الوراثة في عصر التنوير
نضج مفهوم الوراثة خلال عصر التنوير. فقد ظهر من علماء النبات وعلماء الطبيعة روَّادٌ في الدراسة المنهجية للجنس والتوارث، ونقَّح الفلاسفة الطبيعيون أفكارَهم بشأن كيفية إنتاج البذور لأجسامٍ حية، وصار مربو الحيوانات المحترفون أبرعَ في اختيار السِّمات المرغوبة والحفاظ عليها، وأدَّى ميلادُ نظرية للتطور في نهاية القرن الثامن عشر إلى وضع الوراثة في صميم الجدل العلمي. في الوقت نفسِه، كان للأفكار المتنافسة فيما يتعلق بالوراثة دورٌ مركزي في الفلسفات السياسية في عصر الثورة هذا، وفيما يتعلق أيضًا بقضايا النوع الاجتماعي والعبودية والاستعمار من ردود فعلٍ ومواقفَ متعارضة ونتيجةً لهذا كله، اكتسبَت الفكرةُ القائلة بوجود اختلافات فطرية بين الناس أهميةً علمية وسياسية غيرَ مسبوقة.
علم الوراثة
في القرن الثامنَ عشر، قدم الفلاسفة الطبيعيون والعاملون بتربية النباتات والحيوانات أدلةً جديدة على الوراثة من الوالدين كلَيهما والاستقرار النسبي للسِّمات الموروثة عبر الأجيال. وتركَّز السؤال عمَّا إذا كان كِلا الوالدين يُسهِمان بموادَّ وراثية، في سياق المناقشات بشأن مدى وجاهة نظرية الوجود المسبق. فعرَف المدافعون عن نظرية البويضة أو النظرية المنوية أنَّ أضعف نقاطِ نظريتهم تتجلَّى عند محاولة تفسير التشابُهِ بين الطفل ووالدَيه. وحاجَج معظمُهم أن الأجنَّة المسبقة التشكيل أشبهُ بشِباك تمتلئ بطريقةٍ ما في الرحم بالصفات الأبوية. أدى إدراكهم هذا إلى توقفهم عن تقديم نظريات عن التوالُد تخلو من تأثير بعض القُوى وعوامل الجذب مثلما كانوا يفعلون في البداية. بالرغم من ذلك، ظلَّت نظريةُ الوجود المسبق رائجةً بين النخبة من الفلاسفة الطبيعيِّين حتى آخرِ لحظات القرن الثامنَ عشر. غير أنَّها لم تبدُ منطقيةً لمعظم مَن كانوا يُشاركون في تجارِب التوالُد الفعلية.
جمَع علماء النبات في القرن الثامنَ عشر أدلةً قوية على وراثة الصفات من كِلا الوالدين. وكان عمل السويديِّ الرائد في تصنيف النبات والحيوان، كارولوس لينيوس، على درجةٍ خاصة من الأهمية. فعَبْر سلسلةٍ من تجارِب التوالُد الخلطي، قدَّم الدليل الأقوى حتى ذلك الوقتِ على أن النباتات تتكاثر جنسيًّا وليس لاجنسيًّا. وفي عام ١٧٦٠، حصل على جائزةٍ من أكاديمية سانت بطرسبرج الإمبراطورية؛ لوصفه انتقالَ خصائصِ كلٍّ من الأبِ والأم في نبات القُنب. لم يتوقَّف لينيوس عند هذا الحد واقترح تشكُّلَ أنواعٍ جديدة باستمرار من خلال تهجين الذكور والإناث من مختلِف أنواع النباتات والحيوانات. تخيَّل لينيوس أن التوالد الخلطيَّ يستكمل الخلقَ الإلهيَّ بتشكيلِ أنواع جديدة دائمًا ما كانت جزءًا من الخطة الإلهية الأصلية.
إضافةً إلى ذلك، أجرى عددٌ قليل من العلماء دراساتٍ منهجيةً بشأن التوارث في البشر. ففي عام ١٧٥٣، نشر عالمُ الفلَكِ والرياضيات الفرنسي بيير لوي مورو دو موبرتيس، نتائجَ دراسةٍ لعائلة روه في برلين، التي وُلِدَ فيها الأبُ ياكوب روه بإصبَعٍ زائد في كلٍّ من يدَيه وقدَميه، وقد ورث هذا الأمرَ عن جَدَّته عبر والدته. وأنجب ياكوب بدوره عدةَ أطفال، اثنان منهم بأصابعَ زائدة. لم يكن مثلُ هذا النمط من التوارث، كما أوضح موبرتيس، ليتماشى مع الأشكال الأبسطِ من نظرية البويضة أو النظرية المنوية؛ لأن احتمالية تَكْرار ظاهرةِ تعدد الأصابع في عائلة روه على مدار ثلاثة أجيال متتالية عن طريق الصدفة لم تكن سوى واحدٍ في كل ٨ تريليونات.
جسَّد موبرتيس رغبةَ فلاسفة القرن الثامن عشر في شرح العمليات الجسدية من خلال قُوًى شبيهةٍ بالقوانين. فقد لاحظ أن العظيم إسحاق نيوتن قد كشف عن قوةٍ تُسمى الجاذبية لا يمكن استيعابها إلا من خلال آثارها. وبناءً على ذلك، اقترح موبرتيس أن الإله قد حَبا جُسيمات المادة في البدء بأنواعٍ معيَّنة من النشاط. وواصل طرْحَه قائلًا إنَّ «العناصر» التي تتكوَّن منها بذورُ الوالدين تنطوي على «مبدأٍ للذكاء» جوهري، وهو يُمكِّنها عند الانتقال من أجسام الوالدين إلى الغُدد التناسلية والرحم، من الاحتفاظ ﺑ «ذاكرة» ﻟ «مواضعها السابقة». وبهذه الطريقة يرثُ الأطفال من والديهم سِماتِهم وميولَهم.
اختلَف كُتَّاب عصر التنوير بشأن مدى سهولة تغيير التأثيرات العابرة من الصفات الوراثية للأجنَّة. غير أنَّ معظم الأطباء وعلماء الطبيعة قد اتفَقوا على أن ما يطرأ على جسد الوالدين من تغيراتٍ بارزة ومستمرَّة يكون له تداعياتُه الوراثية. فمثلما هو الحال في القرون السابقة، توقَّعوا أنَّ الحالات الطبية المزمنةَ تنتقل بالوراثة، وأنها تقضي على بضعة أجيال مِمَّن يعيشون حياةً صحية. طبَّق عالمُ الطبيعة الفرنسي البارز جورج لوي لوكلير، كونت بوفون، المنطقَ نفسَه في محاولته لشرح التشابُه بين الكائنات الحية المصنَّفة في الجنس نفسِه. فعندما عُيِّن بوفون رئيسًا للحدائق الملَكية بباريس عام ١٧٣٩ وضَع فرضيةً مفادها أن جميع نباتات الجنس الواحد تأتي في الواقع من خُطة توارثٍ واحدة، أو «قالب داخلي» تحمله البذور، وهو يوجِّه التنظيم السليم للمادة. وحاجج بوفون، على سبيل المثال، أن النَّمِر، والكَوْجر، والنمر المرقَّط هي حيوانٌ واحد في الأساس، ولا تبدو مختلفةً إلا لأنها سكَنَت بيئاتٍ مُتباينة. وقد اعتبر أنَّ هذه التغيراتِ كلَّها انعكاسية، لكنه خمَّن أن الأمر سيستغرق بضعةَ أجيالٍ بعد نقل الكَوْجر إلى أفريقيا حتى تنموَ لديه بُقَعُ النمرِ السوداءُ وفِراؤه الأصفر.
تجادَل العلماء والمحامون أيضًا فيما إن كان التشابهُ دليلًا يُعتمَد عليه في إثبات الأبوَّة، أم أنه يشير فحسبُ إلى الشخص الذي كانت تُفكر فيه المرأةُ في أثناء ممارسة الجنس والحمل. الحقُّ أنَّ هذه الفكرة الأخيرة قد لاقَت استحسانًا لدى جمهورٍ أوسع، مثلما يتَّضح ذلك من استخدام القوة التوليدية لخيالِ الأنثى أداةً مهمة في حبْكة العديد من الروايات الرائجة في القرن الثامنَ عشر. وعلى العكس من ذلك، فعندما كان يتعيَّن على المحاكم في المجتمعات المالكة للعبيد اتخاذُ قرار بشأن قضايا الأبوَّة بعد إنجاب النساء البِيض أطفالًا ذَوي بشَرة داكنة، كانوا عادةً ما يُقرِّرون أنَّ صبغة الجلد هي نتيجةُ التوارث وليس الخيال. ففي نهاية المطاف، كيف كان لهم أن يضبطوا الحدودَ العِرقية إذا كانت عمليةُ التوالد تخضع للأهواء بمثلِ هذه الدرجة المقلقة؟
الكائنات الوحيدة الخلية والبشر
ثمة طرقُ منافَسةٍ في التفكير بشأن الوراثة قد تصدَّرَت المشهدَ في نهاية القرن الثامن عشر عندما قدَّم رجلان ادِّعاءً بارزًا؛ مفاده أن الأنواع تتطوَّر باستمرارٍ من أشكالٍ بسيطةٍ إلى أشكال مُعقَّدة. انطوَت النظريةُ التطورية على استبعادِ فكرة أنَّ عُمر الأرض لا يتعدَّى بضعةَ آلافٍ من السنوات مثلما أشار الكتابُ المقدَّس، وتبنَّى بدلًا من ذلك الاعتقادَ القائل بأنَّ الكوكب قد خضَع لمرحلةٍ طويلة جدًّا من التغيير المضطرِب. إضافةً إلى ذلك، شكَّك بعضُ علماء الطبيعة في روايةِ تاريخ الأرض الواردة في سِفر التكوين، مدفوعين في ذلك بالبيانات الجيولوجية، كالأدلة على تراجُع المحيطات وتراكُم طبقات الصخور التي يبدو أنها شُكِّلَت في أوقاتٍ مختلفة تمامًا. غير أن نظرية التطور الكاملة لم تظهر إلا تدريجيًّا. فقد كان على علماء الطبيعة أن يُنكروا أولًا فكرةَ أن الأنواع جميعها كانت موجودةً في جنة عَدْن.
اتخَذ كونت بوفون عدة خطوات في هذا الاتجاه عندما حاجَج في عام ١٧٧٨ أنَّ الكوكب ظهر إلى الوجود قبل عشَرات الآلاف من السنين على شكلِ كرةٍ صخرية منصهرة. ولمَّا أدرك أنَّ الطبقات الصخرية غالبًا ما تحتوي على مجموعاتٍ مميزة للغاية من الحفريات، أثار المزيدَ من الغضب باقتراحه أنَّ العديد من الأنواع النباتية والحيوانية لم تظهر إلا في وقتٍ متأخر للغاية من تاريخ الأرض. زعم بوفون أنَّ الخالق قد صنَع في بداية الزمان مجموعةً محدودة من «القوالب الداخلية». واقترح أنَّ الأمر قد تطلَّب انتظارَ بعضِ هذه القوالب دهورًا حتى تبرد الأرضُ بما يكفي لتشكيلِها إلى كائناتٍ حية قادرة على البقاء. بالرغم من ذلك، لم يتخيَّل بوفون وجودَ عمليةٍ تطوُّرية تتطور الميكروبات من خلالها تدريجيًّا إلى أشجار بلُّوط، أو بشَر، أو تماسيح. كان لا بد لهذه القفزة الجريئة في المفاهيم أن تنتظر.
لأُسرةٍ من الطبقة الأرستقراطية الفرنسية الأدنى، وُلِد جان باتيست شوفالييه دو لامارك عام ١٧٤٤، وأُحيلَ إلى التقاعد من الجيش في عام ١٧٦٦، فأصبح عالِمَ نباتٍ بارعًا، وفي عام ١٧٩٣ عمل في مُتحف الأعشاب الملَكي في باريس لدراسةِ الحشرات والديدان. وعلى مدار السنوات القليلة التالية لذلك، أدرك لامارك أنَّ الأنواع اللافقارية لا يختلفُ بعضُها عن بعضٍ في الغالب إلا بفروق طفيفة للغاية. بدأت الحواجزُ التي تفصل بين الأنواع تبدو أقلَّ صرامةً. تساءل أيضًا عن السبب في أنَّ العديد من الحفريات الموجودة على منضدته تنتمي إلى أنواعٍ من الكائنات لا يبدو أنَّ لها نظائرَ حية. اقترح بعضُ علماء الطبيعة أنَّ هذه المخلوقات ستُكتشَف كامنةً فيما هو ناءٍ من البحار أو الغابات أو الصحاري. لكن لامارك شكَّك في ذلك. فقد كان العديد من المستكشفين مشَّطوا أرجاءَ الكوكب بحلول ذلك الوقت. بدا إذن أنَّ حفرياته كانت تنتمي ولا شكَّ إلى أنواع قد انقرضَت قبل وقتٍ طويل.
يبدو أنَّ لامارك اختبر في هذه المرحلة تنافرًا مَعرِفيًّا بين الاعتراف بالاختفاء الجماعيِّ للأنواع والإيمان بحِكمة الربِّ القدير وإحسانه. وقد حلَّ التناقض بتخيل أنَّ الكائنات الحية تتطوَّر بمرور الزمن. فاعتقد أنها لا تنقرض وإنما تُغيِّر من صورتها من أجل البقاء. وصف لامارك في كتابه «فلسفة علم الحيوان» الصادرِ عام ١٨٠٩ نظريةً تطورية تستند إلى وجود قوتين مُتكامِلتَين تدفعان جميعَ الكائنات الحية لتُصبح أكثرَ تقدمًا. استنتج أنَّ أُولى هاتين القوتَين هي امتلاك الكائنات الحية ﻟ «نزعةٍ للتقدُّم» متأصِّلةٍ فيها، تدفعها للتطور إلى كائناتٍ معقَّدة. وأوضح أنَّ ثانيَتَهما هي أنَّ النباتات والحيوانات تزداد براعةً في التكيف على نحوٍ أفضل؛ لأنها عندما تسعى للحصول على المزيد من الطعام أو الهواء أو الضوء، فإنَّ البِنَى العضوية التي تستخدمها تصبح أكثرَ تطورًا، ثم تُنقل هذه التعديلات وراثيًّا إلى نسلها.
يُعَد لامارك أولَ مَن قدَّم صياغةً مفصَّلة لنظرية للتطور، لكنه لم يكن أولَ من استند إلى توارث الخصائص المكتسَبة في شرح كيفية تطور الكائنات الحية. فقد دُهِش إرازموس داروين، الطبيبُ والشاعر وعالم الطبيعة، من ظهور الحفريات التي استُخرِجَت في أثناء إنشاء شبَكات القنوات التي امتدَّت آنذاك عبر المناظر الطبيعية في منطقة ميدلاندز الإنجليزية التي كانت تتحول إلى التصنيع سريعًا. وقد لاحظ أيضًا عن قربٍ ما كان يمكن إنتاجُه من تغييراتٍ عبر التهجين الانتقائي للحيوانات. دفعه ذلك كلُّه إلى التساؤل عما إذا كان العالم العضوي ثابتًا كما ادَّعى الناس، وصرَّح في كتابه «قوانين الحياة العضوية» الصادر عام ١٧٨٩ تصريحًا صادمًا بأننا جميعًا قد تطورنا من أبسط أشكال الحياة.
الوراثة والسياسة
ما من شكٍّ في وجود ارتباطٍ وثيق بين الأفكار المتعلقة بالوراثة وبين المشهد السياسي لعصر التنوير. فقد شهدت هذه الآوِنة اهتمامًا كبيرًا غيرَ مسبوقٍ بالادِّعاءات المؤيدة لشرعية النظُم الأرستقراطية وأيديولوجيات اختيارها، والادِّعاءات المعارِضة لذلك. لم يُبالِغ الراديكالي الفرنسي آبيه سياس في كُتيِّبه الشهير الصادر عام ١٧٨٩ عندما قال إنَّ «أفراد الطبقة ذاتِ الامتياز ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم نوعًا آخَر من الكائنات». ففي جميع أنحاء أوروبا، كانت النخبُ من مواليد الطبقات الرفيعة لا تزال هي المهيمنة على أرقى المناصب في إدارة البلاد، وتولِّي المراتب العسكرية العُليا، والمناصب الكنسية الرفيعةِ المستوى. وحتى في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية، حيث كانت أوجُه التفرِقة الاجتماعية محدودةً في العادة إلى حدٍّ كبير، تحدث النيويوركي إفرايم باين عن «مُترَفي الجنوب» الذين يعدُّون أنفسهم «رتبة متفوقة من الحيوانات».
تبعًا لذلك، استغلَّ أنصار الإصلاح السياسي الحُجَّة الداعية للمساواة التي تقول بأنَّ السمات العقلية مكتسَبةٌ وليست وراثية. فأعلن الفيلسوف كلود أدريان إلفسيوس في عام ١٧٥٨ أنَّ جميع الناس «لديهم استعدادٌ متساوٍ للفَهم» (أحرق جلاد باريس كتبَه). وشجب الثوريُّون الأمريكيون في عام ١٧٧٦ مخطوطةَ «التباهي بالمولد واللقب» باعتبارها عَرَضًا من أعراض الاستبداد البريطاني. إضافةً إلى ذلك، أدرك أعضاءُ نادي «اليعاقبة» الثوري الفرنسي أنهم، من خلال إجبار النبلاء على تدميرِ قوائم أنسابهم وطِلاء شعارات النبالة على عرَباتهم بدلًا من ذلك، يُهاجمون الأساس الرمزي للأرستقراطية.
على الرغم من كلِّ التقتيل الذي دار في فرنسا، فقد استمرَّت الطبقات الأرستقراطية في أوروبا ولم يَمْسسها شيءٌ في العموم على مدار القرن التالي. يرجع هذا من ناحيةٍ إلى أنهم ظلُّوا كِبار مُلَّاك الأراضي، وأنهم وجَدوا أدوارًا مهمَّةً يؤدُّونها في الدولة الحديثة، ويعود من ناحيةٍ أخرى إلى حرصِ حديثي الترقِّي في المكانة الاجتماعية على الانضمام إلى صفوفهم. يعكس الأدبُ الشعبي لذلك العصرِ خروجًا عن كثيرٍ من أوجُه التقدير اللاإرادي التقليدي للنَّسَب النبيل. فراح الرِّوائيون يُعيدون إنتاج الحبْكة الشهيرة الخالدة ﻟ «حكاية اللقيط» التي يُكتشَف فيها أن رجلًا فاضلًا وفقيرًا على نحوٍ مُتناقِض يحمل دماءً نبيلة. فعلى سبيل المثال، اتضح في نهاية رواية «توم جونز» لهنري فيلدنج أن توم طيِّب الجوهر رغم نزَقِه، كان ابنَ أخت الإسكواير. ولم تتمكَّن الثورة الأمريكية أيضًا من القضاء على رغبة العائلات الاستعمارية البارزة في التعظيم من شأن ثروتهم ومكانتهم، بالحكايات المختلَقة عن النسَب النبيل. فقد استخدم جورج واشنطن ختْمَ الأسلاف العائلي في مُراسَلاته.
كان كُتَّاب عصر التنوير مُهتمِّين بتنظيم كلِّ ما يتعلَّق بأرحام النساء أكثرَ من اهتمامهم بتعزيزِ مُشاركتهن السياسية. وثَمة تطوُّران رئيسيان جعَلا من تخيُّلِ إصدار قوانينَ لتحسين النسل أمرًا يبدو أقلَّ غرابةً بالنسبة إلى الحكومات. أوَّلهما أنَّ قادة الدول التي تتَّجه بشكلٍ متزايد إلى المركزية أدرَكوا أن قدرتهم على التفوُّق على القُوى المنافسة تستلزم عمالًا وجنودًا وبحَّارة أصحَّاء؛ وكانت قدرتهم على التدخُّل لتعزيز صحةِ السكان ورغبتهم في ذلك تزداد تدريجيًّا. وثانيهما أنَّ مُفكِّري عصر التنوير كانوا مُقتنِعين بأنَّ تطبيق العلم سيؤدِّي إلى تأسيس مجتمعاتٍ أكثر عدلًا، وصحةً، وعقلانيةً، ونظامًا. عبَّر الدكتور الألماني يوهان بيتر فرانك عن وجهةِ النظر القائلة بأنَّه ينبغي للعلم أن يوجِّه سياسةَ الدولة. وكان ذلك ينطوي على اتخاذ القرار بشأن مَن يجب أن يتكاثر ومَن لا يجبُ أن يتكاثر. فقد كتب في عام ١٧٧٩: «لا يمكن تركُ الأشخاص العاديِّين يتحكَّمون في قضيةٍ يعتمد عليها في الواقع مصيرُ المجتمع والبشرية جمعاءَ اعتمادًا وثيقًا بلا شك.» لم تُسفر طموحات فرانك عن شيء، لكنه لم يكن إلا شخصًا غريبَ الأطوار.
اعتقد بعضُ المفكرين أنه يمكن تحقيقُ أهداف تحسين النسل دون التدخُّل في الزواج. فقد كتب عالم الرياضيات ورجلُ الدولة الفرنسي الماركيز دو كوندورسيه — الذي لم يَخفُت تفاؤله لأنه اضطُرَّ إلى الاختباء خلال عهدِ الإرهاب من بلطجية روبسبيار — أن الأجيال القادمة ستكون في ذكاء سقراط، وستبلغ من العمر الطويل ما بلَغه موسى، وذلك بفضل التحسينات الوراثية التي ستتراكم عندما تتولَّى الدولة الرعاية المناسبة بصحةِ الناس وتعليمهم. وقد بشَّر بأنَّ «قابلية الإنسان للكمال غيرُ محدودة حقًّا». غير أنَّ الاقتصادي الإنجليزي المبجَّل توماس مالتوس انتقد الأمرَ خشيةَ أن تُشجع مثلُ هذه الأفكار الفلاحين على تحدِّي النظام الاجتماعي القائم، وحاجج في ذلك بأن احتمالية تجنُّب نوعنا للأسى والموت المبكِّر محدودةٌ للغاية. ذكر مالتوس أن «الإطار البشري» لم يتغيَّر تقريبًا «منذ أن بدأ العالم»، مُعلنًا بذلك أنَّ نطاق التقدُّم الوراثي محدود. لقد وضع السياسيُّون المحافظون مثل مالتوس نسخةً «جامدة» للوراثة تقول بأنَّ طبائعَنا الجوهرية نادرًا ما تتغيَّر، وذلك على عكس التقدُّمية الواعدة التي تطرحها نسخةُ كوندورسيه «اللينة» القائلة بمرونة البذور والأجنَّة.
الإثنية والعِرق
لم يخلُ عصر التنوير من أفكارٍ مُغايرة بشأن الوراثة، وقد شكَّلَت هذه الأفكار أيضًا جزءًا لا يتجزَّأ مما كتبه علماءُ هذا العصر عن التنوُّع الإثني. يمكن بالفعل تصنيفُ كُتَّاب علم الأعراق (الإثنولوجيا) إلى فريقَين تُوجَد درجاتٌ كثيرة من الاختلاف بين آرائهم، بدايةً من القول بأنَّ النَّسَب لا يُمثل أهميةً كبيرة على الإطلاق في تفسير التبايُن الثقافي، وحتى نقيض ذلك المتمثِّل في القول بوجود اختلافاتٍ وراثية بين الأعراق البشرية لا يمكن رأبُها.
يُجسِّد الطبيب الألماني يوهان فريدريش بلومنباخ مثالًا على الفريق القائل بأنَّ مفهوم الوراثة لا يتَّخذ إلا أهميةً محدودة في المناقشات المتعلقة بالتبايُن العِرقي. وعلى الرغم من أنه حاوَل توصيفَ خمسة أعراقٍ مختلفة — القوقاز، والإثيوبيون، والأمريكيون، والمنغوليون، والملايو — على أساس قياس جَماجمها، فقد رأى بلومنباخ أنَّ صبغة الجلد من آثار البيئة المحلية وقد يتغيَّر في غضون بضعة أجيال. إضافةً إلى ذلك، أنكر بلومنباخ بشكلٍ قاطع أنَّ القدرات الفكرية لا تتساوى لدى الأعراق. وافَقه في ذلك آدم فيرجسون وآدم سميث، وهما شخصيَّتان بارزتان في عصر التنوير الاسكتلندي. وقد نقَّحا فكرة قديمة بالفعل مفادها أنَّ المجتمعات البشرية جميعها ستمرُّ ولا بد بمراحل تطورية بدايةً من الصيد وجمعِ الثمار، وصولًا إلى التجارة المتقدِّمة. وبمرور الوقت وبالمحاكاة، توقَّع فيرجسون وسميث أنَّ جميع المجموعات العِرقية ستصل إلى مستوى الأوروبيِّين البِيض في وقتٍ ما بالمستقبل غيرِ البعيد.
ثَمة نظريةٌ أخرى تنطوي على درجةٍ أكبر من العنصرية قد صوَّرَت الأعراق البشرية على أنها متمايزةٌ وراثيًّا لكنها قادرةٌ على «التحسُّن» البيولوجي. فقد أوضَح كونت بوفون على سبيل المثال، أنَّ أسلاف الأعراق من غير البيض قد «تدهوَروا» جسَديًّا ونفسيًّا بعد الابتعاد عن «المناخ الأكثر اعتدالًا» الواقع بين درجَتَي العرض أربعين وخمسين (حيث يقع وطنه الأصليُّ فرنسا). وتوقَّع بوفون أن الأمر سيستغرق عدةَ أجيال حتى يعودوا إلى النوع «المثالي» إنْ هم رجَعوا للعيش، على سبيل المثال، بالقرب من باريس أو تولوز. ليس من المستغرَب إذن أنَّ سكان الأمريكتَين من البيض كانوا شديدي الحساسية تجاه هذا الزعم القائل بأنهم في طَوْر الانحطاط. فعندما تهوَّر آبيه راينال الذي كان قصيرًا، في طرحِ هذا الادعاء خلال تناوُله الطعامَ في باريس مع بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون، طلب الأخيرُ من روَّاد المطعم الفرنسيين والأمريكيين أن يقفوا ظهرًا لظهر؛ كي يُمكِنَ الحكمُ على الفرق بين أطوالهم. وفاز الأمريكيون في هذه المقارنة.
لم يكن جيفرسون ليبراليًّا مُستنيرًا في مسألة العِرْق. وإنما كان على العكس من ذلك، يُمثل الطرَف العنصري؛ إذ كان هو نفسُه من مالكي العبيد. ففي كتابه «ملاحظات عن ولاية فرجينيا»، أصرَّ جيفرسون على وجود «فارق فعلي» في الطبيعة يفصل بين البِيض والسود. وفي هولندا، حاول عالم التشريح بيتروس كامبر تقديمَ دليلٍ تجريبي يؤيِّد هذا الافتراض. فبِحساب زوايا الوجه في مجموعة الجماجم الموجودةِ لدَيه، ادَّعى أنَّ الأوروبيِّين من اليونان والرومان يتَّسمون بالدرجة الأدنى من بُروز الفك؛ ومِن ثَم يمكن القولُ إنهم العِرْق الأكثرُ مثاليةً بالفطرة. أما الأفارقة، فقد قال كامبر إنهم ينحرفون كثيرًا عن هذه المثالية. لاقت مثلُ هذه المزاعم استحسانَ العلماء الذين لم تكن العبوديةُ تثير لديهم إلا النَّزْر القليل من تأنيب الضمير، إن كانت تُثيره لديهم من الأساس.
العِرق والعبودية والإمبراطورية
زاد حجمُ الاتصال الأوروبي بالشعوب غيرِ البيضاء زيادةً كبيرة خلال القرن الثامن عشر. وتؤكِّد السجلَّات الراصدةُ للتفاعلات بين الأوروبيين وشعوب جميع أجزاء الكرة الأرضية؛ على وجود الأنماط نفسِها التي وصَفْناها بالفعل في بلاد العصور القديمة، والوُسطى، وأوائل العصر الحديث؛ إذ تعكس تصوراتُ الأوروبيين عن المجموعات العرقية الأخرى وطريقةُ معاملتهم؛ مدى الأمان والربح الذي رأى الأوروبيُّون أنه سيعود عليهم باستمالة هذه المجموعات العرقية، أو التعاون معها، أو استيعابها.
متى ما صارت الظروف مواتيةً للهيمنة الوحشية، سلَّم رجالٌ ونساء لم يقرَءوا قطُّ لبوفون أو كامبر ولا سمعوا عنهما بأنه يحقُّ لهم معاملةُ المنتمين إلى مجموعاتٍ أخرى على أنهم أقلُّ من بشرٍ كاملين، وذلك بفضل تفوُّقِهم الوراثي على نحوٍ ما. وكانت التصوراتُ عن السكان الأصليين في الأمريكتَين أكثرَ حدةً في كثير من الأحيان. فنجد على سبيل المثال أنَّ أحد البيض من سكَّان أمريكا الشمالية قد قال: «ليس من الممكن أبدًا طمسُ الأخلاق الشرسة للهنديِّ الأصلي.» واستنتج أحدُ المفكرين الإسبان من تأمُّلاته أنَّ «صفات» الأمريكيين الأصليين «شبيهةٌ بصفات ذَوات الأربع». وقد شكَّل هذا التصورُ للهنود، على أنهم دون البشر، إغراءً متوقَّعًا لفئاتٍ مُعيَّنة من سكان العالم الجديد، وهم: المزارعون في المناطق النائية من البرازيل الذين لم يقدروا على تحمُّل نفقات الأفارقة أو إحضارِهم، فأسَروا الهنود بدلًا منهم، والمستعمرون الإنجليز في أمريكا الشمالية الذين باعوا أسرى الحرب من الأمريكيين الأصليين عبيدًا في مقاطعة كارولينا، أو أرسَلوهم إلى جزر الهند الغربية، والمستوطنون البيض ومُضاربو الأراضي في أمريكا الشمالية الذين انزعَجوا من محاولات السلطات البريطانية لمنع زحفِهم غربًا واستغلوا فكرة «الهندي السيئ» المبتذَلة للدفاع عن استعمارهم العنيد للأراضي الواقعة وراء جبال الآبالاش.
عادةً ما كانت عنصريةُ الجماعات المستعمِرة تتعمَّق بمرور الوقت؛ بسببِ ما تفرضه وحشيةُ النظام من عواقب. وكثيرًا ما كان البيض الذين استَعبَدوا أعدادًا كبيرة من الشبَّان والشابات يُعانون من حالةِ قلق مُزمنة؛ خشية أن يسعى ضحاياهم للانتقام. أدى هذا الشعورُ بالذُّعر إلى تشويهِ سُمعة الأفارقة بوصفهم «ميَّالين بطبيعتهم» «للاضطرابات، والاغتصاب، والوحشية». إضافةً إلى ذلك، شجَّع الخوفُ من تمرُّدِ العبيد في أمريكا الشمالية استحسانَ النخب الاستعمارية لشيءٍ من الإصلاح الديمقراطي. فنظرًا إلى خوفِهم الشديد من تكاتُفِ الفقراء البيض مع العبيد الساخطين؛ سعَوا إلى خلقِ الشقاق بين المجموعتَين من خلال الاعتراف بالمجموعة الأولى بصفتهم أعضاء في النخبة العِرقية، ومنحِهم مزيدًا من الحقوق السياسية المحدودة. فراح الأكثرُ تواضعًا من البيض يعتقدون على نحوٍ متزايد أنهم يختلفون في طبيعتهم عن العبيد الأفارقة اختلافًا جوهريًّا.
علاوةً على ذلك، زاد الدافعُ لنزع صفة الإنسانية عن غير البيض عندما تمكَّنوا من تحدي الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية للبيض. كان هذا يحدث في المعتاد عند تحرير الأسياد للأطفال الذين أنجَبوهم من نساءٍ مستعبَدات، أو عندما كان العبيد يَجْنون من زراعة محاصيلهم الخاصة وبيعِها أو أداء العمالة الماهرة، ما يكفي من المال لشراء حرِّيتهم. وقد أثار ذلك بالطبع رِدَّةَ فعلٍ عنصريةً عنيفة. فسارع أبناءُ السلالات الأوروبية الذين لم يكن ثمة ما يَجْنونه من السماح لغير البيض ﺑ «العبور العرقي» في الدفاع عن «هيمنة أصحاب البشرة البيضاء» بادِّعائهم أن أي شخص ينتمي بنسَبِه إلى الأفارقة أو الأمريكيِّين الأصليين، لدَيه «دمٌ ملوَّث» إلى الأبد. ووضَعَت السلطات في إسبانيا الجديدة والبرازيل مصطلحاتٍ متكلَّفةً للحديث عن تقسيمات الدماء، وعملت أيضًا على تشكيلِ وعيٍ كبير بالأنساب؛ للحدِّ من عدد «الكاستاس» الذين يرتقون في المكانة. وبالمثل أيضًا، سنَّت الولايات الأمريكية الشمالية قوانينَ عقابية لمكافحة الزواج المختلط في محاولةٍ لإبطاء الزيادة في عدد السكان مختلِطي الأعراق. وبالرغم من ازدهار الحركات المناهِضة للعبودية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، التي أجَّجَتها حركاتٌ على غرار جمعية الأصدقاء الدينية، والحركة الإنجيلية وحركة المساواة التنويرية؛ فقد ظلَّ نزعُ صفة الإنسانية عن غير البيض هو القاعدةَ في الأمريكتين.
استمرَّت العنصرية بين الأوروبيين في الشرق، لكن قبضتها كانت أقلَّ إحكامًا؛ إذ كانوا يفتقرون في المعتاد إلى القوة الساحقة اللازمة لإخضاع السكان الأصليين. ففي الهند، حيث أقامت شركة الهند الشرقية البريطانية إمبراطوريةً عملاقة، كانت الحاجة إلى تأمين الدعم العسكري المحليِّ ورضا الأمراء والتجَّار والفلاحين لا تزال تفرض درجةً كبيرة من التواضع العرقي. وسواءٌ أنظرنا إلى العلاقات السياسية بين البريطانيِّين والهنود، أو نظرنا إلى العلاقات التِّجارية أو الجنسية، فإننا نجد شواهدَ على مواءمات ثقافية كانت غائبةً في العديد من السياقات الاستعمارية الأخرى. غير أنه بحلول نهاية القرن كان موقفُ الشركة قد تعزَّز. حينها فقط بدأ البريطانيون في استخدام هذا النوع من اللغة العنصرية التي أصبحَت شائعةً في السرديَّات الفيكتورية عن شعوب الهند.
لقد تغيَّرَت مفاهيمُ الوراثة خلال القرن الثامن عشر، وبقيَت على حالها في الآن نفسِه. وعلى الرغم من استمرار الخلافات بشأن مدى سهولةِ اكتساب التباينات الوراثية أو محوِها، فقد حقَّق الأكاديميُّون والمهنيُّون من مُربِّي الماشية تقدُّمًا ملحوظًا في الدراسة التقنية في مجال التوارث. إضافةً إلى ذلك، بدأ علماءُ الطبيعة في إدراكِ احتمالية أن تكون التغييراتُ الوراثية هي التي تؤدِّي إلى تغيُّر الأنواع بمرورِ الوقت. غير أن روح البحث العلميِّ الدقيق نادرًا ما كانت تمتدُّ إلى أولئك الذين حاوَلوا تطبيق مَفاهيم الوراثة على قضايا مثل النوع الاجتماعي، أو الطبقات الاجتماعية، أو العِرْق. فقد كانت أساليبُ عصر التنوير في تناول قضية الاختلاف بين البشر خاضعةً تمامًا للتيَّارات الاجتماعية للعصر والسياسية، مثلما كان عليه الحالُ في القرون السابقة أيضًا.