صفات صِغارهم. فقد قيل إنَّ لتوقيت الجماع أهميةً كبيرة. وتمشيًا مع النصائح القديمة، نُصح الرجال والنساء بالامتناع عن التزاوج حتى تصل أجسادهم إلى الحرارة المناسبة. فقد كتب هورتي أن قذف الصبيِّ المراهق يكون رطبًا جدًّا، حتى إن أيَّ طفل ينشأ عنه «سيكون بالتأكيد متخلفًا». قيل أيضًا إنَّه لا بد من تركِ مدةٍ مُلائمة للطعام كي يُهضَم مُكوِّنًا بذورًا ذاتَ جودة عالية. ولهذا؛ كانت ممارسة الجنس بعد تناول الطعام تُعدُّ العملَ الأكثر حماقةً على الإطلاق. الحقُّ أنَّ هورتي قد نصح بأن تُترك بذرةُ الذكر مدةَ ثلاثة أيام قبل الجماع كي «تنضجَ وتُعتَّق». وبهذا يمكنها أن تغلب بذرةَ زوجته الأضعف، مما يَزيد من درجةِ ما يكتسبه الطفل من هيئته، فيتوفر له بذلك تأكيدٌ على أبوَّته. لكن هذا لم يكن يعني إمكانيةَ تيقُّن الزوج من أبوَّته تمامًا. فقد ذكَرت بعض النصوص الشعبية أن المرأة يمكنها أن تُبعد عن نفسها تهمة الحمل من عشيقها إذا التزمَت بتخيُّلِ زوجها خلال ممارستها للزنا وفي أثناء الحمل.
كان أوائلُ كُتَّاب العصر الحديث مقتنعين أيضًا بأنَّ الإله قد خلَق البشر على نحوٍ تؤدِّي فيه الخطيئةُ تلقائيًّا إلى ولادة نسلٍ مشوَّه. وكانت ممارسة الجنس مع المرأة الحائض تُعَد أمرًا شنيعًا وخطيرًا للغاية. ورأى الطبيبُ الهولندي ليفينوس ليمنيوس أن البحَّارة على وجه الخصوص أكثرُ عُرضةً لهذا الخطر؛ إذ يعودون من رحلات طويلة متلهِّفين لإشباع رغباتهم المكبوتة و«يُهرَعون بجنونٍ إلى زوجاتهم في عُجالة» دون التوقُّف للاستفسار عمَّا إذا كنَّ في وقتِ الحيض، أم لا. وتحدَّث ليمنيوس عن «وحش» وُلِد بهذه الطريقة لبحَّار وزوجته، له رقبةٌ طويلة و«عينان عدائيَّتان»، وقد قفز من الرحم وركض في أرجاء الغرفة حتى تمكَّنَت القابلاتُ من الإمساك به وخنقِه حتى الموت.
عن البشر والخيل
كانت مبادئُ الخلط الجغرافي لم تزَل رائجةً إلى حدٍّ كبير عندما ابتكر بارتولوميو دا فينشي تجرِبتَه في التوالد. فعَزا الكُتَّاب الاختلافات في لون البشرة وحتى في الدين والحكومة إلى التبايُنِ في مدى التعرُّض للرطوبة، وضوء الشمس، وتأثير الأفلاك. غير أنهم شعَروا بالحاجة إلى تصحيح جوانبَ معينةٍ من النظرية القديمة. فعندما بدأ الإنجليز في رؤية أنفسِهم على أنهم يؤدُّون أدوارًا رئيسة على مسرح العالم، سخطوا على سُمعتهم الكلاسيكية القائلة بأنهم سريعون في القتال لكنهم بطيئو التفكير. ففي عام ١٦٦٤، رفض رجلُ الدين توماس واكينتون هذه الافتراءاتِ القديمةَ بالإصرار على أن «أمير جميع درجات الحرارة» في الشمال البارد يمنح الإنجليز مزيجًا مثاليًّا من الدم والبلغم، يتجسَّد في «العقول الخلَّاقة» و«الفهم الحصيف». وبحلول هذا الوقت كانت بعضُ الشكوك الأكثر جديةً قد أخذَت في الظهور بشأن صحة التصورات الأبسط من نظرية الخلط الجغرافي.
طَوال المدَّة التي لم يتجاوز فيها مجالُ النفوذ الأوروبي شمالَ أفريقيا والبحر الأسود إلا قليلًا، لم تُوجَد سِوى فرصٍ قليلة لاختبار نظرية الخلط الجغرافي. وقد بدأَت النسخة القياسية من هذه النظرية تبدو متزعزعة فورَ أن اخترق البرتغاليُّون والإيطاليون بسُفنهم ساحلَ غرب أفريقيا، وأبحَروا إلى البحر الكاريبي والبرِّ الرئيسي لأمريكا، وداروا حول رأس الرجاء الصالح لِيَصلوا إلى إمبراطوريات التجارة الشاسعة في الشرق. وكلما ابتعد الأوروبيُّون في إبحارهم، بدا التوافق بين أشعَّة الشمس ولون البشرة أقلَّ. لقد فوجئ المؤرِّخ الإيطالي بييترو مارتيري بوجودِ شعوبٍ ذات بشَرة فاتحة نِسبيًّا في منطقة البحر الكاريبي، فبدا الأمريكيون الأصليون في وصفه لهم وكأنهم قبائلُ فايكنج معزولة؛ حيث كتب: «هؤلاء الناس بِيض البشرة، ولهم من الشعر ما هو طويل وأصفر.»
كان الأدهى من ذلك لم يزَل في انتظارِ أصحاب النسخة الأكثرِ سذاجةً من نظرية الخلط الجغرافي. فقد اتَّضح بالتجرِبة أن الأطفال المولودين في أنجولا أو منطقة البحر الكاريبي لأبوَين أبيضَين لم يقترن أيٌّ منهما إلا بزوجه لا يخرجون من الرحِم ببشَرةٍ داكنة. انخرط التاجر جورج بست في مناقشة نقائصِ نظرية الخلط الجغرافي؛ إذ ذكر في عام ١٥٧٨: «أنا عن نفسي رأيت إثيوبيًّا أسودَ كالفحم قدم إلى إنجلترا، وتزوَّج من امرأةٍ إنجليزية بيضاء، وأنجب ابنًا أسودَ تمامًا مِثلَه.» وعندما تناول الطبيبُ الإنجليزي السير توماس براون مسألةَ لون البشرة في كتابه الصادر عام ١٦٤٦ بعنوان «تساؤلات بشأن الكثير من العقائد المتلقَّاة والحقائق المغلوطة الشائعة»، وهو بمثابة هجوم لدحض الخرافات المنتشرة في «الأخطاء الشائعة»، اعترف بأنه واثقٌ من شيء واحد فقط، وهو أن لون البشرة ينتقل بدقةٍ من الآباء إلى الأبناء.
كيف أمكن إذن التوفيقُ بين السواد الدائم لدى الأفارقة والبياض المزعوم لآدم وحواء؟ حاجَج الكثيرون، استنادًا إلى الأبقراطيين وألبرتوس ماجنوس، أن آثارَ بيئة الأجداد غيرُ دائمة، لكنها تستغرق عدةَ أجيال لتُمحى؛ فقد قدَّر الأب دوبوس، على سبيل المثال، أن الأمر سيستغرق نحو عشَرة أجيال من العيش في الدول الإسكندنافية كي يحصلَ أحفادُ أفارقة جنوب الصحراء الكبرى على خُصَل من الشعر الأشقر وبشرةٍ بيضاء. واتجه آخَرون إلى الدين بحثًا عن تفسيرات. فاقترحَت قلةٌ من هؤلاء الكُتَّاب أن الإله قد خلَق أزواجًا عدةً من آدم وحواء، يُمثل كلٌّ منها عرقًا من الأعراق البشرية. وقدمت قراءة جديدة مغلوطة لقصة لعنة حام الواردة بالكتاب المقدَّس بديلًا أقلَّ ابتداعًا. فبحسب سِفر التكوين، عندما سكر نوحٌ تمامًا وتعرَّى، غطَّى ابناه يافث وسام عُرْيَ أبيهما كما يقتضي الواجب. أما حام فسَخِر من عُريه. وعندما استيقظ نوح، علم بلهوِ حام المُهِين ولعَن كنعان ابنَ حام وسائرَ ذريته بأن يحيَوْا حياةَ العبودية. وصحيحٌ أنَّ هذه الفقرة من الكتاب المقدَّس لا تنطوي على أي إشارة إلى لون البشرة، فإنَّ ذلك لم يمنع الكُتَّاب من الزعم بأن ورَثة حام الملعونين قد وُهِبوا البشرة السوداء التي ورِثَتها جميعُ الأجيال المتعاقبة. واستند بعضُ الكُتَّاب أيضًا إلى اللعنة الحاميَّة لتبرير استعباد الأفارقة. وفي كِلتا الحالتَين، افترضوا أن الصفات الموروثة ثابتةٌ تمامًا.
كان الأوروبيون الذين استقرُّوا في إمبراطورياتٍ بعيدة متلهِّفين جِدًّا للاعتقاد بأن جوهرهم العِرقي لن يتغيَّر بالتأكيد. ونزعَت العائلات الإسبانيةُ الأصلِ التي وُلِد أفرادها ونشَئوا في إمبراطورية العالم الجديد الإسبانية؛ إلى الاعتقاد بأنَّ السِّمات الوراثية ثابتة ومستقرة. ذلك أنَّ البديل كان يعني الاعترافَ بأنَّ تمييزهم عن المواطنين الأصليين لن يُصبح ممكنًا في النهاية. وعلى العكس من ذلك، سرعان ما أصرَّ الإسبان الذين أبحَروا من إسبانيا لتولِّي المناصب الإدارية على جَدارتهم بِشَغل أرقى المناصب؛ لأن طبيعتهم لم تتأثَّر بطعامِ أمريكا الوسطى والجنوبية ولا نُجومها، ولا حرارتها ولا رطوبتها.
كان لحركة الشعوب بين المناطق المناخيَّة التي شجَّعَت على هذا التدقيق في نظرية الخلط الجغرافي؛ نظيرتُها في نقل الخيول من منطقةٍ إلى أخرى. فعلى الرغم من انتقالها من الأجواء المشمِسة في بلدان البحر الأبيض المتوسِّط أو الشرق الأوسط إلى مناخات الشمال الأكثرِ عتمة، دُهِش مُربُّو الخيول الأرستقراطيون وسَعِدوا عندما اكتشَفوا أن كثيرًا من ذرية خيل الجينيت الإسباني، وخيل نابولي السريع، وخيول البرابرة والأتراك؛ قد احتفَظَت بسِمات نسلِها. وأدرَكوا أن الصفات الفطرية عنيدةٌ للغاية فيما يبدو. لهذا السبب قال الكاتب الإنجليزي توماس بلوندفيل للمشترين أن يكونوا «حذرين جدًّا عند اختيار أول ذكرٍ وأنثى من الخيول». وعلى الرغم من أنَّ هذا الرأي لم يحظَ بموافقة الجميع، فلا شك بأنَّ مَن يملكون ترَف تربية الخيول قد زاد اقتناعهم بأنَّ لنِسَبها أهميةً كبيرة.
البويضات والنُّطف والآلات
إلى جانب التبجيل الذي حظيَت به التقاليدُ القديمة، نجد تطورًا مُوازيًا لطرقٍ جديدة في التفكير بشأن كيفية حدوث التكاثر. فخلال القرن السابع عشر، حاججَ عددٌ من فلاسفة الطبيعة بأن مهمة العلم هي شرحُ العالم على أساس العلاقات الماديَّة بين الأسباب والنتائج بقدرِ الإمكان. ويرتبط هذا المنعطَفُ الميتافيزيقي ارتباطًا وثيقًا «بالفلسفة الميكانيكية» للفيلسوف الفرنسي وعالم الرياضيات رينيه ديكارت. فاستنادًا إلى المذهب الذرِّي لديموقريطوس في القرن الخامس قبل الميلاد، زعَم ديكارت أن المادة تتألَّف من ذراتٍ صغيرة وهبَت عند «الخلق» أنواعًا محدَّدة من الحركة. وقال ديكارت إن الفلسفة الطبيعية يجب أن تُعْنى بحركات هذه الجُسيمات الخفيَّة والتصادمات فيما بينها. ورأى ديكارت أنَّ مَن يلجَئون إلى «الأرواح» و«القُوى النَّجمية» و«الموادِّ السماوية» لتفسير ما يجري في العالم إنما يستحضرون كلماتٍ لا تُفسر في الواقع أيَّ شيء.
كانت ثقة «الديكارتيين» في هذا المنهج كبيرةً للغاية حتى إنهم حاوَلوا اختزال الإنجاب إلى عملية ميكانيكية فحَسْب. افترَض ديكارت أنَّ بذور الوالدين تتكوَّن من جُسيمات دقيقة تُستخلَص من جميع أجزاء جسدَيهما. وفور دخول البذور إلى الرحم، تخضع لحرارة التَّخمُّر وتبدأ في الدوران. في هذه المرحلة تتجمَّع الجسيمات أو تتفرَّق وفقًا لاختلافاتٍ بسيطة في الحجم، والشكل، والوزن. لكنَّ ديكارت نفسه أدرك عيوبَ هذه النظرية. وأدركها كثيرٌ من الآخرين أيضًا. فقد خلص الفيلسوف الطبيعي الاسكتلنديُّ جورج جاردن في ١٦٩١ إلى أن «جميع قوانين الحركة المكتشفة حتى الآن لا يُمكنها أن تُعطي سوى تفسيرٍ ضعيف لتكوين نباتٍ أو حيوانٍ ما.» تعرَّض ديكارت أيضًا لمزيدٍ من الانتقادات من المجتمعات العلمية الجديدة التي اجتمع فيها الفلاسفةُ الطبيعيون لمشاهدة الطبيعة وهي تخضع للتجرِبة. ففي أماكنَ كالجمعية الملَكية في لندن، التي تأسَّسَت عام ١٦٦٠، نوشد المشاركون بالابتعاد عن التخمين لصالح مُراقبة التجارِب الدقيقة ثم الاتفاق على ما شُوهِد فيها. في هذا السياق، يبدو الحديث عن جسيماتٍ دقيقة دائرةٍ تنظيرًا أهوج.
في ذلك الوقت، أدى اختراع المجهر إلى تحسين قدرة الفلاسفة الطبيعيين على التعلم من خلال الملاحظة المنهجية بدرجةٍ كبيرة. وقد مكَّنَت هذه الأداةُ البالغةُ الأهميةِ أيضًا من كشفَين جوهريَّين فيما يتعلق بالجنس والوراثة، وهما رؤيةُ الحيوانات المنوية لأول مرة واكتشافُ الحويصلات المبيضية. ففي عام ١٦٧٧، فحص رائدُ الفحص المجهري الهولندي أنطوني فان ليفينهوك بعضًا من السائل المنوي تحت مجهره وشاهد «ديدانًا منَوية» صغيرة تسبح في كلِّ مكان. أسرعَ بكتابة خطابٍ إلى الجمعية الملكية اعتقادًا منه أنه اكتشف الناقلاتِ الفعليةَ للوراثة من الذكر. وعلى الرغم من أن ليفينهوك عزَّز حُجته بعثوره عليها في السائل المنوي للكلاب والأرانب والأسماك أيضًا، فقد تجاهل معظمُ العلماء هذه «الديدان المنوية» باعتبارها محضَ طفيليَّات.
في الوقت نفسِه تقريبًا ظهَرَت أدلةٌ قوية على وجودِ بويضات لدى الإناث. ففي عام ١٦٦٧، شرَّح دانماركيٌّ يُدعى نيكولاس ستينو، كان يعمل لدى دوق توسكانا الأكبر، أنثى قرشِ كلب البحر، وميَّز ما يُشبه البيض في «خُصيتَيها الأنثويتَين». لم تمضِ مدةٌ طويلة حتى لاحظ عالم التشريح الهولندي رينييه دي جراف أنَّ مبيضَي إناث الأرانب يتغيَّران قربَ وقتِ الحمل. فقد لاحظ أنَّ بعض الحويصلات الصغيرة الموجودة على سطحَيهما تختفي تاركةً خلفها نُدْبةً صفراء. تمكَّن دي جراف بعد ذلك من أن يُميز في أرحام أرانبه من الأجنَّة النامية بعددِ ما كان يُوجَد في المبيض من «أجسام صفراء». وحينها بدا افتراضُ أنَّ الحيوانات تتطوَّر من بويضات تُطْلِقها المبايض مُرجَّحًا أكثرَ من أي وقتٍ مضى.
كان أتباعُ «نظرية الوجود المسبق» أبعدَ ما يكونون عن السذاجة. وقد لاقَت الفكرةُ قَبولًا واضحًا لدى الفلاسفة الطبيعيِّين الذين ساءهم أنَّ الفلسفة الميكانيكية لديكارت لم تُفسِّر ما تنطوي عليه عمليةُ التكاثر من تعقيدات، لكنهم لم يَرغبوا أيضًا في العودة إلى طرح النُّفوس والأرواح بصفتها تفسيراتٍ للظواهر الطبيعية. إضافةً إلى ذلك، فقد جعَلَت المجاهرُ النظريةَ قابلةً للتصديق. فمع ظهور كائناتٍ بالغة الدقة للعين تحت عدسات المجهر، ازدادت معقوليةُ تصور ملايينِ الأجنة المطويَّة بدقة في مِبيضَي كلِّ أنثى. في الوقت نفسِه، كانت العدسات لا تزال بدائيةً لدرجةٍ لا يمكن معها لأحدٍ أن يضع النظرية في اختبارٍ فعال. وبناءً على هذا، نشأ خلافٌ كبير بين المدافعين عن نظرية الوجود المسبق وأولئك الذين ظلُّوا يرَون أنَّ وجود القُوى الروحية ضروريٌّ جدًّا لتفسير الجنس والوراثة.
النوع الاجتماعي والعِرق والنخبة
أدَّت التفسيرات التي طوَّرها العلماء فيما يتعلق بالنوع الاجتماعي إلى تقديس تبَعية المرأة اجتماعيًّا وسياسيًّا، كما حدث في القرون السابقة. ولمَّا أن حُرِمَت النساء من تلقِّي التعليم، ومُنِعنَ من المشاركة السياسية العلنية، وصار المتوقَّع منهن أن يخضعنَ بلطفٍ لسلطة الرجل داخل المنزل وخارجَه، فإنَّ النساء اللاتي طالبنَ بمزيدٍ من الحقوق، كُنَّ عُرضةً للاتهام بانتهاكِ واجباتٍ تفرضها عليهن طبيعتُهن المتأصلة. وقد عبَّرَت باسوا ماكين، وهي صاحبةُ أكاديميةٍ لتعليم الفتيات في لندن في القرن السابع عشر، عن أسَفِها من الاعتقاد السائد بأن «النساء لم يوهَبْن من العقل ما حُبِيَ به الرجال، وأنَّ التعليم لن يُحسِّن منهنَّ مثلما يفعل بالرجال».
إنَّ هذه الصورة للأنوثة المتواضعة قد تعارضَت مع رؤيةٍ أخرى مختلفة للغاية، تُصوِّر المرأة على أنها تفتقرُ بشدة إلى الذكاء حتى إنها لا تستطيع التحكم في دوافعها الأساسية. فقد حاجج الفقيه القانوني الفرنسي جون بودن في القرن السادس عشر بأن أدمغة النساء أصغر من أدمغة الرجال ومن ثمَّ يستسلمن بسهولة لشهواتهن الغرامية. ونتيجة لذلك، على حدِّ قوله، فإنهنَّ كثيرًا ما يقَعْن ضحيةً لأحابيلِ إبليسَ الجنسية. وقد وافق قاضي بوردو المختصُّ بمطاردة الساحرات، بيير دو لونكر، على أن الشيطان «يغلب النساءَ أكثرَ مما يغلب الرجال»؛ لأنهن «بطبيعتهن أكثرُ حماقة».
ما من حالةٍ تتجلى فيها قوةُ المصلحة الذاتية الاجتماعية والاقتصادية في الترويج للعنصرية بأوضحَ مما تتجلَّى في حالة العبيد الأفارقة الذين شُحِنوا قسرًا من جنوب الصحراء الكبرى إلى الأمريكتَين. أدرك الأوروبيُّون أنهم يستطيعون جنْيَ الثروات بإنتاج سِلَع مثل السكَّر فيما ضمُّوه إلى أراضيهم من مساحاتٍ شاسعة. غير أنَّ إنتاج السكر كان عملًا شاقًّا وخطيرًا، لدرجةٍ يقلُّ معها عددُ من يرغبون في العمل بالمزارع طواعيةً. ولهذا أنشأ الملَّاكُ والمشرفون مزارعَ السُّخرة التي راحوا ينقلون إليها الأفرادَ من الساحل الغربي لأفريقيا. ولما أن تأسَّسَت المستعمرات على التبعية الوحشية للسود من الرجال والنساء والأطفال السود، فقد بدأ المستعمِرون البيضُ في الحديث عن عَبيدهم الأفارقة، باعتبارهم «أقربَ إلى الوحوش» التي يمكن بيعُها «كما نبيع الأغنام» دون أدنى وازعٍ أخلاقي. لقد دفَعَتهم النفعيةُ الاقتصادية إلى نزع صفة الإنسانية عن الأفارقة.
وعلى العكس من ذلك، كان الأوروبيون في كثيرٍ من الأحيان يُسرفون في مدح شعوب الهند، والصين، واليابان. فقد كتَب المُبشِّر الإيطالي نيكي-سولدو أورجانتينو في عام ١٥٧٧ عن الصينيِّين: «يجب ألا تعتقد أن هؤلاء الناس برابرة»؛ لأننا «من دون الإيمان … نُصبح برابرةً عظامًا مقارنةً بهم.» إنَّ هذه الاستثناءات من القاعدة العامة المتمثلةِ في إهانة الأوروبيِّين لغير البيض، تُخبرنا بالكثير عن دوافع أولئك الذين يُطلقون العنان للأيديولوجيات العنصرية. فالأرجحُ أنَّ البرتغاليين والإسبان كانوا عادةً ما يَجْنون من شراء السِّلع الكمالية في الشرق مالًا أكثرَ بكثير مما يَجْنونه من تحويل السكَّان المحليين إلى عبيدٍ بالسخرة في المزارع. ثم إنَّ الأوروبيِّين كانوا يفتقرون إلى التفوُّق العسكري الضروري لتمكينِهم من استغلال السكان الأصليِّين بوحشية. وبدلًا من ذلك، أسفَرَت الحاجةُ إلى التعاون مع الحكَّام الأصليين والتجَّار عن التعاطف وإدانة التنميط العرقي الفج. لو كانت شعوبُ الهند أو الصين أو اليابان عُرضةً على نحوٍ مُميت للإصابة بالحصبة، والجدري، والإنفلونزا، كما كانت شعوبُ الأمريكتَين، فلربما اختلَف الوضع. لكن الحظَّ لم يُحالف الأوروبيِّين هذه المرة؛ فقد اندمجَت مجموعاتُ جراثيم أوروبا والشرق الأقصى منذ مدةٍ طويلة بعد قرونٍ من الهجرة، والتِّجارة، والإغارة.
نرى مثالًا صارخًا على كيفيةِ تعزيز الظروف لنزع صفةِ الإنسانية عن الفئات الضعيفة في أوائل العصر الحديث بإسبانيا حيث ظلَّت الكنيسة عدةَ قرون وحتى عامة الناس من المتديِّنين في بعض الأحيان، يُحاولون تحويل اليهود إلى المسيحية. وأخيرًا، في عام ١٤٩٢، عندما أُعطي اليهودُ الإسبان خيارَ التحوُّل عن اليهودية أو مغادرة المملكة، وافق الكثيرون منهم على التعميد. وحينها جَزِعَت العائلات المسيحية القديمة إذ وجدَت أنه صار عليها أن تتنافسَ على المناصب المربحة في الكنيسة والدولة مع «المتحوِّلين» من أصحاب التعليم الجيد نِسبيًّا. ونتيجةً لهذا فقد استثمَروا بحماسٍ في نظرية وراثية شيطنَت اليهود باعتبارهم ينتمون إلى «أنساب منحرفة» تَحول بينهم وبين أن يكونوا مسيحيِّين حقيقيين.
ما كان هؤلاء الإسبان المستاءون سوى مجدِّدين للمزاعم القديمة القائلة بأن نَسْل الأُسَر الأرستقراطية هم وحدهم الجَديرون بتبوُّؤِ المراتب العالية. ولم يَبْدُ على الإطلاق أنَّ هذا الزعمَ المغلوط يَضعُف في أوائل العصر الحديث. حقيقة الأمر أنَّ نبلاء أوروبا راحوا يُغْلون من قيمة سُلالاتهم بحماسٍ زائد عندما حاولَت الدولُ الساعية إلى تحقيق المركزية الحدَّ من استقلالهم، وعيَّنَت مُوظفِين من الطبقات الاجتماعية المتوسطة مِمَّن تلقَّوا تدريبًا رسميًّا في المالية والإدارة والقانون. الحق أنه لم يكن ثمة داعٍ كبيرٌ للقلق بالنسبة إلى معظم الأرستقراطيين، يستدعي نعيقَهم بشأن أهميةِ امتلاك نوع الدم الصحيح. فقد كان معظمُ الملوك لا يزالون يطلبون ولاءهم كي يتمكَّنوا من حكم المقاطعات البعيدة عن مقرَّات الحكومة الملكية. علاوةً على ذلك، فإنَّ معظم المترقِّين في المكانة الاجتماعية لم يكن لدَيهم أيُّ اهتمامٍ بتحدِّي مفهوم الطبقة الأرستقراطية عن نفسها بوصفها سلالةً متفوقة. وقد فضَّلوا تزويجَ أبنائهم وبناتهم من النُّخَب القديمة حتى يتمكَّن ورَثتُهم يومًا ما من التباهي بأسلافهم النبلاء. حتى أولئك الأدنى في المكانة الاجتماعية قد استفادوا من مجدِ الولادة الأرستقراطية باصطناع أنسابٍ مُزيفة. وقد عزَّزَت مثلُ هذه الحيل أيديولوجيةَ الدم النبيل.
أَوْرَث كُتَّابُ أوائل العصر الحديث لخلفائهم في القرن الثامن عشر ميراثًا من المعتقَدات المختلطة عن الوراثة. فقد كانت الأفكارُ التي تبنَّاها العديد من الأطباء، والفلاسفة الطبيعيون، والآباء، ومُربُّو الحيوانات، والأرستقراطيون، والمستعمرون بشأن كيفية حدوث التكاثر وأنواع الصفات الموروثة، لا تختلف عن أفكار الحقبة الكلاسيكية القديمة إلا قليلًا. بالرغم من ذلك، ظهرَت رُؤًى جديدةٌ مهمة؛ فأولًا: مكَّنَت الملاحظة المنهجية من اكتشاف الحيوانات المنوية والبويضات في مجموعةٍ متنوعة من أنواع الحيوانات، وثانيًا: شجَّع انتقالُ البشر والخيول الرأيَ القائل بأن الاختلافات الوراثية أكثرُ استدامةً مما كان يُزعَم قبل ذلك. إضافةً إلى ذلك، فقد كان لظهور المنهج التجريبيِّ القدرُ نفسُه من الأهمية؛ إذ وفَّر شرطًا ضروريًّا لحدوث التقدُّم العلمي المذهل في القرون التالية.